الأربعاء، 13 مايو 2020

مقالان حول بطلان ما ينسب للدعوة الإصلاحية السلفية من التكفير

 أعيد نشرهما على أثر الجدل الدائر بعد حلقة الليوان 
ورقات حول الدرر السنية
بسم الله الرحمن الرحيم   

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.  وبعد:
      يتداول الناس هذه الأيام الحديث عن كتاب

الدرر السنية ماله وما عليه ، وخاصة ما يتعلق باتهام بعضهم هذا الكتاب بأنه وراء ما ابتُلِيَ الناسُ به هذا الأوان من فتنة الغلو في التكفير وما نشأ عنه من ظهور الجماعات المتطرفة التي ابتليت بها الدعوة الإسلامية . 

وعلى أني لا أرى أن يُشغَل الناسُ بهذه القضايا التي لا تزيدهم في دينهم شيئاً ، بل ربما نقصته ،وهذا ما يوصل إليه عادةً الخوضُ في عويص مسائل العلم  مع قلة البضاعة وتهافت المُقِلِّين ، إلا أن الأمر لما اتسع رأيت أن أكتب هذا التعليق ، وأتجنبَ فيه الغوص في القضايا العلمية الدقيقة وأتحدث من منطلق السجية التي أظنها لن تَثْقُل على من ثقلت عليه دقائق العلم .

مع تكرار وصيتي لعموم الناس ترك الخوض في قضايا التكفير فإنها لا تزيد القلوب إلا غلظة ولا المسلمين إلا تشتتاً ، ومع هذا فكلامُ العلماء منذ عصر أئمة المذاهب الأربعة  وحتى يومنا هذا في مسائل التكفير فيه من الإجمال والإطلاق والتعميم ما جعل إدراك التحرير الدقيق لمذهبهم عسيراً على كثير من العلماء ، وهذا هو الشأن في عدد من المسائل الخطيرة التي لم يكن العلماء يتكلمون فيها إلا نزراً وفي مناسبات محدودة ، الأمر الذي جعل صغار الطلاب حين تصدوا له يموجون بين غالٍ في التكفير وبين مُرْجئ خطير ، ويكفينا في التحذير منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يرشد الناس إلى ما هو شرك أو كفر من الأعمال والأقوال ليَحْذر كل منهم  أن يقع فيه ، لا ليتولى بعضهم تكفير بعض ، ولم يكن يرشد إليها  ، وكذلك كان الخلفاء الراشدون من بعده وبقية الصحابة رضي الله عنهم  ، لذا كان تعليم الناس ما يدعوهم إلى العمل من إخلاص العبودية لله تعالى وتفقيههم في مسائل الإيمان والعبادات والسنن وما يقربهم إلى الله تعالى من البر وحسن الخلق هو ما ينبغي أن يشتغل الجميع به ، ويبقى أمر تكفير الأعيان والجماعات في أضيق حدوده منوطاً بكبار أهل العلم والقضاء .

ولا أعني فيما قلت الحكم بكفر أمثال اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين ، فهؤلاء ثبت كفرهم في أصل الدين ، لذلك سُمُّوا بالكفار الأصليين ، بل أعني من يعتنقون الإسلام ثم يرتكبون شيئاً من نواقضه جهلاً أو خوفاً أو لشبهة أو لمطامح دنيوية .

فهؤلاء هم الذين أُوصِي طُلَّاب العلم فضلاً عن عوامَ المسلمين بالبعد عن الخوض في حالهم ، كما أوصي أهلَ العلمِ أن يُجنبوا الناس الوقوع فيها ، ويجعلوا نقاشهم لها في الدوائر العلمية الضيقة ، من معاهد علمية ومجامع فقهية ودوريات بحثية متخصصة ، فإنهم مؤتمنون على عقول الناس وأديانهم ، وما أوقع الأمة في كثير مما وقعت فيه اليوم إلا نثر المضنوون به على غير أهله . 

وما أحسن ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ) ومثلها مقالة ابنِ مسعود رضي الله عنه : (ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ) 

وأَعْلَمُ أن عدداً من أساتذتنا وإخواننا كتبوا في هذا الموضوع  ما هو أتم في سياقه ومسلك بحثه مما أكتبه ، لكن أهمية المسألة وانتشار طرحها عند من يجيل النظر في الحقائق ومن لا يفعل دعتني إلى الكتابة وإن تطابقت الأفكار والآراء والنقولات .

 

 

١-إن أعظمَ كتابٍ وأحكمَه وأبلغَه وأهداه وأرشده ، كتابُ الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ومع ذلك يستدل منه الغالي المكفر والمفرط المرجئ ، والقدري والجهمي ، وذلك كله حين لا يردون متشابهه إلى محكمه ، ولا يعتبرون أصول الاستدلال وحقائق معاني الكلام ، وحين يغلب المرض على قلوبهم ويبتغون الفتنة كما قال تعالى : 

  (هو  الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب )

ومع هذا يحرُمُ أن نقول : إن القرآن هو سبب البدع ومرجع المبتدعين ، وإذا صدق هذا على القرآن فهو على ما دونه من القول أصدق. 

فأهل الغلو حين ينقلون عن الدرر السنية فهم ينقلون أيضاً عن القرآن ، وكان أسلافهم من الحرورية وأهل النهروان حينما ناظروا علياً وابن عباس رضي الله عنهما إنما ناظروهم بالقرآن . 

٢-قبل أن أنسب فكر الغلاة وأهل الخروج إلى الدرر السنية أو أنفي ذلك عنها ، سوف أُحاول تقدير الوضع لو لم تُؤَلَّف الدرر السنية من أساسها ، هل سيكون هناك خوارج وغلاة أم لا؟ 

 والذي يبدو لكل متابع للتاريخ : أن المتمردين على الحكام تنطعاً باسم الدين ظهروا في أعدل زمان وأرغده عيشاً وأعني عهدَ ذي النورين رضي الله عنه فحصروا بيته في مدينة رسول الله التي حرمها كما حرم الله مكة واستحلوا دمه ، وخرج الخوارج على رابع العشرة المبشرين بالجنة فقطعوا السبيل وأخافوا المسلمين وكفروا رابع الخلفاء الراشدين . 

ولم يزل الغلو في الدين وفتن الخوارج تتوالى في المسلمين في عهد معاوية ومن بعده من خلفاء بني مروان ، هذا والشريعة مقامة وراية الجهاد مرفوعة من الصين وحتى نهر السين ، وظهروا في عهد بني العباس ودولة هارون الرشيد الذي نتغنى اليوم بحجه وغزوه وصوائفه وشواتيه وعزِالإسلام في زمانه وسحابتِه التي أينما أمطرت يأتيه خراجها. 

ولاشك عندي أن تلك العصور في عز الدين أزهى من عصرنا هذا ، فإذا كان الغلاة والخوارج ظهروا فيها بغير درر سنية أو دنية ، فعصرنا أولى بظهورهم من تلك العصور ولو لم  تُجْمَع الدررُ السنية بل ولو لم يولد من كتبوها . 

وهذا مقتضى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يزالون يخرجون حتى يقاتل آخرهم مع الدجال . 

 ٣- أياً ما قلنا عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأدبياتها التي جمعتها هذه الدرر ، فإنها  هي الدعوة الوحيدة التي استطاعت تكوين دولة على أساس العصبية للتوحيد لا لغيره في حين فشلت جميع الحركات الإسلامية في فعل ذلك من بعد عهد الخلفاء الراشدين وحتى يومنا هذا ، لا يشاركها هذا الفضل سوى دولة المرابطين في بلاد المغرب التي قامت على أساس إقامة الشرائع وتوحيد الأقطار ، لكنها كانت ضعيفة العَدْوِ في مضمار تخليص الدين من شوائب الشرك والخرافة  ، ولو تتبعنا التاريخ لوجدنا كل الدول التي نشأت بعد دولة الخلفاء الراشدين لم تتكون على أساس العصبية للدين والتوحيد ، فدولة بني أمية على عظمتها وقيامها الجميل بأمر الدين والجهاد تأسست على العصبية للمروانية والمضرية ، ودولة بني العباس على ما فيها من خير وفضل تأسست على أساس النزعة  الشعوبية ثم شعار الرضى من آل محمد ، واختبر التاريخ تجد صحة ما ذكرتُ. 

بل حتى دولة السلاجقة ومن بعدها الدولة الأيوبية ، بالرغم مما قدمتاه من إنجازات للإسلام والمسلمين ، إلا أن أساس قيامهما وعزهما وقوتهما لم تكن دعوة التوحيد . 

وكانت الدولة الغزنوية في عهد محمود بن سبكتكين معظمة للدين والشريعة والجهاد لكن أساس قيامها كان تغلب سبكتكين ومن بعده ابنه محمود على ما تحت ولايتهم من السلطنة السامانية .

ولكون تلك الدول الكثيرة لم تقم على عصبية التوحيد لم يتحقق منها للمسلمين نفع في جانب إحياء السنة وإماتة البدعة وقتل الخرافة ومحو مظاهر الشرك ، بل ظلت البدع رغم توالي الدول القوية في تزايد حتى كاد يذهب رسم التوحيد من كل بلاد الإسلام ، أما هذه الدولة التي قامت على عصبية التوحيد ، فقد نفع الله بها المسلمين كافة ، وانتشر ببركة الله لها وبسببها الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في شتى بقاع المسلمين ، ولا نعرف عصراً من العصور وقف فيه المسلمون في وجه الخرافة ومظاهر الشرك بالله واستناروا بالعقل وبالتوحيد مثل عصور ما بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

٤- والعجب ممن يفرق بين الدعوة والدولة ويرى أن ما بينهما إنما هو حِلف يمكن الانفكاك منه ، فمن هذا قوله غافل عن فقه التاريخ لأن مابين الدولة والدعوة هو عصبية النشأة واساسها ، وكل دولة تنفك عن عصبية نشأتها لا تقوم لها بعد ذلك قائمة . 

كيف لا وقد كان أجداد محمد بن سعود أمراء في الدرعية وغيرها قبل الدعوة بقرون ، ولم يتسن لهم التمكين ولم تَنْقَدْ لهم القلوب وترتاض لهم سباع الجزيرة إلا بالدعوة.    

٥- الدرر السنية في الأجوبة النجدية ، ستة عشر مجلداً ، لفت نظري أن أكثر من يُعلقون تعصباً عليها في المواقع الإلكترونية لا يعرفونها ، ومنهم من لم يعرف حتى اسمها إلا بعد أن برز الحديث عنها ، فتأكد لي أن كثيراً من السهام التي تتعرض لها هذه المجلدات منشؤها تعصبٌ ضد المنهج أو ضد حامليه ، وجد له متنفساً للظهور فأخرج أنفه ، حاشا قليل جداً من طلبة العلم الذين لهم رأي حقيقي في بعض ما تضمنته تلك من أحكام فهؤلاء أبرزوا رأيهم بكل وضوح ، فإن لم يكن عليهم تثريب في ذلك فأولى أن لا يكون ثَمَّ تثريب على من رد عليهم . 

على أن ضرورة تقبل النقد والمراجعة يستخدمها البعض وتراً يطرقون عليه لتمرير طعونهم ويعنون بذلك  ضرورة التسليم بالنقد الصادر منهم خاصة دون مناقشةٍ، وأما النقدُ الموجه لنقدهم فهو دليلٌ على الانغلاق ورفض وجهة النظر المخالفة. ومحصل كلام هؤلاء أن علامة الانفتاح تلقي كلامهم بالقبول ، ومن هذا مسلكه فهو الأولى بوصف الانغلاق ورفض النقد.

٦- كان أبرزَ ما بُدئت به الدرر السنية من النقد هذه الأيام  اتهامُ من يدافع عنها بخيانة الأمة والوطن والسعي إلى الانقلاب عليه ووصفهم بإحدى ثلاثة أوصاف لا رابع لها ، إما الانخداع والجهل وإما النفاق والتقية وإما الداعشية ،ولم أجد من يُنكر على من صرح بهذا الأسلوب في الطرح ممن يوافقه الرأي في الكتاب ، مع أنه طَرْحٌ لا أملك في وصفه أدقَّ من القول بأنه إرهاب فكري ، واستعداء للسلطان على المخالفين ، وهذا مالا أعهده في نهج  طلاب العلم وأهله . 

فكل من خالف هؤلاء في رأيهم في الدرر فهو خائن للوطن ينتظر فرصة للانقلاب عليه جهلاً أو نفاقاً أو انتماءً لداعش  ، وكل من رد عليه هو واحد من هؤلاء الثلاثة ، وهذه الطريقة في بسط الآراء لا تخدم العلم ولا النصح ولا وحدة الصف من أيٍ من الفريقين جاءت . 

٧- مجموع الدرر السنية في الأجوبة النجدية لا يحتاج إلى مراجعة ، بل هو تراث ينبغي للأمانة أن يبقى كما هو ، أما نقد ماحواه من آراء ممن هو أهل لذلك من العلماء وطلاب العلم النابهين ، فهو مالا يَتَحَاشَى عنه كتاب خلا كتابَ الله عز وجل ، لكن ليس من النقد أبداً الجزمُ بكونه مصدر التطرف وأن أتْبَاعَ الدعوة من هيئة كبار العلماء متطرفون يتوافقون مع داعش ويُخْفون مالا يُبْدُون .

ولو راجعنا بعض فتاوى شيوخ عصرنا كابن باز وابن عثيمين ، وجميع العلماء الذي تتابعوا على عضوية هيئة كبار العلماء في السعودية وغيرهم لوجدناهم يخالفون بعض ما جاء في الدرر السنية حتى في بعض المسائل المتعلقة بالتكفير ، وهذا عين المراجعة. 

٨- الدرر السنية لمن لا يعرفه ليس كتاباً واحداً بل هو مجموع من كتبٍ تحتوي على تحرير علمي ،وكتبٍ أقلَّ تحريرا ورسائل شخصية متبادلة بين العلماء وبعضهم ،  ورسائل بين العلماء وبين أئمة الدولة السعودية وأمرائها ، ورسائل بين العلماء والأمراء وأهالي المدن والقرى والبوادي ، وأجوبة على استفتاءات خاصة وعامة ، منها ما دُوِّن ابتداء ومنها الشفهي الذي دُوِّن لاحقا ، وكذلك يحتوي على محاضر لقاءات وشهادات ، وغير ذلك .

٩- أما موضوعاته فمتعددة جداً فالسلسلة تتضمن الاعتقاد والفقه والسياسة الشرعية والتاريخ والتفسير وأصول الفقه وأصول  التفسير والآداب.

١٠- ولا تنتمي هذه الكتابات التي تضمنها مجموع الدرر السنية لجيل واحد من العلماء أو الأئمة والأمراء ، بل لعدد من الأجيال على مدى أكثر من مائتي عام ، ومن هذه الكتابات ماجاءت على سبيل التحرير العلمي ومنها ماجاء جواباً مجملاً غيرَ مُفَصَّلٍ ومنها ما كان على سبيل التقعيد والتأصيل ومنها ماجاء جواباً أو اعتراضاً أو رسالة في سياق حدث تاريخي لا يمكن تقييمه دون فهمٍ كاملٍ للحدث ، ومن الكتابات ما جاء على سبيل البسط والتفصيل ومنها ما نحى منحى الإيجاز واكتفى بالمعهود في الذهن عن التفصيل . 

والظروف الثقافية والسياسية والاجتماعية ، مختلفة من جيل إلى جيل من أجيال كُتَّاب الدرر السنية ، فجيلٌٌ عاصر جهلاً عاماً بتعاليم الدين ومقتضيات التوحيد في جميع البوادي وأكثر الحواضر ، وعاصر إنشاء دولة من العدم . 

وجيلٌ : عاصر انتصارات عظيمةً للدعوة ودولتها وانتشاراً لها في جميع بلاد الإسلام، كما عاصر عداوات ظالمة لها منقطعة النظير ما بين حشود عسكرية أجنبية ، وبين احتشاد في الردود وحملات التشويه المتواصلة , 

وجيلٌ شاهد سقوطاً مدوياً للدولة ومحاولات عملية لإماتة الدعوة . 

وهذا الاختلاف اقتضى اختلافاً في لغة الخطاب بين كاتب وآخر ، بل اختلافاً في لغة الخطاب بين تلك الأجيال وبين جيلنا الذي يختلف في كل شيء عنها. 

 واختلافُ العصورِ لا يقتضي اختلافاً في الخطاب فقط ، بل في الأحكام أيضا ، وهذا باب في أصول الفقه لا يخفى على طالب علم.

 لهذا تَطَلَّب تقيَيم كتاب الدرر السنية فهم العصور التي كُتِبَتْ فيها نصوصُه ، ومن استهان في هذا الجانب وقَيَمَ هذه المُدَوَنَة دون دراسة لعصرها فقد أبلغ في الشطط، وهذه القاعدة صحيحة في جميع الكُتب وليس الدرر السنية وحدها.

ولذلك تُلزِم الجامعات ، وكثير من المؤسسات البحثية محقِقِي النصوص التراثية بكتابة مُقَدِّمَةٍ تحتوي على تعريفٍ بعصرِ المؤلف . 

١١- من العلماء الذين تضمنت االدرر السنية شيئا من نِتَاجهم من غَلَبَ عليه جانبُ العلم بالاعتقاد وهو في غيره من العلوم في مقام المشارك وحسب ، ومنهم من غلب عليه جانبُ الفقه ، وهو في جانب الاعتقاد مشارك ، ومنهم من هو وسط في كل تلك العلوم ، بل منهم من يغلب عليه التاريخ وهو مشارك أو ضعيف في غيره من العلوم .

١٢- كل ما تقدَّم من صفات للكتابِ وموضوعاتِه وكُتَّابِه وتاريخِ كتاباتِه يجعلُ من غير المنطقي نسبةُ قول معين إلى مجموعِ الكتابِ سواء أكان في العقيدة أم الفقه أم غيره ، فالمسألة الواحدة تتكرر في المجموع مراتٍ عدة من أشخاص مختلفين وفي تواريخ مختلفة وظروف مختلفة وعلى صفات مختلفة ، فمرةً تأتي مبسوطةً محررةً ضمنَ كتاب مستقل ، فلا يمكن الاجتزاء منه وترك سائر تقريراته ومحترزاته وقيوده ، ومرة تأتي في شكل جواب مقتضب عن سؤال ، ونقصُ قيودِها ومحترزاتها خاضعٌ لظروف السائل والمجيب ، ومرة تأتي تعليقاً على قولٍ أو حدثٍ متقدم  ، والفهمُ الصحيح العادل فيها مرتبطٌ ولا بد بفهم ذلك الحدث وسوابقه وتداعياته . 

١٣- لو كان المجموع من ستة عشر مجلداً لعالم واحد من أوله إلى آخره وليس لمجموعة من العلماء في عصور وظروف مختلفة ، لما صح منهجياً نسبةُ قولٍ لصاحب المجموع من كلمة وردت في أول الكتاب أو وسطه أو آخره ، بل لابد من استقراء نصوص المؤلف ورد بعضها إلى بعض حتى نُحرر قوله ، فكل عالم نراه يكتب مرة ويُحرر القول في الحكم ويذكر قيوده ومحترزاته ، ومرة يجيب سائلاً فلا يذكر شيئاً من القيود ، ومرة يخاطب عالماً فيستغني عن التفصيل بالإجمال ، ومرة يحكم في واقعة لا ينطبق حكمه إلا عليها لخصائص في تلك الواقعة تقتضي الحكم ليست في غيرها  ، لذا لا تتقرر الآراء كاملة إلا برد ما فاله إلى بعض وليس بالاكتفاء بالمجتزأ أو اختزال المطول .    

فإذا كانت هذه هي المنهجية الصحيحة في التعامل مع مجموعٍ لعالم واحدٍ ، فما كان لعلماء مختلفي الزمان والمكان فهو أولى بهذه المنهجية . 

١٤-قبل أن ننعى على علماء الدعوة السلفية تكفيرهم لمخالفيهم ينبغي ومن باب العدل أن ننظر إلى موقف مخالفيهم منهم .

ولا أنقله كمبرر للتكفير ، فعلماء الدعوة لا يكفرون من كفرهم إلا إن كان مستحقاً لإنزال الحكم عليه من وجه آخر ، لكنني أنقله لمن برأ ساحة خصوم الدعوة وأنزل كلكله عليها.

وسوف انقل بعض النصوص ليكون القارئ على بينة . 

أ- علماء مكة يُجمعون على كفر علماء نجد ويرون أنهم ملحدة وذلك  في عهد إمارة الشريف مسعود بن زيد المتوفى سنة ١١٦٥ للهجرة ، أي أن تكفير علماء مكة لأهل هذه الدعوة كان في بدايتها ، هكذا نقل محمد زيني دحلان في كتابه فتنة الوهابية ، قال :(و لمّا قام ابن عبد الوهاب و من أعانه بدعوتهم الخبيثة التى كفّروا بسببها المسلمين ملكوا قبائل الشرق قبيلة بعد قبيلة ثمّ اتّسع ملكهم فملكوا اليمن و الحرمين و قبائل الحجاز و بلغ ملكهم قريبًا من الشام فإنّ ملكهم وصل إلى المزيريب و كانوا فى إبتداء أمرهم أرسلوا جماعة من علمائهم ظنًا منهم أنّهم يفسدون عقائد علماء الحرمين و يدخلون عليهم الشبهة بالكذب و المين فلمّا وصلوا إلى الحرمين و ذكروا لعلماء الحرمين عقائدهم و ما تملّكوا به ردّ عليهم علماء الحرمين و أقاموا عليهم الحجج و البراهين التى عجزوا عن دفعها و تحقّق لعلماء الحرمين جهلهم و ضلالهم و وجدوهم ضحكة و مسخرة كحمر مستنفرة فرَّت من قسورة و نظروا إلى عقائدهم فوجدوها مشتملة على كثير من المكفرات فبعد أن أقاموا البرهان عليهم كتبوا عليهم حجة عند قاضى الشرع بمكة تتضمّن الحكم بكفرهم بتلك العقائد ليشتهر بين الناس أمرهم فيعلم بذلك الأول و الآخر و كان ذلك فى مدّة إمارة الشريف مسعود بن سعيد بن سعد بن زيد المتوفى سنة خمس و ستين و مائة وألف و أمر بحبس أولئك الملحدة فحبسوا و فرَّ بعضهم إلى الدرعية) 

فانظر إلى هذا التكفير الشنيع بحكم قضائي وأمر حاكم مكة وإجماع علمائها ، ثم انظر إلى هذا الكبر والغطرسة في قوله : وجدوهم ضحكة ومسخرة كحمر مستنفرة ، فأين من يشنع على علماء الدعوة عن مثل هذا القول المستنكر القبيح. 

ثم انظر إلى البغي في تأريخه لوفاة الشيخ رحمه الله حسب حساب الجمل بقوله(وأرخه بعضهم بقوله : بدا هلك الخبيث١٢٠٦.

وما ذكره دحلان من افتراء وغطرسة ودعوى جهل بعلماء الدعوة نقضه الإمام المنصف إمام اليمن بلا منازع بل هو إمام من أئمة عصره في العلم إن لم نقل إنه أوحد عصره ، حيث قال عن تلك المناظرة أو غيرها : “وقد رأيت كتابا من صاحب نجد الذى هو الآن صاحب تلك الجهات أجاب به على بعض أهل العلم وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده فرأيت جوابه مشتملا على اعتقاد حسن موافق للكتاب والسنة فالله أعلم بحقيقة الحال وأما أهل مكة فصاروا يكفرونه ويطلقون عليه اسم الكافر وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة فناظر علماء مكة بحضرة الشريف فى مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين ” البدر الطالع ،٢/ ١.

بل استمع إلى الشوكاني وهو يُشيد بمؤلفات علماء الدعوة ورودهم على علماء اليمن في حكايته لرسائل أئمة الدعوة لحاكم اليمن ، قال :”وفى سنة 1215 وصل من صاحب نجد المذكور مجلدان لطيفان أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام حفظه الله أحدهما يشتمل على رسائل لمحمد بن عبد الوهاب كلها فى الإرشاد إلى إخلاص التوحيد والتنفير من الشرك الذى يفعله المعتقدون في القبور وهى رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة والمجلد الآخر يتضمن الرد على جماعة من المقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة ذاكروه فى مسائل متعلقة بأصول الدين وبجماعة من الصحابة فأجاب عليهم جوابات محررة  مقررة محققة تدل على أن المجيب من العلماء المحققين العارفين بالكتاب والسنة وقد هدم عليهم جميع ما بنوه وأبطل جميع ما دونوه لأنهم مقصرون متعصبون فصار ما فعلوه خزيا عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة وهكذا من تصدر ولم يعرف مقدار نفسه وأرسل صاحب نجد مع الكتابين المذكورين بمكاتبة منه إلى سيدى المولى الإمام فدفع حفظه الله جميع ذلك إلي فأجبت عن كتابه الذي كتب إلى مولانا الإمام حفظه الله على لسانه بما معناه أن الجماعة الذين أرسلوا إليه بالمذاكرة لا ندري من هم وكلامهم يدل على أنهم جهال والأصل والجواب موجودان في مجموعى ” البدر الطالع، ٢/ ١.

ولم أُطل النقل عن الشوكاني إلا لأكشف للقارئ الكريم عظيم الفرية في غطرسة الشيخ دحلان . 

ب-واسمتع إلى الصاوي المالكي صاحب الحاشية على تفسير الجلالين يقول عند تفسيره لقوله تعالى :{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} من سورة فاطر قال (قيل هذه الآية نزلت في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة ويستحلون بذلك دماء المسلمين وأموالهم كما هو مُشاهد الآن في نظائرهم وهم فرقة بأرض الحجاز يقال لهم الوهابية يحسبون أنهم على شئ إلا أنهم هم الكاذبون إستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون نسأل الله الكريم أن يقطع دابرهم)

فانظر كيف يُنَزِّل عليهم آيات الكافرين ويصفهم بحزب الشيطان ويدعو عليهم بقطع الدابر ، ثم لا يُنكِرون التكفير إلا على أتباع دعوة الشيخ رحمه الله تعالى .

 ج-وهذا عالم الأحساء محمد بن عفالق يصف في رسالة له لابن معمر دعوة الشيخ للتوحيد بأنها دعوة إلحاد ، قال(وأما توحيدكم الذي مضمونه الخروج على المسلمين وتكفيرهم وتضليلهم في صورة أنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فهذا إلحاد لا توحيد) وهذه الرسالة لا تزال مخطوطة ، وقد نقلت النص من كتاب احتساب الشيخ محمد بن عبد الوهاب للأستاذة مرفت كامل أسرة.

د-وهذا المؤرخ التركي سليمان بن خليل العزي يقول: (إن المراسلات التي وصلت إلى القسطنطينية من الشريف مسعود بن سعيد شريف مكة تبين أن ملحداً لا دينياً باسم محمد بن عبد الوهاب، قد ظهر من الشرق، قام بضرب وإجبار سكان تلك المنطقة لإخضاعهم لنفسه عن طريق اجتهاد زائف..) أي أن محمد بن عبد الوهاب كان حسب وشاية الشريف المدعمة بالحكم القضائي الذي استصدره من علماء مكة بأن الوهابيين ملاحدة لا دينيين كما تقدم النقل عن دحلان.   

وقد نقلت نص المؤرخ التركي عن كتاب دعاوى المناوئين للدكتور عبدالعزيز العبد اللطيف .

 يطابقه ما ذكره أيوب صبري باشا في كتابه تاريخ وهابيان ص ٣٥. 

من أن الشريف مسعود بن سعيدٍ المتوفى سنة  كان قد استفتى علماء مكة، فتحصل منهم على فتاوى عام١٧٤٩ تبيح قتل محمد بن عبدالوهاب، إذا لم ينصرف عن أفكاره. ثم كتب بهذا إلى الباب العالي. نقلاً عن كتاب (العثمانيون وآل سعود في التاريخ العثماني، لزكريا كورشون ص48).

ه- وهذا جميل الزهاوي صاحب كتاب الفجر الصادق في الرد على منكري التوسل والكرامات والخوارق يقول عن الشيخ محمد إفكاً وزوراً: (وكان محمد هذا بادئ بدئه كما ذكره بعض كبار المؤلفين مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً كمسيلمة الكذاب وسجاح وطليحة الأسدي والأسود العنسي وأضرابهم فكان يضمر في نفسه دعوى النبوة إلا أنه لم يتمكن من إظهارها)طبعة قديمة ١٩٠٥نشر مكتبة الحقيقة في اسطنبول .

فأي تكفير أعظم من اتهامه بإضمار ادعاء النبوة .

و- وينسبون لشيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري كتاباً بعنوان يهود لا حنابلة يرى فيه أن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب يهود ، لكنني لم أجد الكتاب مع حرصي عليه وقد قام في وقتنا محمد علاء الدين ماضي أبو العزايم شيخ الطريقة العزمية ورئيس الرابطة المصرية الصوفية بتأليف كتاب على منهج ذلك الكتاب المزعوم بعنوان يهود لا حنابلة ، في أكثر من ٢٢٠ صفحة يزعم البرهنة على أن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب يهود وليسوا مسلمين ولا خوارج .

هذه نماذج من تكفير المخالفين  الإصلاحية والقائمين عليها، وإلا فإن ما أُلف عن الدعوة رداً عليها يزيد على المئات من سائر أقطار العالم الإسلامي لا تخلوا كثيرٌ من كتبهم من تكفير أهل الدعوة على النحو الذي مثلنا به وأكثر .

ويجمع أقوال مكفري دعوة الشيخ رحمه الله أنهم ليس لهم مستمسك شرعي سوى الهوى والحقد والمجازفة بل إن منهم من يكفر علماء هذه الدعوة بما فيها من الحق الذي جاءت لإثباته ، وما عند غيرها من الباطل الذي جاءت لتغييره ، كمن كفروهم لأجل قولهم بعلو الله تعالى على خلقه ، وإثباتهم من الصفات ما أثبته الله لنفسه في كتابه من غير تشبيه ولا تعطيل . 

 

15ينعى الناعون على عدد من علماء الدعوة ومنهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب نفسه ، حكمَهُم على أعيانٍ سموهم بالكفر،  وقتالَهم قبائلَ وأهلَ قرى من نجد بعد تكفيرهم ، وقولَهم في بعض مؤلفاتهم : أسلم أهل قرية كذا، وارتد أهل قرية كذا ، فكيف يصح لهم ذلك ؟ 

فأقول إن من ينعى ذلك فريقان من الناس ، الفريق الأول يرون أنه لا يكفر  من قال لا إله إلا الله ، وأمة محمد كلها تقول ذلك ، وعليه يستحيل الكفر عليها وإن فعلت ما فعلت .

والفريق الآخر يرون أن الكُفْر مُتَصَوٌَر من أهل نجد وغيرهم من أمة محمد لكن علماء الدعوة قصَّرُوا حين لم يكونوا يعذرون بالجهل، والجهل من موانع التكفير ، كما هو من عوارض الأهلية . 

وكلا الفريقين من الناعين ظهروا في حياة الشيخ محمد وفي عهد من بعده من علماء الدعوة ، فليس فلا جديد فيما يقوله اليوم خصوم الدعوة ، وفي كتاب الدرر السنية عدد من الكتب والرسائل والخطب والأجوبة ترد على هذين الفريقين . 

وخلاصة الرد على الفريق الأول : أن الرٍّدَّة والكفر ليسا مستحيلين على أهل نجد ولا على أيٍ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد ارتد فئام من العرب في حياة النبي وبعد وفاته وكانوا قبل أن يرتدوا من أمته ، وكانوا بعد ردتهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، لكن شهادتهم هذه لم تعصمهم من الردة ، فبنوا حنيفة كانوا لا يُقِرَُون بختم النبوة وصدَّقُوا كذَّابَهُم أنه بُعث نبيا ، وبنوا تميم لم ينكروا الشهادتين وإنما منعوا الزكاة على اعتبار أنها ليست ركناً من أركان الإسلام  ، وبنو أسد مثل بني حنيفة صدَّقُوا طَلَيْحَةَ الأسدي في دعوى النبوة ولم يُنْكِروا الشهادتين. 

فإذا كانت الردة مُتصَوَّرةً في الجيل الأول من المسلمين وبعده، وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعَقيب وفاته ، فكيف نستنكر أن تحدث بعد وفاته  بمآت السنين ، وفي بلد مثل نجد ظل مهملاً وبعيداً عن العلم والدعوة قروناً طويلة . 

هذا مع صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أقواماً من أمته سيرتدون ، (ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان) رواه البرقاني والترمذي وغيرهم . 

وعليه فإذا حكم أهل العلم الكبار المؤتمنون في قرون سالفة لم نشهدها على بادية أو قرية في عصرهم بالردة، وكانت تلك البادية أو القرية مظنة مثل ذلك ، فهؤلاء العلماء عدول عندنا في قولهم وعملهم موثوق بعلمهم ، وكيف لنا أن نرد قولهم في كفر هؤلاء وهم من شهدوا ولم نشهد وعاصروا ولم نعاصر ، فهل نكون في خبرنا عن عصرهم وأهله أقوم منهم وأهدى سبيلاً؟! 

وانظر إلى ما يقوله علامة اليمن الإمام محمد بن علي الشوكاني وهو ممن عاصر تلك الأحداث، وخلاصته أنه يرى كثيرا ممن يفعل الاستغاثة بالأموات في عصره معتقدين تأثيرها كتأثير الله ، وأن من كانت هذه حاله يكفر ويحل منه ما يحل من المرتدين ، قال رحمه الله  :”وتبلغنا عنه أخبار الله أعلم بصحتها من ذلك أنه يستحل دم من استغاث بغير الله من نبى أو ولى وغير ذلك ولا ريب أن ذلك إذا كان عن اعتقاد تأثير المستغاث كتأثير الله كفر يصير به صاحبه مرتدا كما يقع فى كثير من هؤلاء المعتقدين للأموات الذين يسألونهم قضاء حوائجهم ويعولون عليه زيادة على تعويلهم على الله سبحانه ولا ينادون الله جل وعلا إلا مقترنا بأسمائهم ويخصونهم بالنداء منفردين عن الرب فهذا أمر الكفر الذى لا شك فيه ولا شبهة وصاحبه إذا لم يتب كان حلال الدم والمال كسائر المرتدين “البدر الطالع ، ١/ ٥٠٠، وما أعذب الإمام الشوكاني وهو ينقل ما يأتيه من أخبار عن الدعوة محترزاً متشككاً متأدباً غير منساق لافتراءات المفترين ،مع التنويه إلى أن التحقيق : هو أن الاستغاثة بغير الله من الأموات فيما لا يقدر عليه إلا الله وجعلهم وسائط بين العبد وبين ربه كفر ، ولا خلاف في ذلك بين أئمة الدعوة سواء اعتقد للمستغاث به تأثيراً كتأثير الله أم لا .

١٦- ما يذكره علماء الدعوة التجديدية من منكرات عظيمة وقع فيها أهل نجد زمن دعوة الشيخ رحمه الله وبعده لم ينكر وجودَها أحدٌ من خصوم الدعوة كسليمان بن عبد الوهاب والمويس وابن عفالق وابن منصور وغيرهم ، ولو كانت نجد سالمة مما وصفه أئمة الدعوة لرد عليهم خصومها برد يسير وهو أن ما تنكرونه على الناس غيرُ موجودٍ أصلا، لكن ردودهم لم تنف وجود تلك الضلالات بل كانت إما بتسويغ ما عليه الناس من الضلال ، وإما باعتباره محرماً وليس شركا  . 

 

١٧- أما الفريق الآخر الذين ينكرون على علماء الدعوة كونهم لا يعذرون بالجهل ، فجوابهم: 

،  أن كثيراً من عبارات أئمة الدعوة جاءت بما يدل على تفصيلهم في العذر بالجهل ، ومن التفصيلات ما يُوَافَقُ عليه أصحابها ومنها ما يُخالَفُون فيه ، ولن أدخل مع القارئ في هذا التفصيل ، لأني عزمت من أول الكلام أن أتجنب المباحث الدقيقة ، لكنني أكتفي ببعض عباراتهم الدالة على ذلك ، ومن أشهرها : 

قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : (وإذا كنا : لا نكفر من عبد الصنم، الذي على عبد القادر  والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله  إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل ،سبحانك هذا بهتان عظيم) المجلد الأول الدرر السنية ص ١٠٤.

وقال رحمه الله ::(نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله فهو المسلم في أي زمان وأي مكان، وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعدما نبين له الحجة على بطلان الشرك)

 مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ٣/ ٣٤.

فالشيخ يشترط بيان الحجة

والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن يقول في كتاب منهاج التأسيس والتقديس ص٩٨-٩٩ : (والشيخ محمد [يعني جده محمد بن عبد الوهاب ]رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر،حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها، قال في بعض رسائله: (وإذا كنا لا نقاتل من يعبد قبّة الكواز، حتى نتقدم بدعوته إلى إخلاص الدين لله، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا وإن كان مؤمناً موحداً)

والنقول عن الشيخ محمد في ذلك كثيرة جمع كثيراً منها الدكتور أحمد الرضيمان في كتابه منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير .

والنقول عن علماء الدعوة رحمهم الله في ذلك كثيرة أيضا وكلها في كتاب الدرر السنية ، وقد أفرد كثيراً منها بالجمع الشيخ رشيد بن أحمد عويش في كتابه: العذر بالجهل عند أئمة الدعوة ، وكذلك نقل عدداً منها عن الدرر السنية الشيخ صالح سندي في حسابه في توتر ، وهي نقول مشهورة لدى طلاب العلم ، لكن العجيب في شأن الناعين على الدعوة انصرافهم عنها وعدم ذكرها ، وكانت أمانة العلم تقتضي إبرازها للقارئ وليس مجرد التركيز على ما يخدم تصوراتهم .

ومعظم الإشكال والاشتباه والخلط والخلل يأتي من أن بعض علماء الدعوة نص على عدم العذر بالجهل ، وجوابُه : أن من فعل ذلك إنما نص عليه في الكفر الظاهر الذي لا يحتمل الشبهة والتأويل ، أما ما يحتمل الشبهة والتأويل ، فهم لا يحكمون به بالكفر على الأعيان حتى تقوم عليهم الحجة .

وعلى ذلك جاءت رسالة الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن المسماة حكم تكفير المعين ، فهي ليست عامة في مسائل التكفير بل هي خاصة في المكفرات الظاهرة ، ومنها فيما يرى الشيخ :صرف العبادات للقبور والأضرحة دون غيرها من المكفرات ، وقد نص مؤلفها على ذلك عدة مرات في رسالته تلك.

وهو يرى دعاء الأموات والنحر لهم والطواف عند قبورهم من صرف العبادة لغير الله تعالى ، شركاً ظاهراً ، والحجة قائمة على صاحبه بالرسالة والقرآن ، لذلك لا يرى الحُكْم بِكفره مستلزماً لإقامة الحجة عليه .

وقد تقدم النقل عن الشوكاني في تأييده لهذا الأمر ، بل قال رحمه الله في الأجوبة على الأسئلة الحفظية :”من وقع في الشرك جهلاً لم يعذر، لأن الحجة قامت على جميع الخلق بمبعث محمدٍ صلى الله عليه وسلم ،فمن جهل فقد أتي من قبل نفسه، بسبب الإعراضِ عن الكتاب والسنة”ص ٣٩.

 والحكم بكفر فاعل المكفر الظاهر لا أعرف فيه خلافاً في كتب الفقه عند أتباع الأئمة الأربعة . 

وقد يسأل سائل عن الجمع بين قول الشيخ إسحاق في عدم اشتراط إقامة الحجة للحكم بكفر من يصرف العبادة للقبور وبين قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحفيده عبدالرحمن بن عبداللطيف المتقدم الذكر في اشتراط إقامة الحجة ؟ 

والجواب والله أعلم له جهتان : الأولى : أن العلماء إذا اختلفوا فيما يسوغ الاختلاف فيه لا يُشترط الجمع بين أقوالهم ، إلا إذا دعت الحاجة إلى هذا الجمع ، وأمكن بلا تكلف ، أما إن لم تدع إليه الحاجة أو لزِم التكلف لإثباته فهذا مما لا ينبغي ، بل هو من التعصب وتنزيه الأشياخ . 

الجهة الأخرى :أن الجمع هنا سائغ ولله الحمد دون تكلف وفيه مصلحة وهي جمع الكلمة وتوضيح الرأي في هذه المسألة المهمة ، والذي بدا لي في أن الشيخ محمد رحمه الله ظهر في وقت اختفت فيه معالم التوحيد ، وأصبح الناس في عواصم الإسلام العلمية كلِّها فضلاً عمَّا عداها يظنون أن ما في بلادهم من مظاهر الشرك الأكبر هي ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوة الإسلام ، لاسيما وأن أهل العلم بالشريعة والمنتسبين إليها في الغالب إما أنهم يمارسون هذه المُنْكَرات أو يسكتون عنها سكوت المقر ، ولم يكن يُستثنى من ذلك بلد من بلاد الإسلام ، لذلك رأى الشيخ أن إقامة الحجة عليهم والحال هذه شرط للحكم بالكفر . 

ولما انتشرت الدعوة إلى التوحيد وكتب الله لها القبول التام في نجد وما حولها ، والشيوع والذيوع في الأقطار الأخرى حتى البعيدة عن الجزيرة كالهند والمغرب وبلاد الدكرور [ نيجيريا وما جاورها حالياً]وأصبحت أدلتها ظاهرة ، رأى بعضُ علماءِ الدعوةِ ممن جاء بعد الشيخ رحمه الله تعالى عدمَ الإعذار بالجهل في إطلاق وصف الكافر على من فعل ذلك . 

 أما بخصوص رسالة الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن رحمه الله المُتَقَدِّمِ ذكرُها ، فإنه رغم كثرة كلام الأئمة في هذا المعنى، فإن الكثيرين لا يعرفون عن تقريراتهم إلا مقطعاتٍ، أو ما ذكره الشيخ إسحاق، لأنها طبعت مفردةً باسم حكم تكفير المعين ، وفيها من التباس العبارة وتناقضها ما يجعلها غير صالحة للاعتماد عليها في تحقيق رأي الشيخ نفسه فضلاً أن تكون معبرة عن أئمة الدعوة ، ولعل أحد طلبة العلم المتخصصين يتعرض لنقدها تفصيلاً.

ومما يُشْكِلُ على المعترضين على الدرر السنية  في تقديري : أن علماء الدعوة لا يتوقفون عن التكفير ، أي : لا يمتنعون من التكفير تذرعاً بهذا الشرط وهو العذر بالجهل ، وهذا صحيح فهم يُكَفِّرُون من يرون أن الحجة قامت عليه ويقيمون الحجة بالبلاغ والمحاجة ، فإذا فعلوا ذلك وانتفى عندهم عُذر المدعو حكموا بالكفر ورتبوا عليه أحكامه.

ثم إن الذي لا يسع عاقلاً إغفاله ، فضلاً عن طُلَّاب العلم : أنهم أي الأئمة لا يجعلون التكفير حقاً مُطلقاً متاحاً لكل أحد ، فلا يحكم به على أعيان الناس والجماعات سوى الراسخين في العلم ، وكانوا رحمهم الله من الراسخين ، كما شهد بذلك نظراؤهم من علماء المسلمين ، وكذلك لا يُفتُون بالقتال إلا تحت راية معلومة ومع إمام معتبر ، وهكذا كانت حالهم .

 ومما لا يفوتني التنبيه إليه وهو عندي في غاية الأهمية :أن هناك آراء في التكفير بمظاهرة الكافرين فيها توسع كبير، طُرِحَت بعبارة قوية جداً وفيها مصادرة لكل رأي على خلافها ، وهي مما أشرتُ إليه قبل قليل بالمسائل غير المحررة ، ومن أمثلتها رسالة الشيخ حمد بن عتيق الموسومة بسبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين والأتراك ، وقد صرح كاتبها في مقدمتها أن ما فيها لا يتفق معه عليه كثير من المنتسبين إلى العلم – كما قال – وأنهم وقفوا من معارضتها موقفين : فمنهم من استحسن المعارضة ، ومنهم من كره المعارضة لكنه لم يُبَيِّن ، كما أن فيها من النقولات عن بعض الأئمة ما لا يظهر لي موافقته لقوله الذي بدأ به هذه الرسالة ومن أمثلته : ما نقله من جواب الشيخين حسين وعبد الله ابني الشيخ محمد رحمهم الله في جوابهم عن حال المقيم بين المشركين ، وهي في فصل وجوب الهجرة من آخر الرسالة من الرسالة.

18- يحتوي كتاب الدرر السنية على الكثير من الرسائل التي وجهها علماء الدعوة وعلى رأسهم الشيخ محمد لعلماء المدن والقرى وأمرائها وعامة الناس فيها ، وهذه الرسائل فيها بيان واضح للعقيدة ، كما أن حقيقة دعوة الشيخ أصبحت  في حياته مشهورة بين الناس وذلك  بفضل الله عليه وعلى من معه وما بذلوه من الجهود في إشاعة حقيقة الدعوة ،حتى علم بفحواها كل أهل نجد ومن حولهم بل وصلت حقيقتها لأهل اليمن ، فكان في الدرعية الكثير من طلاب العلم قادمين من زبيد ،ووصلت حقيقتها لأهل العلم في المغرب وبلاد البنغال والمغرب، وقد رأى العلماء إذ ذاك أن الحجة قد قامت بهذا الشيوع الكبير وتلك المراسلات ينضم لها سفر علماء الدعوة ورسلهم إلى البوادي والقرى في سائر أنحاء الجزيرة .

ويمكن مطالعة كتاب محمد بن عبدالوهاب للأستاذ أحمد عبدالغفور عطار، وكذلك مجموعة بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبدالوهاب الصادر عن جامعة الإمام محمد بن سعود في ثلاث مجلدات .

فإذا جاء متأخرٌ عنهم بمائة عام وقال إنهم لم يقيموا الحجة على من خالفهم لم يكن لقوله اعتبار ، لأن العبرة بكلام العالم العدل الشاهد ، لا بكلام متأخر غائب . 

ثم لنعكس الاحتجاج ونقول : والذين كفَّروا علماءَ الدعوةِ وعامتها وهم أولئك العلماء الذين مثَّلتُ بنماذج منهم ، هل أقاموا الحجة على علماء الدعوة قبل تكفيرهم ؟

أم أنه لا يطالب بإقامة الحجة قبل التكفير سوى علماء الدعوة السلفية ؟  

١٩مدوناتُ أكثرَ من مائتي عام تضمنها مجموعُ الدررِ السنية تُعَبِّر عن دعوة وإنشاء دولة وصراع مرير مع قوى عظمى ، لقد كان ذلك عملاً ضخماً ، ولاشك أن تبرءة عملٍ ضخم كهذا في مدة طويلة تعادل زمن سبعة أجيال من أي أخطاء مجازفةٌ بل ومُخَالَفَة للمنطق التاريخي ، وفي المقابل زعم أن هذه الأخطاء هي أساسُه الذي بُني عليه مجانفة للعدل والواقع المرئي . 

٢٠ تحدث الكثيرون عمَّا ورد في الدرر السنية من تكفير للدولة العُثمانية ، وجعلوا ذلك من مثالب المجموع ، بل من مثالب الدعوة السلفية ودلائل أخذها بمنهج التكفير . 

وعلى هذا القول مأخذان : 

الأول : الفاقة إلى العدل بالقول . 

الآخر : الفاقة للمنهج العلمي في التحقيق. 

أما ضعف العدل فتشعر به في هذا القول حين تعلم أن الدولة العثمانية ومن يمثلها من العلماء هم من بدأ بالتكفير واستحلال الدماء ، وقد تقدم معنا في هذا المقال : أن إجماع علماء مكة على تكفير الوهابية والقول بأنهم ملاحدة ، وحكمَ قاضيها بذلك كان في عهد إمارة الشريف مسعود المتوفى عام ١١٦٥ أي أن الفتوى كانت قبل ذلك التاريخ ، وكذلك رسائلُ الشريف مسعود بكفر الوهابيين وإلحادهم التي أشار إليها المؤرخ التركي كانت قبل ذلك التاريخ أيضا.

وإذا علم القارئ الكريم أن الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب في ذلك التاريخ لم تتجاوز دولتهما الدرعية ، ولم يكن تحت إمارة ابن سعود في ذلك التاريخ سواها ، تأكد له مقدار العداء المبكر لهذه الدعوة ، ففي الوقت الذي يُجْمِعُ فيه علماءُ مكة على كفر الوهابيين بل وإلحادهم ، وفي الحين الذي يُحَرِّضُ فيه شريفُ مكة الدولةَ العثمانية على الدعوة السلفية ، لم يكن الأمام محمد بن عبد الوهاب يدعو الناس سوى بالمراسلة ، فلا قتال ولا استحلال دماء ولا شيء سوى رسائل يدعو بها إلى نبذ الشرك وإخلاص العبادة لله. 

فما أعجب من ينظر بعين واحدة وكلتا عينيه مبصرتان .

ثم انظر إلى جواب السلطان محمود على رسائل الشريف مسعود ، لترى ما فيها من الحكم عليهم بالإلحاد والأمر بقتالهم واستئصالهم ، ولتضع في بالك وأنت تقرؤ جوابَ السلطان العثماني ما قدمناه من كون  تلك المراسلة وردت ودولةُ ابنِ سعودٍ لم تتجاوز الدرعيةَ ولم يظهر منها أي تحرك عسكري .

 وهذا نص الجواب والأمر السلطاني من الخليفة العثماني محمود الأول -تولى من سنة1143هـ إلى سنة 1168هـ-

(أمر إلى أمير مكة المكرمة حاليا الشريف مسعود دام سعده. لقد ظهر شخص سيء المذهب  في العيينة وهي إحدى قرى نجد في جهة الشرق وقام بإصدار اجتهادات باطلة ومخالفة للمذاهب الأربعة ونشر الضلالة والترغيب بها. وبناء على إعلامكم إيانا واقتراحكم السابق فإن عليكم المبادرة إلى زجر وتهديد المفسد المذكور وأتباعه بمقتضى الشرع المطهر وإمالتهم إلى طريق الصواب، أما إذا أصروا على معلنتهم [لعله من الإعلان وفي بعض ما اطَّلعتُ عليه من مصادر : ملعنتهم من استحقاق اللعن ] فإن عليكم إقامة وتنفيذ الحدود الإلهية الواجبة شرعا. وقد أصدرتُ إليكم يا شريف مكة أمري هذا خطابا. ولما كنتم قد أبلغتم الدولة العلية في كتبكم الواردة إلى دار السعادة بحاجتكم إلى الإمدادات والمعونات بسبب تمكن الملحد من كسب سكان تلك المناطق إلى جانبه بكل الحيل بحيث لم يعد ممكنا التقرب من تلك الأطراف فإن التقاعس بخصوص هذا الشخص المذكور (محمد بن عبد الوهاب) سيؤدي إلى ظهور حاجة إلى قوات أكثر عددا لمحاربة الشخص المذكور. لقد صدر أمرنا السلطاني بخصوص سيركم ضد الشخص المذكور واستئصاله. وأن إيذاءهم بسيف الشريعة وتطهير الأراضي المقدسة (منهم) يعتبر عقوبة (سياست) لهم وواجبا يفرضه الدين. ولأجل تسديد مصاريف رواتب ومؤن العساكر الذين ستقومون بتسجيلهم لهذه المهمة فقد أنعمت عليكم بمبلغ 25 كيس رومي من الأقجات من إرسالية مصر لسنة 1163 هـ… (أرشيف رئاسة الوزراء – وثائق الداخلية تصنيف جودت – الرقم 6716 أواسط شوال 1164ه)

 في أشراف مكة المكرمة وأمرائها في العهد العثماني، ترجمة خليل علي مراد، ص١٧٩-١٨٠.

لاحظ قول السلطان :(بسبب تمكن هذا الملحد من كسب سكان تلك المناطق)

وفي كتاب العثمانيون وآل سعود في التاريخ العثماني لزكريا كورشون نص رسالة سلطانية قريبة من هذه . 

أيُّ تكفير أعمى أعجب من رمي دعاة التوحيد بالإلحاد .

بل كانت الدولة العثمانية تعتبر قتالها لأتباع الدعوة قتال كفار ، ويُجرون على العائدين من قتالهم من العساكر المراسم والطقوس التي يجرونها على العائدين من قتال النصارى ، واستمع إلى قول الجبرتي :(واستهل جمادى الثانية يوم الخميس ١٢٣٠ في خامسه وصلت عساكر في داوات إلى السويس وحضروا إلى مصر وعلى رؤوسهم شلنجات فضة إعلاماً وإشارةً بأنهم مجاهدون وعائدون من غزو الكفار وأنهم افتتحوا بلاد الحرمين وطردوا المخالفين لديانتهم ، حتى إن طوسون باشا وحسن باشا كتبا في إمضائهما على المراسلات ، بعد اسمهما : لفظة الغازي ، والله أعلم بخلقه) ج/ ٣/ ٤٧٧

فانظر إلى هذا التكفير واستحلال الدماء ووصف أهل دعوة التوحيد بأنهم على غير الملة .

ومن قبيح ما يؤسف له مشاركة بعض العلماء للدولة العثمانية ولحاكم مصر محمد علي في جريمتهم بغزو بلاد نجد ومحاربة الدعوة إلى التوحيد كما نقله الجبرتي في تاريخه ٣/ ٣٢٣ وهم محمد المهدي من علماء الحنفية أحمد الطحاوي ، وذكر الجبرتي شيخا حنبلياً لم يُسَمه ورد إليهم من الشام ، فسبحان الهادي المضل.

أما الفاقة للمنهج العلمي ، فتبدو من أمرين :

 أولهما: التعميم ، حيث ينسبون تكفير الدولة العثمانية إلى كتاب الدرر السنية ، وكأن كل علمائها يقولون بذلك ، والحق أن الأمر على غير ما يزعمون . 

فالإمام محمد بن عبدالوهاب نفسه وأبناؤه، والأمراء في حياته وحتى الاجتياح العثماني لنجد وهدم الدرعية لم يكونوا يقولون بهذا القول ، بل إن رسالة الشيخ محمد رحمه الله للشريف أحمد بن سعيد حاكم مكة من قِبَل الدولة العثمانية تؤكد غير ذلك ، بل إن فيها من أوصاف التبجيل والتوقير لمقام بيت النبوة ما هو جدير بالتأمل ، وقد حملها إلى الشريف وفد من علماء الدرعية على رأسهم الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الحصين ، وقد نص بعض الباحثين على عدم وجود نص للشيخ يكفر فيه الدولة العثمانية ، يقول الدكتور عجيل النشمي : ( ولم نعثر على أي فتوى له تكفر الدولة العثمانية بل حصر افتاءاته في البوادي القريبة منه التي كان على علم بأنها على شرك) عن بحث الدكتور النشمي في مجلة المجتمع ونقلت النص من كتاب دعاوى المناوئين للدكتور عبدالعزيز العبد اللطيف . 

وظلت رسائل الأئمة من آل سعود لسلاطين العثمانيين تتضمن التبجيل والتوقير ، ولعل آخرها  رسالة الإمام عبدالله بن سعود والتي تضمنت من عبارات التبجيل للسلطان ما ليس معهوداً عند أئمة الدولة السعودية ، ولعل كاتبها للإمام من أدباء مكة المتمرسين في الخطابات السلطانية العثمانية ، وقد نقلها الدكتور عبد الرحيم عبدالرحيم في كتابه الدولة السعودية الأولى .

وله رحمه الله أيضاً رسالة وجهها إلى محمد علي باشا يخبره فيها بحقيقة الدعوة ومقدار ما كُذب عليها عند سلطنة آل عثمان . 

والقوات السعودية في حربها  مع الدولة العثمانية لم تكن تتبع المنهزمين بل كانوا يعاملونهم معاملة البغاة ، وهذا ما نص عليه الجبرتي في روايته لأحداث هزيمة الجيوش العثمانية أمام كتائب الدعوة  ٣/ ٣٣٧.

وذلك أول احتكاكهم العسكري بهم في حملة طوسون ، أما ما بعدها فقد كانوا يتتبعونهم بعدما رأوا منهم من البلاء والشر العظيم .

وحتى رسائل الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد لوالي بغدادلا يمكن تعميم الأحكام فيها على الدولة العثمانية كما لا يمكن فصلها عن تجييش والي بغداد الجيوش للقضاء على الدولة والدعوة ، وقد قرأتُها فوجدتها تحكم على ما ترعاه الدولة العثمانية من البدع بالكفر لكن ليس فيها حكم بكفر الوالي أو كفر السلطان أو كفر الدولة .

أما ما بعد توالي الجيوش التركية من مصر لحرب الدعوة والتي انتهت بسقوط الدرعية ، فالظاهر أن رأي العلماء قد استقر على القول بكفر الدولة العثمانية ، وممن نص من علماء الدعوة على ذلك : الشيخ سليمان بن عبدالوهاب بن محمد ، ألف فيه كتاباً ، والشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ عبدالله بن عبد اللطيف المتوفى سنة ١٣٣٩، والشيخ سليمان بن سحمان . 

وليس لنا أن ننعى ذلك على علماء الدعوة قبل أن ندرك مبرراتهم حقاً، وقبل أن أذكر هذه المبررات ، أود التأكيد على أمر مهم ، وهو : أن الحكم بكفر الدول لم يشتهر في عصرنا الحاضر لدى أتباع الدعوة السلفية ، بل أكثر من شَهَرَه في عصرنا بعض منظري الجماعات الإسلامية العاملة في السياسة ، ومن هؤلاء المنظرين : الأستاذ أبو الأعلى المودودي والشيخ سعيد حوى والأستاذ سيد قطب ، وقد ذكر الدكتور محمد عمارة أن أبا الأعلى المودودي هو من بعث فكرة تكفير المسلم من مرقدها ، وذلك في كتابه رؤية إسلامية لقضايا ساخنة الصادر عن مجلة العربي .

وأهمية التأكيد على هذه الجزئية تعود إلى تجلية حقيقة أن تكفير نظام معين ليس أمراً مستنكراً من حيث الأصل وليس خاصاً بالدعوة السلفية ، لكن المستنكر هو التكفير دون مسوغ معتبر شرعا . 

ويميز علماء الدعوة السلفية الذين ورد عنهم تكفير الأنظمة التي لا تحكم بشرع الله : أنهم لا يجعلونه مادة فكرهم ولا ينشرونه في كل محفل ، بل يقدرون خطورة هذا القول ولوازمه ، ويعلمون أنه ليس من أوليات الدعوة وأن غيره من مهام الدين هي ما يحتاجه الناس وما ينبغي أن يُدار بينهم .

ومن هنا نعود للحديث عن مسوغات أئمة الدعوة في تكفيرهم للدولة العثمانية ، وهي كما يبدو لي : 

١- أن علماء الدعوة لم يجدوا تفسيراً صحيحاً لحرب العثمانيين لهم إلا كونها حرباً على دعوة التوحيد وحماية لمظاهر الشرك القائمة في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، ومنها الحرمين . 

 فقد كان أول أمر سلطاني باجتثاث الدعوة سنة١١٦٨ قبل أن يكون للدعوة دولة ، وإنما هي قرية صغيرة لم تستطع حتى ذلك الحين التغلب على قرية الرياض بل ظلت الحرب بينهما سجالاً طوال عشرين سنة ، فكيف يمكن لإمارة كهذه أن تهدد دولة راسخة كالدولة العثمانية؟ 

وقد ساعد على ترسيخ هذا المفهوم عِظَم حملة التشويه للدعوة والتي قادتها الدولة العثمانية في كل ممالكها.

ثم ساعد عليه الحملات العسكرية المتوالية والتي لم يكن لها أي مبرر سياسي ضد هذه الدعوة ، ابتداء من الحملات التي قادتها ولاية العراق ثم التي قام بها الأشراف ، ثم تلك الحملات المصرية التي قام بها ابناه طوسون وإبراهيم . 

بعض المؤرخين المعاصرين يُصِرُّون على أن الحرب العثمانية على الدعوة كانت سياسية لخوفهم من نمو الدولة السعودية على حساب سلطنتهم ، والحق أن هذا الطرح يُمْكِن أن يصح في حال حملة طوسون وما بعدها حيث كانت الدولة السعودية قد ضمت إليها مكة والمدينة ، أما قبل ذلك فلا يصلح هذا الطرح مطلقاً ، لأن غزوات العراق الثلاث وغزوات الحجاز الأربع في عهد الشريف غالب التي استهدفت الدرعية وفشلت لم تكن دولة الدعوة حينها تُشَكِّلٰ أي خطر على العثمانيين ، بل على العكس كان بإمكان العثمانيين إقامة علاقات طيبة مع دولة الدعوة حينذاك وربما استفاد العثمانيون تأمين الشام من رجال البادية الذين عجزت الدولة العثمانية طول فترة وجودها عن استقطابهم وتأمين الشام منهم ، وقد أصبح رجال البادية أخيراً سبباً رئيسا في سقوط الشام في يد الاستعمار وخروجه من السيادة العثمانية ، وقد دون قصتهم الكولونيل لورنس في كتابه : أعمدة الحكمة السبعة ، كما دون صوراً أخرى منها جمال باشا المشهور بالسفاح في مذكراته.

وكان بإمكان الدولة السعودية استقطابهم وجعلهم عنصر قوة للدولة العثمانية  .

وقد عزلت الدولة العثمانية شريف مكة أحمد بن سعيد لما اقتنع بمبادئ الدعوة السلفية عام ١١٨٥ 

بعد وفود الشيخ عبدالعزيز الحصين عليهم برسالة من الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وعينت مكانه الشريف سرور بن مساعد الذي افتتح علاقته مع الدعوة باشتراط ضرائب على الحجاج النجديين ، توَقَّف حجهم بعدها لمدة سنتين ، ثم عاد الشريف غالب بن مساعد لمنعهم من الحج مرة أخرى مما أدى إلى اضطرارهم لإخضاع الحجاز لولايتهم  .

 كما أن الدولة العثمانية صرفت مبالغ باهضة للإنفاق على حروبها مع الدولة السعودية تفوق نفقاتهم على عدد من حروبهم الأوربية مع دول النصارى ، الأمر الذي ينفي وبقوة أن يكون الهدف العثماني من تدمير الدولة السعودية سياسياً ، فبالعشر من هذه المبالغ كان يمكن للعثمانيين استقطاب الدولة السعودية وأمن جانبها  . 

هذه القرائن مضافاً إليها أن العثمانيين حين أسقطوا الدولة السعودية وأسروا رجالاتها السياسيين والعلميين ، لم يقوموا بسد الفراغ الذي أوجده سقوط دولة الدعوة ، بل خرجوا تاركين حامية يسيرة لا تغني شيئا . 

كل تلك القرائن مع غيرها مما لم أذكره بُغية الاختصار أكدت لعلماء الدعوة أن عداء العثمانيين لهم لم يكن سوى عداءً عقدياً بسبب نفرة دولة الدعوة من مظاهر الشرك الأكبر التي كان العالم الإسلامي يمتلئ بها ، وقيام هذه الدولة بحماية تلك المظاهر وعمارتها ، وإباء العثمانيين انتشار دعوة إخلاص العبادة لله  في العالم الإسلامي في حين تنفق الدولة الأموال على الأضرحة والتكايا الصوفية والأوقاف عليها  .

وقد قامت الحجة على الولاة العثمانيين وسلاطينهم بالرسائل التي وصلتهم من أئمة الدعوة ، والتعامل المباشر معهم خلال فترة ثمانين عاماً كانت هي عمر الدولة السعودية الأولى في ظل دعوة التوحيد. 

 ولم يكن علماء الدعوة غافلين عن وفود الحاكم البريطاني في الهند شخصياً إلى الدرعية لتهنئة إبراهيم باشا بالقضاء على الوهابيين .

وقد نص العلماء الذين حكموا بكفر الدولة العثمانية على هذا السبب العقدي فسمو الدولة العثمانية دولة القباب والقبور .

ولهذا السبب عينه حكموا بكفر من أعان الدولة العثمانية عليهم ، لأن إعانتها على دولة الدعوة – وإن ادعى بعضهم أنه بقصد الدنيا – إلا أنه مشاركته لهم في إسقاط المنبر الوحيد آنذاك للتوحيد الخالص يعني مشاركتهم في الغاية شاء أم أبى . 

٢-في أذهان الناس أن الدولة يمثلها جنودُها لاسيما في زمن المواجهات ، وقد تركت المواجهاتُ المباشرة بين الجيوش التركية وجنود الدعوة تصوراً لدى العلماء في نجد عن حقيقة الدولة العثمانية ، فحكموا عليها من حال الجيوش التي بَعَثَت بها إليهم . 

  فهي تبعث الجنود العظيمة إلى نجد وتغدق عليهم المصاريف الهائلة التي أُخِذَ كثيرٌ منها من المكوس على الأهالي كما يفيد ذلك الجبرتي في تاريخه ، وتجعل ذلك بذريعة محاربة الخوارج الكافرين الملاحدة ، كما تقدم نقله من مصادره ،ونجد الجنود الذين يمثلون الدولة في هذا المشروع لا يقيمون الشعائر فلا تُعْرَف الصلاة في معسكرهم ، ويحملون معهم صناديق الخمر، ويرتكبون الفواحش ولا يتناهون عنها مطلقا ، وحين ينتصرون على قرية يبيعون أهلها ويوقعون بالنساء والصبيان ، إلى غير ذلك من الشناعات ممالا يتصوره عقل مسلم .   

وخلاصة القول : أنه لا يبدو على هذه الجيوش شيء من سيماء المسلمين ، وهذا ما نص عليه الجبرتي في تاريخه في بداية سرده أحداثَ سنة ١٢٢٧ في المجلد الثالث

بل زاد رحمه الله في نقله لشهادة أحد من حضر الوقائع : أن جنودهم لم يكونوا يتدينون بدين ولا ينتحلون مذهبا.

وكان ضمن الجيش مرتزقة أوربيون نصارى ومنهم من كان يتبوأ مناصب قيادية في الجيش .

يذكر الجبرتي أن الوهابيين كشفوا عن قتلى الجيش العثماني في وادي الصفرا فوُجِدُوا غير مختونين. 

وكانوا يمنعون الأسرى من الصلاة ، وقد خلد ذلك القاضي الحفظي قاضي عسير في قصيدته الطويلة التي يصف فيها أحوال أسره والذهاب به إلى اسطنبول :

فلم يأذنوا بالصبح والظهر بعدهُ

ولا العصر والوقتين في ليل أليلِ

وكدنا نلاقي جرعة الموت حسرةً

على نقص دين بعد وافي التكملِ 

ومن قرأ عن هذا الجيش وما فعله في الجزيرة العربية ، لا يخطر في باله أبداً أنه جيش مسلم جاءت به شبهة أو مطمع سياسي ، ولا أنه من الممكن أن يبعث به مسلم إلى بلاد مسلمين ، هذا من قرأ ، فكيف بمن سمع وعاين . 

 

٣-بعد تولي الاتحاديين مقاليد الأمور في الدولة العثمانية وإجبارهم السلطان عبدالحميد على التوقيع على الدستور العثماني عام ١٩٠٨ – الموافق ١٣٢٨للهجرة، ثم خلعهم للسلطان عام ١٩٠٩-الموافق ١٣٢٩ تغيرت الدولة العثمانية من دولة تعلن الحكم بالشريعة الإسلامية إلى دولة علمانية ، ولذلك حكم  آخر من تولى منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية عليها بالكفر ، وأعني الشيخ مصطفى صبري ، صاحب كتاب موقف العلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين . 

ونص على ذلك في كتابه : النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة ، والكتاب منشور تحت عنوان الأسرار الخفية وراء إلغاء الدولة العثمانية . 

كما حكم بذلك الشيخ أحمد الغماري من علماء المغرب الصوفية مالكي الذهب في الفقه ، وذلك في كتابه مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية ، فقال :”وقد نبذت الدولة التركية أواخر أيام إسلامها الحكم بالفقه الإسلامي المأخوذ من الشريعة ، أو من القواعد المنسوبة إليها على الأقل ، وصارت تحكم بالقانون المأخوذ عن الأنجاس الأرجاس ، الذين قال الله فيهم : (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل) ، واتخذت ذلك في بلادها والبلاد التي كانت تحت حكمها ـ ومنها الديار المصرية ـ ، فإنها أول من أسست المحاكم الأهلية ، فكفرت بذلك كفراً صراحاً ، في حال ادعائها الإسلام وحماية حماه ، ووجود الخلافة الإسلامية فيها ، قبل أن تعلن الكفر والانسلاخ من الإسلام”ص ١٠٨.

٢١- وأنا فيما تقدم من حديث حول رأي بعض علماء الدعوة في تكفير الدولة العثمانية ، لم أورد رأيي ، وإنما  أردت بيان أنه رأي له مسوغاته العلمية الصحيحة سواء أوافقناه أم خالفناه ، والرأي المبني على طريقة صحيحة في الاستدلال ، لا يُشَنَّع على صاحبه . 

وفي الختام 

أقول: إن مدونة الدرر السنية تراث علمي لا ينبغي إنكاره ولا استبعاد شيء  منه ، وما فيه من آراء في الفقه أو النوازل العقدية إنما تُمَثِّل أصحابها ، ولا يُمَثِّل الدعوة السلفية إلا المتفق عليه بين علمائها. 

وينبغي أن لا يفوت القارئ : أن علماء الدعوة لم ينفردوا برأي يشذون به عن الأمة ، فليس لهم رأي إلا ولعلماء الأمة من السلف والخلف موافق لهم فيه . 

أما التكفير الذي شُنِع عليهم به ، فمن تصفح أبواب أحكام المرتدين في كتب الفقه وجد أن العلماء من سائر المذاهب تكلموا في هذا الأمر ، وربما أوغلوا فيه أكثر من إيغال علماء الدعوة . 

وسوف أقدم هنا بعض النقول عن علماء من خارج المدرسة السلفية يشيب لهولها الوليد ، ولم يُنْكِر أحدٌ على أصحابها ولا على مدارسهم الكلامية أو الفقهية ، بل على العكس من ذلك ، يتم تمجيدهم اليوم واعتبارهم أهل الوسطية والاعتدال ، ويُراد للسلفية أن تنحو منحاهم .

١- الشيخ أبو إسحق الشيرازي ، يُكَفِرُ كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما عدا الأشاعرة  “فمن اعتقد غير ما أشرنا إليه من اعتقاد أهل الحق المنتسبين إلى الإمام أبي الحسن الاشعري رضي الله عنه فهو كافر . ومن نسب إليهم غير ذلك فقد كفرهم فيكون كافرا بتكفيره لهم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (ما كفر رجل رجلا إلا باء به أحدهما )” شرح اللمع ،١/ ١١١. 

٢-ابن نجيم الحنفي يكفر من أثبت الجهة لله تعالى ، وهو منصوص القرآن وعليه جميع السلف ، أي أنه يُكَفِّرُ من لم يبتدع في الدين ومن فهم القرآن كما فهمه الصحابة :”ويكفر بإثبات المكان لله تعالي ، فإن قال : الله في السماء ، فإن أراد حكاية ماجاء في الأخبار لا يكفر ، وإن أراد المكان كفر ” البحر الرئق ٥/ ١٢٩ ، وما أعجب هذا القول ، من يقول إن الأخبار خالية من المعنى فهو مؤمن ، ومن يثبت المعنى لكلام الله ورسوله فهو كافر !

٣- وقال ابن حجر الهيتمي :” واعلم  أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة : القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم ، وهم حقيقون بذلك ” المنهاج القويم ، ٢٢٤ قلتُ هذا النقل عن الأئمة الأربعة ليس بصحيح عفا الله عنا وعن الإمام الهيتمي والقرافي .

وقال في كتاب الفتاوى الحديثية ناقلاً عن بعض الأشاعرة :”من اعتقد الجهة في حق الله جل وعلا فهو كافر بالإجماع، ومن توقف في كفره فهو كافر” ١٥١.

٤-  قال أحمد الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين : (الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ) ٣/ ٩. 

أي أن الله يخاطبنا بكلام ظاهره الكفر ، تعالى الله عمَّا يقول علواً كبيراً. 

٥-قال عبد الله الغماري المغربي في هامش كتابه الرد على الألباني: ” وقد ذكر أبو عبد الله علاء الدين البخاري العجمي الحنفي المتوفى سنة ٨٤١: أن من أطلق على ابن تيمية شيخ الإسلام، فهو بهذا الإطلاق كافر ، انظر الضوء اللامع ٩/ ٢٩٢ ” فانظر إلى الشيخ الغماري الصوفي كيف يقر مثل هذا التكفير ، مع العلم بأن ابن ناصر الدين الدمشقي المتوفى سنة ٨٤٢ رحمه الله قد ردَّ على هذا الكلام في كتابه الرد الوافر على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر ، وهو من مطبوعات المكتب الإسلامي وتحقيق زهير الشاويش رحمه الله . 

ومما نلاحظه على هذه النقول العجيبة في التكفير : أنها مبنية على متعلقات وهمية من مباحث علم الكلام ، بينما علماء الدعوة حين يحكمون بالكفر فإنما يستندون إلى الكتاب والسنة ، فعجيبٌ أن يُنعى على من مُتَعلقه القرآن ويُصْمَتُ عن من متعلقه علم الكلام .

والنقولات في هذا الصدد كثيرة جداً ، لكن الفرية إنما عظَّمها الشيطان على أتباع الدعوة السلفية لما فيها حفظ جناب التوحيد الذي لا يريد الشيطان ومن تبعه حفظه

والله حسبنا ونعم الوكيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

د محمد بن إبراهيم السعيدي 

١٣/ ١٢/ ١٤٣٥ هـ


---------------------------------------

نموذجان تاريخيان لابتلاء السلفية بالتكفير والعدوان

حين يكون التاريخُ سلاحَك وسلاح خصمك في محاولة كلٍ منكما الانتصار لقضيته،فهذا يعني أنكما قد قررتما سلفاً عدم الوصول إلى توافق، ذلك أن التاريخ كثير الأحداث وكل حدث قابلٌ لعدد من التفسيرات ، كما أنه قابل للانتحال ، فما من قضية تاريخية مفصلية إِلَّا وتجد أن الثابت المروي في أحداثها مُختَلِطٌ بالمنحول المُفْترَى لدرجة جعلت علم التاريخ من أعسر العلوم لمن أراد أن يقوم بحَقِّه كما ينبغي له من أهل الاختصاص فيه وقليل ما هم .

ومن القضايا المفصلية التي لم تتعرض لكثير من للانتحال وحسب ، بل تعرضت للتعمية وسوء التفسير والانتقائية المقيتة :تاريخ العلاقة الفكرية بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبين سائر الفرق والطوائف الإسلامية ، منذ نشأة الدعوة عام ١١٥٨للهجرة ، وهو تاريخ وصول الشيخ محمد رحمه الله تعالى إلى الدرعية ، حتى يومنا هذا ، وكذلك العلاقة العسكرية بين الدولة السعودية وبين الدول المجاورة ، منذ نشأة الدولة في عهدها الأول حتى يومنا هذا .
ولاشك أنني لن أتمكن في مقال واحد من مناقشة كل ما تم انتحاله على الدعوة والدولة ، أو إبراز كل ما تم تجاهله والتعامي عنه من أحداث ، ولكنني سأخصص المقال لضرب الأمثال وحسب ، وعلى من كان محباً للإنصاف راغباً في الوصول إلى الحقيقة الرجوع إلى الكتب المفردة التي اعتنت بهذه القضايا وأطالت فيها الحديث ، وأعترف آسفاً أنها من الجانب المناصر للدعوة والدولة قليلة جداً قياسا إلى حجم الهجمة وأهمية الموضوع بالنسبة إليهم .
فأعظم ما اتهمت به دعوة التجديد هو تكفيرها للمسلمين ، ولن أناقش هنا حقيقة موقف الشيخ محمد رحمه الله وعلماء الدعوة من التكفير، بل سأذكر وقائع تاريخية تُثْبِتُ أن خصوم الدعوة هم من بدأوا بتكفيرها من حين ظهورها وقبل أن ينتشر أمرها وقبل أن ترفع الإسلام في قتال أحد.
وبيان ذلك أنه من المُستقر تاريخياً :أن اللقاء والحلف التاريخي بين الدولة والدعوة تم في عام ١١٥٧ للهجرة ، وظلت دولة الدعوة منذ ذلك التاريخ وحتى عام ١١٨٧هـ ولم تتجاوز حدودها قرى ما يعرف في ذلك اليوم وحتى يومنا بالعارض وبعض بلدات الوشم والعُرض ، وغالب هذه البلدات خضعت لدولة الدعوة سلماً.
ومع ذلك ابتدأها الآخرون بالتكفير والعدوان ، أما التكفير فيرويه أحمد زيني دحلان في كتابه فتنة الوهابية ، قال :”و كانوا في ابتداء أمرهم أرسلوا جماعة من علمائهم ظنًا منهم أنّهم يفسدون عقائد علماء الحرمين و يدخلون عليهم الشبهة بالكذب و المين فلمّا وصلوا إلى الحرمين و ذكروا لعلماء الحرمين عقائدهم و ما تملّكوا به ردّ عليهم علماء الحرمين و أقاموا عليهم الحجج و البراهين التي عجزوا عن دفعها و تحقّق لعلماء الحرمين جهلهم و ضلالهم و وجدوهم ضحكة و مسخرة كحمر مستنفرة فرَّت من قسورة و نظروا إلى عقائدهم فوجدوها مشتملة على كثير من المكفرات فبعد أن أقاموا البرهان عليهم كتبوا عليهم حجة عند قاضى الشرع بمكة تتضمّن الحكم بكفرهم بتلك العقائد ليشتهر بين الناس أمرهم فيعلم بذلك الأول و الآخر و كان ذلك في مدّة إمارة الشريف مسعود بن سعيد بن سعد بن زيد المتوفى سنة خمس و ستين و مائة وألف و أمر بحبس أولئك الملحدة فحبسوا و فرَّ بعضهم إلى الدرعية”فانظر كيف أرسل القائمون على الدعوة من يخبر بحقيقة دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة في بداية أمرها كما صرح بذلك دحلان وهو ما قبل وفاة الشريف مسعود عام ١١٦٥، وكيف جوبهوا بالعرض على القضاء والحكم بكفرهم وحسبهم ، بل انظر إلى غطرسة دحلان وهو يقول :وجدوهم ضحكة ومسخرة!
وذكر المؤرخ التركي سليمان خليل العزي :أن الشريف مسعود أرسل إلى السلطان محمود الأول بأن محمد بن عبد الوهاب وأتباعه ملحدين لا دينيين ، وطلب المساعدة بالمال للقضاء عليهم .
وقد استجاب السلطان لطلب الشريف مسعود المدعم بالحكم القضائي وأرسل له خمسة وعشرين كيسا من المال لتجهيز العساكر لمقاتلة هؤلاء الخارجين عن الدين كما ذكر ذُلك اسماعيل حقي في كتابه أشراف مكة في العهد العثماني ، وكان ذلك تحديداً سنة ١١٦٢هـ ودولة الدعوة لم تتجاوز حدودها الدرعية ، ولم يصل شريف مكة ولا الدولة العثمانية منها أَذًى سوى عدد من العلماء جاءوا لعرض ما يرونه على علماء مكة ومناقشتهم فجابهوا بحكم قضائي بالتكفير وبالحبس ، وقال بعض المؤرخين بل تم الحكم بقتلهم .
والعجب من هذا السلطان الذي يرسل أكياس الأموال لمقاتلة أهل الدعوة ، ودولته لم ترسل يوما قبل ذلك جندياً واحداً لضم ديار نجد إليها ، ولم ترسل كيساً واحداً لمساعدة أهل نجد على ما كان يصيبهم من اللأواء والمساغب والمجاعات .
وقد وصلت الأموال للشريف مسعود لكنه لم يقم بشئ مما كُلِّف به حتى مات ، مما يوحي بأنه إنما استصدر الحكم القضائي على دعاة الدولة السلفية وأرسل إلى السلطان من أجل أن يحصل على هذا المال .

وهناك من يُزعم أن دولة الدعوة هي من اعتدى على الدولة العثمانية في العراق وهي من ابتدأ أهل كربلاء بالقتل دون أي سبب سوى التكفير الذي يسعون جاهدين لإلصاقه بهذه الدعوة المباركة ، وقائل هذا إن كان جاهلاً فإنه في حاجة لسماع بقية القصة .
فحينما لم تقم إمارة مكة بما طُلب منها أرسلت الدولة العثمانية جيشاً من العراق بغرض القضاء على دولة الدعوة وذلك سنة ١٢٠١هـ بقيادة ثويني بن عبدالله شيخ قبائل المنتفق ، ومعه آلاف المقاتلين من قبائله ومن شمر وطئ والخزاعل سنة وشيعة ، وتوغلوا في أراضي دولة الدعوة ، الدولة السعودية حتى وصلوا إلى بريدة وحاصروها ، لكن الأنباء السيئة عن بلاد ثويني جعلته يفك الحصار ويعود أدراجه .
وكان رد الإمام عبدالعزيز بن محمد على هذه الحملة :أن أرسل رسالة إلى والي بغداد تتضمن كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب إلا أن الوالي رد عليها رداً سيئا.
واستمرت قبائل العراق بمختلف انتماءاتها المذهبية تدعم الخارجين على الدولة السعودية وتؤوي المنشقين عنها مما اضطر الإمام عبدالعزيز إلى شن غارات تأديبية على تلك القبائل .
وأعاد والي العراق إرسال القبائل العراقية بمختلف انتماءاتها الطائفية من جديد لإسقاط الدولة السعودية بقيادة ثويني مرة أخرى ، وكانت هذه الحملة كبيرة جداً وخطيرة إلا أن الله وقى شرها حيث قُتِل ثويني من قِبَل بعض جنوده ، وتفرقت الحملة وطردتها قوات الإمام عبدالعزيز حتى أوصلتها للعراق .
ولم تكتف الدولة العثمانية بهذه الهزائم ، بل أرسلت سنة ١٢١٣هـ حملتين برية وبحرية مكونة أيضا من المكونات المذهبية العراقية ، كانت البرية بقيادة علي الكيخيا ، وحاصرت الهفوف والمبرز إلا أنها انهزمت واضطرت للانسحاب ، وقابلتها قوات الإمام عبدالعزيز بقيادة ابنه سعود وكان بوسعها استئصال حملة الكيخيا إلا أنها آثرت السلم ووقَّعت مصالحة بين الطرفين فعادت قوات الكيخيا إلى العراق سالمة .
إلا أن شيعة العراق تسببوا في نقض هذا الصلح حيث قامت فئات من شيعة العراق بالإغارة على ثلاثمائة من تابعي الدولة السعودية ومحاصرتهم قرب النجف وقتلهم عن بكرة أبيهم ، ولما وصل الأمر إلى الإمام عبدالعزيز أرسل إلى والي بغداد يطلب دميتهم فقط ، ويطلب معاقبة الجناة ، إلا أن والي بغداد لم يستجب لذلك ، فما كان من الدولة السعودية إلا أن أرسلت قواتها إلى جنوب العراق ، وقاتلت كل من قاتلها وكان ذلك هو سبب ما عُرف تاريخياً بوقعة كربلاء .
نعم كان رد الإمام عبدالعزيز أليماً وقويات إلا أننا لا يمكن أن نلومه دون أن ننظر إلى الخلفيات التي انطلق منها ، كما أنه ليس لنا أن نروي ما حدث في كربلاء دون نروي بواعثها.
أعود لأقول إن هذا المقال لم يأتِ ليروي كل شئ ، لكنه جاء ليقول إننا حين نصر على جعل التاريخ حَكَمَاً ثم ننتقي منه أحداثاً وأقوالاً دون أن نتأمل سياقها وبواعثها ، فهذا يعني بحق أننا لا نريد الوصول إلا إلى مزيد من الخصومة
د محمد السعيدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..