السبت، 13 يوليو 2019

العِدَّة والاستبراء

العدة:
يشتمل بحث العدة على المباحث الخمسة التالية:
الأول ـ تعريف العدة وحكمها الشرعي، وحكمتها، وسبب وجوبها، وركنها.

الثاني ـ أنواع العدة ومقاديرها.
الثالث ـ تحول العدة أو انتقالها وتغيرها.
الرابع ـ وقت ابتداء العدة، وما يعرف به انقضاؤها.
الخامس ـ أحكام العِدَد أو حقوق المعتدة وواجباتها.

المبحث الأول ـ تعريف العدة، وحكمها الشرعي، وحكمتها، وسبب وجوبها، وركنها:
معنى العدة: العِدَّة بكسر العين جمع عِدَد، وهي لغة: الإحصاء، مأخوذة من العَدَد لاشتمالها على عدد الأقراء أو الأشهر غالباً، يقال: عددت الشيء عِدَّة: أحصيته إحصاء. وتطلق أيضاً على المعدود، يقال: عدة المرأة: أيام أقرائها.

(9/7165)


واصطلاحاً في رأي الحنفية (1): مدة محددة شرعاً لانقضاء ما بقي من آثار الزواج. وبعبارة أخرى: تربص (أي انتظار) يلزم المرأة عند زوال النكاح أو شبهته. وبنوا على تعريفهم القول بتداخل العدتين سواء أكانتا من جنس واحد أم من جنسين ولو من رجلين، ومثال الجنس الواحد: إذا تزوجت المطلقة في عدتها، فوطئها الزوج، ثم تفرقا حتى وجبت عليها عدة أخرى، فإن العدتين يتداخلان. ومثال الجنسين: المتوفى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة، تداخلت العدتان، وتعتد المرأة بثلاث حيضات من عدة الوطء.
وفي رأي الجمهور (2): العدة: مدة تتربص فيها المرأة، لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو لتفجعها على زوجها. فهي نفس التربص، فلا تتداخل العدتان من شخصين، وتمضي المرأة في العدة الأولى حتى نهايتها، ثم تبدأ بالعدة الأخرى، وتتداخل العدتان من شخص واحد ولو من جنسين.
ويمكن تعريف العدة بتعريف أوضح: هي مدة حددها الشارع بعد الفرقة، يجب على المرأة الانتظار فيها بدون زواج حتى تنقضي المدة.
فلا عدة على المزني بها في رأي الحنفية والشافعية خلافاً للمالكية والحنابلة.
ولا عدة على المرأة قبل الدخول اتفاقاً، لقوله تعالى: {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/ 33]. وعلى المدخول بها عدة إجماعاً، سواء أكان سبب الفرقة طلاقاً أم فسخاً أم وفاة، وسواء أكان الدخول بعد عقد فاسد أم صحيح أم بشبهة، وتجب أيضاً عند الجمهور غير الشافعية إذا طلق الرجل المرأة بعد الخلوة بها.
_________
(1) البدائع: 190/ 3، الدر المختار: 823/ 2، اللباب: 80/ 3.
(2) الشرح الصغير: 671/ 2، القوانين الفقهية: ص 235، مغني المحتاج: 384/ 3، كشاف القناع: 476/ 5، غاية المنتهى: 209/ 3، بداية المجتهد: 88/ 2.
(9/7166)


وتكون القاعدة: كل طلاق أو فسخ وجب فيه جميع الصداق وجبت العدة، وحيث سقط الصداق كله أو لم يجب إلا نصفه، سقطت العدة. ومن أمثلة الفسخ: الفسخ بسبب الرضاع أو العيب أو العتق أو اللعان أو اختلاف الدين.

حكمها الشرعي: العدة واجبة شرعاً على المرأة بالكتاب والسنة والإجماع (1):
أما الكتاب: فقوله تعالى عدة الطلاق: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/ 2] وفي عدة الوفاة: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة:234/ 2] وفي عدة الصغيرة والآيسة والحامل: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن، وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65] وآي أخرى.
وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تحدُّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً» (2)، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس أن تعتد عند ابن أم مكتوم (3). وأحاديث أخرى.
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وجوب العدة، في الجملة، وإنما اختلفوا في أنواع منها.
_________
(1) المغني: 448/ 7.
(2) رواه البخاري ومسلم عن أم سلمة، وفي لفظ آخر عندهما: «لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً» (نيل الأوطار: 292/ 6) والإحداد: منع المعتدة نفسها الزينة وبدنها الطيب، ومنع الخطَّاب خطبتها.
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، ومسلم بمعناه عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة (نيل الأوطار: 302/ 6).
(9/7167)


هل على الرجل عدة؟ ليس على الرجل عدة بالمعنى الاصطلاحي، فيجوز له بعد الفرقة مباشرة أن يتزوج بزوجة أخرى، مالم يوجد مانع شرعي، كالتزوج بمن لا يحل له الجمع بين زوجته الأولى وبين قريباتها المحارم كالأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت ولو من زواج فاسد أو في شبهة عقد. وتزوج امرأة خامسة في أثناء عدة المرأة الرابعة التي فارقها حتى تنقضي عدتها، ونكاح المطلقة ثلاثاً قبل التحليل (1).
عدة المرأة غير المسلمة: اختلف الفقهاء في وجوب العدة على غير المسلمة على رأيين:
قال أبو حنيفة: لا تجب العدة على المرأة غير المسلمة ذمية كانت أو حربية إذا كان معتقد أهل دينها أنه لا عدة عليها إلا إذا كانت كتابية زوجة لمسلم، فتجب عليها العدة بالفراق، رعاية لحق الزوج؛ لأن العدة تجب حقاً لله تعالى، ولحق الزوج، والكتابية مخاطبة بحقوق العباد، فتجب عليها العدة، وتجبر عليها لأجل حق الزوج والولد، منعاً من اختلاط الأنساب.
وإن جاء الزوج مسلماً، وترك امرأته في دار الحرب، فلا عدة عليها باتفاق الحنفية؛ إذ لا حق لأحد الزوجين على الآخر في حال اختلاف الدارين، ولأن أحكام الإسلام تطبق على أهل الذمة، لا على الحربيين.
وقال الجمهور ومنهم الصاحبان: تجب العدة على الذمية، سواء أكانت زوجة لمسلم أم لذمي، لعموم الآيات الآمرة بالعدة.

وحكمة العدة: إما التعرف على براءة الرحم، أو التعبد، أو التفجع على
_________
(1) رد المحتار: 823/ 2 - 824.
(9/7168)


الزوج، أو إعطاء الفرصة الكافية للزوج بعد الطلاق ليعود لزوجته المطلقة. ففي الطلاق البائن، والتفريق لفساد الزواج أو الوطء بشبهة يقصد من العدة استبراء رحم المرأة للتأكد من عدم وجود حمل من الرجل، منعاً من اختلاط الأنساب، وصون النسب. فإذا كان الحمل موجوداً تنتهي العدة بوضع الحمل لتحقق الهدف المقصود من العدة. وإذا لم يتأكد من الحمل بعد الدخول بالمرأة، وجب الانتظار للتعرف على براءة الرحم، حتى بعد الوفاة. ومن المقاصد أيضاً: إظهار الأسف على نعمة الزواج، وصون سمعة المرأة وكرامتها حتى لا تكون محلاً للتحدث عنها بخروجها من البيت غادية رائحة بمجرد الفراق، وإن أمكن معرفة براءة الرحم بمجرد الحيضة الأولى.
وفي الطلاق الرجعي: يقصد بالعدة تمكين الرجل من العود إلى مطلقته خلال العدة، بعد زوال عاصفة الغضب، وهدوء النفس، والتفكير بمتاعب ومخاطر ووحشات الفراق. وذلك حرصاً من الإسلام على إبقاء الرابطة الزوجية، وتنويهاً بتعظيم شأن الزواج، فكما أنه لا ينعقد إلا بالشهود، لا ينحل إلا بانتظار طويل الأمد.
وفي فرقة الوفاة: يراد من العدة تذكر نعمة الزواج، ورعاية حق الزوج وأقاربه، وإظهار التأثر لفقده، وإبداء وفاء الزوجة لزوجها، وصون سمعتها وحفظ كرامتها، حتى لا يتحدث الناس بأمرها، ونقد تهاونها، والتحدث عن خروجها وزينتها، خصوصاً من أقارب زوجها. قال الشافعية والحنابلة (1): المقصود الأعظم من العدة حفظ حق الزوج دون معرفة البراءة، ولهذا اعتبرت عدة الوفاة بالأشهر، ووجبت العدة على المتوفى عنها زوجها التي لم يدخل بها تعبداً، مراعاة لحق الزوج.
_________
(1) مغني المحتاج: 395/ 3، كشاف القناع: 476/ 5.
(9/7169)


وهذه المعاني تنطبق على المرأة، حتى ولو كانت كبيرة السن لا ترجو زواجاً آخر، بالإضافة لتحقيق معنى التعبد في العدة.

سبب وجوب العدة:
تجب العدة في الجملة بأحد أمرين: طلاق أو موت. والفسخ كالطلاق (1). وذلك بعد الدخول (الوطء) من زواج صحيح أو فاسد أو شبهة بالاتفاق، أو بعد استدخال ذكر زائد، أو أشل، أو إدخال مني الزوج؛ لأنه أقرب إلى العلوق من مجرد الإيلاج ولاحتياجها لتعرف براءة الرحم، أو بعد خلوة صحيحة عند الجمهور غير الشافعية. وتجب العدة أيضاً عند المالكية والحنابلة بعد الزنا كالموطوءة بشبهة. وبناء عليه تجب العدة بأحد الأسباب التالية:
1ً - تجب العدة بالفرقة بعد الدخول من زواج صحيح أو فاسد، أو بعد الخلوة الصحيحة في رأي الجمهور غير الشافعية، سواء أكانت الفرقة في حال الحياة بسبب طلاق أو فسخ، أم بسبب الوفاة.
فإن كان الزواج فاسداً كزواج الخامسة أو المعتدة، فلا تجب العدة إلا بالدخول الحقيقي، ولا تجب عند الجمهور بالخلوة. وأوجب المالكية العدة بالخلوة بعد زواج فاسد، كما تجب بالدخول الحقيقي؛ لأن الخلوة مظنّة الوقاع.
ودليل الجمهور على وجوب العدة بالخلوة: ما رواه أحمد والأثرم عن زرارة ابن أوفى قال: «قضى الخلفاء الراشدون أن من أغلق باباً أو أرخى ستراً، فقد وجب المهر، ووجبت العدة».
_________
(1) البدائع: 191/ 3 - 192، الدر المختار: 824/ 2 وما بعدها، 846، الشرح الصغير: 671/ 2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 235، مغني المحتاج: 384/ 3، 395، المهذب: 142/ 2، 145، المغني: 449/ 7 وما بعدها، كشاف القناع: 476/ 5 ومابعدها.
(9/7170)


ولا تجب العدة بالخلوة المجردة عن الوطء عند الشافعية في الجديد، لمفهوم الآية السابقة: {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/ 33].
2 - وتجب العدة أيضاً بالاتفاق بالتفريق للوطء بشبهة، كالموطوءة في زواج فاسد؛ لأن وطء الشبهة والزواج الفاسد كالوطء في الزواج الصحيح في شغل الرحم ولحوق النسب بالواطئ، فكان مثله فيما تحصل به براءة الرحم، كيلا تختلط الأنساب والمياه. ومثال الوطء بشبهة: أن تزف امرأة إلى غير زوجها، وتقول النساء للرجل: إنها زوجتك، فيدخل بها بناء على قولهن، ثم يتبين أنها ليست زوجته.
ولا فرق في وجوب العدة بأحد السببين السابقين بين أن تكون الفرقة بسبب طلاق أو فسخ، فكل فرقة بين زوجين عدتها عدة الطلاق، سواء أكانت بخلع أم لعان أم رضاع أم فسخ بعيب أم إعسار أم اعتاق أم اختلاف دين أم غيره عند أكثر العلماء.
ولا فرق أيضاً بين أن يكون الوطء حلالاً، أم حراماً كوطء حائض ومحرمة بحج أو عمرة، ولا بين أن يكون الوطء في قُبل، أو دبر على الأصح لدى الشافعية، والحكم واحد سواء أكان الواطئ عاقلاً أم لا، مختاراً أم لا، لفَّ على ذكره خرقة أو كيساً أم لا، بالغاً أم صبياً.
ولا عدة قبل الدخول بنص القرآن كما أوضحت.
3 - وتجب العدة كذلك بالاتفاق بعد وفاة الزوج في العقد الصحيح، ولو قبل الدخول أو الوطء أو كانت الزوجة صغيرة، أو زوجة صبي ولو رضيعاً أو زوجة ممسوح، لإطلاق الآيات القرآنية مثل: {والذين يتوفون منكم، ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة:234/ 2].
(9/7171)


4 - وأوجب المالكية والحنابلة خلافاً لغيرهم العدة على المزني بها كالموطوءة بشبهة؛ لأنه وطء يقتضي شغل الرحم، فوجبت العدة منه كوطء الشبهة.
ولم يوجبها غير هؤلاء؛ لأن العدة لحفظ النسب، ولا يلحق الزاني نسب بالزنا.

ركن العدة: أوضح الحنفية (1) ركن العدة بأنه التزام المرأة بحرمات ثابتة بسبب العدة يحرم عليها مخالفتها، كحرمة التزوج بزوج آخر، وحرمة الخروج من بيت الزوجية الذي طلِّقت فيه، وصحة الطلاق في العدة، وحرمة التزوج بأخت المطلقة ونحوها.
المبحث الثاني ـ أنواع العدة ومقاديرها:
العدة ثلاثة أنواع (2): عدة بالأقراء، وعدة بالأشهر، وعدة بوضع الحمل. والمعتدات ستة أنواع (3):
الحامل، والمتوفى عنها زوجها، وذات الأقراء المفارقة في الحياة، ومن لم تحض لصغر أو إياس وكانت المفارقة في الحياة، ومن ارتفع حيضها ولم تدر سببه، وامرأة المفقود. وعدة الطلاق ثلاثة أنواع (4):
ثلاثة قروء لمن تحيض، وضع حمل الحامل، ثلاثة أشهر لليائس والصغيرة.
_________
(1) الدر المختار: 825/ 2.
(2) البدائع: 191/ 3 وما بعدها.
(3) كشاف القناع: 478/ 5 - 487، غاية المنتهى: 209/ 3 - 212.
(4) القوانين الفقهية: ص 235.
(9/7172)


المقصود بالقروء: القرء لغة مشترك بين الطهر والحيض، ويجمع على أقرء وقروء وأقرء، وللفقهاء رأيان في تفسير القروء (1):
يرى الحنفية والحنابلة: أن المراد بالقرء: الحيض؛ لأن الحيض مُعَرِّف لبراءة الرحم، وهو المقصود من العدة، فالذي يدل على براءة الرحم إنما هو الحيض لا الطهر، ولقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن} [الطلاق:4/ 65] فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر، فدل على أن الأصل الحيض، كما قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/ 5].
ولأن المعهود في الشرع استعمال القرء بمعنى الحيض، قال النبي صلّى الله عليه وسلم للمستحاضة: «دعي الصلاة أيام أقرائك» (2) وهوعليه الصلاة والسلام المعبر عن الله، وبلغة قومه نزل القرآن، وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت أبي حبيش: «انظري، فإذا أتى قرؤك فلا تصلي، وإذا مرَّ قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء» (3).
وقال صلّى الله عليه وسلم: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» (4)، فإذا اعتبرت عدة الأمة بالحيض، كانت عدة الحرة كذلك.
ولأن ظاهر قوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/ 2] وجوب التربص ثلاثة كاملة، ومن جعل القروء الأطهار، لم يوجب ثلاثة، لأنه
_________
(1) الكتاب للقدوري مع اللباب: 80/ 3، القوانين الفقهية: ص 235، مغني المحتاج: 385/ 3، المغني: 452/ 7 ومابعدها.
(2) رواه أبو داود والنسائي وروى ابن ماجه عن عائشة قالت: «أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض» وقال عليه الصلاة والسلام: «تجلس أيام أقرائها» (انظر نيل الأوطار: 290/ 6 ومابعدها).
(3) رواه النسائي، وفيه منكر الحديث، ورواه أيضاً ابن ماجه وأبو بكر الخلال في جامعه.
(4) رواه أبو داود وغيره.
(9/7173)


يكتفي بطهرين وبعض الثالث، فيخالف ظاهر النص. ومن جعله الحيض أوجب ثلاثة كاملة، فيوافق ظاهر النص، فيكون أولى من مخالفته.
ولأن العدة استبراء، فكانت بالحيض، كاستبراء الأمة، لأن الاستبراء لمعرفة براءة الرحم من الحمل، والذي يدل عليه هو الحيض، فوجب أن يكون الاستبراء به.
ويرى المالكية والشافعية: أن القرء هو الطهر؛ لأنه تعالى أثبت التاء في العدد «ثلاثة»، فدل على أن المعدود مذكر، وهو الطهر، لا الحيضة. ولأن قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] أي في وقت عدتهن، لكن الطلاق في الحيض محرَّم كما تقدم في بحث الطلاق البدعي، فيصرف الإذن إلى زمن الطهر. وأجيب بأن معنى الآية مستقبلات لعدتهن.
ولأن القرء مشتق من الجمع، فأصل القرء الاجتماع، وفي وقت الطهر يجتمع الدم في الرحم، وأما الحيض فيخرج من الرحم. وما وافق الاشتقاق كان اعتباره أولى من مخالفته.
وفائدة الخلاف: أنه إذا طلقها في طهر، انتهت عدتها في رأي الفريق الثاني بمجيء الحيضة الثالثة؛ لأنها يحتسب لها الطهر الذي طلقت فيه، ولا تخرج من عدتها إلا بانقضاء الحيضة الثالثة في رأي الفريق الأول، وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا: «يحل لزوجها الرجعة إليها، حتى تغتسل من الحيضة الثالثة» مما يؤيد رأي الفريق الأول.
والراجح لدي هو الرأي الأول، لاتفاقه مع الواقع والمقصود من العدة، فالنساء تنتظر عادة مجيء الحيض ثلاث مرات، فيتقرر انقضاء العدة، ولا تعرف براءة الرحم إلا بالحيض، فإذا حاضت المرأة تبين أنها غير حامل، وإذا استمر الطهر
(9/7174)


تبين غالباً وجود الحمل. وقد روى النيسابوري عن الإمام أحمد: «كنت أقول: إنه الأطهار، وأنا أذهب اليوم إلى أن الأقراء الحيض» ورجوعه عن رأي سابق يكون عادة لمسوغات أو مرجحات أقوى.

أسباب وشروط كل نوع من أنواع العدة (1):
عرفنا أن العدة أنواع ثلاثة: عدة الأقراء، وعدة الأشهر، وعدة الحبل.

أولاً ـ عدة الأقراء: لها أسباب أهمها ثلاثة:
1ً - الفرقة في الزواج الصحيح، سواء أكانت بطلاق أم بغير طلاق. وتجب هذه العدة لاستبراء الرحم، وتعرف براءته من الشغل بالولد.
وشرط وجوبها: الدخول بالمرأة أو ما يجري مجرى الدخول وهو الخلوة الصحيحة عند غير الشافعية في الزواج الصحيح دون الفاسد عند الحنفية والحنابلة، وفي الفاسد أيضاً عند المالكية، فلا تجب هذه العدة بدون الدخول والخلوة الصحيحة.
2ً - الفرقة في الزواج الفاسد بتفريق القاضي، أو بالمتاركة. وشرطها الدخول عند الجمهور غير المالكية، وتجب العدة أيضاً عند المالكية بالخلوة بعد زواج فاسد.
3ً - الوطء بشبهة العقد: بأن زفت إلى الرجل غير امرأته، فوطئها؛ لأن الشبهة تقوم مقام الحقيقة في حال الاحتياط، وإيجاب العدة من باب الاحتياط.

ثانياً ـ عدة الأشهر: نوعان: نوع يجب بدلاً عن الحيض، ونوع يجب أصلاً
_________
(1) البدائع: 191/ 3 - 193، مغني المحتاج: 388/ 3.
(9/7175)


بنفسه. أما العدة التي تجب بدلاً عن الحيض بالأشهر: فهي عدة الصغيرة، والآيسة، والمرأة التي لم تحض أصلاً، بعد الطلاق. وسبب وجوبها: الطلاق لمعرفة أثر الدخول، وهو سبب وجوب عدة الأقراء المتقدمة.
وشرط وجوبها شيئان:
أحدهما ـ الصغر أو الكبر أو فقد الحيض أصلاً.
والثاني ـ الدخول، أو الخلوة الصحيحة عند غير الشافعية، في النكاح الصحيح، وكذا في النكاح الفاسد عند المالكية.
وأما عدة الأشهر الأصلية بنفسها: فهي عدة الوفاة. وسبب وجوبها الوفاة، إظهاراً للحزن بفوات نعمة الزواج، وشرط وجوبها: الزواج الصحيح فقط، فتجب هذه العدة على المتوفى عنها زوجها، سواء أكانت مدخولاً بها أم غير مدخول بها، وسواء أكانت ممن تحيض أم ممن لا تحيض.

ثالثاً ـ عدة الحبل: هي مدة الحمل، وسبب وجوبها: الفرقة أو الوفاة، حتى لا تختلط الأنساب وتشتبه المياه، فلا يسقي رجل ماءه زرع غيره.
وشرط وجوبها: أن يكون الحمل من الزواج الصحيح أو الفاسد؛ لأن الوطء في النكاح الفاسد يوجب العدة. ولا تجب هذه العدة عند الحنفية والشافعية على الحامل بالزنا؛ لأن الزنا لا يوجب العدة، إلا أنه إذا تزوج رجل امرأة، وهي حامل من الزنا، جاز النكاح عند أبي حنيفة ومحمد، لكن لا يجوز له أن يطأها ما لم تضع، لئلا يصير ساقياً ماءه زرع غيره.
وأجاز الشافعية نكاح الحامل من زنا ووطأها، إذ لا حرمة له.
(9/7176)


مقادير عِدَد المعتدات: 1 ً - عدة الحامل: تجب بسبب الموت أو الطلاق، وتنتهي بوضع الحمل اتفاقاً (1)؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65] أي انقضاء أجلهن أن يضعن حملهن؛ ولأن براءة الرحم لا تحصل في الحامل ـ كما هو واضح ـ إلا بوضع الحمل. فإذا كانت المرأة حاملاً، ثم طلقت أو مات عنها زوجها انتهت عدتها بوضع الحمل، ولو بعد الوفاة بزمن قليل، بدليل أن «سبيعة بنت الحارث توفي عنها زوجها وهي حبلى، فوضعت بعد نحو عشر ليال من وفاة زوجها، ثم جاءت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: انكحي. وفي رواية: فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي» (2).
وعلى هذا تكون عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل، لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65] قال ابن مسعود: «من شاء باهلته ـ لاعنته ـ أن سورة النساء القصرى نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة» (3) وفي رواية البزار: «من شاء حالفته أن: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65] نزلت بعد آية المتوفى، فإذا وضعت
_________
(1) البدائع: 192/ 3، الدر المختار ورد المحتار: 831/ 2 وما بعدها، فتح القدير: 273/ 3 وما بعدها، 281 وما بعدها، اللباب: 80/ 3 - 83، الشرح الصغير: 671/ 2 وما بعدها، 381 - 383، القوانين الفقهية: ص 236، 238، مغني المحتاج: 388/ 3 وما بعدها، 396، المهذب: 142/ 2، كشاف القناع: 478/ 5 - 480، المغني: 468/ 7، 473 - 478، غاية المنتهى: 209/ 3 وما بعدها، بداية المجتهد: 96/ 2.
(2) رواه الجماعة إلا أبا داود وابن ماجه عن أم سلمة (نيل الأوطار: 286/ 6 - 287).
(3) رواه البخاري. وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بلفظ: «من شاء لاعنته، لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة أشهر وعشر» وسورة النساء القصرى هي سورة الطلاق وفيها آية عدة الحامل، وسورة النساء الطولى هي سورة البقرة وفيها آية عدة الوفاة (نصب الراية: 256/ 3).
(9/7177)


المتوفى عنها حملها، فقد حلت. وقرأ: {والذين يتوفون منكم ويذر ون أزواجاً} [البقرة:234/ 2]».

وانتهاء العدة بوضع الحمل له شرطان:
الأول ـ عند الجمهور غير الحنفية: وضع جميع حملها، أو انفصاله كله، فلا تنقضي بوضع أحد التوأمين ولا بانفصال بعض الولد. وتنقضي عند المالكية ولو وضعت علقة وهو دم متجمع، ولا بد عند الحنابلة والشافعية من أن يكون الحمل الذي تنقضي به العدة: هو ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان من الرأس واليد والرجل، أو يكون مضغة شهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية لخلقة آدمي أو أصل آدمي، لعموم قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65].
وقال الحنفية: الحمل: اسم لجميع ما في البطن، فلو ولدت وفي بطنها آخر تنقضي العدة بالآخر، كما قرر الجمهور، لكن خالفوهم فقالوا: يكفي خروج أكثر الولد، وإذا أسقطت المرأة سِقْطاً، واستبان بعض خلقه، انقضت به العدة؛ لأنه ولد، وإلا فلا.
الثاني ـ أن يكون الحمل منسوباً إلى صاحب العدة، ولو احتمالاً كمنفي بلعان؛ لأنه لا ينافي إمكان كونه منه، بدليل أنه لو استلحقه به لحقه، فإن لم يمكن نسبته إلى صاحب العدة، كولد الزنا المنفي قطعاً، فلا تنقضي به العدة.

وأقل مدة الحمل بالاتفاق: ستة أشهر، وغالبها تسعة، وأكثرها عند الحنفية سنتان، وعند الشافعية والحنابلة: أربع سنين، وعند المالكية في المشهور: خمس سنين.
(9/7178)


ودليلهم على أقل مدة الحمل: المفهوم من مجموع آيتين وهما قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233/ 2] وقوله سبحانه: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف:15/ 46].
وأما غالب مدة الحمل، فلأن غالب النساء يحملن كذلك، وهذا أمر معروف بين الناس.

وأما أكثر مدة الحمل فيعتمد فيها الاستقراء وتتبع أحوال النساء؛ لأن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الموجود، وقال الشافعية والحنابلة: وقد وجد أربع سنين، روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم، قلت لمالك بن أنس عن حديث عائشة قالت: «لا تزيد المرأة في حملها على سنتين، فقال: سبحان الله، من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدقٍ، وزوجها رجل صدق، حملت ثلاثة أبطن في اثني عشر سنة» وقال الشافعي: «بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين» وقال أحمد: «نساء بني عجلان تحمل أربع سنين» فلو طلقها الرجل أو مات عنها، فلم تتزوج حتى أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع سنين، لحقه الولد، وانقضت عدتها به.
وأقل ما يتبين به خلق الولد: (81) واحد وثمانون يوماً في رأي الشافعية والحنابلة، لحديث ابن مسعود عند الشيخين: «إن أحدكم يُجمع خَلْقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علَقة مثلَ ذلك، ثم يكون مُضْغة مثلَ ذلك» فالعدة في رأي الشافعية والحنابلة: لا تنقضي بما دون المضغة، فوجب أن تكون بعد الثمانين.
ونصت المادة (124) من القانون السوري على هذه العدة: «عدة الحامل تستمر إلى وضع حملها أو إسقاطه مستبيناً بعض الأعضاء».
(9/7179)


التحول لعدة الحمل: لو ظهر في أثناء عدة الأقراء أو الأشهر حمل للزوج، اعتدت المرأة بوضعه.
المرتابة بالحمل: إذا ارتابت المعتدة من طلاق أو وفاة بأن ترى أمارات الحمل من حركة أو نفخة ونحوهما، وشكَّت: هل هو حمل أو لا، أو ارتابت بعد انقضاء العدة بالأقراء أو الأشهر، تربصت (أي مكثت) إلى منتهى أمد الحمل عند المالكية، فلا يحل لها أن تتزوج قبله. وعليها أن تصبر عند الشافعية والحنابلة عن الزواج حتى تزول الريبة، للاحتياط، ولخبر: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
ولا تحل للأزواج عند المالكية حتى يمضي أقصى أمد الحمل، وإن تزوجت بعد انقضاء العدة بزوج آخر قبل زوال الريبة. والمذهب لدى الشافعية عدم إبطال النكاح في الحال؛ لأنا حكمنا بانقضاء العدة ظاهراً، فلا نبطله بالشك، فإن علم ما يقتضي البطلان بأن ولدت لدون ستة أشهر من وقت النكاح الثاني، حكمنا ببطلانه، لتبين فساده. ولدى الحنابلة في إبطال هذا النكاح وجهان: أحدهما ـ كالشافعية، والثاني ـ يحل لها النكاح ويصح؛ لأننا حكمنا بانقضاء العدة، وحل النكاح، وسقوط النفقة والسكنى، فلا يجوز زوال ماحكم به بالشك الطارئ، ولهذا لا ينقض الحاكم ما حكم به بتغير اجتهاده ورجوع الشهود.

عدة زوجة الصغير بعد وفاته: إذا مات الصغير الذي لا يتأتى منه الإحبال، عن امرأته، وبها حبل محقق بأن تضع لدون ستة أشهر من موته، فعدتها عند أبي حنيفة ومحمد أن تضع حملها، لإطلاق قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65] وإن حدث الحَبَل بعد الموت، فعدتها أربعة أشهر وعشر؛ لأن هذه عدتها التي وجبت عليها عند الموت، فلا تتغير بعده. ولكن لايثبت نسب الولد في هاتين الحالتين؛ لأن الصبي لا ماء له، فلا يتصور منه العلوق.
(9/7180)


وقال الشافعية وأبو يوسف: عدتها بالأشهر أي أربعة أشهر وعشر، لا بوضع الحمل؛ لأن الولد منفي عنه يقيناً لعدم إنزاله. ومثله ممسوح إذ لا يلحقه على المذهب لدى الشافعية (1).

2ً - عدة المتوفى عنها زوجها: عرفنا أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً، تنتهي عدتها بوضع الحمل، ولو كانت الولادة بعد الوفاة بزمن قريب أو بعيد.
فإن كانت حائلاً غير حامل، كانت عدتها بالاتفاق أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام بلياليها من تاريخ الوفاة، لقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً، يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة:234/ 2] حزناً على نعمة الزواج كما بينت، سواء أكان الزوج قد دخل بها، أم لم يدخل، وسواء أكانت صغيرة أم كبيرة، أم في سن من تحيض، لإطلاق الآية، ولم تخصص بالمدخول بها؛ لأن النص القرآني استثنى غير المدخول بها إذا كانت مطلَّقة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/ 33].
ونصت المادة (123) من القانون السوري على هذه العدة: «عدة المتوفى عنها زوجها أربعةأشهر وعشرة أيام».
لكن شرط وجوب العدة بالأشهر الأربعة والعشر للمتوفى عنها: النكاح الصحيح فقط، وبقاء النكاح صحيحاً إلى الموت مطلقاً، سواء وطئت أم لا، وسواء أكانت صغيرة أم كتابية تحت مسلم.
_________
(1) البدائع: 192/ 3، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 830/ 2، اللباب: 81/ 3، القوانين الفقهية: ص 238، الشرح الصغير: 682/ 2، مغني المحتاج: 395/ 3، المهذب: 145/ 2، كشاف القناع: 480/ 5، غاية المنتهى: 210/ 3، المغني: 470/ 7.
(9/7181)


فإذا كان الزواج فاسداً، فإن عدتها عند الحنفية والحنابلة ثلاث حيضات إن كانت من ذوات الحيض، وثلاثة أطهار عند المالكية والشافعية؛ لأن القصد من إطالة مدة العدة وهو إظهار الأسف على نعمة الزواج، لايتحقق إلا إذا كان الزواج صحيحاً.
فإن لم تكن من ذوات الحيض وهي مطلَّقة، فإنها تعتد بثلاثة أشهر، كما سأبين.

3 ً - عدة المطلَّقة: إن كانت المرأة حاملاً، فإن عدتها تكون بوضع الحمل، كما سبق بيانه.
وإن لم تكن حاملاً فعدتها بالاتفاق إن كانت من ذوات الحيض سواء من طلاق أو فسخ: ثلاثة قروء (1) (حيضات عند الحنفية والحنابلة، وأطهار عند المالكية والشافعية) لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/ 2] فإنه أوجب على المطلَّقة الانتظار مدة ثلاثة قروء.
والقروء عند الحنفية والحنابلة: ثلاث حيضات كوامل، لعدم تجزؤ الحيضة، وإذا طلق الرجل امرأته لم تعتد بالحيضة التي وقع فيها الطلاق، ولا تحل لغيره إذا انقطع دم الحيضة الأخيرة حتى تغتسل في رأي الحنابلة.
وأما عند المالكية والشافعية فقد لا تكون القروء ثلاثة كاملة، فإذا طلقت المرأة
_________
(1) البدائع: 191/ 3 ومابعدها، الدر المختار: 825/ 2 - 828، فتح القدير: 269/ 3 - 272، اللباب: 80/ 3، 83، الشرح الصغير: 672/ 2 - 674، القوانين الفقهية: ص 235، بداية المجتهد: 88/ 2 وما بعدها، 96، المهذب: 143/ 2 وما بعدها، مغني المحتاج: 384/ 3 وما بعدها، 387، كشاف القناع: 482/ 5 - 485، المغني: 449/ 7، 456 - 462، 467 - 468، غاية المنتهى: 211/ 3 وما بعدها.
(9/7182)


في طهر، كانت بقية الطهر قرءاً كاملاً، ولو كانت لحظة، فتعتد به، ثم بقرءين بعده، فذلك ثلاثة قروء، فمن طلقت طاهراً انقضت عدتها ببدء الحيضة الثالثة، ومن طلقت حائضاً، انتهت عدتها بدخول الحيضة الرابعة بعد الحيضة التي طلقت فيها.
والأظهر لدى الشافعية عدم احتساب طهر من لم تحض قرءاً إذا طلقت فيه، فمن طلقت في طهر وكانت لم تحض أصلاً، ثم حاضت في أثناء عدتها بالأشهر، فلا يحتسب ذلك الطهر الذي طلقت فيه.

وإن لم تكن المرأة من ذوات الحيض لصغر أو كبر سن بأن بلغت سن اليأس، أو لكونها لا تحيض أصلاً بعد بلوغها خمس عشرة سنة، فإن عدتها تكون بثلاثة أشهر لقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن} [الطلاق:4/ 65].
4ً - عدة من لم تحض لصغر أو كبر سن بسبب بلوغ سن اليأس، ومن لم تحض أصلاً، وبعبارة أخرى: عدة الصغيرة والآيسة، والمرأة التي لم تحض: ثلاثة أشهر (1)، للآية السابقة: {واللائي يئسن من المحيض ... } [الطلاق:4/ 65].
سن اليأس: أما تحديد سن اليأس: وهي السن التي إذا بلغتها المرأة لا تحيض فيها، فمختلف في تقديره بين الفقهاء (2).
يرى الحنابلة: أن حد الإياس خمسون سنة، لقول عائشة: «لن ترى في بطنها ولداً بعد خمسين سنة».
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) كشاف القناع: 484/ 5، الدر المختار: 835/ 2، الشرح الصغير: 672/ 2، مغني المحتاج: 387/ 3، المغني: 460/ 7.
(9/7183)


ورأي الحنفية في المفتى به: أن الإياس يكون بخمس وخمسين.
وقال الشافعية: إن أقصى سن اليأس اثنان وستون سنة.
وذهب المالكية إلى أن سن اليأس تقدر بسبعين سنة، فما تراه المرأة بعد هذه السن لا يعتبر حيضاً قطعاً.

سن الحيض: وأقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين؛ لأن المرجع فيه إلى الموجود، وقد وجد من تحيض لتسع.
سن البلوغ: وسن البلوغ في الغالب إذا لم تحض المرأة باتفاق المذاهب خمس عشرة سنة.
موقف القانون من النوعين الأخيرين ومن ممتدة الطهر: نص القانون السوري م (121) على ما يأتي: عدة المرأة غير الحامل للطلاق أو الفسخ كما يلي:
1 - ثلاث حيضات كاملات لمن تحيض، ولا تسمع دعوى المرأة بانقضائها قبل مضي ثلاثة أشهر على الطلاق أو الفسخ.
2 - سنة كاملة لممتدة الطهر التي لم يجئها الحيض، أو جاءها ثم انقطع ولم تبلغ سن اليأس.
3 - ثلاثة أشهر للآيسة.
ونصت المادة (122) على العدة في الزواج الفاسد: العدة في الزواج الفاسد بعد الدخول تجري عليها أحكام المادة السابقة.
(9/7184)


5ً - عدة المرتابة (ممتدة الطهر) والمستحاضة: النساء في سن الحيض ثلاثة أصناف: معتادة، ومرتابة، ومستحاضة (1):
فأما المعتادة: فتعتد بثلاثة قروء على حسب عادتها، كما تبين في النوع الثالث.
وأما المرتابة بالحيض أو ممتدة الطهر: وهي التي ارتفع حيضها، ولم تدر سببه من حمل أو رضاع أو مرض. فحكمها عند الحنفية والشافعية: أنها تبقى أبداً حتى تحيض أو تبلغ سن من لا تحيض، ثم تعتد بثلاثة أشهر؛ لأنها لما رأت الحيض، صارت من ذوات الحيض، فلا تعتد بغيره، ولما روى البيهقي عن عثمان أنه حكم بذلك في المرضع.
وعند المالكية والحنابلة: عدتها سنة بعد انقطاع الحيض، بأن تمكث تسعة أشهر، وهي مدة الحمل غالباً، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فيكمل لها سنة، ثم تحل، وذلك إذا انقطع الحيض عند المالكية بسبب المرض أو بسبب غير معروف. لما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه قال في رجل طلق امرأته، فحاضت حيضة أو حيضتين، فارتفع حيضها، لا تدري ما رفعه؟ تجلس تسعة أشهر، فإذا لم يستبن بها حمل، فتعتد بثلاثة أشهر فذلك سنة (2)؛ ولأن المقصود من العدة معرفة براءة الرحم وخلوه من الحمل، وتتحقق هذه المعرفة بمضي هذه المدة، فيكتفى بها.
_________
(1) الدر المختار: 828/ 2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 235 - 236، الشرح الصغير: 675/ 2 ومابعدها، 681، المغني: 766/ 7 - 768، كشاف القناع: 485/ 5 ومابعدها، غاية المنتهى: 212/ 3، مغني المحتاج: 385/ 3، 387.
(2) رواه الشافعي بإسناد جيد من حديث سعيد بن المسيب عن عمر، قال الشافعي: «هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منكر، علمناه».
(9/7185)


فإن انقطع الحيض بسبب الرضاع، فإن عدتها عند المالكية تنقضي بمضي سنة بعد انتهاء زمن الرضاع وهو سنتان. فإن رأت الحيض ولو في آخر يوم من السنة انتظرت الحيضة الثالثة.
ورأي الحنابلة والمالكية هو الراجح، وأخذ به القانون السوري في المادة السابقة (121) لما فيه من الرفق بالناس، وعدم تطويل العدة على المرأة. أما القانون المصري رقم (25) لعام (1929) فلم يتعرض لانتهاء عدة ممتدة الطهر ولا لبقائها، ولا لحل تزوجها برجل آخر أو عدم حله، وإنما نص على أنه: «لا تسمع الدعوى بنفقة عدة لمدة تزيد على سنة من تاريخ الطلاق» وحدد السنة بـ (365) يوماً.
وأما المستحاضة أو ممتدة الدم: وهي المتحيرة التي نسيت عادتها فالمفتى به عند الحنفية: أنها تنقضي عدتها بسبعة أشهر، بأن يقدر طهرها بشهرين، فتكون أطهارها ستة أشهر، وتقدر ثلاث حيضات بشهر احتياطاً. وقيل: تنقضي عدتها بثلاثة أشهر. وأما إذا استمر بها الدم، وكانت تعلم عادتها، فإنها ترد إلى عادتها.
ورأى الحنابلة والشافعية: أن عدة المستحاضة الناسية لوقت حيض والمبتدأة كالآيسة: ثلاثة أشهر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر حَمْنة بنت جحش أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة، فجعل لها حيضة من كل شهر، بدليل أنها تترك فيها الصلاة ونحوها. فإن كانت لها عادة أو تمييز عملت به، كما تعمل به في الصلاة والصوم.
وذهب المالكية إلى أن المستحاضة غير المميزة بين دم الحيض والاستحاضة كالمرتابة، تمكث سنة كاملة، تقيم تسعة أشهر استبراء لزوال الريبة؛ لأنها مدة الحمل غالباً، وثلاثة أشهر عدة، وتحل للأزواج، فتكون عدة المستحاضة غير المميزة، ومن تأخر عنها الحيض، لا لعلة، أو لعلة غير رضاع: سنة كاملة. أما المميزة المستحاضة ومن تأخر حيضها لرضاع فتعتد بالأقراء.
(9/7186)


6ً - عدة المفقود زوجها: المفقود: هو الغائب الذي لم يُدْر: أحي هو فيتوقع قدومه، أم ميت أودع القبر، كالذي يفقد من بين أهله ليلاً أو نهاراً، أو يخرج إلى الصلاة فلا يرجع، أو يفقد في مفازة أي مهلكة، أو يفقد بسبب حرب أو غرق مركبة ونحوه. وحكم عدة زوجته بحسب حكم حاله عند الفقهاء (1).
قال الحنفية: هو حي في حق نفسه، فلا يورث ماله، ولا تبين منه امرأته، فلا تعتد زوجته حتى يتحقق موته، استصحاباً لحال الحياة السابق. أما المنعي إليها زوجها أو التي أخبرها ثقة أن زوجها الغائب مات، أو طلقها ثلاثاً أو أتاها منه كتاب على يد ثقة بالطلاق، فلا بأس أن تعتد وتتزوج.
وقال الشافعية في الجديد الصحيح مثل الحنفية: ليس لامرأته أن تفسخ النكاح، لأنه إذا لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله، لم يجز الحكم بموته في نكاح زوجته. فلا تعتد زوجته ولا تتزوج حتى يتحقق موته أو طلاقه، عملاً بمبدأ الاستصحاب، وبقول علي رضي الله عنه: «تصبر حتى يعلم موته».
وقال المالكية والحنابلة: تنتظر امرأة المفقود أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشرة أيام، لما روي عن عمررضي الله عنه: «أن رجلاً غاب عن امرأته، وفقد، فجاءت امرأته إلى عمر، فذكرت ذلك له، فقال: تربصي أربع سنين ففعلت، ثم أتته، فقال: تربصي أربعة أشهر وعشراً، ففعلت، ثم أتته فقال: أين ولي هذا الرجل؟ فجاؤوا به فقال: طلقها، ففعل، فقال عمر: تزوجي من شئت» (2).
_________
(1) الشرح الصغير: 693/ 2 وما بعدها، بداية المجتهد: 52/ 2، المهذب: 146/ 2، كشاف القناع: 487/ 5 وما بعدها، غاية المنتهى: 212/ 3، المغني: 488/ 7 - 496، الدر المختار: 160/ 3، وانظر: 847/ 2، مغني المحتاج: 397/ 3.
(2) رواه الأثرم والجوزجاني والدارقطني.
(9/7187)


المبحث الثالث ـ تحول العدة أو انتقالها وتغيرها:
قد يطرأ على المعتدة بالأشهر أو بالأقراء ما يوجب تغير نوع العدة، فيجب عليها الاعتداد بمقتضى الأمر الطارئ، وهذه هي الحالات التي تقتضي تحول العدة (1):

أولاً ـ تحول العدة من الأشهر إلى الأقراء: إذا طلقت الصغيرة أو من بلغت سن اليأس، فشرعت في العدة بالشهور، ثم حاضت قبل انتهاء العدة، لزمها الانتقال إلى الأقراء، وبطل ما مضى من عدتها، ولا تنتهي عدتها إلا بثلاث حيضات كوامل عند الحنفية والحنابلة، وبثلاثة أطهار عند المالكية والشافعية؛ لأن الشهور بدل عن الأقراء، فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود أصلها، كالقدرة على الوضوء في حق المتيمم ونحوها. والآيسة لما رأت الدم تبين أنها أخطأت الظن.
فإن انقضت عدتها بالشهور، ثم حاضت، لم يلزمها استئناف العدة بالأقراء؛ لأن هذا معنى حدث بعد انقضاء العدة، وقد حصل المقصود بالبدل، فلا يبطل حكمه بالقدرة على الأصل، كمن صلى بالتيمم، ثم قدر على الماء بعد انتهاء وقت الصلاة، فلا يجب عليه الوضوء وإعادة الصلاة.

ثانياً ـ تحول العدة من الأقراء إلى الأشهر أو وضع الحمل: إذا شرعت المطلقة في العدة بالأقراء، ثم ظهر بها حمل من الزوج، بناء على رأي المالكية والشافعية بأن الحامل قد ترى الدم، سقط حكم الأقراء، وتعتد بوضع
_________
(1) البدائع: 200/ 3 وما بعدها، الدر المختار: 826/ 2، 832 - 834، فتح القدير: 275/ 3، 277، 279، اللباب: 81/ 3، الشرح الصغير: 682/ 2، 714 وما بعدها، المهذب: 143/ 2 وما بعدها، كشاف القناع: 480/ 5، مغني المحتاج: 389/ 3، 396 وما بعدها، المغني: 463/ 7 - 467، 471 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 237.
(9/7188)


الحمل؛ لأن الأقراء دليل على براءة الرحم في الظاهر، والحمل دليل على شغل الرحم قطعاً، فيسقط الظاهر بالقطع.
وإذا طلقت المرأة التي كانت تحيض، فحاضت مرة أو مرتين، ثم أيست، انتقلت عدتها من الحيض إلى الأشهر، ولا تعتد بالأشهر عند الحنفية إلا بعد بلوغها سن اليأس (وهو 55 سنة)، فإذا بلغت سن اليأس، استأنفت العدة بالأشهر الثلاثة التي هي عدة الآيسة.
وقال المالكية والحنابلة: تعتد سنة، تسعة أشهر منها من وقت الطلاق تنتظر فيها لتعلم براءة رحمها؛ لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل، ثم تعتد بعد ذلك عدة الآيسات: ثلاثة أشهر، عملاً بقول عمر رضي الله عنه. وهذا هو المعقول، دفعاً للحرج والمشقة.
وقال الشافعية في الجديد كالحنفية: تكون في عدة أبداً حتى تحيض أو تبلغ سن الإياس، فتعتد حينئذ بثلاثة أشهر؛ لأن الاعتداد بالأشهر جعل بعد الإياس، فلم يجز قبله، وهذه ليست آيسة، ولأنها ترجو عود الدم، فلم تعتد بالشهور، كما لو تباعد حيضها لعارض.

ثالثاً ـ الانتقال إلى عدة وفاة:
إذا مات الرجل في أثناء عدة زوجته التي طلقها طلاقاً رجعياً، انتقلت بالإجماع من عدتها بالأقراء أو الأشهر إلى عدة وفاة: وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء أكان الطلاق في حال الصحة أم في حال مرض الموت؛ لأن المطلقة رجعياً تعد زوجة ما دامت في العدة، وموت الزوج يوجب على زوجته عدة الوفاة، فتلغو أحكام الرجعة، وسقطت بقية عدة الطلاق، فتسقط نفقتها، وتثبت أحكام عدة الوفاة من إحداد وغيره.
(9/7189)


ونصت المادة (1/ 127) من القانون السوري على هذا: «إذا توفي الزوج، وكانت المرأة في عدة الطلاق الرجعي، تنتقل إلى عدة الوفاة، ولا يحسب ما مضى».
أما إن مات الرجل في أثناء عدة زوجته من طلاق بائن، فلا تنتقل إلى عدة الوفاة، بل تتم عدة الطلاق البائن؛ لأنها ليست بزوجة، فتكمل عدة الطلاق، ولا حداد عليها، ولها النفقة إن كانت حاملاً.

رابعاً ـ العدة بأبعد الأجلين ـ عدة طلاق الفارّ:
للفقهاء مذهبان:
مذهب أبي حنيفة ومحمد وأحمد: إن كان الطلاق فراراً من إرث الزوجة بأن طلق في مرض الموت بقصد حرمانها من الميراث، ثم مات وهي في العدة، فإنها تنتقل من عدة الطلاق، إلى العدة بأبعد الأجلين من عدة الوفاة وعدة الطلاق احتياطاً، بأن تتربص أربعة أشهر وعشراً من وقت الموت، فإن لم تر فيها حيضاً تعتد بعدها بثلاث حيضات في رأي الحنفية والحنابلة. وإن امتد طهرها تبقى عدتها حتى تبلغ سن اليأس؛ لأن المرأة لما ورثت من زوجها، اعتبر الزواج قائماً حكماً وقت الوفاة، فتجب عليها عدة الوفاة، وبما أن الطلاق بائن فلا تعد زوجيتها قائمة، ولا تجب عليها عدة الوفاة، وإنما عدة الطلاق، فمراعاة لهذين الاعتبارين تتداخل العدتان، وتعتد بهما معاً.
وأخذ القانون السوري (م 2/ 127) بهذا الرأي: «إذا توفي وهي في عدة البينونة، تعتد بأبعد الأجلين من عدة الوفاة أو البينونة» لكن كان ينبغي تقييد لفظ البينونة بكونها في حالة طلاق الفرار. أما في غير تلك الحالة فلا تنتقل العدة؛ لأن الزوجية غير قائمة بعد طلاق بائن.
(9/7190)


ومذهب مالك والشافعي وأبي يوسف: أن زوجة الفارّ لا تعتد بأطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء، وإنما تكمل عدة الطلاق؛ لأن زوجها مات وليست زوجة له؛ لأنها بائن من النكاح، فلا تكون منكوحة. واعتبار الزواج قائماً وقت الوفاة في رأي مالك إنما هو في حق الإرث فقط، لا في حق العدة؛ لأن ما ثبت على خلاف الأصل لا يتوسع فيه. وهذا عندي هو الراجح.
ويتصور اعتداد المرأة بأبعد الأجلين لدى الشافعية فيما لو طلق الرجل إحدى امرأتيه طلاقاً بائناً، ومات قبل بيان أو تعيين المطلَّقة، فإن كل واحدة تعتد بالأكثر من عدة وفاة وثلاثة من أقرائها؛ لأن كل واحدة وجب عليها عدة بالطلاق، واشتبهت عليها بعدة أخرى بالوفاة، فوجب أن تأتي بأبعد الأجلين لتخرج عما عليها بيقين، كمن أشكلت عليه صلاة من صلاتين، يلزمه أن يأتي بهما.
وتعتد المرأة بأقصى الأجلين عند المالكية كما بان في حالة الانتقال إلى عدة وفاة، كأن يموت زوج الرجعية في عدتها.

المبحث الرابع ـ وقت ابتداء العدة وما يعرف به انقضاؤها:
ابتداء العدة: فصَّل الحنفية مبدأ العدة على النحو التالي (1):
1 ـ إن كان الزواج صحيحاً: فمبدأ العدة بعد الطلاق أو الفسخ أو الموت، فابتداء العدة في الطلاق ونحوه عقيب الطلاق، وفي الوفاة عقيب الوفاة بالاتفاق بين الفقهاء، وتنقضي العدة وإن جهلت المرأة بالطلاق أو الوفاة؛ لأنها أجل، فلا
_________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 839/ 2 - 842، البدائع: 190/ 3، فتح القدير: 286/ 3، الكتاب وشرحه اللباب: 84/ 3، مغني المحتاج: 390/ 3، 395، القوانين الفقهية: ص 235، 238، غاية المنتهى: 210/ 3 وما بعدها.
(9/7191)


يشترط العلم بمضي الأجل، سواء اعترف الرجل بالطلاق أو أنكر، فلو طلق الرجل امرأته ثم أنكره، وأقيمت عليه بيِّنة وقضى القاضي بالفرقة، كأن ادعته عليه في شوال، وقضى به القاضي في المحرَّم، فالعدة من وقت الطلاق، لا من وقت القضاء.
وتنقضي العدة، وإن لم تعلم المرأة بالطلاق أو الوفاة، فلو طلق الرجل امرأته الحامل أو مات عنها، ولم يبلغها الخبر حتى وضعت، انقضت عدتها بالاتفاق.
2 ـ وإن كان الزواج فاسداً: فمبدأ العدة بعد أو عقيب التفريق من القاضي بين الزوجين، أو بعد المتاركة وإظهار عزم الواطئ على ترك وطئها، بأن يقول بلسانه: تركت وطأها، أو تركتها، أو خليت سبيلها، ونحوه، ومنه الطلاق وإنكار الزواج إذا كان بحضرتها، وإلا فلا يعد الإنكار متاركة.
ونص القانون السوري (م 125) على ابتداء العدة في الزواج الصحيح والفاسد: «تبدأ العدة من تاريخ الطلاق أو الوفاة أو الفسخ، أو التفريق القضائي أو المفارقة في النكاح الفاسد».
3 - وإن كان الوطء بشبهة: فقال ابن عابدين (1):لم أر من صرح بمبدأ العدة في الوطء بشبهة بلا عقد، وينبغي أن يكون من آخر الوطآت عند زوال الشبهة، بأن علم أنها غير زوجته، وأنها لا تحل؛ إذ لا عقد هنا، فلم يبق سبب للعدة سوى الوطء المذكور.
وهذا الرأي حق، فإن بدء العدة ببدء السبب الذي أدى إليها، والوقاع في حالة الوطء بشبهة هو سبب هذه العدة، فتبتدئ منه.
_________
(1) رد المحتار: 841/ 2.
(9/7192)


تداخل العدتين: إذا تجدد سبب العدة في أثناء عدة سابقة، فهل تتداخل العدتان أم تكمل العدة السابقة، وتستأنف بعدئذ عدة أخرى؟
يرى الحنفية (1): أنه إذا وجبت عدتان تداخلتا، سواء أكانتا من جنس واحد، أم من جنسين، ومن رجل واحد أم من رجلين، مثال الجنس الواحد ومن رجل واحد: إذا تزوجت المطلقة في عدتها، فوطئها الزوج، ثم تتاركا، حتى وجبت عليها عدة أخرى، فإن العدتين تتداخلان. ومثال الجنسين ومن رجلين: المتوفى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة، فعليها عدة أخرى، وتتداخل العدتان.
وذلك لأن العدة عندهم هي أجل حدد لانقضاء ما بقي من آثار الزواج، بخلاف الجمهور الذي يجعلون العدة هي فعل التربص.
ويرى أبو حنيفة وأبو يوسف أنه إذا طلق الرجل زوجته التي دخل بها طلاقاً بائناً بينونة صغرى، ثم تزوجها قبل انقضاء عدتها، وطلقها قبل أن يدخل بها، وجب عليها أن تبدأ عدة جديدة، ولا تبني على ما سبق من العدة الأولى؛ لأنها بالعقد عادت إلى حالها الأول، وهي كانت مدخولاً بها، فإذا طلقها كان طلاقاً بعد الدخول حكماً، فيجب عليها عدة مستقلة، ولها مهر كامل. ولم يوجب مالك ومحمد عليها عدة جديدة، بل تكمل عدتها الأولى، ويجب لها نصف المهر المسمى.
وقال الجمهور (2): إذا كانت العدتان لشخص واحد ومن جنس واحد، تداخلتا، كأن طلق رجل زوجته، ثم يطؤها في عدة أقراء أو أشهر، جاهلاً كون
_________
(1) البدائع: 190/ 2، الدر المختار: 837/ 2 وما بعدها، فتح القدير والعناية: 283/ 3، 286.
(2) القوانين الفقهية: ص 237، الشرح الصغير: 715/ 2، مغني المحتاج: 391/ 3 - 393، المهذب: 151/ 2، المغني: 481/ 7، 486، غاية المنتهى: 215/ 3، كشاف القناع: 492/ 5.
(9/7193)


الطلاق بائناً، أو عالماً أنها رجعية، تداخلت العدتان، فتبتدئ عدة بأقراء أو أشهر من فراغ الوطء، ويدخل فيها بقية عدة الطلاق؛ لأن مقصود عدة الطلاق والوطء واحد، فلا معنى للتعدد، وتكون تلك البقية واقعة عن الجهتين.
وكذلك تتداخل العدتان إن لم تتفقا وكانتا من جنسين، بأن كانت إحداهما حَمْلاً، والأخرى أقراء، بأن طلقها وهي حامل، ثم وطئها قبل وضع الحمل، أو طلقها وهي غير حامل ثم وطئها في أثناء الأقراء، فأحبلها، فتنقضي العدتان بوضع الحمل على الجهتين، سواء رأت الدم مع الحمل أو لا. وللزوج في عدة طلاق رجعي أن يراجع قبل وضع الحمل.
أما إن كانت العدتان من شخصين: بأن كانت في عدة زوج أو في عدة وطء شبهة، ثم وطئت بشبهة أو نكاح فاسد، والواطئ غير صاحب العدة الأولى، أو كانت زوجة معتدة عن شبهة، فطلقت بعد وطء الشبهة، فلا تداخل، عملاً بأثر عن عمر وعلي رواه الشافعي رضي الله عنهم أجمعين. فإن وجد حمل اعتدت بوضعه أولاً، وإن لم يكن حمل، أتمت عدة الطلاق ولو كان الوطء بشبهة سابقاً للطلاق، لقوة عدة الطلاق بسبب استنادها إلى عقد جائز وسبب مسوغ، ثم تستأنف العدة الأخرى.
ولو تزوجت المطلَّقة في عدتها من الطلاق، فدخل بها الثاني، ثم فرق بينهما لبطلان الزواج، اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الثاني.
أما عند الحنفية فتعتد من الثاني بعد مفارقته، وتكون عدة الأقراء من الثاني عن بقية عدة الأول وعدة الثاني؛ لأن القصد معرفة براءة الرحم، وهذا تحصل به براءة الرحم منهما جميعاً.
وإن كانت حاملاً فوضع الحمل يجزي عن العدتين اتفاقاً كما تقدم.
(9/7194)


ما يعرف به انقضاء العدة:
إذا حدث اختلاف في انقضاء العدة مع زوج المرأة الذي طلقها، فمن الذي يصدق، المرأة أم الزوج؟

يعرف انقضاء العدة إما ب القول وإما ب الفعل (1):
أما الفعل: فنحو أن تتزوج بزوج آخر، بعد ما مضت مدة تنقضي في مثلها العدة، فلو قالت المرأة بعد الزواج: لم تنقض عدتي، لم تصدق، لا في حق الزوج الأول، ولا في حق الزوج الثاني، ويكون زواج الزوج الثاني جائزاً؛ لأن إقدامها على التزوج بعد مضي مدة يحتمل انقضاء العدة في مثلها دليل الانقضاء.
وأما القول: فهو إخبار المعتدة بانقضاء العدة في مدة يحتمل الانقضاء في مثلها، فإن قالت: مضت عدتي، والمدة تحتمله، وكذبها الزوج، قبل قولها بيمينها، وإن لم تحتمله المدة، لا يقبل قولها؛ لأن الأمين إنما يصدق فيما لا يخالف الظاهر.
وإذا قال الزوج: أخبرتني امرأة سابقاً أن عدتها قد انقضت، فإن كانت في مدة لا تنقضي في مثلها، لا يقبل قوله ولا قولها، إلا إذا تبين ما هو محتمل من إسقاط سِقْط مستبين الخلق، فحينئذ يقبل قولها. وإن كانت في مدة تحتمل الانقضاء فكذبته المرأة، يعمل بخبرها بقدر الإمكان، فيعمل بخبره في حقه وحق الشرع، فله أن يتزوج بأختها؛ لأنه أمر ديني قبل قوله فيه، ويعمل بخبرها في حقها، فتستحق النفقة والسكنى.
وأما أقل المدة التي تصدق فيها المعتدة لانقضاء عدتها، فعلى التفصيل التالي في رأي الحنفية:
_________
(1) البدائع: 198/ 3 - 200، الدر المختار ورد المحتار: 842/ 2، 848، غاية المنتهى: 223/ 3.
(9/7195)


أـ إن كانت من ذوات الأشهر: فإنها لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر في عدة الطلاق. وفي عدة الوفاة لا تصدق في أقل من أربعة أشهر وعشر.
ب ـ وإن كانت من ذوات الأقراء (الحيضات): فإن كانت معتدة من وفاة، فلا تصدق في أقل من أربعة أشهر وعشر. وإن كانت معتدة من طلاق: فإن أخبرت بانقضاء عدتها في مدة تنقضي في مثلها العدة، يقبل قولها. وإن أخبرت في مدة لا تنقضي في مثلها العدة، لا يقبل قولها، إلا إذا فسرت ذلك، بأن قالت: أسقطت سقطاً مستبين الخلق أو بعضه، فيقبل قولها؛ لأنها أمينة في إخبارها عن انقضاء عدتها، فإن الله تعالى ائتمنها في ذلك بقوله عز وجل: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} [البقرة:228/ 2] قيل في التفسير: إنه الحيض والحبل. والقول قول الأمين بيمينه.
فإذا أخبرت بانقضاء العدة في مدة تنقضي في مثلها، يقبل قولها، ولا يقبل إذا كانت المدة مما لا تنقضي العدة في مثلها؛ لأن قول الأمين إنما يقبل فيما لا يكذبه الظاهر، والظاهر هنا يكذبها.
وأما أقل ما تصدق فيه المعتدة بالأقراء:
فقال أبو حنيفة: أقل ما تصدق فيه الحرة ستون يوماً، عملاً بالوسط في مدة الحيض وهو خمسة أيام، فتكون الحيضات الثلاث خمسة عشر يوماً، والأطهار خمسة وأربعين يوماً على أن يبدأ بالطهر، فيكون المجموع ستين يوماً.
وقال الصاحبان: تسعة وثلاثون يوماً، عملاً بأقل الحيض وهو ثلاثة أيام، فتكون الحيضات تسعة أيام على أن يبدأ بالحيض ثلاثة أيام، ثم بالطهر خمسة عشر يوماً، ثم بالحيض ثلاثة أيام، ثم بالطهر خمسة عشر يوماً، ثم بالحيض ثلاثة أيام، فذلك تسعة وثلاثون يوماً.
(9/7196)


وقد بينت سابقاً آراء المذاهب الأخرى في مبحث اختلاف الزوجين في الرجعة.

المبحث الخامس ـ أحكام العِدَد أو حقوق المعتدة وواجباتها: يتعلق بالمعتدة الأحكام التالية (1):
أولاً ـ تحريم الخطبة: لا يجوز للأجنبي خطبة المعتدة صراحة، سواء أكانت مطلقة أم متوفى عنها زوجها؛ لأن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة، فلا يجوز خطبتها، ولبقاء بعض آثار الزواج في المطلقة ثلاثاً أو بائناً أو متوفى عنها زوجها.
ولا يجوز أيضاً التعريض بالخطبة في عدة الطلاق، ويجوز في عدة الوفاة؛ لقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خطبة النساء} [البقرة:235/ 2] إلى أن قال: {ولكن لا تواعدوهن سراً، إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} [البقرة:235/ 2] ولأنه في عدة الطلاق لايجوز للمعتدة الخروج من منزلها أصلاً ليلاً ولا نهاراً، ويجوز للمتوفى عنها عند الحنفية الخروج نهاراً، ولأن إثارة العداوة بالتعريض لزوجها الأول يتصور في المطلقة لا المتوفى عنها. وقد ذكرت الحكم تفصيلاً في بحث الخطبة.
_________
(1) البدائع: 204/ 3 - 220، البحر الرائق: 162/ 4، اللباب: 85/ 3 - 89، الدر المختار ورد المحتار: 840/ 2، 848 - 856، فتح القدير: 291/ 3 - 299، 339، 342، القوانين الفقهية: ص 238 وما بعدها، الشرح الصغير: 679/ 2 - 687، 740 وما بعدها، مغني المحتاج: 390/ 3 - 407، 440، 441، المهذب: 146/ 2 - 149، 164، المغني: 480/ 7 - 483، 517 وما بعدها، 522 - 530، 606 - 608، غاية المنتهى: 217/ 3 - 219، كشاف القناع: 496/ 5، بداية المجتهد: 94/ 2 وما بعدها.
(9/7197)


ثانياً ـ تحريم الزواج: لا يجوز للأجنبي إجماعاً نكاح المعتدة، لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} [البقرة:2/ 235] أي لا تعقدوا عقد النكاح حتى تنقضي العدة التي كتبها الله على المعتدة، ولبقاء الزوجية في الطلاق الرجعي، وبعض آثار الزواج في الطلاق الثالث والبائن. وإذا تزوجت فالنكاح باطل، لأنها ممنوعة من الزواج لحق الزوج الأول، فكان نكاحاً باطلاً كما لو تزوجت وهي في نكاحه، ويجب أن يفرق بينه وبينها.
ويجوز لصاحب العدة أن يتزوج المعتدة؛ لأن الإلزام بالعدة إنما شرع مراعاة لحق الزوج، فلا يجوز أن يمنع حقه، فالعدة لحفظ مائه وصيانة نسبه، ولا يصان ماؤه عن بعضه، ولا يحفظ نسبه عنه، فإذا انقضت العدة جاز لأي شخص أن يتزوجها.
والقاعدة عند المالكية: كل نكاح فسخ بعد الدخول اضطراراً، فلا يجوز للزوج أن يتزوج المرأة في عدتها منه، وكل نكاح فسخ اختياراً من أحد الزوجين، حيث لهما الخيار، جاز أن يتزوجها في عدتها منه (1).

ثالثاً ـ حرمة الخروج من البيت: للفقهاء آراء متقاربة في مسألة خروج المعتدة من البيت، الحنفية: فرقوا بين المطلقة والمتوفى عنها، فقالوا: يحرم على المطلقة البالغة العاقلة الحرة المسلمة المعتدة من زواج صحيح الخروج ليلاً ونهاراً، سواء أكان الطلاق بائناً أم ثلاثاً أم رجعياً، لقوله تعالى في الطلاق الرجعي: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/ 65] بأن تزني فتخرج لإقامة الحد
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 211.
(9/7198)


عليها، ويرى أبو حنيفة أن الفاحشة هي نفس الخروج، وقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم} [الطلاق:6/ 65] والأمر بالإسكان نهي عن الإخراج والخروج. وأما في الطلاق الثلاث أو البائن، فلعموم النهي عن الخروج، ومساس الحاجة إلى الحفاظ على الأنساب وعدم اختلاط المياه.
وأما المتوفى عنها: فلا تخرج ليلاً، ولا بأس أن تخرج نهاراً في حوائجها؛ لأنها تحتاج إلى الخروج بالنهار لاكتساب ما تنفقه؛ لأنه لا نفقة لها من الزوج المتوفى، بل نفقتها عليها، فتحتاج إلى الخروج لتحصيل النفقة، ولا تخرج بالليل، لعدم الحاجة إلى الخروج بالليل، بخلاف المطلَّقة، فإن نفقتها على الزوج، فلا تحتاج إلى الخروج.
وليس للمعتدة من طلاق ثلاث أو بائن أو رجعي أن تخرج من منزلها الذي تعتد فيه إلى سفر ولو إلى حج فريضة إذا كانت معتدة من نكاح صحيح. ولا يجوز للزوج أن يسافر بها لقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن} [الطلاق:1/ 65] والمذهب أن للزوج ضرب المرأة المفارقة على الخروج من منزله بلا إذن، إلا إن احتاجت إلى الاستفتاء في حادثة، ولم يرض الزوج أن يستفتي لها، وهو غير عالم.
ويجوز للمعتدة من نكاح فاسد أن تخرج؛ لأن أحكام العدة مرتبة على أحكام النكاح الصحيح. ويجوز أيضاً للصغيرة والمجنونة أن تخرج من منزلها إذا لم يكن في الفرقة رجعة، سواء أذن الزوج لها أم لم يأذن؛ إذ أن حق الله في العدة لا يجب عل الصغير والمجنون، ولأنه لا ولد من الصغيرة، فلم يبق للزوج حق. ولكن يجوز للزوج منع المجنونة من الخروج حفاظاً على مائه وتحصينه من الاختلاط. وإن كانت الفرقة رجعية فلا يجوز للصغيرة الخروج بغير إذن الزوج؛ لأنها زوجته.
(9/7199)


هذا كله في حال الاختيار، أما في حال الضرورة فلكل معتدة الخروج، فإن اضطرت إلى الخروج من بيتها، بأن خافت سقوط منزلها، أو خافت على متاعها، أو لا تجد أجرة البيت الذي تستأجره في عدة الوفاة، فلا بأس عندئذ أن تخرج. وتنتقل المعتدة المطلقة في البادية مع أهل الكلأ في محفة أو خيمة مع زوجها إن تضررت في المكان الذي طلقها فيه، وإن لم تتضرر فلا تنتقل من مكانها.

وأجاز المالكية والحنابلة للمعتدة الخروج لضرورة أو عذر، كأن خافت هدماً أو غرقاً أوعدواً أو لصوصاً أو غلاء كرائها أو نحوه، كما قرر الحنفية، وأجازوا أيضاً للمعتدة مطلقاً الخروج في حوائجها نهاراً، سواء أكانت مطلَّقة أم متوفى عنها، لما روى جابر قال: «طُلِّقت خالتي ثلاثاً، فخرجت تجذّ نخلها، فلقيها رجل، فنهاها، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: اخرجي فجذي نخلك، لعلك أن تتصدقي منه، أو تفعلي خيراً» (1)، وروى مجاهد قال: «استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقلن: يا رسول الله، نستوحش بالليل، أفنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تحدثن عند إحداكن، حتى إذا أردتن النوم، فلتؤب كل واحدة إلى بيتها».
وليس للمعتدة المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلاً إلا لضرورة؛ ولا تبيت إلا في دارها؛ لأن الليل مظنة الفساد، بخلاف النهار، فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش، وشراء ما يحتاج إليه.
وإن وجب عليها حق لا يمكن استيفاؤه إلا بها كاليمين والحد، وكانت ذات خِدْر (أي ستر) بعث إليها الحاكم من يستوفي الحق منها في منزلها. وإن كانت بَرْزَة (هي الظاهرة غير المستترة) جاز إحضارها لاستيفائه، فإذا فرغت رجعت إلى منزلها.
_________
(1) رواه النسائي وأبو داود.
(9/7200)


ولم يجز الشافعية للمعتدة مطلقاً، سواء أكانت رجعية أم مبتوتة أم متوفى عنها زوجها، الخروج من موضع العدة إلا لعذر، لقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/ 65] وعن فُرَيعة بنت مالك قالت: «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني في دار وحشة، أفأنتقل إلى دار أهلي، فأعتد عندهم؟ فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت: «فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً» (1).
ورأي الشافعية والحنابلة أن منزل البدوية وبيتها من شعر كمنزل حضرية في لزوم الموضع الذي مات زوجها وهي فيه، فلو ارتحل في أثنائها كل الحي انتقلت معهم للضرورة. وإن ارتحل بعض الحي، بقيت مع الباقين إن كان فيهم قوة، لكن لو ارتحل أهلها لها أن ترتحل معهم؛ لأن مفارقة الأهل عسرة موحشة.
رابعاً ـ السكنى في بيت الزوجية والنفقة: هذا حق للمرأة واجب على الزوج، أما سكنى المعتدة أي معتدة في بيت الزوجية، فواجبة لقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن، وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/ 65] والبيت المضاف للمرأة هو البيت الذي تسكنه عند الفرقة، سواء أكانت مطلقة أم متوفى عنها. لكن قال الحنفية: يجوز بقاء المطلقة رجعياً مع الزوج في دار واحدة، وله إن قصد مراجعتها أن يستمتع بها بعد الطلاق؛ لأن الطلاق الرجعي لا يحرم عندهم على الراجح المطلقة على من طلقها، ويكون استمتاعه بها رجعة، وله حينئذ إذا قصد مراجعتها أن يدخل عليها بلا إذنها.
_________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) وصححه الترمذي عن فريعة (نيل الأوطار: 298/ 6) والدار الوحشة: أصله المكان القفر من الأنيس، وأوحش النزل: خلا من السكَّان.
(9/7201)


أما في الطلاق البائن أو الثلاث: فلا بد من ساتر حاجز بين الرجل والمطلقة، فإن كان المسكن متسعاً استقلت المرأة بحجرة فيه، ولا يجوز للمطلق أن ينظر إليها ولا أن يقيم معها في تلك الحجرة. وإن كان المسكن ضيقاً ليس فيه إلا حجرة واحدة، وجب على الرجل المطلِّق أن يخرج من المسكن، وتبقى المطلقة فيه حتى تنقضي العدة؛ لأن بقاء المرأة في منزل الزوجية الذي كانت تسكن فيه وقت الطلاق واجب شرعاً، ولئلا تقع الخلوة بالأجنبية.
ولا عبرة بالعرف القائم الآن من خروج المطلقة من بيت الزوجية فهو عرف مصادم للنص القرآني السابق: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق:1/ 65].
ولكن يعد ضيق المنزل وفسق الزوج عذراً يجيز في رأي الحنفية للمطلقة أو المتوفى عنها الخروج من البيت، وتعيين الموضع الذي تنتقل إليه في عدة الطلاق إلى الزوج، وأما في عدة الوفاة فإن التعيين يكون إليها؛ لأنها هي صاحبة الرأي المطلق في أمر السكنى، حتى إن أجرة المنزل إن كان بأجر تكون عليها.
وكذلك يعد إيذاؤها الجيران عذراً عند الحنابلة يبيح انتقالها لدار أخرى.
ولا تخرج المعتدة إلى صحن الدار التي فيها منازل الأجانب عنها، لأنه كالخروج إلى الشارع. فإن لم يكن في الدار منازل للأجانب، بل بيوت أو غرف، جاز لها الخروج إلى صحن الدار، ولا تصير به خارجة عن الدار، ولها أن تبيت في أي غرفة شاءت منها.
وذكر الشافعية (1): أن الرجل إذا عاشر المعتدة كزوج، بخلوة ولو بدخول دار هي فيها، ونوم ولو في الليل فقط وأكل ونحو ذلك، بلا وطء لها، في عدة أقراء
_________
(1) مغني المحتاج: 393/ 3 وما بعدها.
(9/7202)


أو أشهر، فالأصح أنها إن كانت بائناً انقضت عدتها بما ذكر؛ لأن مخالطتها محرَّمة ووطؤها زنا لا حرمة له، ولا أثر للحرام في الحكم الشرعي، كالمزني بها لا يترتب على الزنا حكم شرعي من أحكام الزواج، وأما إن كانت رجعية، فلا تنقضي عدتها؛ لأن الشبهة قائمة؛ لأن العدة لبراءة الرحم وهي مشغولة. لكن لا يضر دخول دار هي فيها بلا خلوة.

وأما نفقة المعتدة: فواجبة على الزوج حسب التفصيل الآتي:
1ً - إن كانت المعتدة مطلقة طلاقاً رجعياً: وجبت لها النفقة بأنواعها المختلفة من طعام وكسوة وسكنى، بالاتفاق؛ لأن المعتدة تعد زوجة ما دامت في العدة.
2ً - وإن كانت معتدة من طلاق بائن:
فإن كانت حاملاً، وجبت لها النفقة بأنواعها المختلفة بالاتفاق، لقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل، فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق:6/ 65].
وإن كانت غير حامل: وجبت لها النفقة بأنواعها أيضاً عند الحنفية، بسب احتباسها في العدة لحق الزوج.
ولا تجب لها النفقة في رأي الحنابلة؛ لأن فاطمة بنت قيس طلَّقها زوجها البتة، فلم يجعل لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، وإنما قال: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة» (1).
وتجب لها السكنى فقط في رأي المالكية والشافعية، لقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجدكم} [الطلاق:6/ 65] فإنه أوجب لها السكنى مطلقاً، سواء أكانت حاملاً أم غير حامل. ولا تجب لها نفقة الطعام
_________
(1) رواه أحمد والنسائي (نيل الأوطار: 305/ 6).
(9/7203)


والكسوة لمفهوم قوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق:6/ 65] فدل بمفهومه على عدم وجوب النفقة لغير الحامل.
3ً - وإن كانت معتدة من وفاة: فلا نفقة لها بالاتفاق، لانتهاء الزوجية بالموت، لكن أوجب لها المالكية السكنى مدة العدة إذا كان المسكن مملوكاً للزوج، أو مستأجَراً ودفع أجرته قبل الوفاة، وإلا فلا.
4ً - وإن كانت معتدة من زواج فاسد أو شبهة: فلا نفقة لها عند الجمهور، إذ لا نفقة لها في الزواج الفاسد، فلا نفقة لها في أثناء العدة منه.
وأوجب المالكية لها إن كانت حاملاً النفقة على الواطئ؛ لأنها محتبسة بسببه، فإن كانت غير حامل أو فسخ نكاحها بلعان، فيجب لها السكنى فقط في المحل الذي كانت فيه.

خامساً ـ الإحداد أو الحداد: الإحداد أو الحداد في اللغة: الامتناع من الزينة، واصطلاحاً: ترك الطيب والزينة والكحل والدهن المطيب وغير المطيب. وهو خاص بالبدن، فلا مانع من تجميل فراش وبساط وستور، وأثاث بيت وجلوس امرأة على حرير.
ويباح للمرأة الحداد على قريب كأب وأم وأخ ثلاثة أيام فقط، ويحرم إحداد فوق ثلاث على ميت غير زوج، للحديث الصحيح المتقدم: «لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث، إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً» (1) وللزوج منع زوجته من الحداد على الأقرباء؛ لأن الزينة حقه.
_________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أم سلمة (نيل الأوطار: 292/ 6).
(9/7204)


ومدة الحداد على الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام.
والإحداد على الزوج خاص في رأي الحنفية بالمرأة البالغة المسلمة ولو أمة، فلا إحداد على صغيرة وذمية؛ لأنهما غير مكلفين. ولا إحداد على أم الولد؛ لأنها ليست زوجة.
ويشمل الحداد عند الجمهور كل زوجة بنكاح صحيح، صغيرة أو كبيرة، أو مجنونة، مسلمة أو كتابية، وكذا الأمة الزوجة في رأي الحنابلة، ولا يجب الإحداد على الإماء في رأي المالكية والشافعية؛ لأنهن لسن زوجات، وأما الصغيرة والذمية فلأن غير المكلفة تساوي المكلفة في اجتناب المحرمات كالخمر والزنا، وإنما يفترقان في الإثم، فكذلك الإحداد، ولأن حقوق الذمية في النكاح كحقوق المسلمة، فكذلك فيما عليها.
ولا إحداد على غير الزوجات كأم الولد إذا مات سيدها، والأمة التي يطؤها سيدها، والموطوءة بشبهة والمزني بها والمنكوحة نكاحاً فاسداً؛ لأن نص الحديث السابق خص الحداد بالزواج، ولأن ذات النكاح الفاسد ليست زوجة على الحقيقة.
والإحداد واجب شرعاً على الزوجات. واتفق الفقهاء على عدم وجوب الحداد على الرجعية؛ لأنها في حكم الزوجة، لها أن تتزين لزوجها، وتستشرف له ليرغب فيها ويعيدها إلى ما كانت عليه من الزوجية.
واتفقوا أيضاً على وجوب الحداد على المتوفى عنها زوجها، للحديث السابق: «أن أم حبيبة رضي الله عنها لما بلغها موت أبيها أبي سفيان، انتظرت ثلاثة أيام، ثم دعت بطيب، وقالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت
(9/7205)


رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول على المنبر: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً».

وأوجب الحنفية الحداد أيضاً على المبتوتة أو المطلقة طلاقاً بائناً؛ لأنه حق الشرع، وإظهاراً للتأسف على فوات نعمة الزواج، كالمتوفى عنها.
ولم يوجبه الجمهور عليها، وإنما يستحب فقط؛ لأن الزوج آذاها بالطلاق البائن، فلا تلزم بإظهار الحزن والأسف على فراقه، ولأنها معتدة من طلاق كالرجعية، وإنما يستحب لها الحداد لئلا تدعو الزينة إلى الفساد.

ويكون الإحداد بترك التجميل، وهو أن تجتنب ما يلي:
1 ً - الزينة بحلي ولو خاتم من ذهب أو فضة، أو حرير مطلقاً ولو كان أسود. وأجاز بعض الشافعية كابن حجر التحلي بالذهب والفضة، وأجاز الحنابلة لبس الحرير الأبيض؛ لأنه مألوف.
2ً - الطيب في البدن والامتشاط، لا في الثياب، لما فيه من الترفه واجتذاب الأنظار، ومنعها المالكية من الاتجار في الطيب وعمله.
3ً - الدهن المطيب وغير المطيب؛ لأن فيه زينة الشعر، ولا يخلو الدهن عن نوع طيب.
4ً - الكحل، لما فيه من زينة العين. وأجاز فقهاء المذاهب كلهم الكحل لضرورة أو حاجة ليلاً لا نهاراً.
5ً - الحناء وكل أنواع الخضاب والصباغ، لما روت أم سلمة أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب، كما سيأتي.
(9/7206)


6ً - لبس الثوب المطيب والمصبوغ بالأحمر أو الأصفر.
ودليل ذلك حديث أم سَلَمة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المتوفى عنها زوجها: لا تَلْبَس المُعَصْفر من الثياب، ولا الممشَّقة (1)، ولا الحُلِي، ولا تختضب، ولا تكتحل» (2) وفي رواية أخرى: «ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء، فإنه خضاب» وعن أم عطية قالت: «كنا نُنهى أن نحدَّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهروعشراً، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلْبَس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عَصْب» (3).
ويجوز للمرأة فعل شيء مما سبق للضرورة؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات.
ويباح لها لبس الأسود في المذاهب الأربعة. ولم يجز الظاهرية (4) الكحل ولو لضروة، ولا الأسود؛ لأنه كالأحمر والأصفر، ولم يجز المالكية لبس الأسود إذا كان يتزين به في قوم.
ويباح لها عند الجمهور دخول الحمام المنزلي وغسل الرأس بالصابون ونحوه، ولم يجز المالكية لها دخول الحمام إلا لضرورة.
ولها قص الأظافر ونتف إبط وحلق عانة (استحداد) وإتباع دم الحيض بطيب.
_________
(1) الممشقة: المصبوغة بالمَشْق وهو المَغْرة أي الطين الأحمر يصبغ به.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أم سلمة (نيل الأوطار: 296/ 6).
(3) رواه البخاري ومسلم عن أم عطية (نيل الأوطار: 295/ 6) وثوب العصب: نوع من برود اليمين يعصب غزله أي يجمع، ثم يشد، ثم يصبغ معصوباً، فيصبح موشى لبقاء ما عصب منه أبيض لم ينصبغ، وإنما ينصبغ السَدى دون اللُّحمة، والسدى: ما مُدّ من خيوط الثوب، وضده اللحمة: وهو ما نسج عرضاً.
(4) المحلى: 335/ 10، مسألة 2000.
(9/7207)


فإن تركت المتوفى عنها الحداد عصت الله تعالى إن علمت حرمة الترك، ويعصي ولي الصغيرة والمجنونة في رأي غير الحنفية إن لم يمنعها، وتنقضي عدتها بمضي الزمان مع العصيان، كما لو فارقت المنزل.

سادساً ـ ثبوت نسب الولد المولود في العدة:
يثبت نسب ولد المطلَّقة الرجعية من الزوج في رأي الحنفية إذا جاءت بالولد لسنتين أو أكثر، ولو طالت المدة، لاحتمال امتداد طهرها، وعلوقها في العدة، ما لم تقر بانقضاء عدتها، وكانت المدة تحتمله.
ويثبت نسب ولد المبتوتة بلا دعوى، ما لم تقر بانقضاء العدة إذا جاءت به لأقل من سنتين؛ لأنه يحتمل أن يكون الولد قائماً وقت الطلاق، والحمل عندهم لا يبقى أكثر من سنتين. فإن جاءت به لتمام سنتين من يوم الفرقة، لم يثبت نسبه من الزوج؛ لأنه حادث بعد الطلاق، فلا يكون منه؛ لأن وطأها حرام، إلا أن يدعيه الزوج؛ لأنه التزمه، وله وجه بأن وطئها بشبهة في العدة.
ويثبت نسب الولد المتوفى عنها زوجها، ولو غير مدخول بها، إذا لم تقر بانقضاء عدتها، ما بين الوفاة وبين سنتين.
وإذا اعترفت المعتدة مطلقاً (أي معتدة) بانقضاء عدتها، ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار، ثبت نسبه، لظهور كذبها بيقين، فبطل الإقرار. وإن جاءت به لستة أشهر فأكثر، لم يثبت نسبه؛ لأنه علم بالإقرار أنه حدث بعده؛ لأنها أمينة في الإخبار، وقول الأمين مقبول إلا إذا تحقق كذبه.
وتنطبق هذه الأحكام في المذاهب الأخرى، بملاحظة أن أقصى مدة الحمل عند الشافعية والحنابلة أربع سنين، وعند المالكية: خمس سنين.
(9/7208)


سابعاً ـ ثبوت الإرث في العدة: إذا مات أحد الزوجين قبل انقضاء عدة المطلقة طلاقاً رجعياً، ورثه الآخر لا خلاف، سواء أكان الطلاق في حال المرض أم في حال الصحة؛ لبقاء الزوجية حكماً، فتكون سبباً لاستحقاق الإرث من الجانبين.
فإن كان الطلاق بائناً أو ثلاثاً في حال الصحة، فمات أحد الزوجين في العدة لم يرثه الآخر.
وإن كان الطلاق بائناً أو ثلاثاً في حال المرض، فإن كان برضاها لا ترث بالإجماع، وإن كان بغير رضاها فإنها ترث من زوجها عند الجمهور عملاً بما روي عن جماعة من الصحابة مثل عمر وعثمان وعلي وعائشة وأبي بن كعب، ومعاملة للمطلّق بنقيض مقصوده، وهذا هو طلاق الفرار، وقد تقدم بيانه. ولا ترث عند الشافعية، لزوال النكاح بالإبانة أو الثلاث، فلا يثبت الإرث.

ثامناً ـ لحوق الطلاق في العدة: إن طلق الرجل زوجته طلقة فقط، فاعتدت منه، ثم طلقها طلقة ثانية وثالثة، فيلحقها الطلاق إلى انقضاء العدة. وقد سبق بيانه في بحث الطلاق الرجعي والبائن.
الاستبراء:
معناه: لغة طلب البراءة. وشرعاً: تربص الأمَة الرقيقة مدة بسبب ملك اليمين حدوثاً أو زوالاً أو بشبهة، أو تربص المزني بها، لمعرفة براءة الرحم، أو للتعبد (1).
_________
(1) الدر المختار: 264/ 5 ومابعدها، مغني المحتاج: 408/ 3، الشرح الصغير: 677/ 2، 701، كشاف القناع: 503/ 5 ومابعدها.
(9/7209)


حكمه: يجب الاستبراء بالاتفاق، منعاً من اختلاط المياه واشتباه الأنساب، حتى لو أنكره شخص، كفر في رأي بعضهم للإجماع على وجوبه (1)، ولقوله صلّى الله عليه وسلم في سبي أوطاس (2): «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غيرُ حامل حتى تحيض حيضة» (3) وقوله عليه السلام: «لا يقعن رجل على امرأة، وحملُها لغيره» (4) وقوله أيضاً: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يسقي ماءَه ولدَ غيره» (5) وزاد أبو داود في روايته: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقعن على امرأة من السبي حتى يستبرئها».
أسبابه: ذكر الفقهاء أسباباً للاستبراء هي ما يأتي:
رأي الحنفية (6): يجب الاستبراء بملك الاستمتاع بالأمة ملك اليمين، بأي نوع من أنواع الملك كشراء، وإرث، وسبي، ودفع بدل جناية، وفسخ بيع بعد القبض ونحوها كهبة ورجوع عنها، وصدقة، ووصية، وبدل خلع أو صلح أو كتابة أو عتق أو إجارة.
ولا بأس بحيلة إسقاط الاستبراء إذا علم أن البائع لم يقربها في طهرها بأن يعقد عليها عقد زواج ويقبضها ثم يشتريها، فتحل له للحال.

وذكر الشافعية (7) سببين للاستبراء: وهما - كما قرر الحنفية - ملك وزوال
_________
(1) حاشية ابن عابدين: 264/ 5.
(2) أوطاس: واد في ديار هوازن، قال ابن حجر: والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين.
(3) رواه أحمد وأبو داود عن أبي سعيد الخدري (نيل الأوطار: 305/ 6).
(4) رواه أحمد عن أبي هريرة.
(5) رواه أحمد والترمذي وأبو داود عن رويفع بن ثابت (انظر الحديثين في نيل الأوطار: 306/ 6).
(6) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 265/ 5، 267.
(7) مغني المحتاج: 408/ 3 - 410، المهذب: 153/ 2.
(9/7210)


ملك، ثم قالوا: قد يجب بسبب آخر، كأن يطأ رجل أمة غيره ظاناً أنها أمته، أي الوطء بشبهة.
أما الملك: فهو ملك أمة بشراء، أو هبة، أو سبي بعد القسمة، أو رد بعيب، أو تحالف أو إقالة، أو قبول وصية أو غيرها كفسخ بفلس ورجوع في هبة. ويجب استبراء مكاتبة لم تستطع أداء أقساط الكتابة، لعود ملك التمتع بعد زواله، واستبراء مرتدة في الأصح، لزوال ملك الاستمتاع ثم إعادته، ويجب استبراؤها ولو منتقلة من ملك صبي أو امرأة.
وأما زوال الملك: فهو زوال الاستمتاع عن الأمة الموطوءة أو المستولدة، بعتق أو موت السيد.
وإن ملك شخص أمة مجوسية أو مرتدة أو معتدة أو ذات زوج، لم يصح استبراؤها في هذه الأحوال؛ لأن الاستبراء يراد للاستباحة، ولا توجد الاستباحة في هذه الأحوال. فإن زالت الزوجية أو العدة أو الردة، وجب الاستبراء في الأظهر.

وأما الحنابلة (1) فذكروا ثلاثة أسباب للاستبراء: هي ملك وإزالة ملك وعتق، وإيضاحها فيما يأتي:
1ً - إذا ملك ولو طفلة أمة ببيع أو هبة أو إرث أو سبي أو وصية أو غنيمة أو غيرها مما ذكر في المذهبين السابقين، فلا يحل له وطؤها ولا الاستمتاع بها إلا بالاستبراء بحيضة إذا كانت تحيض، أو بوضع الحمل إذا كانت حاملاً.
2ً - إن وطئ أمته ثم أراد تزويجها أو بيعها، لم يجز له ذلك حتى يستبرئها كما سبق في الحالة الأولى.
_________
(1) كشاف القناع: 507/ 5 - 509.
(9/7211)


3ً - إذا أعتق أم ولده أو أعتق أمته التي كان يصيبها قبل استبرائها أو مات عنها، لزمها استبراء نفسها؛ لأنها موطوءة له وطأ له حرمة، فلزمها استعلام براءة رحمها، كالموطوءة بشبهة.

وأما مذهب المالكية (1) فقد حدد أربعة أسباب للاستبراء وهي:
1ً- حصول ملك الأمة بشراء أو إرث أو هبة أو غنيمة أو غيرها، ولو من صبي أو امرأة، كما سبق في المذاهب الأخرى. ويجب الاستبراء على كل من المتملك الذي صارت إليه، وعلى البائع، وإن اتفقا على استبراء واحد، جاز. ورأى بقية الأئمة أن الاستبراء على المشتري خاصة. وهذا سبب متفق عليه.
ويجب الاستبراء بشروط أربعة في رأي المالكية وهي:
أولاً ـ إن لم تعلم براءتها: فإن علمت براءتها من الحمل كمودعة عنده أو مرهونة أو مبيعة بالخيار تحت يده، وحاضت زمن ذلك، ولم تخرج ولم يدخل عليها سيدها، ثم اشتراها فلا استبراء عليها.
ثانياً ـ ولم تكن مباحة الوطء حال حصول الملك، كزوجته التي يشتريها مثلاً، فلا استبراء عليه، وهذا متفق عليه بين المذاهب.
ثالثاً ـ ولم يحرم وطؤها في المستقبل، كعمته وخالته من نسب أو رضاع، وكأم زوجته، فلا استبراء عليها لعدم حل وطئها.
رابعاً ـ وأطاقت الوطء: فلا استبراء لصغيرة كبنت خمس سنين، لعدم إمكانه عادة.
_________
(1) القوانين الفقهية: ص 240، الشرح الصغير: 701/ 2 - 704.
(9/7212)


2ً - زوال الملك بعتق أو بموت السيد أو بغيرهما. وهذا متفق عليه.
3ً - الزنى: إذا زنت الحرة طائعة أو مكرهة، استبرئت عند المالكية والحنابلة بثلاث حيضات، والأمة بحيضة، والحامل منها بوضع حملها.
4ً - سوء الظن: من تطرق إليها سوء الظن من خروج في الطرقات وغيرها، وجب استبراؤها في المشهور. فإن كانت في سن الحيض فاستبراؤها بحيضة، وإن لم تحض فتسعة أشهر، وإن كانت صغيرة أو يائسة فثلاثة أشهر، وهو المشهور عن أحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي: شهر، وإن كانت حاملاً فوضع الحمل.

نوع الاستبراء ومدته:
لا يجوز في الاستبراء (1) الوطء ولا غيره من الاستمتاع كتقبيل ونظر بشهوة. وأجاز الشافعية الاستمتاع بغير الوطء في المسبية التي وقعت في سهمه من الغنيمة، لمفهوم الخبر السابق: «ألا لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة».
واتفق الفقهاء عملاً بهذا الحديث على أن استبراء من تحيض بحيضة، والحامل بوضع الحمل. واختلفوا فيمن لا تحيض وهي صغيرة وآيسة ومنقطعة حيض (2):
مذهب الحنفية والشافعية: تستبرأ بشهر؛ لأن الشهر قائم مقام القرء في حق الحرة والأمة المطلَّقة، فكذلك في الاستبراء.
ومذهب المالكية، والحنابلة في المشهور عن أحمد كما في المغني: تستبرأ الصغيرة والآيسة بثلاثة أشهر؛ لأن كل شهر قائم مقام قرء، وتستبرأ الآيسة الحرة
_________
(1) الدر المختار: 265/ 5، القوانين الفقهية: ص 240، مغني المحتاج: 412/ 3، كشاف القناع: 504/ 5.
(2) الرد المختار: 265/ 5، القوانين الفقهية: ص 240، الشرح الصغير: 705/ 2 ومابعدها، مغني المحتاج: 411/ 3، كشاف القناع: 511/ 5، المغني: 499/ 7، 502 - 504، المهذب: 154/ 2.
(9/7213)


بثلاثة أشهر مكان ثلاثة قروء. وجاء في كشاف القناع أن من لا تحيض تستبرأ بشهر.
أما من تأخر حيضها عن عادتها ولو لرضاع أو مرض أو استحيضت ولم تميز الحيض من غيره، فتستبرأ بثلاثة أشهر أيضاً في رأي المالكية، وبعشرة أشهر في رأي الحنابلة: تسعة أشهر للحمل وشهر مكان الحيضة إن ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه. وإن علمت سبب رفع الحيض من مرض أو رضاع أو نفاس، ولم تزل في الاستبراء حتى يعود الحيض، فتستبرئ نفسها بحيضة، إلا أن تصير آيسة فتستبرئ نفسها استبراء الآيسات بثلاثة أشهر. وإن ارتابت الأمة المستبرأة بنفسها فهي كالحرة المستريبة، تستبرأ بسنة كاملة.

وهل هناك عدة بسبب الزنا أو بعد زواج باطل؟
إذا زنت الزوجة أو تزوج رجل امرأة زواجاً متفقاً على بطلانه كأن يتزوج محرمة أو معتدة يعلم حالها أو زوجة يعلم أنها زوجة غيره ثم دخل بها.
فإن حملت المرأة في هذه الحالة، فلا يحل لزوجها أن يقربها حتى تضع الحمل باتفاق المذاهب.
وأما إن لم يكن هناك حمل: فلا تجب العدة عند الحنفية والشافعية في الزنا ولا في الزواج الباطل؛ لأنه في حكم الزنا، واستحسن الإمام محمد بن الحسن استبراءها بحيضة.
ويجب عند المالكية والحنابلة استبراؤها بثلاث حيضات منذ وطئها الرجل، سواء فارقها أو مات عنها، ويحرم على زوجها أن يقربها في مدة الاستبراء.
أما إذا تزوجها الرجل، وهو لا يعلم بأنها زوجة غيره، ودخل بها، ثم فرق بينهما، وجب عليها العدة بالاتفاق؛ لأن العقد يكون فاسداً، والعقد الفاسد تجب العدة فيه بالدخول اتفاقاً.


المصدر
-




------------------------
إضافة:

من طالت مدة بعدها عن زوجها، هل تعتد بعد طلاقها

السؤال:
إذا طلقت المرأة بعد نشوز طالت مدته إلى سنة أو سنتين أو أقل، وإنما مضت مدة استبراء الرحم قبل الطلاق، أفتلزمها العدة؟
أم يجوز أن تتزوج ولا عدة عليها؟
علمًا بأن زوجها قد طلقها على عوض، ولا يرغب في الرجعة؟

الجواب:
إذا طلقت المرأة وجبت عليها العدة بعد الطلاق، ولو طالت مدتها بعيدة عن زوجها؛ لقول الله : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ [البقرة:228]؛ ولأن النبي ﷺ أمر زوجة ثابت بن قيس لما اختلعت منه أن تعتد بعد الخلع بحيضة.
والصواب أنه يكفي المختلعة حيضة واحدة بعد الطلاق؛ لهذا الحديث الشريف، وهو مخصص للآية الكريمة المذكورة آنفًا، فإن اعتدت المختلعة -وهي المطلقة على مال- بثلاث حيضات، كان ذلك أكمل وأحوط؛ خروجًا من خلاف بعض أهل العلم، القائلين بأنها تعتد بثلاث حيضات؛ لعموم الآية المذكورة[1].
 
  1. نشر في (الدعوة)، العدد: 1687، بتاريخ 29 ذي الحجة 1419هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 22/173). 
المرجع


.... مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..