الأربعاء، 7 يونيو 2017

كيف وصلت السعودية وإيران إلى خط المواجهة – دليلك الوافي

     لكي نفهم ماذا يعني الخطر الإيراني بالنسبة للسعودية، هذا دليل مبسط لما حدث وأوصلنا إلى حافة المواجهة. هذه خطوة أولى لاستيعاب قرار مقاطعة قطر والإخوان المسلمين.

1– إيران
الثورة الإسلامية في إيران، ١٩٧٩، سميت “ثورة شرائط الكاسيت”. لقد كانت مثالا على استخدام أدوات العصر بالنسبة إلى ذلك الجيل لكي تتغلب شعوب على حكامها. وعلى رأس الشعب الإيراني عاد رجل الدين آية الله الخوميني من منفاه في فرنسا كرمز ديني روحي، يحمل على الأعناق، بعد إسقاط رجل أمريكا القوى، أو شرطي أمريكا في المنطقة، الشاه محمد رضا بهلوي.

صدم هذا العالم، وألهم اليساريين والثوريين. في مصر غنى الشيخ إمام من كلمات أحمد فؤاد نجم: إيران يا مصر زينا، كان عندهم ما عندنا.
سميت الوقائع التي حدثت في مصر في ٢٥ يناير ٢٠١١ “ثورة الفيسبوك”. في استعارة لنفس تعبير الثورة الإيرانية، ولكن بمرادفات معاصرة. بل وحاول الإخوان المسلمون إعادة بعض المشاهد من الثورة الإيرانية، واستخدام نفس التكتيكات. خطب يوسف القرضاوي في ميدان التحرير، أمام “مليونية”، وهي كلمة استخدمت لأول مرة على يد الثورة الإيرانية في وصف المظاهرات.
في الثورة الإيرانية تحالف التيار الديني مع يساريين، حدث شبيه لهذا في مصر. بل واختاروا منهم أول رئيس، فعل إخوان تونس هذا. قبل أن يعلقوهم على المشانق حين انقضى دورهم – من يدري ما كان سيحدث لو استقر الأمر للإخوان.
عوامل كثيرة جعلت الدين الثوري في إيران ينجح في ما فشل فيه نظيره في مصر، ليس هذا مجالا لإحصائها، إلا عاملا واحدا. طبيعة المذهب الشيعي كمذهب نشأ في ظل معارضة السلطة، وعلى هذا الأساس صيغت علاقته بها وصيغت التشريعات والفتاوى التي تحكم هذه العلاقة. وبسبب طبيعة العلاقة بين المتدينين وبين المرشد الروحي المرتقي إلى مرتبة لا وجود لها في المذهب السني.
أشير إلى هذا العامل لأنه الأهم في رسم طريق إيران منذ ذلك اليوم حتى الآن. الحنق التاريخي الجارف، المشبع بالمظالم، والندب واللطم، وخليط من الشعور بالذنب وادعاء الحق. خليط ديناميتي يجعل تفجير الوضع القائم هدفا استراتيجيا، بل وشرطا دينيا لـ “عودة” المهدي المنتظر الذي “يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت جورا وظلما”.
لقد ظل رجال المعارضة الشيعية – الثورة – في إيران، حتى بعد وصولهم إلى السلطة، معارضة. ليس لديهم تصور آخر لدورهم في الحياة. لكنهم انتقلوا من معارضة الشاه داخليا إلى معارضة النظام العالمي، من الثورة على نظام الشاه إلى الثورة المطلقة. فاحتجزوا موظفي السفارة الأمريكية رهائن. وألهموا أكثر وأكثر اليسار والثورجية حول العالم.
لكن المظلمة التاريخية الأساسية، التي تعلو على كل المظالم، ظلت كما هي، ضد “قتلة الحسين”، “النواصب”، “السنة”. أرجو، بل أشدد، على عدم الظن بأنني أثير مشاعر طائفية. أنا آخذ من الكلام الذي يقوله النظام الإيراني وحلفاؤه.
أول السنة في طريقهم كان صدام حسين. حيث المظلمة التاريخية في أكثر صورها قربا مما في أذهانهم. زعيم أقلوي سني يحكم بلدا أغلبيته شيعية، ليس هذا فحسب، بل تحوي مراقد الأئمة، وحوزة النجف التاريخية. لا بد لكي يعود المهدي المنتظر من نضال شيعي يسترد “الحق” من السنة الغاصبين. صراع سنتعجب حين نفتح الكتب ونرى إلى أي قدر حكم تاريخنا. سنتعجب كيف تغافل عنه أصدقاء إيران في المنطقة، بداية من تيارات عالمانية، وصولا إلى الإخوان المسلمين. كلاهما سعى في الترويج للثورة الإيرانية نكاية في السلطة. تقاربت أفرع الإخوان المسلمين في غزة معهم، وكذلك فعل فرعهم في لبنان، الجماعة الإسلامية، بتحالفها مع سوريا.
لم يخف النظام الإيراني أبدا سعيه إلى “تصدير الثورة”. تختلف التأويلات حول أسباب ودوافع الحرب العراقية الإيرانية ذات المليوني قتيل. فلن نتعرض لها. لكن النظام الخوميني أنشأ المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. وأنشأ المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في لبنان، عقب الثورة الإيرانية مباشرة. الأول احتفظ باسمه لأنه استقر في إيران وليس في الأرض التي يسعى إلى إحداث الثورة الإسلامية بها. (أي أنه بقي في حال الثورة). أما الثاني فسرعان ما غير اسمه لكي يتناسب مع طبيعة وضعه. إذ لو ظل “الثورة الإسلامية في لبنان”، لانقضت عليه الطوائف الأخرى وهو لا يزال وليدا. لقد سمى نفسه اسما أكثر تواضعا – يا للسخرية – سمى نفسه “حزب الله” لا أقل من ذلك.
حزب الله شارك في الحرب الأهلية اللبنانية، بل ونافس فيها قوى شيعية الهوية، لكنها ليست دينية الطابع، كحركة أمل، والحزب الشيوعي اللبناني، الذي كان قوامه من أبناء المجتمع الشيعي، رغم اسمه. وسرعان ما صار حزب الله اللاعب الأقوى. وحين انتهت الحرب كان حزب الله الميليشيا الوحيدة التي احتفظت لنفسها – تحت اسم مقاومة إسرائيل – بالسلاح. فعل ذلك بمباركة إقليمية كانت تحتاج بشدة إلى تسوية توفق بين القوى الإقليمية الكبرى المتصارعة في لبنان، كان مبرره استمرار احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني.
في المقابل صعدت زعامة سنية متصلة بالمملكة العربية السعودية، وممثلة في شخص رئيس الوزراء الراحل – المغتال – رفيق الحريري. وتواجد الجيش السوري. لقد تقاسمت الدول الثلاث الكبرى، إيران وسوريا والسعودية، النفوذ في لبنان. هذا مهم لفهم ما سنتعرض له في مقالات لاحقة، وصولا إلى يومنا هذا.
على غرار حزب الله في لبنان، نشأت حركة الحوثيين، واسمها الرسمي “أنصار الله”، في اليمن. وهم امتداد لحركة اجتماعية لم تكن في السابق مرتبطة بإيران، بل تلقت في الستينيات دعما من السعودية نفسها في مواجهة حرب جمال عبد الناصر في اليمن. الآن استلهمت هذه الحركة فكرة “البعث الشيعي”، على غرار ما حدث في لبنان، حين تحولت العائلات المرتبطة بالحزب الشيوعي إلى حزب الله.
بالتحكم في لبنان، ثم استقطاب سورية، وبالنفوذ المتنامي في العراق، كونت إيران هلالا شيعيا سياسيا، عمامة وغمامة سوداء،  فوق رأس الخليج. ثم بالامتداد إلى اليمن، وبنفوذها مع حركة حماس، مدت نفوذها إلى مربعات حيوية على رقعة الشطرنج الإقليمية. حيوية لدرجة تهديد السعودية ودول الخليج على أبوابها، والتلويح لمصر بإمكانية التوغل عبر الأنفاق والخلايا التنظيمية (ولنتذكر كيف تحركت تلك الخلايا سريعا مع أحداث ٢٥ يناير لتحرير أعضائها المعتقلين ونقلهم خارج البلاد).
لم يكن حزب الله ليكون حزب الله لولا سوريا. لم يكن العراق ليتحرك في اتجاه النفوذ الإيراني وجفاء مع الخليج لو لم يكن الوضع في سوريا على ما هو عليه. سوريا مفتاح استراتيجي لن ننتقل خطوة دون الحديث عنه.

 ٢سوريا

سنعود قليلا إلى الوراء، إلى تاريخ قيام الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩، لنرى صورة عامة للوضع “السياسي الطائفي” في الجوار الإيراني. هذا الوضع يمثل “اتفاقا غير معلن” على توازنات إقليمية. ينبغي علينا تذكر هذا لكي نفهم ما حدث.
العراق دولة أغلبيتها من الشيعة، وفيها أقلية سنية وأخرى كردية . تحت لواء حزب البعث يحكمها أشخاص ينتمون إلى هذه الأقلية السنية.
أما سوريا فدولة أغلبيتها من السنة، وفيها أقلية علوية وأقلية كردية. تحت لواء حزب البعث يحكمها أشخاص ينتمون إلى هذه الأقلية العلوية.
الخلاف التاريخي بين العراق وسوريا موجود دائما وإن تغيرت المسميات والتوجهات، من أول الحيرة والغساسنة، مرورا بالأمويين والعباسيين، من موالي الفرس وموالي الروم، مرورا بالشيعة والسنة، وصولا إلى البعث العراقي والبعث السوري.
العراق يخوض الحرب (من ١٩٨٠ إلى ١٩٨٨) مدعوما من دول الخليج، على أساس أنه حامي البوابة الشرقية للعالم العربي. وسوريا متحالفة سياسيا مع إيران.
ينعكس الصراع بعد ذلك في لبنان الغارق بالفعل في حرب أهلية. العراق، لاحقا، يدعم العماد ميشيل عون، قائد الجيش اللبناني، وسوريا تدعم “القوى الوطنية” الثورية (الحزب الشيوعي وحزب جنبلاط التقدمي الاشتراكي وحركة أمل الشيعية) ، وإيران تدعم حزب الله الشيعي. هذا ليس وصفا تفصيليا، إذ تنقلب التحالفات وتتغير وتتبدل. كما أن التفصيل ليس موضوعنا. سنكتفي بهذه الإشارة السريعة لكي نفهم ما حدث.
كانت سوريا موجودة في لبنان بقرار عربي. ولذلك تعتبر نفسها المدافعة عن البعد “الإقليمي” الوطني، في مواجهة من سمتهم بـ “الانعزاليين” الموارنة، الذين كانوا في الواقع يريدون استقلال القرار اللبناني عن هذا المحيط الذي حملهم بدءا من سنة ١٩٥٨ عبء اللاجئين الفلسطينيين، ثم حملهم – منذ أواسط السبعينيات – عبء “المقاومة الفلسطينية” بمسلحيها.
قاتلت إيران العراق.
زاحمت إيرانُ سوريا بقوة في لبنان، ثم توصلت معها إلى تفاهمات، ظهرت نتيجتها في اتفاق الطائف (أواخر ١٩٨٩) الذي وضع حدا للحرب الأهلية اللبنانية. والذي كان – ببساطة – توزيعا للقوة السياسية داخل لبنان بين ثلاث قوى. إيران ممثلة في حزب الله، الميليشيا الوحيدة التي احتفظت بقوتها العسكرية. السعودية ممثلة في النفوذ السني للزعيم الراحل رفيق الحريري. وسوريا باستمرار تواجد جيشها داخل لبنان، وبإدارتها الفعلية للملف السياسي.
كل ذلك على حساب الموارنة، حيث نُفي قائد الجيش، العماد ميشيل عون، إلى فرنسا. بينما سُجن زعيمهم البارز الآخر، سمير جعجع، رغم موافقته على اتفاق الطائف، بسبب اعتراضه على حجم التدخل السوري في لبنان. هذا جوهر الخلاف، بغض النظر عما قيل ويقال. وشُوِّه الموارنة في الإعلام، بين الجمهور المسلم المستعد للتعصب ضدهم.
لماذا أتحدث كل هذا عن لبنان بينما حديثنا عن خلفيات المواجهة السعودية الإيرانية.
لقد كان ما حدث في لبنان، في حقيقته، تسوية إقليمية، وطائفية، وليس مجرد تسوية للنزاع اللبناني الداخلي. تفاهمات حول أنصبة دول إقليمية، منعكسة في تفاهمات حول حظوظ الطوائف التي ترعاها تلك الدول. باستئثناء سوريا التي اعتبرت نفسها فوق كل الطوائف. ليس تماما طبعا كما سيظهر لاحقا. الطائفية لم تغب أبدا عن السياسة في هذه المنطقة.
تعاملت سورية مع الموارنة في تلك الفترة، بعد اتفاق الطائف، وكأنهم قوة غير موجودة من أساسه. تختار بالنيابة عنهم رئيس الجمهورية (رمز النفوذ الماروني) وقائد الجيش.
وتعاملت مع السنة بتفاهمات مع السعودية. انعكست في وفاقات وشقاقات مع المغدور رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. إن توافقا رأس الوزراء، وإن اختلفا جاءت بمنافسه السني عمر كرامي من طرابلس أو بغيره من الزعامات البيروتية.
وحدها الطائفة الشيعية ظلت قابضة على ما تريد من سلطة. سواء كان حزب الله الإيراني حائز السلاح، أو حركة أمل الشيعية، بزعامة نبيه بري، الذي انطبع كرسي رئاسة البرلمان (رمز النفوذ الشيعي) برسم إليتيه والشق الذي بينهما لطول ما جلس عليه، ولم يحركه عنه أحد.
هل فهمنا ما حدث في يوم فالانتاين، ٤ فبراير من سنة ٢٠٠٥؟
هل فهمنا ماذا يعني اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري؟
هل فهمنا معناه الإقليمي؟
لقد اعتاد النظام البعثي السوري الذي تقوده أسرة الأسد العلوية نسف الرؤساء الموارنة إن تجرؤوا عليه في قرار. لأن الموارنة لا ظهير لهم في عالم يخلط بين العروبة والإسلام، ويكره المخالفين. ولم يقترب طبعا من الشيعة الذين تناصرهم إيران. لكنه الآن ينسف رمز النفوذ السني، حليف السعودية. ليس هذا فحسب، بل كان هذا تاليا وسابقا لسلسلة من الاغتيالات عارضت كلها النفوذ السوري في لبنان، وهي كانت تعارض في الحقيقة النفوذ الإيراني السوري في لبنان. هذا النفوذ الذي تجاوز ما اتفق عليه في الطائف بمراحل.
هذا مسار السياسة اللبنانية، والنفوذ السوري فيها منذ عام ١٩٩٠. فماذا تغير في الألفية؟ مالذي جعل المواجهة بين السنة والمتحالفين معهم من الموارنة (قوى ١٤ أذار) وبين سورية تحتدم؟
بسيطة. تغيرت المعادلة الإقليمية بعد الغزو الأمريكي للعراق سنة ٢٠٠٣. أزيحت إحدى الترتيبات الإقليمية التي وازنت العلاقة بين إيران وسوريا والسعودية. في تلك السنة أطلق العاهل الأردني الملك عبد الله تحذيره الشهير من الهلال الشيعي الذي يمتد من إيران إلى العراق مرورا بسوريا إلى لبنان. تحذيرا واجه معارضة من أصحاب الشعارات، الذين لا يلتفتون إلى الأمر الواقع، ولا يفهمون البعد الطائفي الذي تتحرك به إيران. وجرت إليه سورية. والذي – مرة أخرى – لم يغب عن لبنان أبدا من كل الأطراف.
لا يبتعد هذا كثيرا عن رؤية استراتيجية أمريكية تلت الهجوم الإرهابي (السني كما برز في الإعلام الغربي) على نيويورك وواشنطن. هذه الرؤية جعلتها، بعد أن انتهت من معاقبة القاعدة وطالبان في أفغانستان، تتحول إلى العراق، وتسقط النظام بمعاونة إيرانية.
كان سقوط العراق في يد إيران ٢٠٠٣، وكان اغتيال الحريري، رمز النفوذ السني وحليف السعودية،  ٢٠٠٥.
في الشهر التالي لاغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، خرج اللبنانيون في مظاهرات ١٤ مارس آذار، ٢٠٠٥، ثم في شهر أبريل خرج الجيش السوري من لبنان.
في العام التالي، ٢٠٠٦، تعمد حزب الله خلق سياق لعودة السوريين، وإحراج القوى الإقليمية، وإحياء مبرر حيازته للسلاح، بافتعال حرب مع إسرائيل. لكن خطته رغم كل الدعاية تنتهي بهزيمة سياسية وعسكرية، تعيد الوضع في جنوب لبنان إلى نزع للسلاح جنوب نهر الليطاني.
يهدي حزب الله “نصره الإلهي” إلى سورية. ويمعن الرئيس السوري – قليل الخبرة – في صب البنزين على النار، فيخطب واصفا الزعماء العرب بأنصاف الرجال. مادحا حزب الله وإيران. لقد صفت سورية – المحكومة بأقلية علوية – نفسها مع إيران وحزب الله. وأعلنت العداء على السعودية وحلفائها.
في ٢٠٠٧ تحاول سوريا مرة أخرى تفجير الوضع في لبنان عن طريق طرابلس، بفصائل سنية وفلسطينية تابعة لها، لكنها تفشل. في مايو/أيار ٢٠٠٨ يخرج حزب الله عن طوعه ويعتدي مباشرة على حلفاء السعودية وقتها، على وليد جنبلاط والدروز في الجبل، وعلى سنة بيروت، إلى درجة وصلت إلى إخراج الرجال السنة من بيوتهم ورصهم في الشوارع وتعمد إهانتهم كأنه جيش احتلال. تلك مأساة نجح الإعلام الذي تسيطر عليه التيارات اليسارية والإيرانية في لبنان في التعمية عليه.
كل هذا أدى إلى ما وصلنا إليه في سوريا لاحقا من صراع مذهبي دموي. كل هذا جعل السعودية متشددة في إسقاط النظام السوري. بينما الموقف الأمريكي إبان فترة أوباما يفضل إحداث توازن قوى ينهك فيه الشيعة والسنة، والسنة والشيعة، دولا وجماعات، بعضهم البعض، وينشغلون فيه ببعضهم البعض؟! نفوذ إيراني يوازي النفوذ الخليجي. وجماعات سنية توازي الجماعات الشيعية. بحيث يكون ذلك بميزان دقيق غير مسموح بالتلاعب به، ولا مده إلى خارج الأطر التي تستطيع أمريكا ضبطها.
وفي ضوء هذا أيضا نفهم الوضوح الأمريكي في دعم السعودية حين قررت شن “عاصفة الحزم” على الحوثيين إثر محاولتهم السيطرة على اليمن، الجار الجنوبي للسعودية. لقد اعتبرت أمريكا اليمن خارج الخطوط الحمراء التي رسمتها.
الآن لا بد أن فهم أين كانت أمريكا من كل هذا

٣الولايات المتحدة

هل تذكرون شخصا يدعى أحمد الچلبي؟
هذا سياسي عراقي، ابن عائلة شيعية كبيرة، كان عرابا لفكرة حيازة صدام حسين لأسلحة نووية. ودُعي إلى التحدث في الكونجرس الأمريكي عن القضية. تماما كما دعي العماد ميشيل عون اللبناني إلى نفس المكان للتحدث عن قضية إخراج سوريا من لبنان، ونزع سلاح حزب الله، كمقدمة لاستصدار القرار ١٩٥٩ القاضي بنزع أسلحة الميليشيات في لبنان. كل ذلك بالطبع إبان فترة حكم الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش.
هذه التذكرة ليست من باب حكاية النوادر والاستطراد. إنما لتشرح نقطة محورية في السياق الذي أتحدث عنه.
بمجرد أن وصل أحمد الجلبي إلى العراق اكتشف الحقيقة على الأرض.
أمريكا تستطيع أن تسقط جيشا وتحتل دولة، لكنها لا تستطيع أن تحبب العراقيين في شخص واحد. الطوائف هي القوى الأكبر في العراق.
وجد أحمد الچلبي نفسه بلا أرضية على الإطلاق. يأتي قبله ممثلو الطوائف. ويأتي قبله بعثيون سابقون. أما هو فلا شيء. ماذا يفعل؟
نسي سريعا مشروعه “الديمقراطي العالماني”، واتجه إلى إيران بحثا عن التأييد. بل وأمعن في إبراز شيعيته بحثا عن مؤيدين وناخبين، فكان من مؤسسي ما عرف بـ “البيت الشيعي”. وطبعا لا طال عنب الشام ولا بلح اليمن حتى وفاته.
قصة أحمد الجلبي توجز قصة الخيبة الأمريكية في العراق. التي انتهت بأن قدم الشيطان الأكبر لأهل الله (الإيرانيين وحلفائهم) أكبر خدمة.
كانت نتيجة الغزو الأمريكي أن ضمت إيران العراق إليها سياسيا.
ثم ماذا؟ تكرر الموضوع، وإن بتفاصيل مختلفة في لبنان، حين عثر ميشيل عون، الذي سبق لحزب الله أن أهدر دمه، على العون السياسي لدى حزب الله وسوريا. وبعد أن كان ركنا أساسيا في ما عرف بتيار ١٤ أذار، المناوئ لسوريا والنفوذ الإيراني، إذا به ينضم إلى مظاهرات حزب الله المليونية، ويهتف أنصاره خلف نائب رئيس الحزب، الشيخ نعيم قاسم، “الموت لأمريكا، الموت لأمريكا”، في التظاهرة التي انتهت بحصار حزب الله لسراي الحكومة اللبنانية، رمز نفوذ الطائفة السنية في بيروت، لمدة ١٨ شهرا. وكان تيار عون “التيار الوطني الحر”، من الناحية النظرية، مشاركا في ذلك الاعتصام، في ذلك الحصار لمقر الحكومة. بل وكان التيار العوني، على لسان مسؤوليه، أكثر جرأة في طرح الخلاف السياسي من الناحية الطائفية من قادة حزب الله نفسه. هؤلاء يعرفون ثمن تحدثهم طائفيا كقادة، أما عون فيحلم بثمن حديثه الطائفي. ويرى الخلاف بين السنة والشيعة طريقه الوحيد إلى المكسب السياسي. لقد صار ميشيل عون الآن رئيسا للجمهورية اللبنانية. وهو السياسي الذي نفته سوريا، وأهدر دمه حزب الله، ودعمته أمريكا، ولم يعد إلى بيروت طوال ١٥ عاما إلا بعد أن سال دم رئيس الوزراء السني، رفيق الحريري.
رأت السعودية بعينيها تعاظم الدور الإيراني في لبنان. حتى صار التحالف معها، حتى من زعيم سياسي أهدر حلفاؤها دمه من قبل، هو طريق الصعود السياسي.
هذا الحلف، بالنظر إلى تركيبة المشاركين فيه، لا يمكن معه تجاهل البعد الطائفي. كانت قيادة حزب الله تخرج على التلفاز لتقول إن الصراع سياسي وليس مذهبيا، بينما جمهورهم – وقد كنت أعمل مراسلا لـ بي بي سي في بيروت خلال تلك الفترة – يهتف في الشوارع “حسن حسين فاطمة وعلي، دم الشيعة بيغلي غلي”. من الصعب جدا استبعاد البعد الطائفي إن كان رئيس الحزب الخصم يرتدي العمامة السوداء ويسمي نفسه حزب الله..
لوحت أمريكا بمحاكمة المسؤولين عن اغتيال رئيس الوزراء الحريري، لكنها لم تراوح مكانها. بل استخدمت التلويح عصا ضبط إيقاع لا أكثر. وبقي الوضع على ما هو عليه، كما تقول الجملة القانونية الشهيرة في مصر. ومعناها استمرار خسارة الخسران، ومكسب الكسبان. كان الخاسر في لبنان هو السعودية، والكاسب هو إيران. بدعم سوري.
وقفت السعودية وحلفاؤها الخليجيون يشاهدون السياسة الأمريكية وهي تساهم، جهلا أو بخيار ستراتيجي، في مد النفوذ الإيراني على الحدود الشمالية لها. صار العراق وسورية ولبنان تدار جميعها من طهران. ليت هذا فحسب. بل إن أنصار إيران في اليمن، أنصار الله، أو الحوثيين، نقضوا ما اتفقوا عليه سابقا وكرروا ما فعل حزب الله في بيروت، وحماس في غزة، بإيعاز إيراني، وأرادوا الاستيلاء على السلطة بقوة السلاح. ثم ماذا؟
ثم أمريكا توقع اتفاقا مع إيران يمهد لرفع العقوبات الاقتصادية عنها، وتمهد لحيازتها مزيدا من الأسلحة التقليدية تعزز تفوقها العسكري على دول الخليج.
هنا لم يكن أمام السعودية وحلفائها من سبيل إلا شن “عاصفة الحزم” في اليمن. لوقف التمدد الإيراني. ومن الناحية السياسية، أعلنت السعودية نفاد صبرها، وخرجت بنفسها، لا وكلاء عنها، تواجه التمدد الإيراني.
حان الوقت إذن للحديث عن السعودية

٤السعودية

تمتلك السعودية أموالا طائلة منذ طفرة البترول، وتمتلك جيشا قويا، لكنها لم تحاول أن تقيم أنظمة تشابهها مذهبيا. هناك طبعا تأثير سعودي على الجوار، لكنه تأثير يشبه الأواني المستطرقة. بأي معنى؟
السعودية كدولة ليست نشطة في تحويل أنظمة مجاورة إلى أنظمة مشابهة. والدليل على ذلك الوضع في أقرب حلفائها، الإمارات، التي تدير مجتمعها بصورة مختلفة تماما عن الإدارة السعودية. والدليل الآخر هو رفيق الحريري، أكثر السياسيين اللبنانيين انفتاحا على كل الطوائف.
هذا يختلف تماما عن إيران. التي لديها قنوات عربية أكثر من قنواتها الفارسية. وسلوك حلفائها عنوانه هو حزب الله. الطائفي الشيعي من أول العمامة السوداء إلى السلاح النقي مذهبيا، حتى وإن ادعى الدفاع عن أرض بلد فيه ١٨ طائفة.
أوجز القول بأن النظام السياسي السعودي مشغول بدفع الجوار إلى الانشغال عنه.
أقول هذا لأذكر بأن السعودية ليست دولة ثورية، بل نظام محافظ. على خلاف إيران. التي ترى جماعات إسلامية سنية، كالإخوان المسلمين، فيها نموذجا أقرب من النموذج السعودي. نموذج الإسلام النضالي الأممي.
هذا مهم بينما نعود إلى تلخيص الوضع الإقليمي استراتيجيا.
بعد أن كان الوضع على الخريطة يمنح إيران حليفا واحدا هو حزب الله، وحليفا متوازنا بينها وبين الخليج هو سوريا حافظ الأسد، احتفظت إيران بحزب الله، أضافت إليه العراق، وغيرت التوازن السوري بينها وبين الدول العربية إلى انحياز جارف لصالحها، على يد بشار.
لقد اكتملت المظلة الشيعية السياسية فوق الخليج. لا أتحرج هنا من وصفها بالشيعية لأن أطرافها، ما عدا النظام في سوريا، يصفون أنفسهم كذلك. آيات الله يصفون أنفسهم كذلك، وأحزاب الله – على اختلاف تسمياتها – تصف نفسها كذلك. كل منهم فوق رأسه عمامة سوداء تسد عين الشمس. كل منهم يتحدث عن استرداد “الشيعة” حقهم التاريخي المغصوب. كل منهم يتحدث عن وجوب الجهاد ضد مغتصبي الحق لكي يعود المهدي المنتظر، “صاحب الزمان”. لا يمكن تجاهل هذا مهما كنت بعيدة أنت نفسك عن الطائفية، لأنك تتعاملين مع خصم طائفي، أو متخف خلف الطائفة، هذا أمر واقع.
لقد صار الوضع الجديد مصيبة فوق رأس دول الخليج والسعودية حتى عام ٢٠٠٣. لكنه تحول إلى كارثة عام ٢٠٠٥. الحلف الإيراني السوري اللبناني ارتكب حماقة اغتيال رئيس الوزراء السني، حليف السعودية، رفيق الحريري. فكأنما أعلن الحرب.
لا بد من فهم هذا لكي نفهم الأسباب “السياسية” للمواجهة.
منذ ٢٠١١ إلى ما قبل عاصفة الحزم اعتبرت السعودية أن هذه كارثة لا تزال في الملعب، داخل خطوطه الحمراء، وبالتالي تستطيع فيها أن تستخدم الحرب بالوكالة، بشكل أساسي في سوريا. ولا سيما أنا السعودية كانت مشغولة باحتمال انهيار حليف آخر، هو مصر، وخروجه من المعادلة. كما كانت منشغلة بتحييد اليمن في الصراع بالوصول إلى اتفاق تتوافق عليه القوى اليمنية جميعا.
لكنها منذ عاصفة الحزم قررت المواجهة، وقررت أن الصبر ليس مفتاح الفرج. وأن المواجهة، التي طالما اختار النظام السعودي البعد عنها، والتركيز على الثراء وعلى تحالفاته المتينة مع قوى غربية، صارت حتمية.
فما هي الخطة السعودية في مواجهة إيران. سأقدم لهذا – في ضوء فهمي – مقالا منفصلا. سنفهم منه ما يحدث من مواجهة حالية مع قطر ومع الإخوان المسلمين من زاية أوسع وأشمل.
Posted on 07/06/2017
by
khaledalberry 
  خالد البري, 
....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..