الاثنين، 20 أغسطس 2018

”الخطيئة الأصلية“

       ما يحدث اليوم في تركيا حدث في شرق آسيا قبل نحو ٢٥ سنة، وانتهى بأزمة كبيرة عام ١٩٩٧م. جوهر المشكلة يُعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ "الخطيئة الأصلية" (original sin). فما هي هذه الخطيئة؟
الخطيئة الأصلية هي
الاختلال بين أصول الشركة والتزاماتها الناتج عن الاقتراض قصير الأجل في حين أن المال يُستثمر في مشاريع عائدها طويل الأجل (maturity mismatching).
أو الاقتراض بعملة أجنبية، كالدولار، في حين أن الإيرادات تكون بالعملة المحلية كالليرة (currency mismatching). نشأ هذه المصطح بعد أزمة شرق آسيا في ١٩٩٧م حيث ارتكبت الشركات الآسيوية كلا نوعي الخطيئة في السنوات السابقة لاندلاع الأزمة.
الحكومة التركية، شأنها شأن دول شرق آسيا، تبنت منذ فترة مبدأ تشجيع الصادرات لدعم الاقتصاد. ولهذا كانت السياسة النقدية توسعية على مدى سنوات طويلة، وذلك بهدف دعم النمو وتشجيع صادرات القطاع الخاص.
بيد ان هذا التوسع النقدي أدى بالضرورة إلى انخفاض مستمر لقيمة الليرة مقابل العملات الأجنبية.
في الظروف الطبيعية، هذا الانخفاض يخفض أسعار الصادرات التركية في الأسواق الأجنبية ومن ثم يجعلها أكثر تنافسية. لكن في وجود الخطيئة الأصلية، فإن النتائج قد تكون مغايرة تماماً !!
الشركات التركية، رغبة في النمو والتوسع، صارت تقترض من البنوك الأجنبية بالدولار وباليورو. لماذا فعلت ذلك؟
بعد الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨م انخفض سعر الفائدة على الدولار وعلى اليورو إلى قريب من الصفر، في الوقت الذي ضخ فيه الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوربي تريلوينات الدولارات واليورو (فيما عرف بالتيسير الكمي) لإنقاذ المؤسسات المالية الغربية.
هذه المؤسسات وجدت نفسها تملك سيولة ضخمة في حين أن العائد عليها قريب من الصفر في أمريكا والدول الغربية. ماذا تفعل؟
اتجهت هذه البنوك إلى الاقتصادات الناشئة أو الصاعدة (emerging economies) وعلى رأسها تركيا التي كانت تنمو بمعدلات عالية.
وجدت الشركات التركية الصفقة مغرية: فهي تستطيع أن تقترض بفائدة منخفضة لتستمر في التوسع والنمو الذي يدعم الصادرات التركية إلى الخارج.
المفروض أن هذه الصادرات تجلب العملة الأجنبية التي تستطيع من خلالها سداد القروض بالدولار أو اليورو. حتى الآن تبدو اللعبة آمنة.
من أين جاء الخطر إذن؟
الخطر جاء من جهتين:
* ارتفاع معدل الفائدة على الدولار، وذلك حينما وجد الاحتياطي الفيدرالي أن معدلات التضخم في الغرب بدأت في الصعود، ولا بد من رفع نسبة الفائدة للسيطرة عليه. وكذلك الشأن في الفائدة على اليورو.
* تباطؤ نمو الاقتصاد التركي، حيث لا يمكن للاقتصاد أن يستمر في النمو سنوات طويلة بمعدلات مرتفعة، وهي سُنّة الحياة في كل شئ.
مع تباطؤ النمو وارتفاع الفائدة أصبحت الشركات التركية بين فكي كماشة. فصارت تلجأ للبنوك التركية لكي تقترض لتمول عملياتها وتسدد ديونها بالدولار. ولكن هذه العملية، الاقتراض بالليرة لسداد ديون الدولار، تؤدي إلى زيادة تدهور قيمة الليرة أمام الدولار. مع تدهور قيمة الليرة تصبح الوارادات أكثر كلفة على الشركات التركية. مع ارتفاع التكلفة تجد هذه الشركات نفسها تختنق من ثلاث جهات: ارتفاع الفائدة، تدهور الليرة، تباطؤ الاقتصاد. فتضطر هذه الشركات لمزيد من الاقتراض الذي يؤدي لمزيد من تدهور الليرة، وتنشأ بذلك حلقة مشؤومة (vicious circle).
الشركات التركية ارتكبت إن صح التعبير كلا نوعي الخطيئة:
الاختلال في الآجال وفي العملات.
فهي اقترضت بعملات أجنبية في حين أن نسبة غير يسيرة من إيراداتها بالعملة التركية. فليست كل الشركات موجهة للتصدير، بل عدد منها دخل في مشاريع إنشائية كبيرة محلية. وهذا يقودنا للخطيئة الثانية: أنها اقترضت قروضاً قصيرة الأجل مقابل مشاريع إنشائية إيراداتها طويلة الأجل. هذ الخطيئة تحول دون قدرة الشركات على التكيف مع التغيرات والتقلبات الاقتصادية.
المخرج ؟
إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن عدداً كبيراً من الشركات التركية مهدد بالإفلاس، وهو ما ينذر بخسارة غير يسيرة في الوظائف وانخفاض كبير في أسعار الأصول.
لتجنب هذه النهاية لا مفر من تخفيف عبء المديونية الأجنبية التي تهدد الشركات التركية. هذا يمكن أن يتم بعدة طرق:
* التفاوض مع الدائنين للوصول إلى اتفاق يسمح بتأجيل الديون لفترة يمكن خلالها ترتيب الأوضاع الداخلية.
* الحصول على تمويل من جهات خارجية لسداد الديون الأجنبية.
مجرد رفع الفائدة على الليرة لن يعالج المشكلة من جذورها، وإن كان قد يخفف من "الصداع" الذي يرافقها. كما أن التوترات السياسية لا تجدي نفعاً في هذا المقام، بل ينبغي تقليلها إلى أدنى حد لكسب أكبر قدر ممكن من الشركاء لمعالجة الديون الأجنبية.
التمويل الإسلامي
المشكلة التي تعاني منها تركيا، وقبلها الدول الغربية، وقبلها دول شرق آسيا، و …، هي في كلمة واحدة: الربا.
الاقتراض بفائدة هو الذي يسمح بالفصل التام بين الأصول والالتزامات، ومن ثم يمثل أسهل طريق لارتكاب الخطيئة الأصلية.
مبادئ التمويل الإسلامي تؤكد على ارتباط التمويل بالنشاط الاقتصادي، ومن ثم ارتباط الأصول بالالتزامات. هذا بدوره يضيق نطاق الخطيئة الأصلية إلى أبعد حد.
بالإضافة إلى ذلك فإن اقتصاديات المشاركة تسمح للقطاع الخاص بالتكيف مع التغيرات الاقتصادية بطريقة سلسة ومرونة عالية، بخلاف الديون التي تجعل أي تخلف عن السداد سبباً للإفلاس.
أتمنى من الباحثين في الاقتصاد الإسلامي التعمق في دراسة هذه المشكلات، والتخلي عن العواطف و"نظرية المؤامرة"، والتركيز على البحث العلمي لمعرفة المرض وأسبابه وطرق علاجه، بمنهجية رصينة ومثمرة، تحتاجها بلادنا اليوم أكثر من أي وقت مضى.
والحمد لله رب العالمين.
د. سامي السويلم

عبر الواتس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..