وهذا "الفيل" الذي زاد من وطأة كورونا على حياة واقتصاد وصحة العالم هو مشكلات الأمراض المزمنة (متمثلة في ضعف النشاط البدني والسمنة، والسكري، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض شرايين القلب، والسرطانات.. الخ من الأمراض المتعلقة بالاستقلاب واضطراب المناعة) والتي تصاحب تخوفات كورونا، فالأمراض المزمنة وما يصاحبها من اختلال المناعة، حددت وبشكل كبير ومثبت إحصائياً كلاً مما يلي:
- من يصاب بكوفيد 19
- من تظهر عليه الأعراض
- من يحتاج علاجاً خارج المستشفى
- من يحتاج إلى تنويم ومراقبة
- من يحتاج إلى تنفس صناعي
- من يتوفى بسبب كورونا
وكلنا يذكر تلك العجوز الأسبانية (106 سنة) التي تجاوزت الإصابة بكوفيد بسلام، وعندما سئلت عن السبب، قالت ببساطة "أنا صحتي جيدة".
ولو جاءت كورونا قبل مائة عام فقد تكون مرت ولم تدخل التاريخ كما دخل "كوفيد 2019" ففي تلك الأزمان كان الطيف الواسع من الامراض المزمنة في حدود سكانية ونسب متدنية وفئات محدودة، وحينها كانت مناعة البشر طبيعية، وغذاؤها من الطبيعة، وكانت تمشي وتتحرك في بيئات صديقة للمشاة. ولم يكن لدى البشر شعور بضرورة السهر و "الترفيه الليلي" الذي يوقظ هرمونات الجوع والضغط النفسي وتنشط أثناءه "الترسبات الألزهايمرية"وتثبط المناعة ويهيئ الإنسان للأمراض المزمنة والأورام.
ولو حدثت جائحة كورونا في عالم يميز بين الأمراض المزمنة في بعدها الوراثي المحدود في نسب ضئيلة من الناس لاستطاع التعامل مع هذه الجائحة وإعطاءها حجمها بلا مبالغة، والتركيز على المصابين بالأمراض المزمنة وحمايتهم بموارد محدودة وكمية من اللقاحات تخصص للمعرضين لهذه الجائحة كما يحدث في الانفلونزا الموسمية كل عام، ويترك بقية البشر لمعجزة المناعة الطبيعية، الرحمة التي أودعها الله الإنسان.
لقد جاء كوفيد 19 على عالم كان ينادي فيه المتخصصون من عشرات السنين صناع القرار والقائمين على الشأن الصحي والتعليم الطبي ويقولون: لا تتفرغوا فقط لإطفاء حرائق "الأمراض المزمنة" ولكن وفي نفس الوقت ابذلوا جهدا وخصصوا موارد (تكاد تكون صفرية) من أجل منع اشتعالها. وقد وصفت أدبيات لا حصر لها حجم مشكلات الأمراض المزمنة وحذرت من تسارعها المخيف ووطأة ذلك على الاقتصاد والتنمية في كل مكان تنتشر فيه.
لقد جاءت كورونا على أنظمة العالم الصحية كما يأتي الامتحان فجأة على طالب "مشاغب/فاسد" لم يكن ينفذ الواجبات المطلوبة، ولم يكن يرغب في تعلم "الدروس" ولم يكن يحب أن "يسمع الكلام" هكذا كانت (ولا تزال) أنظمتنا الصحية الأكاديمية والخدمية مستمتعة بمسح البلاط (ولأسباب غير منطقية) وهي تعرف أن سبب المشكلة تسريب في السقف.
ولو لم تأت كورونا على هذا الطالب المشاغب لاستمرت "حرائق الأمراض المزمنة" ولاستمر انحدار البشرية سريعا نحو الوقت الذي تصبح فيه الأعمار المتوقعة للأطفال أقصر من أعمار آبائهم بسبب الأمراض المزمنة وعلى رأسها السمنة وغيرها من عوامل الخطورة ذات المنشأ السلوكي والبيئة التي شوهها الاقتصاد المتوحش.
ودعوني "أحلم" معكم بأن الدول أضافت إلى الترليونات التي استثمرتها في التعامل مع الجائحة من خلال التركيز على "خطة عالمية" لتعزيز النمط المعيشي اللازم لتعزيز المناعة الطبيعية (مع التركيز على الفئات الأكثر تعرضا لمضاعفات كوفيد 19) ووفق استراتيجيات مبنية على أفضل الممارسات وأكثر البراهين العلمية ثباتاً ونجاعة. وحتى لو أدى ذلك إلى تغيير جذري (ولو مؤقت) في النمط المعيشي وإعادته إلى النمط "الطبيعي" الذي طالما دعت إليه المنظمات المتخصصة. ولنحلم أيضا أن ذلك أدير بطريقة توازي وتدعم الإغلاقات التي غيرت (رغماً عنا) حياة البشر تغييراً جذرياً لحوالي عام أو أكثر.
وأزعم أن الأفراد (على مستوى العالم) قد وعوا الدرس أفضل وأسرع من الأنظمة، فقد كانت كورونا سبباً في ارتفاع نسبة ممارسة المشي والنشاط البدني وركوب الدراجات من اليوم الأول الذي بدأت فيه الإغلاقات، ورصدت ذلك الكثير من الأبحاث والمؤتمرات والندوات، وقد غردت يوماً عن هذا، وكتبت مقالاً قلت فيه "لقد خرج المشي منتصراً من معركة كورونا" فقد انضمت أعداد أكبر من البشر إلى ممارسي المشي للصحة وركوب الدراجات رغبة أو اضطرارا. ويبقى أن نعرف أكثر عما أحدثته كورونا في بقية السلوكيات البشرية المتعلقة بالصحة، وما إذا كانت تلك التغيرات في صالح البشرية أم لا.
إن الأمراض المزمنة التي أحرجت العالم وأرهبت السياسيين مع كورونا، لا تتجاوز كونها "أمراض النمط المعيشي" و "أمراض الجلوس" و"متلازمات نقص المشي". وهذه الأمراض هي "الفيل في الغرفة" الذي يتحاشى الجميع أن يسأل؛ من يجب أن يُخرج هذا الفيل؟ وهل سكان الغرفة مستعدون لتحمل تبعات العمل على إخراجه (خوفاً) أم أن هناك مستفيدون (طمعاً) من وجوده؟
ان إخراج "الفيل" من الغرفة قد يتأخر الى أن يحدث أحد أمرين؛ الأمر الأول هو أن تستمر جائحة كورونا (هذا التنبيه الإلهي) في تحوراتها وإغلاقات الحدود الدولية وتحديدها لحركة الطيران والاقتصاد. وإلى أن تأتي الجائحة على ثروات الدول والمجتمعات بشكل يؤلم الطالب الذي يرفض التعلم وتنفيذ "الواجبات" وإلى أن يهتدي لما كان يقوله "معلمو" الصحة العامة ويعيد الأمور إلى نصابها.
الأمر الآخر الذي قد يسرع بإخراج الفيل، أن تصل الرسالة للأفراد والمجتمعات (بفضل التواصل الاجتماعي) ويعي البشر الدرس (بعيداً عن دوائر صنع القرار) ويرتفع الوعي بأمراض النمط المعيشي ويعرف الناس "كلمة السر" في تجنب هذه الأمراض التي جعلت للجائحة شأناً لم تكن لتصل إليه. وهذا سيتطلب الوقت لتغيير أنماط التغذية والنشاط البدني والنوم والعودة إلى الفطرة والطبيعة.
وإذا لم يحدث أي من الأمرين (اللذين لا ثالث لهما) بشكل يخفف وطأة الجائحةـ فسيعيش البشر في عالم تشوهت فيه الحياة والتواصل الإنساني وقد يضغط "الطالب المشاغب" على سكان الغرفة بشكل يهدد استمرار الحياة بالشكل الذي عهدناه…. إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
ودمتم سالمين
5:15 م, 12 ذو القعدة 1442 هـ, 22 يونيو 2021 م
مستشار الصحة العامة وخبير تعزيز الصحة
الرياض المملكة العربية السعودية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..