المصدر الصحيح لاستنباط محركات السياسات المدنية والعسكرية لدولةٍ ما هو دستورها أو وثيقتها الدستورية العليا ، في الدول التي تمتلك دساتير أو ما يقوم مقام الدساتير من وثائق قانونية ؛ وفي دولة
كبريطانيا لا تملك دستوراً فالمعول عليه هو تقاليدها وأعرافها السياسية والتاريخية .
أما اتخاذ حسن الظن أو سوء الظن مرجعاً لتقدير مقاصد الدول من أعمالها ودوافعها إليها ، فليس ذلك سوى انطباع تحكمه العواطف السلبية أو الإيجابية لدى الفرد أو المجموعة تجاه أي دولة ، لكنه ليس عملاً علمياً ولا عادلاً حتى لو وافق الحقيقة ، لأن العدل هو ما نتج عن بَيِّنَة وليس عن حدس أو عاطفة.
كثير من الدول تخالف دساتيرَها لكن ذلك لا يصلح أن يُعَدَّ أصلاً تُحاكم إليه سياساتُها ، بل هو خطأ تقع فيه الأنظمة اضطراراً لعارض من جلب مصلحة ضرورية أو دفع مفسدة متحتمة ولا يكون ذلك إلا استثناءً ؛ لكن حين تُصبح مخالفة الدستور أصلاً ، فهذا يعني أنها دولة غير مبالية بدستورها أو متمردة عليه ؛ ولذلك فالأصل أن المرجعية في إثبات الدوافع والمحركات لسياسة دولةٍ ما هو دستورها أو ما يقوم مقامة حتى يُثبت الباحث عكس ذلك .
والمملكة العربية السعودية دولة دستورها القرآن والسنة كما في المادة الأولى للنظام الأساسي للحكم ؛ويستمد الحكم سلطته منهما كما في المادة السابعة من النظام .
لذلك حينما نرجع لمحرك السياسة السعودية في الحرب أو في السلم لابد أن تكون مرجعيتنا في استكشاف هذا المحرك نظام الدولة الأساس ودستورها .
أقول هذا بين يدي الحديث عن حربنا في اليمن هل هي سياسية أم عقدية ؟
وهو سؤال يؤسفني أن أراه مطروحاً عند فئات من النخب داخل السعودية وخارجها ؛ منهم من هو منتمٍ للتيارات العلمانية والليبرالية ، ومنهم من هو منتم للتيارات الإسلامية الحركية أو المتأثرة بها ؛ وجميعهم يطرحون جواباً واحداً وهو :أن دوافع السعودية في حربها في اليمن سياسية محضة وليست عقدية دينية.
وهي دعوى باطلة لأمور عدة أهمها :أن التفريق بين السياسي والديني مبدأ علماني لا تقره الشريعة ولا تقوم عليه مبادئ المملكة العربية السعودية ؛ نعم هناك سياسات متفقة مع الشرع وسياسات مخالفة له ، وقد تقع السعودية في شئ من المخالفات كأي عبد من عباد الله، والمرجع في كونها مخالفة أم لا هو الكتاب والسنة لاغير ، بل الشريعة حاكمة على السياسة ، كما في المادة السابعة من النظام الأساسي :"وهما-أي الكتاب والسنة- الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة" أما أن تكون السياسة منفكة عن الدين أو الدين منفك عن السياسة فلا.
وأهداف الحرب في اليمن كُلها حين نعرضها على الكتاب والسنة نجد أنها شرعية ، بل هي من فروض الأعيان على هذه الدولة ؛ فالحركة الحوثية ليست مجرد حركة علمية زيدية بل هي حركة سياسية عسكرية تمتطي الخرافات التي يروجها الغلو الشيعي والحقوق المفتراه وليست الثابتة شرعاً لآل البيت لتنشر الفكر الصفوي الغالي وتتمدد تحت مظلة ذلك سياسيا وعسكرياً .
وقد أشار ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى طرف من ذلك حين ذكر في أحد لقاءاته:أن إيران تنتظر رجلاً قد مات منذ ألف ومأتي عام كي يخرج ليصلح الأرض بعد أن تفسدها هي .
والانقلاب الحوثي ليس ثورةً داخليةً أو انقلاباً عسكرياً مجرداً يمكن أن تتعامل معه السعودية على مبدأ عدم التدخل في الشأن الداخلي لدول الجوار ؛ لكنه تغيير بالقوة يهدف لمسخ هوية اليمن الدينية والثقافية ، تماماً كما فعلت الدولة الصفوية في العراق قبل أكثر من مأتي عام حين غيرت جزءًا كبيراً من هويته الثقافية ليكون تابعاً لها ؛ وهي تريد صنع ذلك في اليمن وتتخذ منها قاعدة تنطلق منها إيران لتحطيم أقوى كيان إسلامي سني وهو المملكة العربية السعودية وفصل أجزائه عن بعضها وإشاعة الفوضى والفرقة داخلها .
فالسعودية تحمل في حربها مطلباً شرعياً وهو حماية كيانها من هذا الكيد الصفوي في العدوان على جغرافية الدولة وعقيدتها ، والنظام الأساسي للحكم يكفل لها ذلك كما هي المادة الثالثة والثلاثون :"تنشئ الدولة القوات المسلحة، وتجهزها من أجل الدفاع عن العقيدة، والحرمين الشريفين، والمجتمع، والوطن"
وقد أثبتت الهدنة في الحديدة والتي ضغط الغرب في اتجاهها أن الحوثيين ليسوا ذراعاً إيرانياً لإشاعة الفوضى في المنطقة وحسب ؛ بل هم ذراع دولي غربي صهيوني لإلحاق الأضرار البالغة بالمملكة ، ولك أن تراجع الصحافة العالمية والتقارير الإخبارية لتعلم أن الهدنة في الحديدة كان وراءها الكونجرس الأمريكي والاتحاد الأوربي وبريطانيا ، بعد أن رأوا الحديدة على وشك السقوط بأيدي الجيش اليمني ، مما سوف يثبت لك هزلية منلوج الموت لأمريكا الموت لإسرائيل الموت لأعداء الإسلام ، وأن من يصيح بهذا المنلوج هم أدوات لأولئك الذين يتمنون بزعمهم الموت لهم .
ثم إن حماية معتقدات أهل اليمن من المسخ الصفوي مبدأ شرعي سواءً أكانوا شافعيين أم زيديين ، لأن المبادئ الزيدية التي تقترب من أهل السنة في منطلقاتها وأحكامها الفقهية حَرِية بأن نحرص على حمايتها من الاختلاط بالمعتقدات الصفوية التي تختلف مع السنة كلياً في مصادر التلقي ، كما تختلف كلياً مع الزيدية حيث لا يجتمع المذهبان إلا في شعار التشيع ، وهو شعار يسعى الحوثيون لاستخدامه ذريعة لإحلال المبادئ الصفوية الإيرانية المنعزلة عن الأمة الإسلامية جمعاء مَحَلَّ الفكر الزيدي ذي التاريخ الطويل في اليمن ؛ كما أن الشافعيين في اليمن وأهل السنة أجمعين يجتمعون مع الزيدية في توقير علماء أفذاذ كالإمام زيد وأئمة الفقه الأربعة وكثير من أئمة العلم اليمنيين كابن الوزير والصنعاني والشوكاني ، بينما لا نجد شيئا من هذا الاتفاق بين الفريقين وبين الصفويين أتباع المذهب الغالي في تشيعه .
وكذلك فإن الحيلولة بين الحوثيين وبين حكم اليمن حماية لليمنيين على المدى الطويل من التصفية العرقية على أساسٍ مَذْهَبيٍ ، وهو ما فعَلتْه الكتائب التابعة لإيران في العراق حيث يتم إلى وقت قريب قتل السنة وتهجيرهم من مدنهم وقراهم في وضح النهار ، وليس أدل على ذلك من أن بغداد التي أسسها أبو جعفر المنصور وكانت منارة لعلوم أهل السنة وموئلا لهم لم يبق فيها بعد عمليات التهجير الصفوي من أهل السنة سوى عشرة في المائة بعد أن كانوا قبل عشر سنوات ثلثي سكان المدينة ، والحديث عن تهجير أهل السنة في ديالى وخانقين والفلوجة وصلاح الدين والموصل أشد مرارة من الحديث عن بغداد ، وليس الحوثيون سوى كتيبة إيرانية كتلك الكتائب المجرمة في العراق ، ولولا الحرب التي يشنها التحالف اليوم على الحوثيين لرأيت أهل صنعاء وتعز قتلى على قوارع الطرق أو هائمين في الصحارى والقفار.
ولا أشك أن وعي المجتمعات والقبائل اليمنية بهذه الحقائق ضعيف جداً ،وهذا من التقصير الإعلامي الذي لا يُمكن أن يُعتذر له من جهة إعلام السعودية والتحالف العربي و من جهة إعلام إدارة الشرعية في اليمن .
فإذا كانت هذه الأهداف ليست شرعية وإنما سياسية وحسب فمتى وأين سنجد الغايات الشرعية!
فالحديث عن كون حرب السعودية في اليمن سياسية لاشرعية هُرَاء كبير يُطلقه ليبراليون وعلمانيون تنزيلاً لمبادئ تياراتهم على واقع ليس لهم ولم يصنعوه، ولا يمكن أن يتفهموا حقيقته.
كما يطلقه بعض الحركيين الإسلاميين الذين تعودنا منهم دائما غمط السعودية كل خير تسعى إليه ووصمها بكل شر تبتعد عنه.
ومما يؤيد به هؤلاء توجههم السقيم :أن السعودية قابلة لإنهاء الحرب عبر اتفاق سياسي بينها وبين الحوثي وهذا في نظرهم مبرر للزعم بأن هذه الحرب سياسية محضة ؛ وهذا النوع من الحُجج من بناء الأوهام على الأوهام ؛ إذ لا نعلم أن السعودية أقَرَّت إمكانية التفاوض مع الحوثي بمعزل عن الشرعية اليمنية ، ولم يكن بينها وبين الحوثي أي صلة مباشرة بعد الحرب أو قبل الحرب ؛ وعلى افتراض التوصل لإنهاء الحرب عبر حل يكون الحوثي. طرفاً فيه ، فلن يكون ذلك إلا مع وجود مصالح تُقِرُّ الشريعة جلبها أو مفاسد تُقِرُّ الشريعة درءها .
وليس في مصلحة أحد إشاعة أن الحرب سياسية لاغير سوى إيران وعملائها المباشرين أو غير المباشرين ، أما المخلص لدينه ووطنه فإنه يحثوا على من يرددون هذا القول التراب لأنهم إنما يريدون تثبيط الجنود وثني عزائمهم والتزهيد في تضحياتهم .
ولا يخفى عَلَيَّ أن الخطاب الإعلامي السعودي واليمني اليوم لا يبرزان المحرك العقدي والشرعي لهذه الحرب كما هو المفترض فيهما ، بل يتركان للجانب الحوثي مجال الدعاية العقائدية يمارس فيها دعاواه الكاذبة دون حرب فكرية مضادة وهي أولى باستخدام السلاح العقائدي منه ، بل هي الصادقة في ذلك الخطاب وهو الكاذب.
وأمر مهم جداً هنا وهو أن بعض مجازفات إعلامنا ومظاهره الصحفية والتلفزيونية غير لائقة أبداً بدولة تخوض حرباً عسكرية فكرية دينية ؛
وهذه والحق يقال ثغرة في خطابنا الإعلامي ينبغي أن يتم سدها ، فحربنا في ساحات الأثير الإعلامي ينبغي إن تكون ردءًا لحربنا في ساحات الوغى ، لأن عليها تقوم معنويات الجنود وذويهم وأبنائه وزوجاتهم ، وبها أيضا تُستنهض الهمم ، همم جنودنا البواسل الذين رأينا ولازلنا نرى من إخلاصهم ما يسطر في أعلى صحائف المجد ؛ وهمم قبائل اليمن الذين لازلنا ننتظر منهم ما هم له أهل من التحرك حمية للدين والأرض والعرض.
د.محمد بن إبراهيم السعيدي
49 15 أبريل, 2019 12:05 ص
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..