هذا المقال يناقش ظاهرة ما يسميه علماء الاجتماع (أو أصحاب الاختصاص بعلم النفس الاجتماعي) انفصام الشخصية المجتمعية (social schizophrenia) الذي أصبح طابعا عاما في مجتمعاتناالعربية، وهي
ظاهرة تعكس الجهل التام بجوهر الأديان السماوية (holy ignorance).
على مدى سنوات، عملت في هيئة حكومية كبرى تضم آلاف العاملين. وفى اليوم الأول بينما كنت أعالج أحد المرضى، انفتح باب العيادة وظهر شخص، قدم نفسه باسم الدكتور حسين ثم دعاني لأداء صلاة الظهر جماعة فاعتذرت حتى أنتهي من عملي ثم أؤدي الصلاة.. ودخلنا في مناقشة كادت تتحول إلى مشادة، لأنه أصر على أن أترك المريض لألحق بالصلاة، وأصررت على استئناف العمل. اكتشفت بعد ذلك أن أفكار الدكتور حسين شائعة بين كل العاملين في الهيئة. كانت حالة التدين على أشدها بينهم. العاملات كلهن محجبات، وقبل أذان الظهر بنصف ساعة على الأقل ينقطع العاملون جميعا تماما عن العمل، ويشرعون في الوضوء وفرش الحصير في الطرقات، استعدادا لأداء صلاة الجماعة. بالإضافة طبعا إلى اشتراكهم في رحلات الحج والعمرة التي تنظمها الهيئة سنويا.
كل هذا لم أكن لأعترض عليه، فما أجمل أن يكون الإنسان متدينا، على أنني سرعان ما اكتشفت أن كثيرا من العاملين بالرغم من التزامهم الصارم بأداء الفرائض، يرتكبون انحرافات جسيمة كثيرة بدءا من إساءة معاملة الناس والكذب والنفاق وظلم المرؤوسين وحتى الرشوة ونهب المال العام. بل إن الدكتور حسين الذي ألح في دعوتي للصلاة، تبين فيما بعد أنه يتلاعب في الفواتير ويبيع أدوية لحسابه.. إن ما حدث في تلك الهيئة يحدث الآن في عالمنا كله..
مظاهر التدين تنتشر في كل مكان، لدرجة جعلت معهد غالوب الأمريكي، في دراسة حديثة له، يعتبر العالم العربي من أكثر الشعوب تدينا على وجه الأرض.. وفى نفس الوقت، فإنها تحتل مراكز متقدمة في الفساد والرشوة والتحرش الجنسي والغش والنصب والتزوير.. لا بد هنا أن نسأل: كيف يمكن أن نكون الأكثر تدينا والأكثر انحرافا في نفس الوقت؟
في عام 1664، كتب الكاتب الفرنسي الكبير موليير مسرحية اسمها "تارتوف" رسم فيها شخصية رجل دين فاسد يسمى تارتوف، يسعى إلى إشباع شهواته الإنسانية الرخيصة وهو يتظاهر بالتقوى.. وقد ثارت الكنيسة الكاثوليكية آنذاك بشدة ضد موليير ومنعت المسرحية من العرض خمسة أعوام كاملة.. ورغم المنع، فقد تحولت مسرحية تارتوف إلى واحدة من كلاسيكيات المسرح، حتى صارت كلمة تارتوف في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، تستعمل للإشارة إلى رجل الدين المنافق. والسؤال هنا: هل تحول الملايين إلى نماذج من تارتوف؟
أعتقد أن المشكلة أعمق من ذلك.. فنحن متدينون فعلا عن إيمان صادق.. لكن كثيرا منّا يمارسون انحرافات بدون أن يؤلمهم ضميرهم الديني. لا يجوز التعميم بالطبع؛ فكثير من المتدينين يراقبون ضمائرهم في كل ما يفعلونه، ولكن بالمقابل فإن مئات الشبان الذين يتحرشون بالسيدات في الشوارع صباح يوم العيد، قد صاموا وصلوا في رمضان.. ضباط الشرطة الذين يعذبون الأبرياء، الأطباء والممرضات الذين يسيئون معاملة المرضى الفقراء في المستشفيات العامة، والموظفون الذين يزورون بأيديهم نتائج الانتخابات لصالح الحكومة، والطلبة الذين يمارسون الغش الجماعي، معظم هؤلاء متدينون وحريصون على أداء الفرائض.. إن المجتمعات تمرض كما يمرض الإنسان. ومجتمعنا يعانى (بل مجتمعاتنا كلها تعاني) الآن من انفصال العقيدة عن السلوك.. انفصال التدين عن الأخلاق، وهذا المرض له أسباب متعددة:
أولها النظام الاستبدادي الذي يؤدى بالضرورة إلى شيوع الكذب والغش والنفاق..
وثانيا إن قراءة الدين المنتشرة الآن إجرائية أكثر مما هي سلوكية. بمعنى أنها لا تقدم الدين باعتباره مرادفا للأخلاق، وإنما تختصره في مجموعة إجراءات إذا ما أتمها الإنسان صار متدينا.
سيقول البعض إن الشكل والعبادات أركان مهمة في الدين تماما مثل الأخلاق.. الحق أن الأديان جميعا قد وجدت أساسا للدفاع عن القيم الإنسانية: الحق والعدل والحرية.. وكل ما عدا ذلك أقل أهمية.. المحزن أن التراث الإسلامي حافل بما يؤكد أن الأخلاق أهم عناصر الدين. لكننا لا نفهم ذلك أو لا نريد أن نفهمه. هناك قصة شهيرة عن عمر رضي الله عنه عندما قابل رجلا ناسكا منقطعا للعبادة ليل نهار..
فسأله: من ينفق عليك؟
قال الرجل: أخي يعمل وينفق علىّ..
عندئذ قال رضي الله عنه: أخوك أعبد منك..
والمعنى هنا قاطع وعظيم .. فالذي يعمل وينفق على أهله أفضل عند الله من الناسك المنقطع للعبادة لكنه لا يعمل. إن الفهم القاصر للدين سبب رئيسي في تردي الأوضاع.
في مصر مثلا على مدى عشرين عاما، امتلأت شوارع مصر ومساجدها بملايين الملصقات تدعو المسلمات إلى الحجاب.. لو أننا تخيلنا أن هذه الملصقات كانت تدعو، بالإضافة للحجاب، إلى رفض الظلم الواقع علينا من الحاكم أو الدفاع عن حقوق المعتقلين أو منع تزوير الانتخابات.. لو حدث ذلك لكانت الديمقراطية تحققت ولانتزعنا حقوقنا من الاستبداد..
إن الفضيلة تتحقق بطريقين لا ثالث لهما:
إما تدين حقيقي مرادف تماما للأخلاق.
وإما عن طريق الأخلاق وحدها حتى ولو لم تستند إلى الدين..
مثال: في عام 2007 - وبغرض تجميل وجه النظام الليبي أمام العالم- تم تنظيم جائزة أدبية عالمية تقام سنويا، بقيمة حوالي مليون دولار، باسم جائزة القذافي لحقوق الإنسان.. وتم تشكيل لجنة من مثقفين عرب كبار لتختار كل عام كاتبا عالميا لمنحه الجائزة.. وفي العام الأول قررت اللجنة منح الجائزة للكاتب الإسباني الكبير خوان جويتيسولو البالغ من العمر 78 عاما.. ثم كانت المفاجأة: فقد أرسل جويتيسولو خطابا إلى أعضاء اللجنة يشكرهم فيه على اختياره للفوز بالجائزة، لكنه أكد في نفس الوقت أنه لا يستطيع، أخلاقيا، أن يتسلم جائزة لحقوق الإنسان من نظام القذافي الذي استولى على الحكم في بلاده بانقلاب عسكري ونكل، اعتقالا وتعذيبا، بالآلاف من معارضيه..
رفض الكاتب جويتيسولو جائزة بحوالي مليون دولار، لأنها لا تتفق مع ضميره الأخلاقي.. هل نسأل هنا: كم مثقف - أو حتى عالم دين- في العالم العربي كان سيرفض الجائزة؟ ومن هو الأقرب إلى ربنا سبحانه وتعالى؟!
هذا الكاتب الشريف الذى أثق في أن الدين الإسلامي لم يخطر على باله وهو يتخذ موقفه الشجاع النبيل، أم عشرات المتدينين الذين يتعاملون مع الأنظمة الاستبدادية ويضعون أنفسهم في خدمتها متجاهلين تماما الجرائم التي ترتكبها تلك الأنظمة في حق شعوبها.
إن التدين الحقيقي يجب أن يتطابق مع الأخلاق..
وإلا.. فإن الأخلاق بلا تدين أفضل بكثير من التدين بلا أخلاق.. |
|
بقلم علاء الأسواني
الأحد, 02 يوليو 2017 07:39
---
مواضيع مشابهة - أو -ذات صلة :
التدين الشكلي ..!!/سلطان العثيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..