الأحد 29 شوال 1438هـ - 23 يوليو 2017م - 1 برج الأسد
الأمة أبت، فأوثقوا يديها بالقيود وأثقلوا ظهرها بالحديد وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم فى جسمها عضواً خبيثاً فاقطعوه أو سرطاناً خطيراً فأزيلوه، استعدوا يا جنود، فكثير من أبناء هذا الشعب في آذانهم وقر وفي عيونهم عمى".
لقد رأى مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك فرصة ذهبية لتحقيق حلم حياته في تنصيب نفسه خليفة للمسلمين بعد استكمال الشروط الذاتية والموضوعية لنشر الدعوة الإخوانية في جميع الأقطار الإسلامية. يقول حسن البنا في رسائله "إن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلى (الخليفة) وشرطه الإمامة، فيقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن فأين الخليفة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأولى بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي، ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم من غير مرجع لا يردهم إلا إلى خلاف آخر". (رسائل حسن البنا ص 17).
والناس إذ ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
إن السياقات المتسارعة التي تعرفها البيئة الاستراتيجية في المنطقة العربية، والتي أصبح فيها الإخوان المسلمون طرفاً رئيسياً في الصراع، تفرض علينا وضع هذه الجماعة تحت مجهر التحليل والتشريح لمحاولة فهم البنية السيكولوجية للإخوان والتي أفرزت لنا فكراً عنيفاً جعل من (الإخوان) أينما حلوا وارتحلوا من بقعة أو مكان إلا وفاحت منه رائحة الدماء والجثث والأشلاء.
لقد حاولت هذه الحلقات أن تجعل من استشهاداتها وإحالاتها محصورة في المراجع الإخوانية المعتمدة واستبعاد المقاربة الذاتية أو كتابات الأقلام المعروفة بعدائها الأيديولوجي والسياسي للجماعة، مما يجعلنا نطمئن لصدقية هذه الحلقات التي حاولت احترام المعطيات التاريخية والأمانة في السرد والإلقاء والكتابة والإحالة دونما محاولة الالتفاف على الحقائق التاريخية أو تطويع للشهادات وفق ما يخدم طرحاً ما أو توجهاً ما.
يقول سيد قطب: "لنضرب، لنضرب بقوة، ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبور ويهيل التراب". ويقول حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في رسائله "إن آمنتم بفكرتنا واتبعتم خطواتنا فهو خير لكم، وإن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة فإن كتيبة الله ستسير".
هي إذا رحلة بين تراب المخازن لسبر أغوار هذه الجماعة والوقوف على معظم الاغتيالات السياسية التي تورطت فيها، وفرصة للتعرف على الوجه المظلم لهذا التنظيم الخطير وعلى تاريخه الدموي والذي يحاول بعضهم الدفاع عنه على استحياء وبغير كثير من الحماس.
لقد كان حادث اغتيال أحمد ماهر باشا اعتداءً إرهابياً بكل المقاييس في حق رجل ظل طول حياته يؤمن بالاختلاف الفكري السلمي مع باقي المكونات السياسية التي شكلت باقي أطياف الشعب المصري.
ولرصد سياقات البيئة الإستراتيجية للأحداث آنذاك، نشير إلى أن الملك فاروق سيقوم بتكليف أحمد ماهر باشا بتشكيل وزارة ائتلاف وطني. غير أن الإخوان المسلمين كان لهم رأي آخر في هذه الشخصية التي تم تعيينها وفي طريقة مقارعتها والتي ابتعدت عن التدافع السياسي الحضاري والنقاش الفكري الهادئ ليتم الإجهاز عليه برصاص الغدر بالبهو الفرعوني لمجلس النواب في مشهد درامي بطله أحد كوادر (الإخوان) ويدعى محمود العيسوي.
من هو أحمد ماهر باشا؟
ولد أحمد ماهر باشا وفقد عام 1888م، أبوه هو محمد ماهر باشا وكيل وزارة الحربية محافظ القاهرة وأخوه الكبير على ماهر رئيس الوزارة المصرية أربع مرات. كان أحمد ماهر باشا منذ بداية العشرينات عضو في التنظيم السري للوفد برئاسة عبدالرحمن فهمي سكرتير حزب الوفد، رفقة محمود فهمي النقراشي باشا (الذي سيغتاله الإخوان فيما بعد)، ولذلك لم ينضم كلاهما رسمياً لهذا الحزب إلا في وقتٍ متأخر بسبب ظروف العمل السري، ليعمل بعدها أحمد ماهر باشا مدرساً في مدرسة التجارة العليا.
في25 من أكتوبر سنة 1924 اختاره سعد زغلول باشا وزير للمعارف خلفاً لمحمد سعيد باشا، لكن اغتيال السير البريطاني "لي ستاك سردار" رئيس أركان الجيش المصري في 19 نوفمبر من نفس السنة أدى لاعتقاله مع النقراشي الباشا وتوجيه إنذار شديد اللهجة للحكومة المصرية من طرف سلطات الاحتلال البريطاني.
فى أغسطس من سنة 1927 توفي سعد زغلول باشا وانتخب مصطفى النحاس رئيساً لحزب الوفد بعد صراع مع كتلة "ماهر-النقراشي". بعد ذلك سوف ينتخب أحمد ماهر باشا رئيسا لمجلس النواب من (23/5/1936) إلى (1/2/1938). غير أن صراعاً خفياً ظل يتفاقم ما بين كتلتي "النحاس-مكرم عبيد" و"ماهر-النقراشي" ليصدر النحاس باشا أمراً بفصل النقراشي من الحزب في سبتمبر 1936 وأتبعه بفصل أحمد ماهر في ديسمبر 1936 فأسسا، هذان الأخيران، ما عرف بالهيئة السعدية (نسبة لسعد زغلول).
يوم الاغتيال
يوم السبت 24 فبراير 1945 وما إن ألقى أحمد ماهر باشا بيانه أمام مجلس النواب وهمَّ بالانتقال إلى مجلس الشيوخ، في البهو الفرعوني حتى تقدم منه الإخواني المدعو محمود العيسوي وأطلق عليه الرصاص ليرديه صريعاً على الفور.
التزم محمود العيسوي ما يسمى في أدبيات التنظيمات المتطرفة بـ (الصمت العقائدي) وأدلى بتصريحات مموهة زعم من خلالها أنه ينتمي للحزب الوطني ونافياً أية علاقة له بالإخوان المسلمين. تم اعتماد اعترافات محمود العيسوي، غير أن مجموعة من التساؤلات ظلت تفرض نفسها بإلحاح شديد. ولعل أهم هذه التساؤلات هي التي طرحها الحزب الوطني نفسه الذي صدم يومها بالحادث. وقد ذكر عبدالرحمن بدوي، العضو في اللجنة العليا للحزب الوطني، في سيرته المنشورة تحت عنوان "سيرة حياتي"، أن الحزب لم يكن يومها يمتلك جناحاً عسكرياً ولم يفكر بذلك أبداً ولم تكن له نية لاغتيال أحمد ماهر، ولم يجد العيسوي أحداً يؤيده أو يتعاطف معه من أعضاء أو قيادة الحزب الوطني.
من جهة أخرى، أثيرت قضية الاختراقات التي انتهجتها جماعة الإخوان المسلمين للتيارات السياسية الأخرى ولم يكن محمود العيسوي أولها، إذ يذكر محمود عساف، أمين سر حسن البنا، في مذكراته عمليات الاختراق هذه فيقول: "وجدنا أنه من بعد النظر أن نعلم ماذا يدور في أدمغة قادة مصر الفتاة ، فكلفنا أحد الإخوان بالانخراط في الجمعية، هو المرحوم أسعد السيد أحمد،الذي انضم إليها وبرز فيها سريعاً لما كان له من نشاط" (أيام مع الإمام ص 27).
نشر الغسيل الإخواني
بعد أزيد من أربعة عقود من اغتيال أحمد ماهر باشا ستبدأ قيادات من الرعيل الأول للإخوان تنشر مذكراتها ومقالاتها حول التاريخ السري للجماعة، لتبصم على الطبيعة الإرهابية لهذا التنظيم المتطرف.
أولى الخرجات التي أشارت إلى تورط الإخوان في اغتيال أحمد ماهر باشا، مذكرات سيد سابق، المرجع الديني والقيادي الأبرز في جماعة الإخوان. حيث أعلن هذا الأخير في جريدة (المسلمون)، بأن اغتيال أحمد ماهر باشا نفذه التنظيم الخاص للجماعة وأن محمود العيسوي كان منخرطاً سرياً في التنظيم الخاص للجماعة حتى وإن اعتقد الجميع أنه منخرط بالحزب الوطني. وقد اعتبرت هذه العملية نموذجاً لدقة التخطيط وإتقان التنفيذ فضلًا عن الكتمان الشديد. وتكمن خطورة شهادة سيد سابق أنه كان عضواً فاعلًا في التنظيم الخاص ومطلعاً بشكل كافٍ على حيثيات القضية خلال جميع أطوارها.
شهادة أخرى لا تقل أهمية، تلك التي أدلى بها الشيخ أحمد حسن الباقوري والذي بالإضافة إلى كونه كان من المؤسسين للجماعة وقيادياً بارزاً بها، فقد كان أيضاً مرشحاً لخلافة حسن البنا بل وكان المرشح الأبرز من بين المرشحين الثلاثة لخلافة المرشد العام، قبل أن يتم تعيينه مرشدًا للإخوان بالإنابة بعد مقتل حسن البنا. كما أن الشيخ حسن الباقوري لم يكن شخصاً عادياً في الجماعة، بل كان عضواً بارزاً بمكتب الإرشاد، يضاف إلى ذلك أنه من الذين شملهم الاعتقال بعد حادثة اغتيال أحمد ماهر باشا، مما يجعله في مقدمة المطلعين على تفاصيل القضية. ويبدو أن الرجل آثر أن يقول شهادته قبل أن يمضي إلى ربه .الشيخ الباقوري كتب مذكراته في صحيفة "المسلمون" ثم صدرت بكتاب عن مركز الأهرام للترجمة والنشر وفيها يقطع بأن جريمة اغتيال أحمد ماهر باشا كانت بتخطيط وتنفيذ الجهاز السري للجماعة.
عدد جريدة الاهرام الصادر في 25 فبراير 1945 عن اغتيال أحمد ماهر باشا
أحمد ماهر باشا
سيد سابق اعترف بمسؤولية اغتيال الجماعة لماهر
المصدر
....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
الاغتيال السياسي.. فكر (إخواني) متأصل لحل الخلافات! (2 - 15)
إعداد - عبدالحق الصنايبي
"استعدوا يا جنود وليأخذ كل منكم أهبته
ويعد سلاحه ولا يلتفت منكم أحد، امضوا إلى حيث تؤمرون.. اعكفوا على إعداد
الدواء فى صيدليتكم، ولتقم على إعطائه فرقة الإنقاذ منكم، فإذا إعداد - عبدالحق الصنايبي
الأمة أبت، فأوثقوا يديها بالقيود وأثقلوا ظهرها بالحديد وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم فى جسمها عضواً خبيثاً فاقطعوه أو سرطاناً خطيراً فأزيلوه، استعدوا يا جنود، فكثير من أبناء هذا الشعب في آذانهم وقر وفي عيونهم عمى".
الباقوري مع عبدالناصر والسادات: الجهاز السري نفذ الاغتيال
من ضرع هذه الكلمات العنيفة وهذا الخطاب المتطرف للأب عبدالرحمن البنا
الساعاتي، تشرب مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا عقيدة العنف ومنهج
التغيير بالقوة. هذه العقيدة أصّل لها المرشد من خلال رسائله ومذكراته
والتي اعتمدها المريدون والأتباع كدستور مقدس يؤطر لعلاقة الجماعة مع باقي
التكوينات السياسية من جهة، وكذا في علاقتهم برأس السلطة السياسية في مصر.لقد رأى مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك فرصة ذهبية لتحقيق حلم حياته في تنصيب نفسه خليفة للمسلمين بعد استكمال الشروط الذاتية والموضوعية لنشر الدعوة الإخوانية في جميع الأقطار الإسلامية. يقول حسن البنا في رسائله "إن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلى (الخليفة) وشرطه الإمامة، فيقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن فأين الخليفة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأولى بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي، ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم من غير مرجع لا يردهم إلا إلى خلاف آخر". (رسائل حسن البنا ص 17).
جريمة اغتيال رئيس الوزراء المصري أحمد ماهر باشا أولى الجرائمإن العنف عند الإخوان المسلمين كان دائماً من صميم الاستراتيجية التي تحكم علاقتهم مع باقي مكونات المجتمع الذي يحتويهم، فيما اعتبرت المماينة والمهادنة مجرد تكتيك مرحلي ليس إلا. والعنف عند الإخوان يرقى إلى مستوى العقيدة في حين أن الحوار هو فقط مناورة للتمرير والتبرير والتخدير. يقول حسن البنا في رسائله محاولاً تشبيه مريديه بذلك الجيل المشرق الذي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام "ثم أمرهم (الله) بعد ذلك أن يجاهدوا في الله حق جهاده بنشر هذه الدعوة وتعميمها بين الناس بالحجة والبرهان، فإن أبوا إلا العسف والجور والتمرد فبالسيف والسنان:
والناس إذ ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
إن السياقات المتسارعة التي تعرفها البيئة الاستراتيجية في المنطقة العربية، والتي أصبح فيها الإخوان المسلمون طرفاً رئيسياً في الصراع، تفرض علينا وضع هذه الجماعة تحت مجهر التحليل والتشريح لمحاولة فهم البنية السيكولوجية للإخوان والتي أفرزت لنا فكراً عنيفاً جعل من (الإخوان) أينما حلوا وارتحلوا من بقعة أو مكان إلا وفاحت منه رائحة الدماء والجثث والأشلاء.
لقد حاولت هذه الحلقات أن تجعل من استشهاداتها وإحالاتها محصورة في المراجع الإخوانية المعتمدة واستبعاد المقاربة الذاتية أو كتابات الأقلام المعروفة بعدائها الأيديولوجي والسياسي للجماعة، مما يجعلنا نطمئن لصدقية هذه الحلقات التي حاولت احترام المعطيات التاريخية والأمانة في السرد والإلقاء والكتابة والإحالة دونما محاولة الالتفاف على الحقائق التاريخية أو تطويع للشهادات وفق ما يخدم طرحاً ما أو توجهاً ما.
يقول سيد قطب: "لنضرب، لنضرب بقوة، ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبور ويهيل التراب". ويقول حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في رسائله "إن آمنتم بفكرتنا واتبعتم خطواتنا فهو خير لكم، وإن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة فإن كتيبة الله ستسير".
هي إذا رحلة بين تراب المخازن لسبر أغوار هذه الجماعة والوقوف على معظم الاغتيالات السياسية التي تورطت فيها، وفرصة للتعرف على الوجه المظلم لهذا التنظيم الخطير وعلى تاريخه الدموي والذي يحاول بعضهم الدفاع عنه على استحياء وبغير كثير من الحماس.
(الإخوان) اختلفوا مع ماهر فكرياً وحاوروه بالرصاصتعتبر جريمة اغتيال رئيس الوزراء المصري أحمد ماهر باشا أولى الجرائم التي سيتورط فيها النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين، والتي يُمكن تصنيفها كأول جريمة سياسية في التاريخ المصري الحديث يتورط فيها تنظيم ديني مسلح بعد ثورة 1919. ورغم بعض المحاولات المحتشمة لطمس معالم هذه الجريمة وتنصل (الإخوان) من مسؤولية ارتكابها، فإن الخرجات المتتالية لقيادات الصف الأول في الجماعة وكذا لبعض مؤسسيها الفعليين سوف تميط اللثام، بما لا يدع مجالًا للشك، على هذه الجريمة التي يمكن تصنيفها من بين أبشع الجرائم التي لطخت سجل الإخوان منذ ظهورهم العلني على الساحة السياسية.
لقد كان حادث اغتيال أحمد ماهر باشا اعتداءً إرهابياً بكل المقاييس في حق رجل ظل طول حياته يؤمن بالاختلاف الفكري السلمي مع باقي المكونات السياسية التي شكلت باقي أطياف الشعب المصري.
ولرصد سياقات البيئة الإستراتيجية للأحداث آنذاك، نشير إلى أن الملك فاروق سيقوم بتكليف أحمد ماهر باشا بتشكيل وزارة ائتلاف وطني. غير أن الإخوان المسلمين كان لهم رأي آخر في هذه الشخصية التي تم تعيينها وفي طريقة مقارعتها والتي ابتعدت عن التدافع السياسي الحضاري والنقاش الفكري الهادئ ليتم الإجهاز عليه برصاص الغدر بالبهو الفرعوني لمجلس النواب في مشهد درامي بطله أحد كوادر (الإخوان) ويدعى محمود العيسوي.
من هو أحمد ماهر باشا؟
ولد أحمد ماهر باشا وفقد عام 1888م، أبوه هو محمد ماهر باشا وكيل وزارة الحربية محافظ القاهرة وأخوه الكبير على ماهر رئيس الوزارة المصرية أربع مرات. كان أحمد ماهر باشا منذ بداية العشرينات عضو في التنظيم السري للوفد برئاسة عبدالرحمن فهمي سكرتير حزب الوفد، رفقة محمود فهمي النقراشي باشا (الذي سيغتاله الإخوان فيما بعد)، ولذلك لم ينضم كلاهما رسمياً لهذا الحزب إلا في وقتٍ متأخر بسبب ظروف العمل السري، ليعمل بعدها أحمد ماهر باشا مدرساً في مدرسة التجارة العليا.
في25 من أكتوبر سنة 1924 اختاره سعد زغلول باشا وزير للمعارف خلفاً لمحمد سعيد باشا، لكن اغتيال السير البريطاني "لي ستاك سردار" رئيس أركان الجيش المصري في 19 نوفمبر من نفس السنة أدى لاعتقاله مع النقراشي الباشا وتوجيه إنذار شديد اللهجة للحكومة المصرية من طرف سلطات الاحتلال البريطاني.
فى أغسطس من سنة 1927 توفي سعد زغلول باشا وانتخب مصطفى النحاس رئيساً لحزب الوفد بعد صراع مع كتلة "ماهر-النقراشي". بعد ذلك سوف ينتخب أحمد ماهر باشا رئيسا لمجلس النواب من (23/5/1936) إلى (1/2/1938). غير أن صراعاً خفياً ظل يتفاقم ما بين كتلتي "النحاس-مكرم عبيد" و"ماهر-النقراشي" ليصدر النحاس باشا أمراً بفصل النقراشي من الحزب في سبتمبر 1936 وأتبعه بفصل أحمد ماهر في ديسمبر 1936 فأسسا، هذان الأخيران، ما عرف بالهيئة السعدية (نسبة لسعد زغلول).
مذكرات الرعيل الأول للجماعة بصمت على الطبيعة الإرهابية للتنظيم المتطرفانطلاقا من هذا التاريخ، ستبدأ مرحلة جديدة في الحياة السياسية لأحمد ماهر باشا أكثر حيوية ونشاطاً خاصة عقب انتخابات سنة 1938م، ومع إقالة الملك فاروق لوزارة مصطفى النحاس باشا في8 أكتوبر من سنة 1944. هذه المرحلة توجت بإبرام اتفاق مع القصر تُوّج بتشكيل حكومة ائتلافية بمشاركة كل من الهيئة السعدية والأحرار الدستوريين والكتلة الوفدية (حزب مكرم عبيد بعد انفصاله عن الوفد).
يوم الاغتيال
يوم السبت 24 فبراير 1945 وما إن ألقى أحمد ماهر باشا بيانه أمام مجلس النواب وهمَّ بالانتقال إلى مجلس الشيوخ، في البهو الفرعوني حتى تقدم منه الإخواني المدعو محمود العيسوي وأطلق عليه الرصاص ليرديه صريعاً على الفور.
التزم محمود العيسوي ما يسمى في أدبيات التنظيمات المتطرفة بـ (الصمت العقائدي) وأدلى بتصريحات مموهة زعم من خلالها أنه ينتمي للحزب الوطني ونافياً أية علاقة له بالإخوان المسلمين. تم اعتماد اعترافات محمود العيسوي، غير أن مجموعة من التساؤلات ظلت تفرض نفسها بإلحاح شديد. ولعل أهم هذه التساؤلات هي التي طرحها الحزب الوطني نفسه الذي صدم يومها بالحادث. وقد ذكر عبدالرحمن بدوي، العضو في اللجنة العليا للحزب الوطني، في سيرته المنشورة تحت عنوان "سيرة حياتي"، أن الحزب لم يكن يومها يمتلك جناحاً عسكرياً ولم يفكر بذلك أبداً ولم تكن له نية لاغتيال أحمد ماهر، ولم يجد العيسوي أحداً يؤيده أو يتعاطف معه من أعضاء أو قيادة الحزب الوطني.
من جهة أخرى، أثيرت قضية الاختراقات التي انتهجتها جماعة الإخوان المسلمين للتيارات السياسية الأخرى ولم يكن محمود العيسوي أولها، إذ يذكر محمود عساف، أمين سر حسن البنا، في مذكراته عمليات الاختراق هذه فيقول: "وجدنا أنه من بعد النظر أن نعلم ماذا يدور في أدمغة قادة مصر الفتاة ، فكلفنا أحد الإخوان بالانخراط في الجمعية، هو المرحوم أسعد السيد أحمد،الذي انضم إليها وبرز فيها سريعاً لما كان له من نشاط" (أيام مع الإمام ص 27).
نشر الغسيل الإخواني
بعد أزيد من أربعة عقود من اغتيال أحمد ماهر باشا ستبدأ قيادات من الرعيل الأول للإخوان تنشر مذكراتها ومقالاتها حول التاريخ السري للجماعة، لتبصم على الطبيعة الإرهابية لهذا التنظيم المتطرف.
أولى الخرجات التي أشارت إلى تورط الإخوان في اغتيال أحمد ماهر باشا، مذكرات سيد سابق، المرجع الديني والقيادي الأبرز في جماعة الإخوان. حيث أعلن هذا الأخير في جريدة (المسلمون)، بأن اغتيال أحمد ماهر باشا نفذه التنظيم الخاص للجماعة وأن محمود العيسوي كان منخرطاً سرياً في التنظيم الخاص للجماعة حتى وإن اعتقد الجميع أنه منخرط بالحزب الوطني. وقد اعتبرت هذه العملية نموذجاً لدقة التخطيط وإتقان التنفيذ فضلًا عن الكتمان الشديد. وتكمن خطورة شهادة سيد سابق أنه كان عضواً فاعلًا في التنظيم الخاص ومطلعاً بشكل كافٍ على حيثيات القضية خلال جميع أطوارها.
شهادة أخرى لا تقل أهمية، تلك التي أدلى بها الشيخ أحمد حسن الباقوري والذي بالإضافة إلى كونه كان من المؤسسين للجماعة وقيادياً بارزاً بها، فقد كان أيضاً مرشحاً لخلافة حسن البنا بل وكان المرشح الأبرز من بين المرشحين الثلاثة لخلافة المرشد العام، قبل أن يتم تعيينه مرشدًا للإخوان بالإنابة بعد مقتل حسن البنا. كما أن الشيخ حسن الباقوري لم يكن شخصاً عادياً في الجماعة، بل كان عضواً بارزاً بمكتب الإرشاد، يضاف إلى ذلك أنه من الذين شملهم الاعتقال بعد حادثة اغتيال أحمد ماهر باشا، مما يجعله في مقدمة المطلعين على تفاصيل القضية. ويبدو أن الرجل آثر أن يقول شهادته قبل أن يمضي إلى ربه .الشيخ الباقوري كتب مذكراته في صحيفة "المسلمون" ثم صدرت بكتاب عن مركز الأهرام للترجمة والنشر وفيها يقطع بأن جريمة اغتيال أحمد ماهر باشا كانت بتخطيط وتنفيذ الجهاز السري للجماعة.
نفذوا جريمة الاغتيال وحاولوا إلصاقها بالحزب الوطنيالشهادة الثالثة يسردها أمين سر حسن البنا محمود عساف في كتابه "أيام مع الإمام" وفيها يذكر أن التخطيط لعملية الاغتيال قام به التنظيم الخاص. يقول محمود عساف في مذكراته: "غير أن الدقة التي نفذت بها العملية جعلت الكثيرين يشكون في أنها من صنع النظام الخاص للإخوان المسلمين، بل إن بعضاً من الإخوان ظن ذلك أيضاً، وبخاصة وأن أحمد ماهر هو الذي أسقط الإمام في انتخابات البرلمان عن دائرة الإسماعيلية" (أيام مع الإمام ص 151). ويواصل محمود عساف سرد شهادته بالقول: "دعا عبدالرحمن السندي إلى اجتماع - وكنت حاضراً فيه- وقال: إنه ينبغي أن نفكر في خطة لقتل أحمد ماهر قبل أن يعلن الحرب على المحور، وقال: إنه وضع خطة أولية تقوم على تكليف أحد الإخوان بالمهمة، فيزود بمسدس، وينطلق إلى مزلقان العباسية (مكان نفق العباسية الحالي) وينتظر هناك مرور سيارة أحمد ماهر، حيث إن السيارات تبطئ كثيراً من سرعتها عند المزلقان، ثم يطلق الرصاص عليه، ويكون هناك شخص آخر منتظرا بموتورسيكل، يحمله معه ويهربان. تلك هي الخطة البدائية التي أثارت الاستياء من جميع الحاضرين، لذلك سألته: هل هناك فتوى شرعية بقتل رجل مسلم يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ فقال: إننا نعد مجرد خطة ولكن لن تنفذ إلا بعد الفتوى. قلت: ولنفرض أن هذا الشخص قبض عليه، فماذا يكون مصير دعوة الإخوان كلها بعد ذلك؟ قال: لا لن يقبض عليه. أحسست أن المسألة لعب بالنار، واستجابة للهوى الشخصي وليس مصلحة الإخوان. ثم قال: لقد اخترت أحمد عبد الفتاح طه لهذه المهمة، وهو ينتظر خارج الغرفة. ثم استدعاه وشرح له الخطة، وقال: غداً إن شاء الله نكمل دراستها في وجودك". ويضيف محمود عساف بالقول: "في اليوم التالي حضر أحمد عبدالفتاح طه وهو متهجم الوجه. وعندما بدأ الاجتماع قال: قبل أن تنظروا في أية خطة أريد أن أبلغكم أني جبنت ولن أستطيع القيام بهذه المهمة. فغضب عبدالرحمن واتهمه بالضعف والتخاذل، فقلت: إن أحمد عبدالفتاح في غاية الشجاعة لأنه واجهكم جميعاً وصارحكم بحقيقة إحساساته، وكان يمكنه أن يكتمها ثم يهرب دون فعل شيء أو اخطاركم بموقفه. وانفض الاجتماع على لا شيء. في اليوم التالي، طالعت صحف الصباح، وإذا بخبر اغتيال أحمد ماهر يحتل عناوين الصفحات الأولى، فظننت أن أحمد عبدالفتاح أعاد التفكير في الموضوع، ووجد أنه من الكثير عليه أن يجبن وهو الشخص الشجاع كما أعرفه، ثم قرر تنفيذ العملية بمفرده وبخطة من عنده...وليكن ما يكون. بادرت إلى جميع الأوراق الخاصة بالإخوان والموجودة بمنزلي فأعدمتها، واستعددت للقبض علي. غير أن صحف المساء أوضحت الأمر وذكرت أنه محمود العيسوي المحامي، الذي لم أكن سمعت باسمه من قبل، ثم تبين أنه من الحزب الوطني" (مذكرات محمود عساف أيام مع الإمام ص 152-153).
القاتل التزم ما يسمى في أدبيات التنظيمات المتطرفة بـ (الصمت العقائدي)آخر شهادة في هذا الباب تعود للمفكر الإخواني خالد محمد خالد الذي اشتهر بكتابه "رجال حول الرسول"، حيث يقر بهذه الجريمة في مذكراته التي نشرت بجريدة الوفد بتاريخ 15 أكتوبر 1992، بالقول: "كانت أولى جرائم النظام الخاص، اغتيال أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء في الممشى الواقع بين مجلس النواب ومجلس الشيوخ بدار البرلمان". لقد ارتأينا أن نقتبس فقرات من مصادرها الأصلية ونخضعها للمساءلة والربط مع باقي الشهادات. وعلى ضوء التحليل، يتبين أن جريمة اغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا، كانت أولى الجرائم التي نفذها التنظيم الخاص للإخوان المسلمين ولن تكون الأخيرة، حيث ستتبعها سلسلة من الاغتيالات لعل أخطرها جريمة اغتيال القاضي أحمد بك الخازندار، والتي لم تكن لدى الإخوان المسلمين، على غرار مثيلاتها، لا الشجاعة الكافية لتبنيها ولا الحجج الكافية لإنكارها.
جنازة أحمد ماهر باشا
رسم نشر في مجلة الاثنين المصرية عن اغتيال أحمد ماهر باشا
عدد جريدة الاهرام الصادر في 25 فبراير 1945 عن اغتيال أحمد ماهر باشا
أحمد ماهر باشا
سيد سابق اعترف بمسؤولية اغتيال الجماعة لماهر
محمود عساف السكرتير الخاص للبنا
المصدر
....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..