بعض الانطباعات التي خرجت بها من زيارة مهرجان الثاني لادراة الوقت لسجون المباحث، وقلت رأيي بكل صدق.. وإذ كان المسرح الفاخر في سجن ذهبان في حالة تناغم وتجاوب عال، مع النجم
فايز المالكي وهو يهزج بأغنية وطنية، مع الجوقة الموسيقية التي كان عازفوها هم من أبنائنا الموقوفين في سجون المباحث؛ إذا بحالة من الحزن العميق تتغشاني، وتنثال ذكريات أليمة عمرها سبع سنوات، لألتفت إلى الزميل أحمد العرفج الذي كان بجواري، الذي كان في حالة طرب مع العزف، وقلت له: لا تدري كمية الألم الذي بي الآن!
استغرب الزميل العرفج، وبادرته: انظر إلى ذينك الشابين في الجوقة، تأمل في وضاءة وجهيهما وصغر أعمارهما، إنهما ذكراني بموقف لي في سجن "الطرفية"، وقتما قابلت شاباً يافعاً كان في سنته الأولى بالجامعة، وعندما جلست معه في الزنزانة، وسألت عن اسمه؛ تفرّست فيه الأدب الكامل، وعرفت الأرومة الرفيعة التي ينتمي، والطبقة الثرية التي جاء منها، وكان الشاب وسيماً بعمر أبنائي، من كبار عائلات القصيم. تجاذبت معه الحديث وسألته عن تهمته، أطرق برأسه للأرض ولم يجب، وقال الشيخ المرافق معي أنه يكفّر الدولة، ويحمل فكر داعش.
أكملت للزميل العرفج حديثي، وقطعت عليه متعة متابعة إبداعات فناننا الكبير فايز المالكي، الذي أعتبره شخصياً الممثل الكوميدي الأول، وصاحب الرسالة العالية والأعمال الخيرية، وقلت للزميل: لم أنس والله ليومي هذا منظر ذلك الشاب وهو مطرق الرأس، وأنا أحفظ اسمه للآن، من فرط ما تأثرت منه، ودعوت وقتها على كل محرّضي الفكر الضال، ودعاة التطرف، ورؤوس الدواعش، ومنظري الإرهاب؛ أن فجعوا أم وأب هذا الشاب الذي لا يستحق هذه الزنزانة، بل حاله اليوم لو أكمل دراسته؛ طبيباً مميزاً، أو مهندساً رفيعاً يساهم في هذه النهضة التي نعيش في بلادنا، وأقسم أن مئات ممن هم مثل حالته، كحال الشابين اللذين يعزفان أمامنا، كانوا ضحية ذلك الفكر المتوحش.
المهرجان الثاني لبرامج إدارة الوقت بسجون المباحث العامة، المقام من يومين في سجن ذهبان بجدة؛ أعتبرها نقلة جديدة من النقلات المميزة التي تقوم بها أمن الدولة، لكسر الحاجز بين المجتمع ورجل الأمن، ولكسر الصورة النمطية السلبية عن رجل المباحث، فضلاً على إطلاع المجتمع بما يعامل به هؤلاء الأبناء، والإبداعات التي قاموا بها في مجالات عديدة، تتلاءم وهواية الأبناء، لينتجوا لنا هاته الأعمال المميزة التي رأينا، ونظرة فاحصة واحدة للأسماء التي دُعيت من المشهد الإعلامي والثقافي والتعليمي؛ تشي بالانفتاح الذي تشهده إدارة المباحث من عقد من السنوات تقريباً، مثمّناً كل الجهد الذي تبذله قيادة أمن الدولة، ورسمها الصورة النموذجية الإيجابية لعملها ورجالاتها.
قلت لسعادة اللواء محمد السرّاح مدير الادارة العامة لسجون المباحث، الذي استقبلنا بترحاب غامر، وأمام جمع من الأصدقاء الزوّار، كان فيهم الصديق الغالي أ.د. عبدالله السلمي رئيس النادي الأدبي بجدة والأستاذ محمد آل صبيح مدير جمعية الثقافة الفنون: والله إنني أدعو لكم من صميم القلب، وأعرف الدور الكبير الذي تقومون به في إصلاح هؤلاء الأبناء، والروح الأبوية التي تعاملونهم بها، وسبق لي أن التقيت معهم، ورأيت الفكر الحاد الذي هم عليه، والنظرة الضيقة التي يعيشون بها.
ما رأيته في زيارتي لبرامج إدارة الوقت في ذهبان؛ شيء أقرب للمعجزة، كنت أجلس في زياراتي الأولى للسجون مع أولئك الشباب، وقد تلبّسهم فكر التطرف، وروح الإرهاب، كانوا يقولون لي بتكفير الدولة، بل حتى كل من يتعاون معهم هو كافرٌ مهدرُ الدم، وأنهم إن خرجوا اللحظة سيقومون بتفجير أنفسهم بنا طلباً للشهادة. شبابٌ سذجٌ اخترمتهم داعش التي تديرها الاستخبارات المعادية لنا، زُرع في روعهم كراهية الحياة، والنفور من المجتمع، وعشق الانتحار طلباً للشهادة الموهومة، وإذا بي أراهم يحدثوني اليوم، وبعد مرور كل تلك السنوات عن المدارس التكعيبية والسريالية والكلاسيكية في الرسم، وأنا أمام لوحات رائعة رسموها، ومجسمات بديعة لأحدث المدراس الفنية، لا يقوم بها إلا محترفون .
وإن كان الزملاء الإعلاميون والمثقفون انبهروا ما رأوا، بيد أنني كنت أبتسم، وقد أدركت بداية البرامج قبل سنوات، وها هي الثمار التي يراها المجتمع؛ فأولئك النماذج المتطرفة الأحادية النظرة، تحوّلوا لشباب مقبلين على الحياة، عاشقين للفن والجمال، مستمتعين بكل ما يقومون بها. خامات إيجابية بناءة منتجة، وقد أتقنوا اعمالاً عديدة، سيمتهنونها حال خروجهم من السجن.
اللواء الخلوق محمد السرّاح، التفت للزميل محمد آل صبيح مدير جمعية الثقافة والفنون، وقام يحدثه باهتمام، ويشكره بحرارة على لفتة الجمعية بإعطاء أبنائنا المسجونين أولئكم عضوية جمعية الثقافة والفنون، إبان زيارته وكوكبة من الفنانين التشكيليين قبل أشهر، ومضي يسرد لنا –بكل حماسة- الأثر العميق الذي تركته هاته اللفتة في نفوس الأبناء بالسجن.
كنت أتأمل في لغة الجسد، والسرور البالغ الذي كان يتحدث به اللواء السرّاح، والفرح المرتسم على قسمات وجهه، وهو يشكر زميلنا –من صميم قلبه- على لفتته، وبعد أن انتهى من حديثه، قلت للجمع من المثقفين الأصدقاء الواقفين معنا، مشيرا إلى اللواء: هذه الروح الأبوية التي كنت أكتب عنها من سبع سنوات.. من النادر جداً أن تجد مسؤولاً أمنياً رفيعاً، تغمره مشاعر الفرح التي رأيتم للتو، وسبب فرحه أن المسجونين لديه سعداء، وأتحدى أن تجدوا هاته الروح الأبوية الغامرة في أية بقعة جغرافية قريبة أم بعيدة إلا في النادر، وهذه الروح التي أتحدث، وجدتها –والله شاهد عليّ ويحاسبني على قوي- من أصغر موظف، في السجون التي مررت، لأعلى رتبة فيها.
اللواء السرّاح، عقب على كلامي، وقال: هذه توجيهات قيادتنا، ومنهم استلهمنا هاته الروح، لأتمتم بعدها: هذه دولتنا، وهؤلاء ولاة أمورنا، وهذا مجتمعنا الكبير بتلاحمه، وتكاتفه مع مليكنا الكبير سلمان بن عبدالعزيز، في هذه المسيرة التي يمضي بها أميرنا الهمام محمد بن سلمان عبر الرؤية الحلم.
سامحوني يا أمن الدولة، فهذا البرنامج الذي رأيت ليس لإدارة الوقت وحسب، بل هو تغيير فكر، وتوجيه طاقات، وخلق إبداع، وتذوق جمال الحياة. هو برنامج عبقري لتوسيع النظرة الضيقة إلى آفاق الحياة وروعتها، وكره الدنيا والنفور منها، إلى الإقبال والمساهمة في عمارتها، برنامج به روح وشفقة الأب، وحكمة المسؤول، وإبداع المخطط، وإتقان المنفذ، وتجاوب الأبناء.
في مقالتي المقبلة سأحدثكم عن المسرح الكوميدي، ولماذا رفض فايز المالكي أن يفتشه أبناؤنا الممثلون هناك؟!
بقلم :عبدالعزيز قاسم
صحيفة أنحاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..