"وَإِنِ امرَأَةٌ خافَت مِن بَعلِها نُشوزًا أَو إِعراضًا فَلا جُناحَ عَلَيهِما أَن يُصلِحا بَينَهُما صُلحًا وَالصُّلحُ خَيرٌ وَأُحضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحسِنوا وَتَتَّقوا فَإِنَّ اللَّـهَ كانَ بِما تَعمَلونَ خَبيرًا " ﴿128﴾ النساء
، ما تفسير هذه الآية ؟
من تفسير الطاهر بن عاشور
: "هنا عطف لبقية إفتاء الله تعالى . وهذا حكم اختلال المعاشرة بين الزوجين ، وقد تقدّم بعضه في قوله :
واللاتي تخافون نشوزهنّ
[ النساء : 34 ] الآية ، في هذه السورة ، فذلك حكم فصْل القضاء بينهما ، وما هنا حكم الانفصال بالصلح بينهما ، وذلك ذكر فيه نشوز المرأة ، وهنا ذكر نشوز البعْل .
والبعل زوج المرأة . وقد تقدّم وجه إطلاق هذا الاسم عليه في قوله
وبعولتهنّ أحقّ بردهنّ في ذلك
في سورة البقرة ( 228 ) .وصيغة
فلا جناح
من صيغ الإباحة ظاهراً ، فدلّ ذلك على الإذن للزوجين في صلح يقع بينهما .
وقد علم أنّ الإباحة لا تذكر إلاّ حيث يظنّ المنع ، فالمقصود الإذن في صلح
يكون بخلع : أي عوَض مالي تعطيه المرأة ، أو تنازل عن بعض حقوقها ، فيكون
مفاد هذه الآية أعمّ من مفاد قوله تعالى :
ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهن شيئاً إلاّ أن يخافا أن لا يقيما
حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به
[ البقرة : 229 ] ، فسمّاه هناك افتداء ، وسمّاه هنا صلحاً . وقد شاع في
الاستعمال إطلاق الصلح على التراضي بين الخصمين على إسقاط بعض الحقّ ، وهو
الأظهر هنا . واصطلح الفقهاء من المالكية : على إطّلاق الافتداء على اختلاع
المرأة من زوجها بمال تعطيه ، وإطلاق الخلع على الاختلاع بإسقاطها عنه
بقية الصداق ، أو النفقة لها ، أو لأولادها .ويحتمل أن تكون صيغة
لا جناح
مستعملة في التحريض على الصلح ، أي إصلاح أمرهما بالصلح وحسن المعاشرة ،
فنفي الجناح من الاستعارة التمليحية؛ شبّه حال من ترك الصلح واستمرّ على
النشوز والإعراض بحال من ترك الصلح عن عمد لظنّه أنّ في الصلح جناحاً .
فالمراد الصلح بمعنى إصلاح ذات البين ، والأشهر فيه أن يقال الإصلاح .
والمقصود الأمر بأسباب الصلح ، وهي : الإغضاء عن الهفوات ، ومقابلة الغلظة
باللين ، وهذا أنسب وأليق بما يرد بعده من قوله :
وإن يتفرّقا يغن الله كلاّ من سعته
.وللنشوز والإعراض أحوال كثيرة : تقوى وتضعف ، وتختلف عواقبها ، . باختلاف أحوال الأنفس ، ويجمعها قوله :
خافت من بِعَلها نشوزاً أو إعراضاً
. وللصلح أحوال كثيرة : منها المخالعة ، فيدخل في ذلك ما ورد من الآثار
الدالّة على حوادث من هذا القبيل . ففي «صحيح البخاري» ، عن عائشة ، قالت
في قوله تعالى :
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً
قالت : الرجل يكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها ، فتقول
له أجعلك من شأني في حلّ . فنزلت هذه الآية . وروى الترمذي ، بسند حسن عن
ابن عباس ، أنّ سودة أمّ المؤمنين وهبت يومها لعائشة ، وفي أسباب النزول
للواحدي : أنّ ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمراً ،
أيّ كِبَراً فأراد طلاقها ، فقالت له : أمسكني واقْسِم لي ما بدَا لك .فنزلت الآية في ذلك .
وقرأ الجمهور :
أن يصّالحا
بتشديد الصاد وفتح اللام وأصله يتصالحا ، فأدغمت التاء في الصاد ، وقرأ
عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : «إن يُصْلِحَا» بضمّ التحتيّة وتخفيف
الصاد وكسر اللام أي يُصلح كلّ واحد منهما شأَنهما بما يبدو من وجوه
المصالحة .والتعريف في قوله :
والصلح خير
تعريف الجنس وليس تعريف العهد ، لأنّ المقصود إثبات أنّ ماهية الصلح خير
للناس ، فهو تذييل للأمر بالصلح والترغيب فيه ، وليس المقصود أنّ الصلح
المذكورَ آنفاً ، وهو الخلع ، خير من النزاع بين الزوجين ، لأنّ هذا ، وإنّ
صحّ معناه ، ألاّ أنّ فائدة الوجه الأوّل أوفر ، ولأنّ فيه التفادي عن
إشكال تفضيل الصلح على النزاع في الخيرية مع أنّ النزاع لا خير فيه أصلاً .
ومن جعل الصلح الثاني عين الأوّل غرّته القاعدة المتداولة عند بعض النحاة ،
وهي : أنّ لفظ النكرة إذا أعيد معرّفاً باللام فهو عين الأولى . وهذه
القاعدة ذكرها ابن هشام الأنصاري في «مغني اللبيب» في الباب السادس ، فقال :
يقولون : «النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، وإذا أعيدت معرفة ، أو
أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كانت الثانية عين الأولى» ، ثم ذكر أنّ في
القرآن آيات تَرُدّ هذه الأحكام الأربعة كقوله تعالى :
الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوةً ثم جعل من بعد قوة ضعفاً
[ الروم : 54 ] وقوله :
أن يصّالحا بينهما صلحاً والصلح خير
[ النساء : 128 ]
زدناهم عذاباً فوق العذاب
[ النحل : 88 ] والشيء لا يكون فوق نفسه
أن النَّفْس بالنفس
[ المائدة : 45 ]
يسألك أهل الكتاب أن تُنَزّل عليهم كتاباً من السماء
[ النساء : 153 ] ، وأنّ في كلام العرب ما يردّ ذلك أيضاً . والحقّ أنّه
لا يختلف في ذلك إذا قامت قرينة على أنّ الكلام لتعريف الجنس لا لتعريف
العهد ، كما هنا . وقد تقدّم القول في إعادة المعرفة نكرة عند قوله تعالى :
وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة
في سورة البقرة ( 193 ) . ويأتي عند قوله تعالى :
وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه
في سورة الأنعام ( 37 ) .وقوله
خير
ليس هو تفضيلاً ولكنّه صفة مشبّهة ، وزنه فَعْل ، كقولهم : سَمْح وسَهْل ،
ويجمع على خيور . أو هو مصدر مقابل الشرّ ، فتكون إخباراً بالمصدر . وأمّا
المراد به التفضيل فأصل وزنه أفْعَل ، فخفّف بطرح الهمزة ثم قلب حركته
وسكونه .جمعه أخيار ، أي والصلح في ذاته خير عظيم . والحمل على كونه تفضيلاً يستدعي أن يكون المفضّل عليه هو النشوز والإعراض . ، وليس فيه كبير معنى .
وقد دلّت الآية على شدّة الترغيب في هذا الصلح بمؤكّدات ثلاثة : وهي المصدر المؤكّد في قوله :
صلحاً
، والإظهارُ في مقام الإضمار في قوله :
والصلح خير
، والإخبار عنه بالمصدر أو بالصفة المشبهة فإنّها تدلّ على فعللِ سَجية .ومعنى
وأحضرت الأنفس الشحّ
ملازمة الشحّ للنفوس البشرية حتّى كأنّه حاضر لديها . ولكونه من أفعال
الجبلّة بُني فعله للمجهول على طريقة العرب في بناء كلّ فعل غير معلوممِ
الفاعل للمجهول ، كقولهم : شُغف بفلانة ، واضطُرّ إلى كذا .ف«الشحّ» منصوب على أنّه مفعول ثان ل«أحضرِت» لأنّه من باب أعطَى .
وأصل الشحّ في كلام العرب البخل بالمال ، وفي الحديث " أنْ تَصْدّقَ وأنت صحيح شحيح تخشَى الفقر وتأمل الغنى " وقال تعالى :
ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون
[ الحشر : 9 ] ويطلق على حرص النفس على الحقوق وقلّة التسامح فيها ، ومنه المشاحّة ، وعكسه السماحة في الأمرين .فيجوز أن يكون المراد بالصلح في هذه الآية صلح المال ، وهو الفدية . فالشحّ هو شحّ المال ، وتعقيب قوله :
والصلح خير
بقوله :
وأحضرت الأنفس
على هذا الوجه بمنزلة قولهم بعد الأمر بما فيه مصلحة في موعظة أو نحوها : وما إخالك تفعل ، لقصد التحريض .ويجوز أن يكون المراد من الشحّ ما جبلت عليه النفوس : من المشاحّة ، وعدم التساهل ، وصعوبة الشكائم ، فيكون المراد من الصلح صلح المال وغيره ، فالمقصود من تعقيبه به تحذير الناس من أن يكونوا متلبّسين بهذه المشاحّة الحائلة دون المصالحة . وتقدّم الكلام على البخل عند قوله تعالى :
ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله
في سورة آل عمران ( 180 ) . وقد اشتهر عند العرب ذمّ الشحّ بالمال ، وذمّ
من لا سماحة فيه ، فكان هذا التعقيب تنفيراً من العوارض المانعة من السماحة
والصلح ، ولذلك ذيّل بقوله :
وإن تحسنوا وتتّقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً
لما فيه من الترغيب في الإحسان والتقوى . ثم عذر الناس في شأن النساء فقال :
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء
أي تمامَ العدل . وجاء ب ( لن ) للمبالغة في النفي ، لأنّ أمر النساء
يغالب النفس ، لأنّ الله جعل حُسن المرأة وخُلقها مؤثّراً أشدّ التأثير ،
فربّ امرأة لبيبة خفيفة الروح ، وأخرى ثقيلة حمقاء ، فتفاوتهنّ في ذلك
وخلوّ بعضهنّ منه يؤثّر لا محالة تفاوتاً في محبّة الزوج بعض أزواجه ، ولو
كان حريصاً على إظهار العدل بينهنّ ، فلذلك قال
ولو حرصتم
، وأقام الله ميزان العدل بقوله :
فلا تميلوا كلّ الميل
، أي لا يُفْرط أحدكم بإظهار الميل إلى أحداهنّ أشدّ الميل حتّى يسوء الأخرى بحيث تصير الأخرى كالمعلّقة . فظهر أنّ متعلّق
تميلوا
مقدّر بإحداهنّ ، وأنّ ضمير
تذروها
المنصوب عائد إلى غير المتعلّق المحذوف بالقرينة ، وهو إيجاز بديع ."-

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..