ملخص المقال
السلطان بايزيد الأول صاعقة الإسلام، بلغت الدولة العثمانية في عهده من العزة والمجد؛ فهو صاحب النصر في
معركة نيكوبوليس الخالدة إلا أنه مات كمدا بعد أن
السلطان بايزيد الأول سلطان الروم وصاعقة الإسلام، والفاتح الكبير والمجاهد العظيم، كان علمًا من أعلام الجهاد، بلغت الدولة العثمانية
في عهده من العزَّة والمجد ما ذَكَّر المسلمين بأيام الصحابة والرسول –صلى
الله عليه وسلم؛ فهو صاحب النصر في معركة نيكوبوليس التي كانت من أيام
المسلمين الخالدة.
نشأة بايزيد الأول
كان في غاية الشجاعة والحماسة للجهاد في سبيل الله –عز وجل، غير أنه امتاز عمَّن سبقوه بسرعة الحركة وقوَّة الانقضاض على أعدائه؛ حتى لُقِّب بالصاعقة أو يلدرم باللغة التركية، وكان مجرَّد ذكر اسم يلدرم يُوقع الرعب في نفوس الأوربيين عمومًا، وأهل القسطنطينية خصوصًا، تولَّى بايزيد الحُكم بعد استشهاد أبيه مراد الأول في معركة (قوصوه) كوسوفا سنة (791هـ= 1389م).
فتوحاته في الأناضول
كانت دائمًا منطقة الأناضول أو آسيا الصغرى هي منطقة الانطلاق لأي سلطان عثماني جديد؛ ذلك لأن هذه المنطقة منقسمة على نفسها إلى عدَّة إمارات صغيرة؛ يحكمها أمراء متغلِّبُونَ على رقاب المسلمين فيها، وقد سعى السلطان مراد الأول إلى توحيد الأناضول بعدَّة وسائل، ولم يَكَدْ ينجح في ذلك حتى انفرط الْعِقْد مرَّة أخرى، فقد ثار هؤلاء الأمراء على العثمانيين، وسبَّبُوا لهم الكثير من المتاعب، وكانت ثوراتهم المتكرِّرة سببًا في صرف جهود العثمانيين عن حرب أوربا؛ وهذا ما جعل الأوربيين يلتقطون أنفاسهم، ويُشَكِّلُون تحالفات صليبية متكرِّرة لمحاربة العثمانيين.
وفي سنة (793هـ= 1391م) استطاع بايزيد أن يضمَّ إمارات: منتشا، وآيدين، وصاروخان دون قتال؛ وذلك بِنَاءً على رغبة سكان هذه الإمارات، وقد لجأ حُكَّام هذه الإمارات إلى إمارة إصفنديار، كما تنازل له أمير القرمان علاء الدين عن جزء من أملاكه بدلًا من ضياعها كلها، وقد اشتهر علاء الدين هذا بالغدر والخيانة، وأخبارُ جرائمه أيام السلطان مراد الأول مشهورة؛ لذلك فلم يكن مستغربًا على هذا الرجل أن يثور مرَّة أخرى أيام بايزيد؛ مستغلًّا انشغاله بالجهاد في أوربا؛ حيث قام علاء الدين بالهجوم على الحاميات العثمانية وأَسَرَ كبار قادة العثمانيين، واستردَّ بعض الأراضي، فعاد بايزيد بسرعته المعهودة وانقضَّ كالصاعقة على علاء الدين، وفَرَّق شمله، وضمَّ إمارة القرمان كلها إلى الدولة العثمانية، وتبعتها إمارة سيواس وتوقات، ثم شقَّ بايزيد الأول طريقه إلى إمارة إصفنديار؛ التي تحوَّلت إلى ملجأ للأمراء الفارِّين، وطلب بايزيد من أمير إصفنديار تسليم هؤلاء الثوَّار فأبى؛ فانقضَّ عليه بايزيد الصاعقة وضمَّ بلاده إليه، والتجأ الأمير ومَنْ معه إلى تيمورلنك.
فتوحات بايزيد الصاعقة في أوربا
بعدما فرغ بايزيد الأول من ترتيب الشأن الداخلي، والقضاء على ثورات الأناضول؛ اتَّجه إلى ناحية أوربا وبدأ أُولى خطواته هناك، وذلك بإقامة حِلْفٍ ودِّيٍّ مع الصرب، وتزوَّج بايزيد من أوليفير أخت الملك أصطفان بن لازار ملك الصرب؛ وبذلك أصبحت صربيا بمنزلة الحاجز القوي بين الدولة العثمانية وإمبراطورية المجر، التي كانت وقتها أقوى الممالك الأوربية، وتُلَقَّبُ بحامية الصليب، وكانت عَلاقة المجر والصرب متوتِّرة، فاستغلَّ بايزيد ذلك للتفرُّغ للدولة البيزنطية.
كان بايزيد (صاعقة الإسلام) يهدف من محالفته للصرب إلى التفرُّغ للوسط الأوربي والقسطنطينية؛ لذلك فقد قام بتوجيه ضربة خاطفة إلى بلغاريا وفتحها سنة (797هـ= 1394م).
وأصبحت بلغاريا من وقتها إمارة تابعة للدولة العثمانية، وفرض بايزيد على إمبراطور بيزنطة مانويل عدَّة شروط؛ منها:
1- إنشاء محكمة إسلامية، وتعيين قضاة مسلمين بها؛ للفصل في شئون الرعية المسلمة بها.
2- بناء مسجد كبير بها، والدعاء فيه للخليفة العباسي بمصر، ثم السلطان بايزيد، وذلك يوم الجمعة.
3- تخصيص 700 منزل داخل المدينة للجالية المسلمة بها.
4- زيادة الجزية المفروضة على الدولة البيزنطية.
معركة نيكوبوليس
كان سقوط بلغاريا وقبول مانويل للشروط السابقة كجرس الإنذار القوي لكلِّ الأوربيين؛ خاصَّة ملك المجر سيجسموند والبابا بونيفاس التاسع، فاتَّفق عزمُ الرجلين على تكوين حلف صليبي جديد لمواجهة العثمانيين، واجتهد سيجسموند في تضخيم حجم هذا الحلف وتدويله، باشتراك أكبر قدرٍ ممكن من الجنسيات المختلفة؛ وبالفعل جاء الحلف ضخمًا يضمُّ مائة وعشرين ألف مقاتل من مختلَف الجنسيات؛ مثل: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، وأسكتلندا، وسويسرا، وإيطاليا، ويقود الحلف سيجسموند ملك المجر، تحرَّكت الحملة الصليبية، وانحدروا مع نهر الدانوب، حتى وصلوا إلى مدينة نيكوبوليس في شمال البلقان، ولم يَكَدِ الصليبيون يدخلون المدينة حتى ظهر بايزيد ومعه مائة ألف مقاتل، وانتهت المعركة بنصر مبين للمسلمين، ذَكَّرَهُمْ بأيام المسلمين الأولى كبدر واليرموك .
معركة نيكوبوليس
وعلى الرغم من القضاء على القوات الصليبية فإن السلطان بايزيد انزعج لكثرة قتلى المسلمين في المعركة؛ التي قُدِّرَتْ بـ(30000) بثلاثين ألف قتيل! وتذكَّر السلطان بايزيد ما فعله الصليبيون بالحاميات الإسلامية في بلغاريا والمجر، فأمر السلطان بايزيد بقتل الأسرى كلهم (3000) ثلاثة آلاف أسير وفي رواية أخرى (10000) عشرة آلاف، ولم يُبْقِ إلَّا أكابر وعلية القوم؛ وذلك للحصول على فدية ضخمة منهم، وممَّن وقع في الأسر «الكونت دي نيفر»، أحد أكبر الأمراء في الجيش الصليبي، الذي أقسم بأغلظ الأيمان ألَّا يعود إلى محاربة المسلمين، وكاد أن يُقَبِّل قدم السلطان، لكنْ كان ردُّ السلطان بايزيد الأول المعتزّ بدينه، أن قال له: «إني أُجيز لك ألَّا تحفظ هذا اليمين؛ فأنت في حلٍّ من الرجوع إلى محاربتي وقت ما شئتَ». ثم استطرد قائلاً كلمته الشهيرة التي خَلَّدها له التاريخ، وكتبها من حروف من ذهب: «إذ إنه ما من شيء أحبّ إليَّ من محاربة جميع مسيحيِّي أوربا والانتصار عليهم».
نزل خبر الهزيمة على مسيحيِّي أوربا مثل الصاعقة، وانتظر المسيحيون سقوط الممالك المسيحية واحدة تلو الأخرى في قبضة السلطان بايزيد (صاعقة الإسلام)؛ وعلى النقيض أرسل السلطان بايزيد الرسائل إلى ملوك وسلاطين المسلمين في القاهرة وبغداد وبلاد ما وراء النهر، ومعها بعض الأسرى كدليل مادِّيٍّ على النصر المبين، وخلع عليه الخليفة في القاهرة أبو عبد الله محمد بن المعتضد المتوكل على الله لقب «سلطان الروم»، فأضاف بذلك شرعية جهاده ضد المسيحيين في أوربا.
وتُعتبر معركة نيكوبوليس بالنسبة إلى المسيحيين أعظم كارثة على الإطلاق في العصور الوسطى، وبلغ السلطان بايزيد قمَّة مجده بعد تلك المعركة، وفي نشوة الفرح والانتصار أعلن السلطان: «أنه سيفتح إيطاليا بإذن الله، وسيُطعم حصانه الشعير على مذبح كنيسة القديس بطرس في روما».
كارثة تيمورلنك
ظهرت أثناء تلك الفترة قوَّة بشرية ضخمة يقودها تيمورلنك؛ حيث استطاع هذا الرجل أن يُؤَسِّس إمبراطورية ضخمة مترامية الأطراف؛ فضمَّ بلاد ما وراء النهر وبلاد الشام والهند وموسكو وآسيا الصغرى.
وكان تيمورلنك يُؤْمِن أنه ما دام يُوجد في السماء إلهٌ واحد، فيجب أن يُوجد في الأرض ملكٌ واحد؛ فكان يَحْلُم بالسيطرة على العالم!
وما فرح ملوك أوربا بشيءٍ مثل فرحهم بظهور تيمورلنك؛ الذي وجدوا فيه خلاصهم الوحيد من السلطان بايزيد الأول، كما ارتحل كثير من أمراء الأناضول -الذين طردهم السلطان بايزيد الأول- إلى خدمة تيمورلنك واحتموا به، وبلغ ذلك إمبراطور بيزنطة وأمراء أوربا؛ فأرسلوا إلى تيمورلنك يستنجدون به من السلطان بايزيد الأول، وأوقدوا العداوة بينهما، وبالفعل طمع تيمورلنك في أملاك الدولة العثمانية، وبدأ بالهجوم على أطرافها في آسيا الصغرى، وانضمَّ إليه الأمراء الفارِّين من بايزيد الأول.
وهذا ما أزعج السلطان بايزيد إلى حدٍّ كبير؛ فصمَّم على ملاقاة هذا الطاغية وقتله، وخصوصًا بعد رسالة تيمورلنك إلى السلطان بايزيد؛ حيث أهانه ضمنيًّا حين ذَكَّره بغموض أصل أسرته، واستصغار شأنه، ولكنه ختم الرسالة بأن عرض عليه العفو على اعتبار الخدمات الجليلة التي قام بها آل عثمان لخدمة الإسلام!
فصمَّم السلطان بايزيد على محاربة الطاغية تيمورلنك، ثم يتفرَّغ بعد ذلك إلى فتح القسطنطينية، الذي كان وشيكًا جدًّا.
معركة أنقرة
في عام (408 هـ= 1402م) احتلَّ تيمورلنك سيواس في الأناضول، وأباد حاميتها هناك؛ التي كان يقوها أرطغرل ابن السلطان بايزيد، ولم يكتفِ بذلك بل أخذ الفرسان وأحنى رءوسهم بين أرجلهم، وألقاهم في خنادق واسعة وردمهم بالتراب!
معركة أنقرة بين تيمورلنك وبايزيد الأول
انزعج السلطان بايزيد واستصوب رفع الحصار عن القسطنطينية وملاقاة هذا الطاغية؛ فاجتمع الجيشان في سهل أنقرة في (19 من ذي الحجة 804هـ= 20 يوليو 1402م)، وقد كان في جيش بايزيد الأول آلاف من التتر، وكان قد أرسل لهم تيمورلنك سرًّا كتابًا يُخبرهم بأن ينضمُّوا إليه ويتركوا السلطان بايزيد، وأخبرهم: «نحن جنس واحد، وهؤلاء تركمان ندفعهم من بيننا، ويكون لكم الروم عوضهم». فأجابوه وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه!
ولم يَكَدْ يلتقي الجيشان في أنقرة حتى فرَّ الجنود التتر الذين كانوا في جيش بايزيد وجنود الإمارات الآسيوية التي فتحها منذ عهد قريب، وانضمُّوا إلى جيش تيمورلنك، فانتصر المغول، وكانت من ضمن أسباب الهزيمة اندفاع وعجلة بايزيد، فلم يُحسن اختيار المكان الذي نزل فيه بجيشه الذي لم يكن يزيد عن مائة وعشرين ألف مقاتل، بينما كان جيش خصمه لا يقلُّ عن ثمانمائة ألف، ومات كثير من جنود بايزيد عطشًا لقلَّة الماء، وكان الوقت صيفًا شديد القيظ.
أسر السلطان بايزيد الصاعقة
ووقع في المعركة السلطان بايزيد الأول في الأسر، واختلفت الروايات في كيفية معاملة تيمورلنك للسلطان المجاهد العظيم بايزيد الأول؛ فمنهم مَنْ قال: إنه أهانه ووضعه في قفص وأخذ يطوف به البلاد. ومنهم مَنْ يقول: إنه أكرمه وعظَّم شأنه. ولا ندري حقيقة كيف عُومل السلطان المجاهد الصاعقة بايزيد الأول، لكنْ ما ثبت في كتب التاريخ عمَّا فعله تيمورلنك عند وفاة السلطان بايزيد الأول يدلُّنا على أن تيمورلنك أحسن معاملة السلطان بايزيد في أسره.
وفاة بايزيد الصاعقة
مات السلطان بايزيد الصاعقة بعد ثمانية شهور كمدًا في أسره في (15 من شعبان 805هـ= 10 من مارس 1403م)، فظلَّ يرسف في أغلاله حتى مات رحمه الله تعالى، لم يتحمَّلِ الذلَّ والهوان والأسر، ولِمَ لا وهو السلطان المجاهد العظيم الصاعقة؛ الذي تَعَوَّد على النصر، والذي لم يركن إلى الراحة يومًا واحدًا، وظلَّ في جهادٍ دام أكثر من أربعة عشر عامًا، ووصلت جيوشه أماكن لم تُرفع فيها راية للمسلمين من قبلُ، ورُفع الآذان في عهده في القسطنطينية التي كادت أن تُفتح على يديه، وهو السلطان الذي ارتعدت فرائص ملوك الروم عند ذِكْر اسمه!
وعندما مات السلطان بايزيد الأول سمح تيمورلنك لابنه الأمير موسى بأخذ جثمان أبيه، ودفنه العثمانيون بجوار مسجده في مدينة بروصة في الأناضول، وقبره بها ما زال معلومًا إلى الآن، مات السلطان بايزيد الأول وقد بلغ من العمر 44 عامًا.
لقد كانت الصدمة شديدةً جدًّا على المسلمين في أنحاء الأرض؛ حتى إن تيمورلنك قام بفتح بعض البلاد الساحلية الصليبية وانتزعها من أيدي فرسان القديس يوحنا؛ محاولًا بذلك أن يُبَرِّر موقفه أمام الرأي العام الإسلامي، الذي اتهمه بأنه وَجَّه ضربة قاضية وشديدة للإسلام حين قضى على الدولة العثمانية وقضى على السلطان المجاهد العظيم الصاعقة بايزيد الأول.
-
.... مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
السلطان بايزيد الأول صاعقة الإسلام، بلغت الدولة العثمانية في عهده من العزة والمجد؛ فهو صاحب النصر في
معركة نيكوبوليس الخالدة إلا أنه مات كمدا بعد أن
نشأة بايزيد الأول
كان في غاية الشجاعة والحماسة للجهاد في سبيل الله –عز وجل، غير أنه امتاز عمَّن سبقوه بسرعة الحركة وقوَّة الانقضاض على أعدائه؛ حتى لُقِّب بالصاعقة أو يلدرم باللغة التركية، وكان مجرَّد ذكر اسم يلدرم يُوقع الرعب في نفوس الأوربيين عمومًا، وأهل القسطنطينية خصوصًا، تولَّى بايزيد الحُكم بعد استشهاد أبيه مراد الأول في معركة (قوصوه) كوسوفا سنة (791هـ= 1389م).
فتوحاته في الأناضول
كانت دائمًا منطقة الأناضول أو آسيا الصغرى هي منطقة الانطلاق لأي سلطان عثماني جديد؛ ذلك لأن هذه المنطقة منقسمة على نفسها إلى عدَّة إمارات صغيرة؛ يحكمها أمراء متغلِّبُونَ على رقاب المسلمين فيها، وقد سعى السلطان مراد الأول إلى توحيد الأناضول بعدَّة وسائل، ولم يَكَدْ ينجح في ذلك حتى انفرط الْعِقْد مرَّة أخرى، فقد ثار هؤلاء الأمراء على العثمانيين، وسبَّبُوا لهم الكثير من المتاعب، وكانت ثوراتهم المتكرِّرة سببًا في صرف جهود العثمانيين عن حرب أوربا؛ وهذا ما جعل الأوربيين يلتقطون أنفاسهم، ويُشَكِّلُون تحالفات صليبية متكرِّرة لمحاربة العثمانيين.
وفي سنة (793هـ= 1391م) استطاع بايزيد أن يضمَّ إمارات: منتشا، وآيدين، وصاروخان دون قتال؛ وذلك بِنَاءً على رغبة سكان هذه الإمارات، وقد لجأ حُكَّام هذه الإمارات إلى إمارة إصفنديار، كما تنازل له أمير القرمان علاء الدين عن جزء من أملاكه بدلًا من ضياعها كلها، وقد اشتهر علاء الدين هذا بالغدر والخيانة، وأخبارُ جرائمه أيام السلطان مراد الأول مشهورة؛ لذلك فلم يكن مستغربًا على هذا الرجل أن يثور مرَّة أخرى أيام بايزيد؛ مستغلًّا انشغاله بالجهاد في أوربا؛ حيث قام علاء الدين بالهجوم على الحاميات العثمانية وأَسَرَ كبار قادة العثمانيين، واستردَّ بعض الأراضي، فعاد بايزيد بسرعته المعهودة وانقضَّ كالصاعقة على علاء الدين، وفَرَّق شمله، وضمَّ إمارة القرمان كلها إلى الدولة العثمانية، وتبعتها إمارة سيواس وتوقات، ثم شقَّ بايزيد الأول طريقه إلى إمارة إصفنديار؛ التي تحوَّلت إلى ملجأ للأمراء الفارِّين، وطلب بايزيد من أمير إصفنديار تسليم هؤلاء الثوَّار فأبى؛ فانقضَّ عليه بايزيد الصاعقة وضمَّ بلاده إليه، والتجأ الأمير ومَنْ معه إلى تيمورلنك.
فتوحات بايزيد الصاعقة في أوربا
بعدما فرغ بايزيد الأول من ترتيب الشأن الداخلي، والقضاء على ثورات الأناضول؛ اتَّجه إلى ناحية أوربا وبدأ أُولى خطواته هناك، وذلك بإقامة حِلْفٍ ودِّيٍّ مع الصرب، وتزوَّج بايزيد من أوليفير أخت الملك أصطفان بن لازار ملك الصرب؛ وبذلك أصبحت صربيا بمنزلة الحاجز القوي بين الدولة العثمانية وإمبراطورية المجر، التي كانت وقتها أقوى الممالك الأوربية، وتُلَقَّبُ بحامية الصليب، وكانت عَلاقة المجر والصرب متوتِّرة، فاستغلَّ بايزيد ذلك للتفرُّغ للدولة البيزنطية.
كان بايزيد (صاعقة الإسلام) يهدف من محالفته للصرب إلى التفرُّغ للوسط الأوربي والقسطنطينية؛ لذلك فقد قام بتوجيه ضربة خاطفة إلى بلغاريا وفتحها سنة (797هـ= 1394م).
وأصبحت بلغاريا من وقتها إمارة تابعة للدولة العثمانية، وفرض بايزيد على إمبراطور بيزنطة مانويل عدَّة شروط؛ منها:
1- إنشاء محكمة إسلامية، وتعيين قضاة مسلمين بها؛ للفصل في شئون الرعية المسلمة بها.
2- بناء مسجد كبير بها، والدعاء فيه للخليفة العباسي بمصر، ثم السلطان بايزيد، وذلك يوم الجمعة.
3- تخصيص 700 منزل داخل المدينة للجالية المسلمة بها.
4- زيادة الجزية المفروضة على الدولة البيزنطية.
معركة نيكوبوليس
كان سقوط بلغاريا وقبول مانويل للشروط السابقة كجرس الإنذار القوي لكلِّ الأوربيين؛ خاصَّة ملك المجر سيجسموند والبابا بونيفاس التاسع، فاتَّفق عزمُ الرجلين على تكوين حلف صليبي جديد لمواجهة العثمانيين، واجتهد سيجسموند في تضخيم حجم هذا الحلف وتدويله، باشتراك أكبر قدرٍ ممكن من الجنسيات المختلفة؛ وبالفعل جاء الحلف ضخمًا يضمُّ مائة وعشرين ألف مقاتل من مختلَف الجنسيات؛ مثل: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، وأسكتلندا، وسويسرا، وإيطاليا، ويقود الحلف سيجسموند ملك المجر، تحرَّكت الحملة الصليبية، وانحدروا مع نهر الدانوب، حتى وصلوا إلى مدينة نيكوبوليس في شمال البلقان، ولم يَكَدِ الصليبيون يدخلون المدينة حتى ظهر بايزيد ومعه مائة ألف مقاتل، وانتهت المعركة بنصر مبين للمسلمين، ذَكَّرَهُمْ بأيام المسلمين الأولى كبدر واليرموك .
معركة نيكوبوليس
وعلى الرغم من القضاء على القوات الصليبية فإن السلطان بايزيد انزعج لكثرة قتلى المسلمين في المعركة؛ التي قُدِّرَتْ بـ(30000) بثلاثين ألف قتيل! وتذكَّر السلطان بايزيد ما فعله الصليبيون بالحاميات الإسلامية في بلغاريا والمجر، فأمر السلطان بايزيد بقتل الأسرى كلهم (3000) ثلاثة آلاف أسير وفي رواية أخرى (10000) عشرة آلاف، ولم يُبْقِ إلَّا أكابر وعلية القوم؛ وذلك للحصول على فدية ضخمة منهم، وممَّن وقع في الأسر «الكونت دي نيفر»، أحد أكبر الأمراء في الجيش الصليبي، الذي أقسم بأغلظ الأيمان ألَّا يعود إلى محاربة المسلمين، وكاد أن يُقَبِّل قدم السلطان، لكنْ كان ردُّ السلطان بايزيد الأول المعتزّ بدينه، أن قال له: «إني أُجيز لك ألَّا تحفظ هذا اليمين؛ فأنت في حلٍّ من الرجوع إلى محاربتي وقت ما شئتَ». ثم استطرد قائلاً كلمته الشهيرة التي خَلَّدها له التاريخ، وكتبها من حروف من ذهب: «إذ إنه ما من شيء أحبّ إليَّ من محاربة جميع مسيحيِّي أوربا والانتصار عليهم».
نزل خبر الهزيمة على مسيحيِّي أوربا مثل الصاعقة، وانتظر المسيحيون سقوط الممالك المسيحية واحدة تلو الأخرى في قبضة السلطان بايزيد (صاعقة الإسلام)؛ وعلى النقيض أرسل السلطان بايزيد الرسائل إلى ملوك وسلاطين المسلمين في القاهرة وبغداد وبلاد ما وراء النهر، ومعها بعض الأسرى كدليل مادِّيٍّ على النصر المبين، وخلع عليه الخليفة في القاهرة أبو عبد الله محمد بن المعتضد المتوكل على الله لقب «سلطان الروم»، فأضاف بذلك شرعية جهاده ضد المسيحيين في أوربا.
وتُعتبر معركة نيكوبوليس بالنسبة إلى المسيحيين أعظم كارثة على الإطلاق في العصور الوسطى، وبلغ السلطان بايزيد قمَّة مجده بعد تلك المعركة، وفي نشوة الفرح والانتصار أعلن السلطان: «أنه سيفتح إيطاليا بإذن الله، وسيُطعم حصانه الشعير على مذبح كنيسة القديس بطرس في روما».
كارثة تيمورلنك
ظهرت أثناء تلك الفترة قوَّة بشرية ضخمة يقودها تيمورلنك؛ حيث استطاع هذا الرجل أن يُؤَسِّس إمبراطورية ضخمة مترامية الأطراف؛ فضمَّ بلاد ما وراء النهر وبلاد الشام والهند وموسكو وآسيا الصغرى.
وكان تيمورلنك يُؤْمِن أنه ما دام يُوجد في السماء إلهٌ واحد، فيجب أن يُوجد في الأرض ملكٌ واحد؛ فكان يَحْلُم بالسيطرة على العالم!
وما فرح ملوك أوربا بشيءٍ مثل فرحهم بظهور تيمورلنك؛ الذي وجدوا فيه خلاصهم الوحيد من السلطان بايزيد الأول، كما ارتحل كثير من أمراء الأناضول -الذين طردهم السلطان بايزيد الأول- إلى خدمة تيمورلنك واحتموا به، وبلغ ذلك إمبراطور بيزنطة وأمراء أوربا؛ فأرسلوا إلى تيمورلنك يستنجدون به من السلطان بايزيد الأول، وأوقدوا العداوة بينهما، وبالفعل طمع تيمورلنك في أملاك الدولة العثمانية، وبدأ بالهجوم على أطرافها في آسيا الصغرى، وانضمَّ إليه الأمراء الفارِّين من بايزيد الأول.
وهذا ما أزعج السلطان بايزيد إلى حدٍّ كبير؛ فصمَّم على ملاقاة هذا الطاغية وقتله، وخصوصًا بعد رسالة تيمورلنك إلى السلطان بايزيد؛ حيث أهانه ضمنيًّا حين ذَكَّره بغموض أصل أسرته، واستصغار شأنه، ولكنه ختم الرسالة بأن عرض عليه العفو على اعتبار الخدمات الجليلة التي قام بها آل عثمان لخدمة الإسلام!
فصمَّم السلطان بايزيد على محاربة الطاغية تيمورلنك، ثم يتفرَّغ بعد ذلك إلى فتح القسطنطينية، الذي كان وشيكًا جدًّا.
معركة أنقرة
في عام (408 هـ= 1402م) احتلَّ تيمورلنك سيواس في الأناضول، وأباد حاميتها هناك؛ التي كان يقوها أرطغرل ابن السلطان بايزيد، ولم يكتفِ بذلك بل أخذ الفرسان وأحنى رءوسهم بين أرجلهم، وألقاهم في خنادق واسعة وردمهم بالتراب!
معركة أنقرة بين تيمورلنك وبايزيد الأول
انزعج السلطان بايزيد واستصوب رفع الحصار عن القسطنطينية وملاقاة هذا الطاغية؛ فاجتمع الجيشان في سهل أنقرة في (19 من ذي الحجة 804هـ= 20 يوليو 1402م)، وقد كان في جيش بايزيد الأول آلاف من التتر، وكان قد أرسل لهم تيمورلنك سرًّا كتابًا يُخبرهم بأن ينضمُّوا إليه ويتركوا السلطان بايزيد، وأخبرهم: «نحن جنس واحد، وهؤلاء تركمان ندفعهم من بيننا، ويكون لكم الروم عوضهم». فأجابوه وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه!
ولم يَكَدْ يلتقي الجيشان في أنقرة حتى فرَّ الجنود التتر الذين كانوا في جيش بايزيد وجنود الإمارات الآسيوية التي فتحها منذ عهد قريب، وانضمُّوا إلى جيش تيمورلنك، فانتصر المغول، وكانت من ضمن أسباب الهزيمة اندفاع وعجلة بايزيد، فلم يُحسن اختيار المكان الذي نزل فيه بجيشه الذي لم يكن يزيد عن مائة وعشرين ألف مقاتل، بينما كان جيش خصمه لا يقلُّ عن ثمانمائة ألف، ومات كثير من جنود بايزيد عطشًا لقلَّة الماء، وكان الوقت صيفًا شديد القيظ.
أسر السلطان بايزيد الصاعقة
ووقع في المعركة السلطان بايزيد الأول في الأسر، واختلفت الروايات في كيفية معاملة تيمورلنك للسلطان المجاهد العظيم بايزيد الأول؛ فمنهم مَنْ قال: إنه أهانه ووضعه في قفص وأخذ يطوف به البلاد. ومنهم مَنْ يقول: إنه أكرمه وعظَّم شأنه. ولا ندري حقيقة كيف عُومل السلطان المجاهد الصاعقة بايزيد الأول، لكنْ ما ثبت في كتب التاريخ عمَّا فعله تيمورلنك عند وفاة السلطان بايزيد الأول يدلُّنا على أن تيمورلنك أحسن معاملة السلطان بايزيد في أسره.
وفاة بايزيد الصاعقة
مات السلطان بايزيد الصاعقة بعد ثمانية شهور كمدًا في أسره في (15 من شعبان 805هـ= 10 من مارس 1403م)، فظلَّ يرسف في أغلاله حتى مات رحمه الله تعالى، لم يتحمَّلِ الذلَّ والهوان والأسر، ولِمَ لا وهو السلطان المجاهد العظيم الصاعقة؛ الذي تَعَوَّد على النصر، والذي لم يركن إلى الراحة يومًا واحدًا، وظلَّ في جهادٍ دام أكثر من أربعة عشر عامًا، ووصلت جيوشه أماكن لم تُرفع فيها راية للمسلمين من قبلُ، ورُفع الآذان في عهده في القسطنطينية التي كادت أن تُفتح على يديه، وهو السلطان الذي ارتعدت فرائص ملوك الروم عند ذِكْر اسمه!
وعندما مات السلطان بايزيد الأول سمح تيمورلنك لابنه الأمير موسى بأخذ جثمان أبيه، ودفنه العثمانيون بجوار مسجده في مدينة بروصة في الأناضول، وقبره بها ما زال معلومًا إلى الآن، مات السلطان بايزيد الأول وقد بلغ من العمر 44 عامًا.
لقد كانت الصدمة شديدةً جدًّا على المسلمين في أنحاء الأرض؛ حتى إن تيمورلنك قام بفتح بعض البلاد الساحلية الصليبية وانتزعها من أيدي فرسان القديس يوحنا؛ محاولًا بذلك أن يُبَرِّر موقفه أمام الرأي العام الإسلامي، الذي اتهمه بأنه وَجَّه ضربة قاضية وشديدة للإسلام حين قضى على الدولة العثمانية وقضى على السلطان المجاهد العظيم الصاعقة بايزيد الأول.
المصدر: كتاب قادة لا تنسى تأليف : تامر بدر
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..