الاثنين، 26 يونيو 2017

الصوفية في تركيا

الطرق الصوفية:
الطرق الصوفية التركية لها جذور تاريخية ترجع إلى مئات السنين، وظلت محافظة على وجودها بين أفراد المجتمع وطبقاته على الرغم من كل محاولات القضاء عليها.
وكانت رسالة هذه الطرق حفظ الثقافة الإسلامية كشريعة ودين بما يتضمنه من عقائد وأخلاق وأحكام عبادية في نفوس الشعب التركي من خلال أشكال وطقوس دينية: أذكار وأوراد وأناشيد وابتهالات، وعكفت طرق أخرى صوفية على تحفيظ القرآن للناس في بيوت شيوخها أو منازل خاصة أنشأتها لهذا الغرض، وبعضها الآخر اكتفى بالتعبير عن روحانيته بالدروشة التي تصورها وسائل الإعلام العربية في كل مناسبة دينية معينة، واختصت كل فئة أو طريقة بلباس خاص بها، يميزها عن الأخرى.

لم تكن هذه الطرق الصوفية - التي سنعرض لبعض مكوناتها - بأتباعها ومريديها المنتشرين في مختلف ربوع تركيا مجرد حشود بشرية لا وزن لها داخل المجتمع التركي، بل كانت طرفا محل تقدير قبل الجمهورية وبعدها، بحيث كان منها العلماء والقضاة والوزراء، وقامت بدور مشهود في حرب الاستقلال في السنوات الأولى لتأسيس الجمهورية، واحتفظت بدورها البارز برغم الإجراءات الكمالية التي رفضتها رفضا مطلقا. وإلى اليوم مازالت هذه الطرق تعد لاعبا فاعلا على مسرح الأحداث داخل المجتمع التركي. والواضح للمراقبين أن هذه الطرق لم تكن تتعاطى العمل السياسي المباشر في معظمها انسجاما مع فلسفتها ورؤيتها لعملية التغيير والبناء، إلا أن ذلك لم يمنعها من أن يكون لها دور بارز في الحياة السياسية التركية.
وقد مر تعامل مصطفى كمال أتاتورك وحركته: الكماليون مع الطرق الصوفية بمرحلتين أساسيتين:
المرحلة الأولى: تميز موقف الكماليين تجاه الجماعات والطرق الصوفية بالود والاحترام، لأن الأمر كان يقتضي تغيير نمط التدين الإسلامي الرسمي أولا. وخلال هذه المرحلة تعاون الكماليون بصورة كاملة مع الجماعات الصوفية ضد مؤسسة الخلافة، وفي حرب الاستقلال استخدم مصطفى كمال قادة الجماعات الصوفية لتعبئة الجماهير للجهاد ضد الغزاة، ولذا فان دستور 1924م ترك الجماعات الصوفية حرة من دون أي قيود دستورية.

المرحلة الثانية: سن قانون جديد يقضي بحل هذه الجماعات، وذلك حينما أيقنت التجربة الكمالية أن هذه الطرق الصوفية تمثل تحديا أساسيا في مواجهتها. واستتبع عملية الحظر هذه إغلاق مقرات هذه الطرق، ومنع أصحابها من القيام بأي نشاط في أي مكان، فاضطرت إلى ممارسة نشاطاتها سرا على الرغم من موجة التشريد والنفي والتهجير التي تعرض لها كثير من شيوخها وأتباعها.

عند استقرار الوضع قامت بعض هذه الطرق بتكوين جمعيات للإنفاق على طلاب مدارس الأئمة والخطباء لتعويض النقص الذي حصل نتيجة اختفاء الدعاة بسبب المحن التي تعرضوا لها، كما ظهرت طرق أخرى جديدة كرد فعل على الممارسات التي رافقت إجراءات العلمنة الكمالية التي استهدفت إقصاء الدين عن الحياة التركية العامة.

مع بداية الخمسينات بدأ التضييق والحصار يتراجع عن الدين وأهله من رجالات التصوف وغيرهم من الجماعات والأفراد، وفي هذه الفترة أخذت العديد من هذه الطرق تخرج من سريتها، لتمارس نشاطاتها بشكل علني شيئا فشيئا، وساعدها على ذلك تنافس الزعماء السياسيين على كسب أصوات أتباعها عند اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، بل إن بعض زعماء الأحزاب كانوا لا يترددون في أن يعلنوا أنهم أعضاء في بعض هذه الطرق.

ويمكن إجمال الحديث عن هذه الطرق فيما يلي:

أ -  الطريقة النقشبندية:
وهي من أعرق الطرق الصوفية في تركيا، وأكبرها وأوسعها انتشارا، لها امتدادات في مجموعة من دول العالم الإسلامي، مؤسسها هو محمد بهاء الدين النقشبندي الذي عاش في بخارى بين عامي 1317 و1389 هـ، وحمل الطريقة عنه إلى الأناضول أحد أتباعه وهو عبد الله السماوي في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، لتنتشر في مختلف أنحاء تركيا.
شارك النقشبنديون في كل الانتفاضات التي ثارت في وجه الإجراءات التي اتخذها أتاتورك ورفاقه لعلمنة تركيا. ومع إقرار نظام التعددية الحزبية عاودت النقشبندية نشاطها، وعملت على تعزيز حضورها في أوساط أساتذة الجامعة وموظفي الدولة وأصحاب المهن الحرة. وهكذا صارت داخل النقشبندية ثلاثة تيارات فرعية يتزعم كل واحدة منها شيخ نقشبندي، وهي:
التيار الأول: وضم فئة الحرفيين والتجار الصغار من الطبقة الوسطى.
التيار الثاني: وضم مجموعة من المثقفين وأساتذة الجامعات ورجال الأعمال وزعماء بعض الأحزاب السياسية.
التيار الثالث: وضم الشرائح الاجتماعية البسيطة من الناس من أهل المدن والقرى والأرياف.
وقد كان لهذه الطريقة علاقات مع القوى الحزبية التي تعتبر أداة المشاركة السياسية في تركيا العلمانية المدنية. وفي البداية كانت النقشبندية تدعم حزب النظام الوطني ثم حزب السلامة الوطني عند تأسيسهما من طرف السياسي الإسلامي نجم الدين أربكان الذي كان نقشبنديا، وبعد الانقلاب العسكري لسنة 1980 تشرذم النقشبنديون، فانتمت الغالبية إلى حزب الوطن الأم عند تأسيسه عام 1983، فيما أيد آخرون حزب الرفاه، ولا يزال هذا الانقسام بين الأحزاب قائما إلى اليوم.

ب - طرق صوفية أخرى:

وتوجد طرق صوفية أخرى إلى جانب الطريقة النقشبندية أقل منها انتشارا وأعضاء، ويتعلق الأمر بالمولوية والتيجانية والقادرية والرفاعية والجراحية، وهي طرق صغيرة الحجم بالمقارنة مع الطريقة النقشبندية، لكنها هي الأخرى منتشرة في كثير من مناطق ومدن تركيا، لها نشاطاتها الخاصة بها، كما لها حضورها في دعم بعض الأحزاب دون أخرى.

الجماعات الإسلامية ذات البعد التربوي والفكري:

وهي جماعات تأسست كرد فعل متأخر نسبيا على إجراءات العلمنة الكمالية. وقد ظهرت هذه الجماعات في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، ومنها على وجه الخصوص جماعة النور وتنسب إلى مؤسسها بديع الزمان سعيد النورسي، والجماعة السليمانية التي أسسها سليمان حلمي تونهان، الذي كان شيخا نقشبنديا. والبعض يضم الجماعة الإيشكشيكية، ومؤسسها هو حسن حلمي إيشيك، وهو ما لا يراه الباحث لأنها كانت - حركيا - خصما من الحالة الإسلامية لا إضافة لها، وعقديا - لها دعوات ليست ضمن الإسلام.
ما يميز هاتين الجماعتين حرصهما على أن يستقلا كل منهما بخط فكري يميزها عن غيرها من باقي الطرق الصوفية، وسنورد تعريفا مقتضبا عن كل جماعة من هذه الجماعات الثلاث.

أ - جماعة النور/النورجية:

تنسب الجماعة إلى الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، وتعد من أكثر الجماعات الإسلامية حضورا وتأثيرا في شرائح المجتمع التركي، بالأرياف والمدن.
لم يشكل بديع الزمان النورسي جماعة النور في حياته أو لم يكن له دور في تنظيمها على شكل جماعة، بقدر ما كان يشكل مرجعا فكريا لمجموعة من أتباعه الذين لمسوا فيه صلاح الحال وقوة الإيمان. فقد اشتهر إضافة إلى علمه وتقواه وورعه بجهاده ضد الاحتلال الأجنبي وتعاونه مع جماعة الاتحاد والترقي قبل الاستقلال، ومواقفه الرافضة للإجراءات الكمالية بعد الاستقلال. وقد نال من جراء ذلك النفي والطرد والتشريد كباقي العلماء.
ثم تأسست جماعة النور وتشكلت في شكل تنظيم بعد وفاة سعيد النورسي، حيث قام أتباعه بطبع رسائله المعروفة برسائل النور، التي تشكل الأساس النظري والمعرفي للجماعة. ومع أن هذه الرسائل لا تحدد مواقف ولا أهدافا سياسية واضحة، إلا أنها تحمل في طياتها رِؤى وتصورات عميقة فيما يخص تدبير شؤون حياة الإنسان الدنيوية والأخروية، مؤكدا على البعد التربوي الذي كان يحث أتباعه على ضرورة ترسيخه وتعميقه باعتباره الأساس والمنطلق لأي عملية تغييرية فردية أو جماعية.
إن المسألة الأساسية التي يؤكد عليها أتباع بديع الزمان النورسي هي الوصول إلى نظام حكم لا يتدخل في شؤونهم ولا يمارس القمع والضغط عليهم، أما فيما يخص طريقة تعاملهم مع مؤسسات الدولة فهم لا يرفضونه، وهو ما يؤكده وجودهم في مجموعة من المؤسسات العلمية من كليات ومعاهد وإدارات ووزارات ومؤسسات اجتماعية واقتصادية .

وبخصوص نظرتهم إلى السياسة تحديدا فهي نابعة من تصور شيخهم، فقد كان موقفه تتحكم فيه ظروف معينة، ففي بدايات حركيته، يمكن القول أنه كان يمارس السياسة بطريقة غير مباشرة، دل على هذا الأمر انخراطه في حملة مواجهة الاحتلال من خلال نافذة جمعية الاتحاد والترقي قبل أن ينقلب عليه أصحابها، وبعد فترة نفيه سيؤطر سلوكه من خلال مبدأ كان كثيرا ما يردده وهو قوله" "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة". لكن في المرحلة الأخيرة من حياته دخل المعترك السياسي، لا من أجل تكوين حزب سياسي بقدر ما من أجل إبعاد حزب الشعب الجمهوري عن الحكم، دون أن يعني ذلك اعتقاده في صلاح الأحزاب الأخرى.

اتبع تلامذة بديع الزمان النورسي هذه القاعدة في دعمهم للحزب الديمقراطي في بداية الانفراج السياسي، حيث أدلوا بأصواتهم لهذا الحزب في انتخابات 1950 و1954 و1957.
إن فكرة عدم تفضيل تلامذة بديع الزمان النورسي الدخول للمعترك السياسي من خلال تأسيس حزب سياسي أي تحويل جماعتهم إلى حزب أمرا غير عام كانت تأخذ به جل الجماعات التي تنتسب للشيخ بديع الزمان النورسي، والتي بلغت اثنتا عشر جماعة. فقسم كبير من هذه الفرق اتجه إلى طبع الرسائل وتوزيعها ودعوة الناس إلى مفاهيمها، وتأسيس مدارس تربوية وتعليمية حرة في مستوى قوي تعليميا داخل تركيا وخارجها، يستقطبون لها أجود الطلاب، ويسهرون على تعليمهم. حتى إذا ما أصبحوا كوادر قوية علميا، انتفعوا وانتفع مجتمعهم من خبراتهم، تؤطر هذا القسم فرقة فتح الله جولين الذي يملك شبكة من أقوى المؤسسات التعليمية والإعلامية داخل وخارج تركيا. وقسم آخر منهم اكتفى بتلقين أفكار شيخهم لأتباعهم. وقسم آخر انخرط مع بعض الأحزاب السياسية. والى جانب هذه الفرق هناك فرق أخرى لا تفتأ تعلن انتسابها لبديع الزمان النورسي بينما يبتعد منهجها عن خط ذلك الشيخ كثيرا، ومنها جماعة "يني نسل" وجماعة "دعوى".

ب - السليمانيون:

هم جماعة أسسها أحد شيوخ النقشبندية، وهو: سليمان حلمي تونهان، وقد اتصفت هذه الجماعة بالتشدد والراديكالية في معارضتها لأتاتورك وإجراءاته، وللنظام العلماني عموما ونمط الحياة الغربية التي أريد للمجتمع التركي الدخول في أتونه. وتنتشر هذه الجماعة داخل تركيا وخارجها في أوروبا الغربية ولا سيما في ألمانيا.
وقد دخل السليمانيون منذ تأسيس حركتهم في صراع مع رئاسة الشؤون الدينية التي لا تعتبرها ممثلة للإسلام. ويعلن أتباعها وكذا شيوخها أنهم مدركون حقا لحقيقة الصراع، ولذلك يدعون فئات المجتمع التركي إلى الالتحاق بجماعتهم.
ويولي زعماء الجماعة السليمانية أهمية للعمل العام في المجال الثقافي، وهم تبعا لذلك يملكون مراكز ثقافية في أكثر مدن تركيا، كما عملوا على تأسيس مؤسسات موازية للمؤسسات الدينية التي تشرف عليها الدولة.
وتتصف الجماعة السليمانية بالانضباط الصارم لأعضائها، فهم خلافا للنقشبنديين ولجماعة النور يتحركون ككتلة واحدة أو جسم واحد في مجالات عدة.
أما في الجانب الاقتصادي فتتميز الجماعة السليمانية بمصادرها ومواردها الاقتصادية المهمة عبر مشاريعها التجارية المتعددة، وهذه ميزة غالبية الطرق الصوفية، أما بخصوص الولاءات السياسية لهذه الجماعة الدينية فتتسم بالظرفية وتتنوع بين مجموعة من الأحزاب اليمينية.

باختصار من بحث "شهادة أولية على الحالة الإسلامية في تركيا"
وسام فؤاد
مشرف وحدة البحوث والتطوير بشــبكـة إســـلام أون لاين
من موقع مركز دراسات الظاهرة الحضارية


السبت 16 يونيو 2007

المصدر 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..