شكَّلَ المذهَبُ الأشعريُّ مَنهجًا جديدًا مُختلِفًا عمَّا
كان عليه السَّلَفُ المتقدِّمونَ منذُ أوَّلِ لحظةٍ من ظُهورِه؛ حيثُ إنَّ
الأشعريَّ اعتمَدَ طريقةَ ابنِ كِلابٍ ومَنهجَه في تأسيسِ العقائدِ,
ويكشِفُ
الشَّهْرَسْتانيُّ عن هذه الحقيقةِ، فيقولُ في مَعرِضِ مَدحِه لشَيخِه الأشعَريِّ: "حتَّى انتَهى الزَّمانُ إلى عبدِ اللهِ بنِ سعيدٍ الكِلابيِّ وأبي العبَّاسِ القَلانِسيِّ والحارِثِ بنِ أسعَدَ المُحاسِبيِّ، وهؤلاء كانوا من جُملةِ السَّلَفِ إلَّا أنَّهم باشَروا عِلمَ الكَلامِ وأيَّدوا عقائدَ السَّلَفِ بحُجَجٍ كَلاميَّةٍ وبراهينَ أُصوليَّةٍ... وانحازَ الأشعَريُّ إلى هذه الطائفةِ فأيَّدَ مَقالتَهم بمناهِجَ كَلاميَّةٍ، وصارَ ذلك مَذهَبًا لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وانتقلَتْ سِمَةُ الصِّفاتيَّةِ إلى الأشعَريَّةِ"[1]).
( [44] ) انظر: أبكارُ الأبكارِ (5/96).
المصدر
-
....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
الشَّهْرَسْتانيُّ عن هذه الحقيقةِ، فيقولُ في مَعرِضِ مَدحِه لشَيخِه الأشعَريِّ: "حتَّى انتَهى الزَّمانُ إلى عبدِ اللهِ بنِ سعيدٍ الكِلابيِّ وأبي العبَّاسِ القَلانِسيِّ والحارِثِ بنِ أسعَدَ المُحاسِبيِّ، وهؤلاء كانوا من جُملةِ السَّلَفِ إلَّا أنَّهم باشَروا عِلمَ الكَلامِ وأيَّدوا عقائدَ السَّلَفِ بحُجَجٍ كَلاميَّةٍ وبراهينَ أُصوليَّةٍ... وانحازَ الأشعَريُّ إلى هذه الطائفةِ فأيَّدَ مَقالتَهم بمناهِجَ كَلاميَّةٍ، وصارَ ذلك مَذهَبًا لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وانتقلَتْ سِمَةُ الصِّفاتيَّةِ إلى الأشعَريَّةِ"[1]).
ومن حينِ أنْ ظهَرَ المَذهبُ الأشعريُّ باعتبارِه مَذهبًا
عَقَديًّا له أصولٌ وعقائدُ خاصَّةٌ, اتخَذَ منه أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ
والجماعةِ الذين هم أَخبَرُ بمذهَبِ الأئمَّةِ المتقدِّمينَ وأعلَمُ
بمدلولاتِها مَوقِفًا واضحًا, وعَدُّوه من الفِرقِ الخارجةِ عن السُّنَّةِ
التي كان عليها الصحابةُ وتلاميذُهم ومَن جاء بَعدَهم من الأئمةِ
المتبوعينَ؛ نتيجةً لمَا تلبَّسَ به من أخطاءٍ منهجيَّةٍ وعَقَديَّةٍ.
وقد تتالَتْ مَقالاتُهم ومواقِفُهم التي تؤكِّدُ ذلك, وقامَ
عدَدٌ من الباحثينَ في القَديمِ والحديثِ بجَمعِ تلك المَقالاتِ والمواقِفِ
التي صرَّحَ فيها أئمَّةُ مَذهبِ أهلِ السُّنَّةِ بأنَّ المذهَبَ
الأشعَريَّ خارجٌ عن مَنهجِهم، وأنَّه يُمثِّلُ مَذهبًا مُتناقضًا مع
مَذهبِهم.
ولكنَّ هناك نافذةً أخرى يمكِنُ من خِلالِها تأكيدُ ذلك
الحُكمِ الذي اتخَذَه عُلماءُ أهلِ السُّنَّةِ, وهي مَقالاتُ ومواقفُ
أئمَّةِ المذهَبِ الأشعريِّ ومُحقِّقيه، التي أكَّدوا فيها على أنَّ
طريقَتَهم مُخالفةٌ للطريقةِ التي يُقرِّرُها أئمَّةُ أهلِ السنَّةِ،
ومُناقِضةٌ لها في المنهجِ والأصولِ.
وهذه النافذةُ لم تُكشَفْ بالشَّكْلِ الكافي, وهي من أقْوى
الدلائلِ وأوضَحِها في التأكيدِ على أنَّ المذهَبَ الذي يُقرِّرُه أئمَّةُ
أهلِ السُّنَّةِ والمَذهبِ غيرُ الذي قرَّرَهُ أئمَّةُ المَذهبِ الأشعريِّ,
كُلٌّ منهما يختلِفُ عن الآخَرِ، ويتناقَضُ معه بوُضوحٍ وجَلاءٍ, وأنَّ
الخلافَ بينهما ليس خِلافًا لَفظيًّا، وإنما هو خلافٌ جَوْهريٌّ ومنهجيٌّ,
وأنَّ إثباتَ صحَّةِ أحدِهما يستلزِمُ بُطلانَ الآخَرِ.
ويمكِنُ أنْ نُجمِلَ أهَمَّ المواقفِ التي أعلَنَ فيها
أئمَّةُ المذهبِ الأشعريِّ براءتَهم من المذهبِ الذي يُقرِّرُه أئمَّةُ
أهلِ السُّنَّةِ في الأمورِ التاليةِ:
الأمرُ الأوَّلُ: تَلقيبُهم لمَن أثبَتَ ما عليه السَّلَفُ بالحَشْوِيَّةِ:
المرادُ بالحَشْويَّةِ رُذالةُ الناسِ وأقَلُّهم مَنزلةً
ومكانةً، ومَن لا فَهمَ لهم ولا معرفةَ, ويُعدُّ المعتزلةُ أوَّلَ مَن
أطلَقَ هذا اللقَبَ على أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ من المُحدِّثين
والفُقَهاءِ قصْدًا منهم لتحقيرِهم وإنزالِ مَكانتِهم, ثم تلقَّفَه
الأشاعرةُ مِن عِندِهم وأكثَروا من إطلاقِه في مُؤلَّفاتِهم, والمُتأمِّلُ
في استعمالاتِهم لهذا اللقَبِ يُدرِكُ بوُضوحٍ أنَّ مَن يَعتقِدُ المَذهبَ
الذي يُقرِّرُه أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ يدخُلُ في ذلك الوصفِ بجَلاءٍ؛
فإنَّهم يُطلِقونَه على جُملةِ مَن يُثبتُ الصِّفاتِ الإلهيَّةَ، ويُجري
نُصوصَها على ظاهرِها ولا يَعتمِدُ على التأويلِ, وكذلك مَن يُقرِّرُ أنَّ
الإيمانَ حقيقةٌ مُركَّبةٌ, ومَن يُقرِّرُ أنَّ النظَرَ ليس بواجبٍ،
وغَيرِها من المَقالاتِ.
يقولُ الجُوَيْنيُّ: "ذهبَتِ الحَشْويَّةُ المُنتمونَ إلى
الظاهرِ إلى أنَّ كلامَ اللهِ قديمٌ, ثم زعَموا أنَّه حُروفٌ وأصواتٌ,
وقطَعوا بأنَّ المسموعَ من أصواتِ القُرَّاءِ ونَغَماتِهم عينُ كلامِ
اللهِ"[2], ويقولُ أيضًا: "ذهبَتِ الكَرَّاميَّةُ وبعضُ الحَشْويَّةِ إلى
أنَّ الباريَ -تعالى عن قولِهم- مُتحيِّزٌ مختَصٌّ بجهةِ فَوقٍ"[3], ثم
ساقَ الأدلَّةَ التي يَستدِلُّ بها أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ على إثباتِ
العُلوِّ، وقامَ بتأويلِها.
ويقولُ الغَزالِيُّ: "أما الحَشْويَّةُ فإنهم لم يتمكَّنوا من
فَهمِ مَوجودٍ إلَّا في جِهةٍ، فأثبَتوا الجِهةَ -أي: للهِ- حتى ألزمَتْهم
بالضرورةِ الجِسْميَّةِ"[4].
ويقولُ الآمِديُّ: "وبهذا ثبَتَ فَسادُ قولِ الحشْويَّةِ:
إنَّ الإيمانَ هو التصديقُ بالجَنانِ، والإقرارُ باللسانِ، والعمَلُ
بالأركانِ"[5], وقد ذكَرَ الجُوَينيُّ أنَّ هذا القولَ الذي حكَمَ
الآمِديُّ بفَسادِه هو قولُ أصحابِ الحديثِ, ثم صرَّحَ هو أيضًا
ببُطلانِه[6].
ويقولُ الرازِيُّ -بعد أن ساقَ حُجَّةً تدُلُّ عندَه على
وجوبِ النظَرِ- وهي: "تدُلُّ على فَسادِ قولِ الحَشْويَّةِ الذين يقولونَ:
نستفيدُ مَعرفةَ اللهِ والدِّينِ من الكتابِ والسُّنَّةِ"[7].
ويكشِفُ السُّبْكيُّ عن مُرادِ الأشاعرةِ بالحَشْويَّةِ
فيقولُ: "هم طائفةٌ ضَلُّوا عنِ السبيلِ وعَمِيَتْ أبصارُهم، يُجْرون آياتِ
الصِّفاتِ على ظاهرِها, ويعتقِدونَ أنَّه المُرادُ"[8].
وقد تتالَتْ مَقالاتُ أئمَّةِ المذهَبِ الأشعريِّ في تضليلِ
الحَشْويَّةِ وتَقبيحِهم وذَمِّهم, واختلَفوا في حُكمِ تَكفيرِهم على
قولينِ مَشهورَينِ عندَهم[9].
وإذا رجَعْنا إلى مَقالاتِ أئمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ
ومؤلَّفاتِهم, كالأئِمَّةِ: مالكٍ والشافعيِّ وأحمَدَ، والثَّوْريِّ وابنِ
عُيَينةَ والبُخاريِّ، وغيرُهم كثيرٌ، نَجِدُها دالَّةً على الأقوالِ
نَفسِها التي حكَمَ عليها أئمَّةُ المذهبِ الأشعريِّ بالحَشْويَّةِ, وهذا
الصَّنيعُ منهم يدُلُّ بوضوحٍ على أنَّهم يَعُدُّونَ المذهبَ الذي
يُقرِّرُه أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ من المحدِّثينَ والفُقهاءِ مَذهبًا
باطِلًا وفاسدًا، وأنَّه خارجٌ عن السُّنَّةِ ومناقضٌ لما هم عليه، وأنهم
يختلِفونَ معه اختلافًا جَوْهريًّا، وليس اختلافًا لفظيًّا فقطْ.
الأمرُ الثاني: وَصفُهم لمَن سلَكَ طريقةَ السَّلَفِ بالمُجسِّمةِ والمُشبِّهةِ:
يُعَدُّ لفظُ المُشبِّهةِ من أكثَرِ الألفاظِ ذِكرًا في
مُؤلَّفاتِ أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ, وعادةً ما يُطلَقُ هذا اللَّقبُ على
صِنفينِ: الأوَّلِ: المُشبِّهةُ حقًّا, الذين صرَّحوا بالتشبيهِ واتَّخذوه
مَذهبًا, كمُقاتلِ بنِ سُلَيْمانَ، وهِشامِ بنِ الحَكَمِ، وداودَ
الجَواليقيِّ وغيرِهم [10], والثاني: مَن أَجْرى نصوصَ الأسماءِ والصِّفاتِ
على ظاهرِها المُتبادَرِ، وأقَرَّ بإثباتِ المَعاني التي تدُلُّ عليها مع
نَفيِه للتشبيهِ والتمثيلِ، كما هو المذهبُ الذي يُقرِّرُه أئمةُ أهلِ
السُّنَّةِ والجماعةِ, فهذا الصِّنفُ عند أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ يُعدُّ
داخلًا في المُشبِّهةِ والمُجسِّمةِ, فمَن أثبَتَ العُلُوَّ والاستواءَ
على العرشِ، وأثبتَ أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ حقيقةً، وأنَّه حرفٌ وصوتٌ،
وأثبتَ النزولَ حقيقةً, وأثبتَ الصفاتِ الذاتيَّةَ, كالوجهِ واليدينِ
والرِّجلِ وغيرِها مع نَفيِ التمثيلِ؛ يُعدُّ مُشبِّهًا لديهم.
يقولُ الجُوَيْنيُّ في بيانِ عقيدةِ المُشبِّهةِ: "وذهبَتِ
المُشبِّهةُ إلى أنَّه -تعالى عن قولِهم- مُختصٌّ بجهةِ فَوقٍ"[11], ويقولُ
السُّبكيُّ: "إنما المصيبةُ الكُبْرى، والداهيةُ الدهياءُ: الإمرارُ على
الظاهرِ، والاعتقادُ أنَّه المرادُ، وأنَّه لا يستحيلُ على الباري, فذلك
قولُ المُجسِّمةِ, عُبَّادِ الوَثَنِ الذين في قلوبِهم زَيْغٌ يَحمِلُهم
الزَّيْغُ على اتِّباعِ المُتشابهِ ابتغاءَ الفِتنةِ، عليهم لعائنُ اللهِ
تَتْرَى واحدةً بعد أخرى, ما أجرَأَهم على الكذِبِ، وأقَلَّ فَهمَهم
للحقائقِ!"[12].
والقارئُ في مُؤلَّفاتِ أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ يجِدُهم
يُطلِقون وَصفَ المُشبِّهةِ على كلِّ مَن أثبَتَ جميعَ الصفاتِ الإلهيَّةِ،
وأجرى نُصوصَها على ظاهرِها، حتى ولو صرَّحَ بنفيِ التشبيهِ والتمثيلِ،
وعدَمِ العِلْمِ بالكَيفيَّةِ, ويجِدُ جُلَّ المواضعِ التي يَنسِبونها إلى
المشبِّهةِ والمُجسِّمةِ مُنطبقةً بشكلٍ ظاهرٍ وجَليٍّ على ما هو مذكورٌ في
مُؤلَّفاتِ أئمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ, ومن ذلك -زِيادةً على ما
ذُكِرَ- قولُ الرازيِّ: "قالتِ المُشبِّهةُ: قولُه تعالى: {يَخَافُونَ
رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] هذا يدُلُّ على أنَّ الإلهَ
-تعالى- فوقَهم بالذاتِ"[13], ويقولُ: "قالتِ المُشبِّهةُ: قولُه تعالى:
{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] يدُلُّ على أنَّه
تعالى يحضُرُ في ذلك المكانِ، وتُعرَضُ عليه أهلُ القيامةِ صَفًّا"[14],
ويقولُ أيضًا: "المُشبِّهةُ استدلُّوا بلفظِ الإسراءِ في السورةِ
المُتقدِّمةِ وبلفظِ الإنزالِ في هذه السُّورةِ على أنَّه تعالى مُختصٌّ
بجهةِ فوقٍ"[15], وغيرُها كثيرٌ مبثوثٌ في مُؤلَّفاتِ المذهبِ الأشعريِّ.
وقد تتالَتْ مَقالاتُ أئمَّةِ الأشاعرةِ على تأكيدِ ضَلالِ
المُشبِّهةِ وزَيغِهم، والحُكمِ عليهم بالخروجِ من السُّنَّةِ, وقد
اختلَفوا في حُكمِ تَكفيرِهم على قولينِ مشهورينِ لديهم [16].
ولو رجَعْنا إلى نصوصِ أهلِ السُّنَّةِ من التابعينَ ومَن
بَعدَهم, وكذلك إلى المُصنَّفاتِ المشهورةِ المُعتمَدةِ, كالردِّ على
الجَهميَّةِ، والردِّ على بِشرٍ المَرِيسيِّ للدَّارمِيِّ, وكتابِ التوحيدِ
لابنِ خُزَيمةَ، وكتابِ التوحيدِ لابن مَندَهْ، والشريعةِ للآجُرِّيِّ،
وشرحِ أصولِ اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ للَّالَكائيِّ وغيرِها، تَجِدُهم
يُقرِّرونَ الأقوالَ التي يَصِفُها أئمَّةُ المذهبِ الأشعريِّ بالتشبيهِ
والتجسيمِ.
وهذا يدُلُّ بوضوحٍ على أنَّ أئمةَ المذهبِ الأشعريِّ لا
يَعُدُّون الخلافَ بينهم وبين أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ خلافًا لفظيًّا, وإنما
هو خلافٌ جوهريٌّ متعلِّقٌ بأصولِ الدينِ ومنهجِ فَهمِه.
وفضلًا عما في قولِهم هذا من التناقُضِ البيِّنِ؛ فإنَّ أئمةَ
المذهبِ الأشعريِّ المُؤسِّسين له, كالأشعريِّ والبَاقِلانيِّ يُصرِّحونَ
بإثباتِ صِفةِ العُلُوِّ وعددٍ من الصفاتِ الذاتيَّةِ كاليدينِ والوَجهِ
ونحوِهما[17], فكيف لا يكونونَ مُشبِّهةً وهم يتفِّقونَ مع أهلِ السُّنَّةِ
في إثباتِ ذلك النوعِ من الصفاتِ؟!
الأمرُ الثالثُ: موقفُ أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ من كتابِ التوحيدِ لابنِ خُزَيْمةَ:
يُعدُّ ابنُ خُزَيمةَ من أشهرِ العلماءِ المُمثِّلينَ لمَذهبِ
أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، ويُعدُّ كِتابُه من العُمَدِ الأصليَّةِ في
تأسيسِ مَنهجِهم, وقد نالَ شُهرةً واسعةً جِدًّا؛ نتيجةً لشُهرةِ ابنِ
خُزَيْمةَ نَفسِه, فإنَّه كان يُلقَّبُ بإمامِ الأئمَّةِ, وهو مِن أشهَرِ
أئمةِ المذهبِ الشافعيِّ البارِزينَ.
وقد أضحى كتابُه (التوحيدُ) مَعلَمًا من مَعالِمِ أهلِ
السُّنَّةِ، ومَرجِعًا من مَراجِعِهم الأصليَّةِ, ولأجلِ هذا تقصَّدَه
بالردِّ والمُعارَضةِ عددٌ من أعلامِ المذاهبِ العَقَديَّةِ الخارجةِ عن
السُّنَّةِ, سواءٌ من المعتزلةِ، أو من الأشاعرةِ، أو من غيرِهم[18].
ومِن أشهَرِ وأوَّلِ أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ الذين أعلَنوا
المُخالَفةَ لكتابِ التوحيدِ لابنِ خُزَيمةَ: ابنُ فُورَكٍ؛ فإنَّه قالَ
بعدَ أنْ أوَّلَ عددًا كبيرًا من نصوصِ الصِّفاتِ: "ثم سألتُم عند
انتهائِها إلى هذا الموضِعِ مِن كِتابِنا أنْ نتأمَّلَ مُصنَّفَ الشيخِ أبي
بَكرٍ محمدِ بنِ إسحاقَ بنِ خُزَيْمةَ -رضيَ اللهُ عنه- الذي سمَّاه
كِتابَ التوحيدِ, وجمَعَ فيه نوعَ هذه الأخبارِ التي ذُكِرَتْ فيها هذه
الألفاظُ المتشابهةُ, وحمَلَ ذلك على أنَّها صِفاتُ اللهِ عزَّ وجَلَّ,
وأنه فيها لا يُشبِهُ سائرَ الموصوفينَ بها من الخَلقِ, فتأمَّلْنا ذلك،
وبيَّنَّا ما ذهَبَ فيه عن الصَّوابِ في تأويلِه, وأوْهَمَ خِلافَ الحَقِّ
في تخريجِه، وجمْعِه بين ما يجوزُ أنْ يَجرِيَ مَجْرى الصِّفةِ، وما لا
يجوزُ ذلك فيه, وذكَرْنا ألفاظًا ذكَرَها في كتابِه الذي روى وجمَعَها فيه،
ممَّا لم يدخُلْ فيما أملَيْنا قبلُ, ورتَّبْنا معانِيَها, وإنْ كنَّا قد
أَوْمَيْنا إلى أصلِه، وأشَرْنا إلى طريقتِه"[19].
ثم تتبَّعَ ما ذكَرَه ابنُ خُزَيمةَ في عددٍ من الصفاتِ
الإلهيَّةِ, كصِفةِ النَّفسِ, وصفةِ الوجهِ, وصفةِ اليدَينِ, وصفةِ
الرِّجْلِ والقَدمِ, وغيرِها من الصفاتِ، وقامَ بتأويلِها وصَرْفِها عن
ظاهرِها الذي أجراه عليه ابنُ خُزَيْمةَ.
وهذا يدُلُّ دَلالةً ظاهرةً على أنَّه يَرى أنَّ ما قرَّرَه
ابنُ خُزَيْمةَ في كتابِه مناقضٌ لمذهبِ الأشاعرةِ, ومُتعارضٌ معه تعارُضًا
بيِّنًا.
ومن أئمةِ المذهبِ الأشعريِّ الذين أعلَنوا مُناقضَتَهم
لكتابِ ابنِ خُزَيمةَ: أبو عُمَرَ الرازيُّ, بل إنَّه أغلَظَ في القولِ،
ووصَفَ ابنَ خُزَيْمةَ بقِلَّةِ العَقلِ والفَهمِ, ونعَتَ كِتابَه بأنه
كتابُ الشِّركِ, وفي هذا يقولُ: "واعلَمْ أنَّ محمدَ بنَ إسحاقَ بنِ
خُزَيمةَ أورَدَ استدلالَ أصحابِنا بهذه الآيةِ في الكتابِ الذي سمَّاه
"التوحيد"، وهو في الحقيقةِ كتابُ الشِّركِ، واعترَضَ عليها، وأنا أذكُرُ
حاصلَ كَلامِه بعد حذفِ التطويلاتِ؛ لأنَّه كان رجُلًا مُضطرِبَ الكَلامِ،
قليلَ الفَهمِ، ناقصَ العَقلِ"[20].
فها هو الرازيُّ في هذا التقريرِ يُؤكِّدُ بوُضوحٍ على أنَّ
ما قرَّرَه ابنُ خُزَيمةَ في كتابِه يُناقِضُ مَذهَبَه الأشعريَّ تَمامَ
المُناقضةِ, ولأجلِ هذا وصَفَه بالشِّركِ.
وممَّنْ ذمَّ كتابَ التوحيدِ لابنِ خُزَيْمةَ وعابَه وعدَّه
خارجًا عن السُّنَّةِ: ابنُ جَماعةَ, حيثُ يقولُ: "فإنِ احتجَّ مُحتَجٌّ
بكتابِ ابنِ خُزَيمةَ، وما أَورَدَ فيه من هذه العظائمِ، وبِئْسَ ما صنَعَ
من إيرادِ هذه العظائمِ الضعيفةِ والموضوعةِ؛ قُلْنا: لا كرامةَ له ولا
لأتباعِه إذا خالَفوا الأدلَّةَ العقليَّةَ والنقليَّةَ على تنزيهِ اللهِ
تعالى بمثلِ هذه الأحاديثِ الواهيةِ، وإيرادِها في كُتُبِهم.
وابنُ خُزَيمةَ، وإنْ كان إمامًا في النقْلِ والحديثِ؛ فهو عن
النظَرِ في العقليَّاتِ وعن التحقيقِ بمَعزِلٍ، فقد كان غنيًّا عن وضعِ
هذه العظائمِ المُنكَراتِ الواهيةِ في كُتبِه"[21].
وقد أوَّلَ في كتابِه عامَّةَ النصوصِ التي أورَدَها ابنُ خُزَيمةَ في كتابِه، وأثبَتَ ما يقتضيه ظاهِرُها من الصفاتِ الإلهيَّةِ.
ومن عُلماءِ الأشاعرةِ الذين أكَّدوا مُناقَضةَ ما قرَّرَه
ابنُ خُزَيمةَ في كتابِه لمَذهبِهم: ابنُ جَهْبَلٍ, حيثُ يقولُ: "على أنَّ
ابنَ خُزَيمةَ قد علِمَ الخاصُّ والعامُّ حديثَه في العقائدِ, والكتابَ
الذي صنَّفه في التَّشبيهِ, وسمَّاه بالتوحيدِ, ورَدُّ الأئمةِ عليه أكثَرُ
من أنْ يُذكَرَ, وقولُهم فيما قاله هو في غيرِه معروفٌ"[22].
وقد تتالَى عددٌ من عُلَماءِ الأشاعرةِ في العصرِ الحديثِ على تأكيدِ ذلك الذمِّ.
وكلُّ تلك النصوصِ تدُلُّ على معنًى واحدٍ, وهو أنَّ علماءَ
الأشاعرةِ يُدرِكون أنَّ ما قرَّرَه ابنُ خُزَيمةَ في كتابِه التوحيدِ
مُناقضٌ تمامَ المُناقَضةِ لمَذهبِهم, وأنَّه في نَظرِهم مذهبٌ بِدْعيٌّ
خارجٌ عن السُّنَّةِ, وأنه بِناءً على ذلك لا يُمكِنُ أنْ يُجمَعَ هو
ومَذهَبُهم في تمثيلِ الحقِّ.
والغريبُ حقًّا أنَّه مع وضوحِ رأيِ ابنِ خُزَيمةَ في
كتابِه, ووضوحِ موقفِ أئمَّةِ المذهبِ الأشعريِّ من كتابِ ابنِ خُزَيمةَ,
من أنَّه يُقرِّرُ إثباتَ المعاني للصفاتِ، ويُجري نُصوصَها على الظاهرِ,
أقولُ: مع وضوحِ ذلك؛ يأتي بعضُ المعاصرين من المنتسبينَ للمذهَبِ
الأشعريِّ، وينسُبُ التفويضَ إلى ابنِ خُزَيمةَ، ويدَّعي أنَّه ممَّن
يَنسُبُه إلى السَّلَفِ[23]!
ومن غرائِبِه أيضًا أنَّه يجعَلُ ابنَ خُزَيْمةَ والرازيَّ
كِليهما ممَّن يقولُ بالتفويضِ، وينسُبُه إلى السَّلَفِ, مع أنَّ الرازيَّ
يحكُمُ على ابنِ خُزَيمةَ بأنه يُؤلِّفُ في الشِّرْكِ، وأنَّه مخالفٌ
لمنهجِ الحقِّ!
ابنُ خُزَيْمةَ ليس وَحدَه:
أصولُ العقائدِ التي قرَّرَها ابنُ خُزَيمةَ في كتابِه ليستْ
خاصَّةً به وَحدَه, بل هي في مُجمَلِها العقيدةُ التي عليها أئمَّةُ الهُدى
من العلماءِ المتبوعين قَبْلَه, كالأئِمةِ: أبي حَنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ
وأحمدَ والثَّوريِّ وابنِ عُيَينةَ والبُخاريِّ، وغيرُهم كثيرٌ, وهو في
كتابِه لم يكُنْ يريدُ أنْ يُؤسِّسَ عقيدةً خاصَّةً به, وإنما كان يريدُ
أنْ يشرَحَ العقيدةَ التي أجمَعَ عليها العلماءُ قَبْلَه، وتلقَّاها هو
عنهم؛ ولهذا فقد كان حريصًا على التأكيدِ على إجماعِهم في عددٍ من
المواطنِ, ومن ذلك قولُه: "فنحن وجميعُ عُلمائِنا من أهلِ الحجازِ وتِهامةَ
واليمَنِ والعِراقِ والشامِ ومِصْرَ، مَذهَبُنا أنَّا نُثبِتُ للهِ ما
أثبَتَه اللهُ لنفسِه؛ نُقِرُّ بذلك بألسنَتِنا، ونُصدِّقُ ذلك بقُلوبِنا,
من غيرِ أنْ نُشبِّهَ وَجهَ خالِقِنا بوَجهِ أحدٍ من المخلوقينَ، عَزَّ
ربُّنا عن أنْ يُشبِهَ المخلوقينَ, وجَلَّ ربُّنا عن مَقالةِ
المُعطِّلينَ"[24].
وكذلك فعَلَ في صِفةِ السمْعِ والبصَرِ واليدينِ والاستواءِ
على العرشِ والعُلُوِّ وغيرِها, فهو في كلِّ هذه الصفاتِ يُؤكِّدُ على
الإجماعِ فيها بين أئمةِ السَّلَفِ.
ونحن إذا رجَعْنا إلى الكتُبِ المُسندةِ التي اهتمَّتْ بجمْعِ
مقالاتِ أولئك العُلماءِ نَجِدُها متطابقةً مع ما ذكَرَه ابنُ خُزَيمةَ في
الجُملةِ, ولم تَختلِفْ عنه في أصولِ العقائدِ, وكذلك الحالُ في الأئمةِ
الذين عاصَروا ابنَ خُزَيْمةَ أو جاؤوا بعدَه, كالصابونيِّ، وعبدِ اللهِ
ابنِ الإمامِ أحمَدَ، والدَّارَقُطْنيِّ، وابنِ عبدِ البَرِّ،
والسَّمْعانيِّ، والأصْفهانيِّ، وابنِ جَريرٍ الطَّبريِّ, وقبلَهم
البُخاريُّ, كلُّ هؤلاء قرَّروا ما قرَّرَه ابنُ خُزَيمةَ في صفاتِ اللهِ,
ولم يَختلِفوا عنه في شيءٍ منها.
وهذا ما أدرَكَه الكَوْثريُّ, ولهذا جعلَهم كُلَّهم
مُندرِجين ضِمْنَ المُجسِّمةِ والمُشبِّهةِ بكُلِّ وضوحٍ، حيثُ يقولُ:
"فدونَك كتابَ الاستقامةِ لخُشَيشِ بنِ أَصْرَمَ، والكتُبَ التي تُسمَّى
السُّنَّةَ لعبدِ اللهِ وللخَلَّالِ، ولأبي الشيخِ، وللعسَّالِ، ولأبي بكرِ
بنِ عاصِمٍ، وللطَّبَرانيِّ، والجامعَ، والسُّنَّةَ والجماعةَ لحربِ بنِ
إسماعيلَ السيرجانيِّ، والتوحيدَ لابنِ خُزَيمةَ، ولابنِ مَندَهْ،
والصِّفاتِ للحَكَمِ بنِ مَعْبَدٍ الخُزاعيِّ، والنَّقْضَ لعُثمانَ بنِ
سعيدٍ الدَّارِميِّ، والشريعةَ للآجُرُّيِّ، والإبانةَ لأبي نَصرٍ
السِّجْزِيِّ، ولابنِ بَطَّةَ، ونَقْضَ التأويلاتِ لأبي يَعْلَى القاضي،
وذَمَّ الكلامِ والفَاروقَ لصاحبِ مَنازلِ السائرينَ.. تجِدُ فيها ما
يَنبِذُه الشَّرعُ والعَقلُ في آنٍ واحدٍ، ولا سِيَّما النقضَ لعُثمانَ بنِ
سعيدٍ الدَّارميِّ السِّجْزِيِّ المُجسِّمِ, فإنه أوَّلُ مَنِ اجترَأَ مِن
المُجسِّمةِ بالقولِ إنَّ اللهَ لو شاءَ لاستقرَّ على ظهرِ بَعوضةٍ
فاستقَلَّتْ به بقُدرتِه، فكيف على عرشٍ عظيمٍ!!"[25].
فإذا كان كتابُ ابنِ خُزَيمةَ يُعدُّ كِتابَ تَشبيهٍ وشِركٍ
لأجْلِ ما فيه من إثباتِ الصِّفاتِ، وإجراءِ نُصوصِها على ظاهرِها؛ فإنَّ
هذا الحُكمَ ليس خاصًّا به, بل هو شاملٌ لكلِّ مَن جَرى على طريقتِه وسارَ
على مِنهاجِه وتوافَقَ معه, وهم عددٌ كبيرٌ جدًّا من العلماءِ المشهورينَ
من جميعِ المذاهبِ: الحنفيِّ والمالكيِّ والشافعيِّ والحنبَليِّ.
وهذا الوضوحُ في الحُكمِ مِن قِبَل أئمةِ المذهبِ الأشعريِّ
يؤكِّدُ بقوَّةٍ على أنهم يرَونَ أنَّ الخلافَ بينهم وبين أئمةِ أهلِ
السُّنَّةِ ليس خلافًا لفظيًّا فحَسْبُ, وإنما هو خلافٌ منهجيٌّ حقيقيٌّ.
الأمرُ الرابعُ: موقِفُهم من كتابِ إثباتِ الحَرفِ والصوتِ للسِّجْزيِّ:
ألَّف أبو نصْرٍ السِّجْزيُّ كتابًا في إثباتِ الحرفِ
والصوتِ, وقرَّرَ فيه مذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ, وقد ردَّ عليه
الجُوَينيُّ في كتابٍ مُستقِلٍّ، بالَغَ في الهُجومِ على السِّجْزيِّ وفي
وَصفِه بالجهلِ وسَخافةِ العقلِ, وقد نقَلَ تقيُّ الدينِ السُّبْكيُّ شيئًا
من ذلك الكتابِ, فقال ذاكرًا قُدوتَه في الردِّ على المبتدعةِ: "وها أنا
أذكُرُ مجامِعَ ما تضمَّنَتْه القصيدةُ -نُونيَّةُ ابنِ القَيِّمِ-
مُلخِّصًا من غيرِ نَظمٍ، وناظِمُها أقَلُّ من أنْ أذكُرَ كَلامَه، لكني
تأسَّيتُ في ذلك بإمامِ الحرمَينِ في كتابِه المُسمَّى بنَقضِ كتابِ
السِّجْزيِّ، والسِّجزيُّ هذا كان مُحدِّثًا له كتابٌ مُترجَمٌ بمُختصَرِ
البَيانِ، وجَدَه إمامُ الحرمينِ حين جاورَ بمكَّةَ شرَّفَها اللهُ،
اشتمَلَ كتابُ السِّجْزيِّ هذا على أمورٍ: منها أنَّ القرآنَ حروفٌ
وأصواتٌ.
قال إمامُ الحرمينِ: وأبدَى مِن غمَراتِ جَهلِه فُصولًا
وسوَّى على قصَبةِ سَخافةِ عَقلِه نُصولًا، ومَخايِلُ الحُمْقِ في
تَضاعيفِها مَصقولةٌ، وبِعْثاتُ الحَقائقِ دونَها معقولةٌ.
وقال إمامُ الحرمَينِ أيضًا: وهذا الجاهلُ الغِرُّ، المُتمادي
في الجَهلِ المُصِرُّ، يتطلَّعُ إلى الرُّتَبِ الرفيعةِ بالدَّأْبِ في
المطاعنِ في الأئمةِ والوقيعةِ.
وقال إمامُ الحرمينِ أيضًا: صدَّرَ هذا الأحمَقُ البابَ
بالمعهودِ مِن شَتمِه، فأُفٍّ له ولخرَقِه، فقد -واللهِ- سئِمْتُ البحثَ عن
عَوارِه وإبداءِ شَنارِه.
وقال الإمامُ أيضًا: وقد كسا هذا التَّيْسُ الأئمةَ صِفاتِه.
وقال الإمامُ أيضًا: أبدى هذا الأحمَقُ كَلامًا ينقُضُ آخِرُه أوَّلَه في
الصفاتِ، وما يَنبغي لمِثلِه أنْ يتكلَّمَ في صفاتِ اللهِ -تعالى- على
جَهلِه وسَخافةِ عَقلِه.
وقال الإمامُ أيضًا: قد ذكَرَ هذا اللعينُ الطَّريدُ المَهينُ
الشَّريدُ فُصولًا، وزعَمَ أنَّ الأشعريةَ يَكفُرون بها، فعليه لَعائنُ
اللهِ تَتْرى، واحدةً بعد أخرى، وما رأيتُ جاهلًا أجسَرَ على التكفيرِ،
وأسرَعَ إلى التحكُّمِ على الأئمةِ من هذا الأخرَقِ.
وتكلَّمَ السِّجْزيُّ في النُّزولِ والانتقالِ والزَّوالِ
والانفصالِ والذَّهابِ والمَجيءِ، فقال الإمامُ: ومَن قال بذلك حَلَّ
دَمُه، وتبرَّمَ الإمامُ كثيرًا من كلامِه معه"[26].
ونقَلَ الكَوْثريُّ عن أبي جَعفرٍ اللَّبَليِّ الأندَلُسيِّ
أنه قال في فَهرسْتِه: "وكذلك اللَّعينُ المعروفُ بالسِّجْزِيِّ فإنه
تصدَّى أيضًا للوُقوعِ في أعيانِ الأئمةِ وسُرُجِ الأمَّةِ، بتأليفٍ تالفٍ،
وهو على قِلَّةِ مِقدارِه، وكَثرةِ عَوارِه يَنسُبُ أئمَّةَ الحقائقِ
وأحبارَ الأمَّةِ وبُحورَ العلومِ إلى التَّلبيسِ والمُراوغةِ والتَّدليسِ،
وهذا الرَّذْلُ الخَسيسُ أحقَرُ من أنْ يُكترَثَ به ذَمًّا، ولا يضُرُّ
البَحرَ الخِضَمَّ وَلْغةُ كَلبٍ"[27].
وما قرَّره السِّجْزيُّ في رِسالتِه من إثباتِ الحَرفِ
والصَّوتِ ليس خاصَّا به, بل هو الذي يُقرِّرُه أئمةُ أهلِ السُّنَّةِ في
مُؤلَّفاتِهم المشهورةِ, فالحُكمُ عليه بالبدعةِ والخروجِ من السُّنَّةِ
ليس خاصُّا به, بل هو شاملٌ لكلِّ مَن وافَقَه وقرَّرَ مِثلَما قرَّرَ.
وهذا الحُكمُ يُؤكِّدُ بوُضوحٍ على أنَّ أئمةَ المذهبِ
الأشعريِّ يَعُدُّون الخلافَ بينهم وبين أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ خِلافًا
حقيقيًّا ومَنهجيًّا، وليس مُجرَّدَ خِلافٍ لفظيٍّ فحَسْبُ.
الأمرُ الخامسُ: موقِفُهم منِ ابنِ تَيْميَّةَ وابنِ القَيِّمِ وغَيرِهما:
حين قامَ ابنُ تَيْميَّةَ بنُصرةِ مَذهبِ أهلِ السُّنَّةِ في
العقائدِ، وشرَعَ في تأليفِ الكُتُبِ المُطوَّلةِ والمُختصَرةِ في شَرحِه
وبَيانِه؛ أدرَكَ عُلماءُ الأشاعرةِ في زَمنِه أنَّ ما يقومُ به مخالفٌ
ومناقضٌ لأصولِهم وعَقائدِهم؛ ولهذا سعَوْا إلى مَنعِه والتضييقِ عليه, وقد
جرَتْ بينه وبينهم مُناظَراتٌ شهيرةٌ حول بعضِ تلك المُؤلَّفاتِ.
ومن أَشهرِها: المُناظرةُ حول العقيدةِ الواسِطيَّةِ, فقد
قرَّرَ ابنُ تَيْميَّةَ في هذه العقيدةِ جُمَلًا مُختصَرةً كُلِّيَّةً مما
كان عليه أئمةُ أهلِ السُّنَّةِ من الاعتقادِ, ولم يَذكُرْ شَيئًا خاصًّا
به, وكان واثقًا من مُوافقتِه لما كان عليه السَّلَفُ, ولهذا تحدَّى
عُلَماءَ الأشاعرةِ في زمَنِه فقال لهم: "قد أَمهَلْتُ كُلَّ مَن خالفَني
في شيءٍ منها ثلاثَ سِنينَ، فإن جاءَ بحرفٍ واحدٍ عن أحدٍ من القرونِ
الثلاثةِ"[28].
ومع ذلك فقد كان عُلماءُ الأشاعرةِ مُدركين أنَّ ما هم عليه
متناقِضٌ مع ما جاءَ في تلك العقيدةِ، وخاصَّةً في بابِ الأسماءِ والصفاتِ،
وبابِ الإيمانِ وغيرِها.
وكذلك المُناظرةُ التي كانتْ حولَ العقيدةِ الحمَويَّةِ, التي
ألَّفَها ابنُ تَيْميَّةَ ليُثبِتَ الصِّفاتِ الاختياريةَ وصِفةَ
الاستواءِ, فقد أدرَكَ علماءُ الأشاعرةِ أنَّ ما جاءَ في هذه العقيدةِ
مُناقِضٌ لما هم عليه, ولهذا سعَوْا إلى مُناظرتِه والتضييقِ عليه، وألَّفَ
بعضُهم كُتُبًا في نَقضِ ما جاء فيها.
ولم يَكتَفِ بَعضُهم بالردِّ عليه، بل تجاوَزَ ذلك إلى حَبسِه
ومَنعِه من الإفتاءِ, بل تجاوَزَ بَعضُهم ذلك إلى الحُكمِ بتكفيرِه
والحُكمِ عليه بالخُروجِ من الإسلامِ، وبوُجوبِ قَتلِه.
وأمَّا ابنُ القيِّمِ فهو أيضًا لم يَسلَمْ من معارضةِ
عُلماءِ الأشاعرةِ له، ولا من تَضييقِهم؛ فإنَّه حين ألَّفَ النونيَّةَ،
وقرَّرَ فيها عقيدةَ أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ, بادَرَ بعضُ عُلماءِ الأشاعرةِ
إلى الردِّ عليه، وإلى نَقضِ ما جاء فيها, وعَدَّها عقيدةً بِدْعيَّةً
خارجةً عن السُّنَّةِ, كما صنَعَ السُّبْكيُّ الأبُ في كتابِه "السَّيفِ
الصَّقيلِ".
وممَّن هاجَمَه علماءُ الأشاعرةِ وضيَّقوا عليه: الإمامُ
عَبدُ الغنيِّ المَقدسِيُّ؛ فإنه كانَ مُتِّبعًا للإمامِ أحمدَ ومُعجَبًا
به جِدًّا, وكان يُحدِّثُ في مسجِدِ دِمَشْقَ، ويُقرِّرُ في بابِ الصِّفاتِ
والقرآنِ ما كان عليه أئمةُ أهلِ السُّنَّةِ, من أنها تثبُتُ من غيرِ
تحريفٍ ولا تشبيهٍ, كما هو ظاهرٌ وجلِيٌّ في كتابِه (الاقتصاد في
الاعتقادِ), فقام عليه بعضُ علماءِ الأشاعرةِ في زَمَنِه، وشكَوْه إلى
الأميرِ، وحكَموا عليه بالكُفرِ وأفتَوْا بقَتلِه[29].
وهذه المواقفُ تؤكِّدُ بوُضوحٍ على أنَّ علماءَ الأشاعرةِ
مُدركونَ أنَّ الخلافَ بينهم وبين أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ خلافٌ حقيقيٌّ
منهجيٌّ، وليسَ مُجرَّدَ خلافٍ لفظيٍّ فحَسْبُ.
المذهبُ الأشعريُّ والانتسابُ إلى السَّلَفِ:
أكثَرَ أئمةُ المذهبِ الأشعريِّ من الانتحالِ لمذهبِ أهل
السُّنَّةِ في مُؤلَّفاتِهم، ومن دَعْوى أنهم المُحقِّقون لما كان عليه
الصحابةُ ومَن جاءَ بَعدَهم من أئمةِ الدِّينِ[30].
وفي المقابِلِ فإنَّهم يؤكِّدون كثيرًا على أنَّ ما قرَّرَه
أئمةُ أهلِ السُّنَّةِ المشهورون, كابنِ خُزَيْمةَ وعبدِ اللهِ ابنِ
الإمامِ أَحمدَ وابنِ مَنْدَهْ وابنِ عبدِ البَرِّ والأَصْفهانيِّ وابنِ
أبي زَمَنِينَ وأبي بكرٍ الإسماعيليِّ والصابونيِّ، وغيرُهم كثيرٌ، وصولًا
إلى ابنِ تَيْميَّةَ وابنِ القَيِّمِ، لا يُمثِّلُ حَقيقةً ما كان عليه
الصحابةُ وأئمةُ الدِّينِ مِن بَعدِهم, وأنَّ ما هو مُقرَّرٌ في تلك
المُؤلَّفاتِ يُعَدُّ انحرافًا وخُروجًا عن طريقتِهم التي كانوا عليها.
والكَشفُ عمَّا في هذا الكلامِ من خلَلٍ منهجيٍّ وعَقَديٍّ
يحتاجُ إلى تفصيلٍ وكلامٍ مُطوَّلٍ, ولكن نُريدُ في هذا المَقامِ التأكيدَ
على أنَّ هذه الدعوى من قِبَلِ الأشاعرةِ لا تدُلُّ بمُجرِّدِها على أنهم
هم المُحقِّقون لما كان عليه الصحابةُ وأئمةُ الدِّينِ, ويُمكِنُ أنْ
يُوضَّحَ هذا الكلامُ بالأوجُهِ التاليةِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ المرءَ لا يكونُ
مُحقِّقًا للسُّنَّةِ وما لما كان عليه السَّلَفُ الصالحُ بمجرَّدِ
الانتسابِ, ولو كان هذا القدرُ كافيًا لكانت أكثَرُ الفِرَقِ العَقَديَّةِ
مُحقِّقةً للسُّنَّةِ؛ لكونِها تُنسَبُ إليها وإلى ما كان عليه السَّلَفُ,
فالانتسابُ إلى الصحابةِ، وادعاءُ الموافقةِ التامَّةِ لهم ليس خاصًّا
بالأشاعرةِ, بل هو شأنٌ عامٌّ في أشهَرِ الطوائفِ العَقَديَّةِ, فالمعتزلةُ
-الذين يَعُدُّهم الأشاعرةُ ضُلَّالًا، وبعضُهم يَحكُمُ عليهم بالكُفرِ-
يَنتسِبون إلى السُّنَّةِ، ويدَّعون أنهم هم المُمثِّلون للحقِّ, فقد
أكَّدَ القاضي عبدُ الجَبَّارِ على أنَّ التمسُّكَ بالسُّنَّةِ هو طريقةُ
المعتزلةِ[31].
ونُقِلَ عن محمدِ بنِ يَزداذَ الأصبهانيِّ: "أنَّ المعتزلةَ
هم المقتصِدون, فاعتزلَتِ الإفراطَ والتقصيرَ, وسلكَتْ طريقَ الأدلَّةِ,
وذكَرَ أنَّ المعتزلةَ الأُولى هم أصحابُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"
[32], وعقَدَ فصلًا قال فيه: "فصلٌ في نِسبتِهم المعتزلةَ إلى الخُروجِ عن
التمسُّكِ بالسُّنَّةِ والجماعةِ, وأنهم ليسوا من أهلِ السُّنَّةِ
والجماعةِ" وجاء فيه "فالمُتمسِّكُ بالسُّنَّةِ والجماعةِ هم أصحابُنا دون
هؤلاء المُشغِّبين"[33].
والمُحصَّلُ من هذا: أنَّ مجرَّدَ الانتسابِ إلى السَّلَفِ
ليس دليلًا كافيًا في إثباتِ تحقيقِ السُّنَّةِ, وإنما لا بُدَّ مع ذلك من
الموافقةِ التامَّةِ لما كانوا عليه من العقائدِ والمنهَجِ في الاستدلالِ
والنظَرِ.
الوجهُ الثاني: وإذا كان تحقيقُ الانتسابِ
إلى السُّنَّةِ لا بُدَّ فيه من التوافُقِ التامِّ مع ما كان عليه الصحابةُ
والأئمةُ من بعدِهم, فإنَّ حالَ المعتزلةِ والأشاعرةِ لا يتوافَقُ مع هذا
الشرطِ, فقد وقَعوا في خلَلٍ مَنهجيٍّ كبيرٍ في مُحاولتِهم إثباتِ صِحَّةِ
انتسابِهم؛ لأنهم وقَعوا في عمليةٍ اختزاليَّةٍ ضخمةٍ للنصوصِ والمقالاتِ
المَرويَّةِ عن السَّلَفِ, حيثُ إنهم لم يعتمدوا على كلِّ النصوصِ، ولم
يَجمَعوا بين كلِّ ما صحَّ عنهم, وإنما أبرَزوا النصوصَ التي يوهِمُ
ظاهِرُها الدَّلالةَ على ما هم عليه، وأغفَلوا النظَرَ عن النصوصِ الأخرى
الكثيرةِ المناقضةِ لأصلِ مَذهبِهم، أو قاموا بتأويلها وصَرفِها عن ظاهرِها
كما في نصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ.
فتجِدُ المُعتزلةَ يورِدون نُصوصًا عديدةً عن الصحابةِ
والتابعين، ليُثبِتوا أنَّهم يقولونَ بقولِهم في بابِ الصِّفاتِ والقدَرِ
والإيمانِ[34], وأعرَضوا عن عشَراتِ النصوصِ والمقالاتِ الأخرى التي تدُلُّ
على نقيضِ ما هم عليه.
وكذلك الأشاعرةُ تجِدُهم يعتمِدون على النصوصِ والمقالاتِ
المُجمَلةِ الواردةِ عن بعضِ السَّلَفِ؛ ليُثبِتوا أنهم مُفوِّضةٌ في
الصفاتِ, ويُعرضون عن عشَراتِ النصوصِ الأخرى التي تدُلُّ دَلالةً واضحةً
على أنهم يُثبِتون معانيَ للصفاتِ الإلهيَّةِ من غيرِ تشبيهٍ بصفاتِ
المخلوقينَ[35].
وقد حاوَلَ بعضُ المعاصرينَ منهم أنْ يُثبِتَ صِحَّةَ نِسبةِ
التفويضِ إلى السَّلَفِ، فبادَرَ إلى جمعِ نصوصٍ كثيرةٍ للسَّلَفِ[36],
ولكنْ حين نتأمَّلُ في تلك النصوصِ نجِدُه انتقى من كلامِ الأئمةِ النصوصَ
المُجملةَ، واعتمَدَ عليها, ثم إنَّه أعرَضَ عن نصوصٍ كثيرةٍ هي أوضَحُ في
المعنى، وأحكَمُ في الدَّلالةِ؛ لكونِها تخالِفُ ما يريدُ التوصُّلَ إليه,
وكثيرٌ من أعلامِ العُلماءِ الذين نقَلَ عنهم لهم نصوصٌ أخرى تدُلُّ على
نقيضِ ما نسبَه إليهم.
وأما في بابِ الإيمانِ فقد صرَّحَ بعضُهم أنَّ قولَ الأشاعرةِ
مُخالفٌ لقولِ أهلِ الحديثِ ومناقضٌ له, كما فعَلَ الجُوَينيُّ[37],
وبعضُهم حاوَلَ أنْ يُؤوِّلَ ويُعدِّلَ في مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ
ليكونَ مُتوافقًا مع مذهبِ الأشاعرةِ في الإيمانِ، كما صنَعَ تاجُ الدِّينِ
السُّبكيُّ[38].
وإذا تجاوَزْنا اختِزالاتِ المذهبِ الاعتزاليِّ والمذهبِ
الأشعريِّ في التعامُلِ مع نصوصِ الأئمةِ ومقالاتِهم، وانتقَلْنا إلى
مُؤلَّفاتِ أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ, كالتوحيدِ لابنِ خُزَيْمةَ، والسُّنَّةِ
لعبدِ اللهِ ابنِ الإمامِ أحمدَ، والإبانةِ لابنِ بَطَّةَ، والشريعةِ
للآجُرِّيِّ، وشرحِ اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ لِلَّالَكائيِّ
وغيرِها، نجِدُ الأمرَ مُختلِفًا, فإنهم قاموا بجمعِ كلِّ ما جاءَ عن
السَّلَفِ من نصوصٍ ومقالاتٍ, وقاموا بتَرتيبِها وتَبويبِها وتنسيقِها,
وسعَوْا إلى شرحِ معناها وتقريبِ مَفهومِها, وبادروا إلى الجوابِ عما
أَوْهمَ التعارُضَ بين بعضِ الظواهرِ في تلك النصوصِ (وهو قليلٌ)،
والترجيحُ بين مُختلِفاتِها, ولم يَختزِلوا منها شيئًا ولم يُبرِزوا منها
نوعًا دون نوعٍ.
وهذا يؤكِّدُ أنهم هم المُحقِّقون لمذاهبِ الأسلافِ، والجامعونَ لعُمومِ أقوالِهم، فهم الأجدَرُ في تحريرِ عقائدِهم ومناهجِهم.
أئمةُ المذهبِ الأشعريِّ والتعدُّدِ في مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ:
اختلفَتْ مناهجُ عُلماءِ الأشاعرةِ في تحديدِ مَن يَشمَلُهم
وصفُ أهلِ السُّنَّةِ, فمنهم مَن يظهَرُ مِن كَلامِه أنَّ لقَبَ أهلِ
السُّنَّةِ لا ينطبِقُ إلَّا على أتباعِ المذهبِ الأشعريِّ فقَطْ[39],
ومنهم مَن ذهَبَ إلى أنَّ مَن يشمَلُهم ذلك الوصفُ طوائفُ مُتعدِّدةٌ, ومَن
ذهَبَ إلى هذا القولِ اختلفَتْ آراؤُهم, فمنهم مَن ذكَرَ أنَّ مذهبَ أهلِ
السُّنَّةِ تندرِجُ ضِمنَه ثمانِ طَوائفَ, كما فعَلَ عبدُ القاهرِ
البَغداديُّ[40], ومنهم مَن جعَلَ الأصنافَ المُندرجةَ ضِمْنَه صِنفينِ
فقَطْ, وهما: الأشاعرةُ والسلفيَّةُ من أهلِ الحديثِ, كما فعَلَ
الآمِدِيُّ[41], ومنهم مَن جعَلَهم صِنفينِ, وهما: الأشاعرةُ
والماتُريديَّةُ[42], وأما بعضُ المتأثِّرينَ بالمذهبِ الأشعريِّ من
الحنابلةِ، فقد جعَلَ أهلَ السُّنَّةِ ثلاثَ طوائفَ: الأشعريَّةَ
والماتُريديَّةَ والأثريَّةَ, كما فعَلَ السَّفارينيُّ[43].
وليس المقصودُ هنا مُحاكمةَ صِحَّةِ هذا التعدُّدِ المُدَّعى,
وإنما المقصودُ التنبيهُ على الخلَلِ المنهجيِّ الذي وقَعَ فيه بعضُ
الأشاعرةِ؛ فإنَّه ادَّعى أنَّ هناك صِنفًا من السلفيَّةِ مُتوافقًا معه,
ثم لم يذكُرْ لنا النصوصَ الواضحةَ البيِّنةَ لذلك الصِّنفِ، ولا المقالاتِ
البيِّنةَ التي تُثبتُ صحَّةَ دَعواه, والآمِدِيُّ حين شرَعَ في شرحِ
الأصولِ التي اتفَقَ عليها الأشعريَّةُ والسلفيَّةُ من أهلِ الحديثِ لم
يذكُرْ إلا جُمَلًا كُلِّيَّةً وعامَّةً جدًّا، وهي في مُجملِها سائرةٌ على
طريقةِ الأشاعرةِ, ولم يُعرِّجْ على القضايا الإشكاليَّةِ التي وقَعَ فيها
الأشاعرةُ, فأَوْهمَ بأنه لا خلافَ بين الصِّنفينِ, مع أنَّ الصِّنْفَ
الآخَرَ وَهْمٌ لا وجودَ له في الواقعِ[44].
خاتمةٌ: ليس إلَّا خيارانِ لا ثالثَ لهما:
ظهَرَ لنا من خلالِ هذه الورقةِ أنَّ أئمةَ أهلِ السُّنَّةِ،
وعلماءَ الأشاعرةِ مُجمِعون على أنَّ الخلافَ بينهم خلافٌ منهجيٌّ
وجَوْهريٌّ؛ ولأجلِ هذا سعى كلُّ طرَفٍ منهما إلى إخراجِ الطرَفِ الآخَرِ
من السُّنَّةِ, وهذا يؤكِّدُ على أنه ليس إلا واحدٌ من خِيارينِ لا ثالثَ
لهما: إمَّا أنْ يكونَ المذهَبُ الذي قرَّرَه أئمةُ أهلِ السُّنَّةِ هو
المذهبَ الحقَّ المُحقِّقَ لما كان عليه الصحابةُ والتابعون ومَن جاء
بعدَهم, وإمَّا أنْ يكونَ المذهبُ الذي يُقرِّرُه أئمةُ المذهبِ الأشعريِّ
هو الحقَّ المُحقِّقَ لما كان عليه الصحابةُ والتابعون ومَن جاءَ بعدَهم.
وأمَّا الخِيارُ الثالثُ, وهو مُحاولةُ الجمعِ بين المذهبينِ
وادِّعاءُ أنَّ كُلًّا منهما مُمثِّلٌ للسُّنَّةِ، وأنَّ الخلافَ بينهما
خلافٌ لفظيٌّ فحَسبُ, فهو رأيٌ خطأٌ ومخالفٌ لإجماعِ الفريقينِ ومخالفٌ
لواقعِ المذهبينِ ولمنهجِهما الاستدلاليِّ والنظَريِّ.
وظهَرَ أيضًا أنَّ الحرصَ على التمايُزِ بين المذهبينِ ليس
ناتجًا من قِبَلِ أهلِ السُّنَّةِ فقطْ, بلِ الأشاعرةُ أيضًا لديهم حِرصٌ
شديدٌ على إظهارِ التمايُزِ بينهم وبين من يُسمُّونَهم الحَشْويَّةَ
والمُجسِّمةَ.
وظهَرَ أيضًا أنَّ الوضوحَ في التمايُزِ بين المذهبينِ لم
يَبدَأْه ابنُ تَيميَّةَ, وإنما هو موجودٌ مِن قَبلِه, ومنتشرٌ في
مُؤلَّفاتِ الأشاعرةِ بشكلٍ كبيرٍ جدًّا.
وظهَرَ أيضًا أنَّ الصراعَ بين المذهبينِ ليس مُقتصرًا على
الحنابلةِ والأشاعرةِ فحَسبُ, وإنما اشترَكَ فيه عددٌ من أئمةِ أهلِ
السُّنَّةِ من سائرِ المذاهبِ, فابنُ خُزَيْمةَ ليس حنبليًّا، وإنما هو من
أئمةِ المذهبِ الشافعيِّ, وكذلك أبو حامدٍ الإسفَرايينيِّ الذي كان شديدًا
على الأشعريِّ وأتباعِه كان من الشافعيةِ أيضًا, وأبو نَصرٍ السِّجْزيُّ
الذي ردَّ عليه الأشاعرةُ ليس حنبليًّا، وإنما هو من علماءِ المذهبِ
الحنَفيِّ كما يدُلُّ عليه عددٌ من المُؤشِّراتِ, وكذلك عددٌ كبيرٌ من
أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ ليسوا من الحنابلةِ.
( [1] ) المِلَلُ والنِّحلُ (1/91).
( [2] ) الإرشادُ إلى قواطعِ الأدلةِ في أصولِ الاعتقادِ (125).
( [3] ) المرجعُ السابقُ (85).
( [4] ) الاقتصادُ في الاعتقادِ (72).
( [5] ) غايةُ المَرامِ في علمِ الكلامِ (311).
( [6] ) انظر: الإرشادُ إلى قواطعِ الأدلةِ في أصولِ الاعتقادِ (333).
( [7] ) التفسيرُ الكبيرُ (8/56).
( [8] ) الإبهاجُ في شرحِ المنهاجِ (1/361).
( [9] ) انظر: الفُروقَ، القَرافيُّ (4/271).
( [10] ) انظُر: الشامِل في أصولِ الدِّينِ، الجُوَيْنيُّ (288).
( [11] ) الشاملُ في أصولِ الدِّينِ (511).
( [12] ) طَبَقاتُ الشافعيةِ (5/192).
( [13] ) التفسيرُ الكبيرُ (7/218).
( [14] ) المرجعُ السابقُ (7/470).
( [15] ) المرجعُ السابقُ (7/422).
( [16] ) انظُرْ: مُغنِي المُحتاجِ، للشرينيِّ (4/134).
( [17] ) انظر: الإبانة، الأشعريُّ (105، 120) ، والإنصافَ، البَاقِلانيُّ (24) والتمهيدَ (260).
( [18] ) انظر في جمعِ تلك المواقفِ: نُبذة لطيفة في ردِّ بعض تشغيباتِ المُعطِّلةِ على الإمامِ ابنِ خُزَيمةَ، صادق سليم.
( [19] ) مُشْكِلُ الحديثِ وبَيانُه (167).
( [20] ) التفسيرُ الكبيرُ (9/582).
( [21] ) إيضاحُ الدليلِ في قَطعِ حُججِ أهلِ التعطيلِ (203).
( [22] ) ردُّ ابنِ جَهْبَلٍ على الفتوى الحمَويَّةِ (112).
( [23] ) القولُ التمامُ بثباتِ التفويضِ مذهبًا للسَّلَفِ، سيف العصري (179).
( [24] ) التوحيدُ (26).
( [25] ) مُقدمِّتُه لكتابِ: الأسماء والصفات للبَيهقيِّ.
( [26] ) السيفُ الصقيلُ (25).
( [27] ) المرجعُ السابقُ 26- حاشية.
( [28] ) مجموعُ الفَتاوى (3/169).
( [29] ) انظرِ القِصَّةَ بطولِها: سِيَرُ أعلامِ النُّبلاءِ، الذهبيُّ (21/458-364).
( [30] ) انظر: التبصِرة في الدينِ، الإسفَرايينيُّ (153)،
والمقصِد الأسنى في شرحِ الأسماءِ الحُسْنى، الغزاليُّ (157)، والتفسيرَ
الكبيرَ، الرازيُّ (14/186)، وغيرها كثيرٌ جدًّا.
( [31] ) انظُرْ: فضلَ الاعتزالِ وطبَقاتِ المعتزلةِ (156).
( [32] ) المرجعُ السابقُ (185).
( [33] ) المرجعُ السابقُ (186).
( [34] ) انظُرْ مثَلًا: طبَقاتِ المعتزلةِ، ابنُ المُرتضى (120-130).
( [35] ) انظُرْ في جمعِ بعضِ تلك النصوصِ: الأشاعرةُ في ميزانِ أهلِ السُّنَّةِ، فيصل الجاسم (89-143).
( [36] ) انظر: القول التمام بإثباتِ التفويضِ مَذهبًا للسَّلفِ، سيف العصري (165) وما بعدها.
( [37] ) انظر: الإرشاد (333)
( [38] ) انظر: طَبَقات الشافعيَّةِ (1/ 98, 102، 129).
( [39] ) انظرْ عقيدة أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ -ضِمْنَ شَرحِ اللُّمَعِ (1/111).
( [40] ) انظر: الفَرْق بين الفِرَقِ (113).
( [41] ) انظُرْ: أبكارُ الأفكارِ (5/96).
( [42] ) انظر: الفَتاوى الحديثية، ابنُ حجَرٍ الهَيتميُّ (370)، وإتحاف السادةِ، الزُّبيديُّ (2/6).
( [43] ) لوامعُ الأنوارِ(73).
سلطان بن عبدالرحمن العميري
29 من جمادى الآخرة 1434هـ
-
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..