الجمعة، 27 أغسطس 2021

رحلة الأمل والرَّجاء.. رحلةٌ لا تنتهي

       عندما يُراجِع الإنسان شريط حياته يمكن أنْ يتخيَّله كشريط سينمائي مكوَّن من مقاطع عدَّة أو مراحل كان عليه المرور بها، فلا تنقضي مرحلة إلَّا وتبدأ مرحلة جديدة لها سماتها وخصائصها، وخصوصيَّتها ومُعطياتها، بعض تلك المراحل تغمُرها السعادة والطموح والأمل، وأخرى يغيِّم عليها الشكُّ وعدم اليقين حول المستقبل وتتميَّز بحزن ومرارة وضعف حيلة، بعض تلك المراحل من أجل طلب العلم وبعضُها لنَشْر العلم (وهذه تكون الأهمُّ والأكثر سعادة، سعادة الإنجاز.. سعادة العطاء)، بعضُها يكون لكسب المال وبعضُها لإنفاق المال في الترفيه عن النفس والأسفار... وفي كلِّ هذه المراحل يُرافِق الإنسانَ أملٌ ورجاءٌ لا ينقطعان.

تعوَّدتُ في حياتي التي أمدَّ الله لي فيها ورزقني طول العمر، على تخطِّي أمورٍ كان يمكن أنْ تغيِّر مسار حياتي، فهناك مَنْ هو أقوى مني يمنحُني العزيمة والقوة على تحمُّل أقسى ما يمكن أنْ يمرَّ به بشر، هو مَنْ أرجوه وأتوكَّل عليه، وهو من أملي معقودٌ عليه، يُزيل وحشتي، ويُنير طريقي، وهو العالِم بكلِّ السرائر، ومدبِّر هذا الكون، بيده الخير، وهو على كلِّ شيءٍ قدير.

وعندما أكملتُ كتابي «صفحات من كتاب العمر» الذي رويتُ فيه أبرز تجاربي في مراحل حياتي المتعدِّدة، بدا لي أنِّي تخطَّيتُ المصائب، وأنَّ الحياة تحنُّ على شيبتي وتقدُّمي في السِّنّ، وتتوقَّف عن تنغيصي فيما تبقَّى من العمر، ولم يخطُر ببالي أنْ أقف موقف الإنسان الحائر العاجز عن معالجةِ مصيبةٍ تحلُّ عليه وعلى عائلته الصغيرة في وقتٍ خالَهُ وقتَ راحة وهدوء برفقة شريكة الحياة، التي اختارت دِيْنَ الإسلام عقيدةً وفكراً وممارَسةً تفُوْق فيها بعضَ مِنْ وُلدوا وتربَّوا في المِلَّة، المرأة التي اختارت الهجرة والتغرُّب والبُعْد عن بيئتها وأهلها وكلِّ بهرجة أمريكا التي تهفو إليها أفئدةُ كثيرين، لتكون في بلاد الإسلام وبين أهله، اختارتْ أنْ تكون إلى جانبي وأنا أكدَحُ وأعمل لتوفير لقمة العيش لها وللأولاد، وكانت تخطِّط لتكون إلى جانبي في وقت الشيب والهرم.

مررتُ في حياتي بالعديد من النَّوَازل التي شكَّلتْ عَقَبات أو أدَّتْ إلى تغيير مسار حياتي، غير أنَّ أمرَها كان أهوَن، وكثيرٌ منها كان في فترة الشباب والعنفوان وكان بالإمكان التغلُّب عليها ومعالجتها، ولكنَّ مصيبة الثامن من شهر فبراير الماضي لم تكن كتلك النوازل، لأنها لامستْ بقاء وحياة أعزِّ وأغلى إنسان في حياتي، ذلك يومٌ سوف تبقى ذكراه عصيبةً ومؤلمة، يومٌ لن أنساه ما حييت. في هذه المرحلة المتقدِّمة من حياتي وجدتُ نفسي في رحلةٍ هي «رحلة الأمل والرَّجاء».

ذاك يومٌ هاتَفَني فيه الطبيب الذي كانت زوجتي المريضة تحت رعايته الطبِّية يطلب لقائي وإياها، دَلَفْنا إلى مكتبه الصغير حيث كان يقرأ تقرير الأشعَّة المقطعية، حاول أنْ يُطمْئِنَنا، ولكنَّ مَنْ يقرأ قَسَمات وجهه يعرف أنَّ الأمر خطير، ذكرَ لنا وجود وَرَم في البنكرياس وضرورة دخول زوجتي للمستشفى من أجل إجراء قسطرة وأخذ عيِّنة من الوَرَم للتأكُّد مِنْ كَوْنه حميداً أو غير حميد.

كنَّا -زوجتي وأنا- في ذهول مِنْ هَوْل الصدمة، فلم يسبِق لها أن اشتكت مِنْ بأس أو كانت مريضة، ولم يخطُر ببالنا أنَّ الأمر بتلك الخطورة، فهو لم يكن أكثر مِنْ ألم في المعدة كشفت الفحوص أنَّ سببه وجود بداية لتقرُّحات، ووَصَفَ الطبيب العلاج اللازم لذلك، واعتقدْنا أنَّ الأمر انتهى بذلك التشخيص، ولكنَّ الألم استمرَّ على الرغم مِنْ تناوُل الأدوية، فقرَّر الطبيب المختصّ إجراء مزيدٍ من الفحوص ومنها الأشعَّة المقطعية التي جاءت بذلك الخبر الأليم، لقد وُجدتْ مشكلة أكبر خطورةً من قرحة في المعدة!

على إثر ذلك قرَّر الطبيب إدخال زوجتي للمستشفى لإجراء فحوصٍ أكثر، وجاءت النتيجة بوجود وَرَم في البنكرياس، ولا أنسى النظرة التي كانت على وجه الطبيب، كانت قَسَماتُ وجهه تُنبئ بأمرٍ ليس بالحَسَن، فقد تأكَّدَ له من المعايَنة -حتى قبل إجراء الفحص المجهري- أنه مرض خبيث، ولكنَّه قال لي إنَّ الأفضل أنْ ننتظر التشخيص النهائي... وبقي الأمل والرَّجاء.

ثمَّ علمتُ من الفريق الطبِّي أنَّ ذلك الوَرَم خبيث وفي المرحلة الرابعة التي يتعذَّر فيها إجراء جراحة!! وفي ذلك الوقت جاء طبيب زائر للمستشفى من الولايات المتحدة الأمريكية، متخصِّص في جراحة البنكرياس، فقرَّر الفريق الطبِّي المشرِف على حالتها أنْ تُعرَض الحالة على الطبيب الزائر من أجل إعطاءِ رأي إضافي... وانتعش الأمل.

بعد دراسة الحالة والاطِّلاع على نتائج الفحوص التي أُجريتْ لها، أخذني الطبيب الزائر جانباً وقال: «حالة المريضة حَرِجة جداً ولا يمكن إجراء عملية جراحية لها، وكلُّ ما يمكن عمله لها هو العلاج الكيميائي لتقليص الورم وإراحتها من الألم».. انطبق تقييم الطبيب الزائر مع تقييم أطباء المستشفى.

دارتْ بي الدنيا بعد معرفة خطورة الحالة، وأصبحتُ دون تركيز ولا أعلم ماذا أعمل، وعند باب المستشفى حيث خرجْنا، قلتُ: «أغلقْنا باب الأطباء وفَتَحْنا باب الله».. نعم.. لقد كنَّا في رحلة أملٍ في الله بأنْ يكون الشفاء من نصيب حبيبتي وشقيقة روحي، زوجتي وأم أبنائي التي لم أَرَ منها يوماً أسود من يومِ عرفتُها، لقد قالتْ لي يوماً: «عندي حبٌّ كبير أودُّ أنْ أمنحَهُ لكَ ولأبنائي»، وصدقتْ فيما قالتْ.. بل زادتْ على ذلك إذ منحتْ حبَّها لأمِّي وأبي، وإخواني وأخواتي، وكلِّ مَنْ عرفتْهُ وعَرَفَها.

وبدأ العلاج الكيميائي، ولم تُجْدِ مراحل العلاج الأولى، فقد انتشر المرض في الكبد وقرَّر الطبيب عدم مواصَلة ذلك العلاج والاستعاضة عنه بعلاج جديد بالحبوب، وهذا العلاج سلبَ منها الرغبة في الأكل وأُصيبت بتعب شديد. وفي ليلةٍ أخذناها للطوارئ وقرَّر الأطباء إدخالها للمستشفى، وقضينا معاً -والأسرة معنا- ثمانية عشر يوماً، وخلال اليومَيْن الأخيرَيْن من أيَّامها في هذه الدنيا كانت مستغرِقةً فيما يُشبِه النوم العميق، ولم نكن نتوقَّف عن قراءة القرآن إلى جانبها.

وفي الرابع والعشرين من شهر يوليو الفائت، أسلمتْ روحَها الطاهرة لبارئها، وكنَّا حول سريرها، أبناؤها وحفيدتها وأنا، غادرتْ دُنيانا بعد أنْ لقَّنتُها الشهادتَيْن، وظهرَتْ على محيَّاها ابتسامةٌ لم تُفارِقْها حتى وُضعتْ في لحدها.

يا أيتُها الروح الزكية الطاهرة ارجعي إلى ربِّك راضيةً مرضيَّة، لقد كنتِ ذُخْري في شيبتي وكنتِ أغلى مَنْ عرفتُ، واليوم أعيشُ بعدكِ وحيداً، في انتظار دَوْري لألحقَ بك عند مليكٍ مقتدر، لا اعتراضَ على ما قدَّر الله وكتب، وأحمدُهُ حمداً يليق بجلاله وعظمته، وأشهَد أنَّ الموت حق، والساعة حق، ولعلَّنا نلتقي في الدار الآخرة تحت عناية ورعاية ربٍّ كريم، وداعاً أيها الروح الطيِّبة، والحمد لله ربِّ العالمين.

كانت تلك نَفَثاتُ مألومٍ وخلجاتُ مكلوم، وإنْ كان لي مِنْ نصيحةٍ أُسديها فهي تقديرُ النِّعمة قبل فقدانها، وحَمْدُ الله عليها كثيراً، فالزوجة الطيِّبة نعمةٌ وخيرٌ وبركة.. على الزوج ألَّا يُفسِدَ طِيْبتها بسفاسف الأمور.

ويا مَنْ تقرأ كلماتي.. أعزُّ ما تُنصَح به هو: اسْعَ للحياة سَعْيَها ولكنْ لا تعلِّقْ قلبَك إلَّا بالآخرة، لقد عرفتُ خلال مشهد الدفن كم هي الحياة وضيعة (إلَّا ما كان منها لله)، وكيف أنَّ الإنسان يخرُجُ منها عاجزاً عن أنْ يأخذ معه حبيباً، أو شيئاً عزيزاً.

وأهمسُ لك: أَبْقِ الأمل متوقِّداً دائماً في قلبك.. فمِنَ اليوم الذي شُخِّص فيه مرضُ زوجتي وحتى اللحظة التي فارقتْ فيه روحُها الطاهرة هذه الدنيا الفانية، كنتُ وأفراد العائلة ندعو الله تعالى أنْ يشفيها، ولم نقطع الأمل وإنْ كنَّا نرى ملامح الرحيل باديةً على محيَّاها الصَّبُوح... وبعد رحيلها بدأتْ رحلة أملٍ ورجاءٍ جديدة، أملٍ بأنْ تدخُل روحُها عالَماً خيراً من عالَمنا.. عالَماً مفعَماً برحمة الله وفَضْله وإحسانه وكرمه.

ومن الناحية الطبِّية أودُّ القول: علينا الاهتمام بالفحوص الدورية، وحتى إنْ كنَّا مهتمِّين بصحَّتنا ومجتهدين ونُراجع الأطباء، لكنْ أحياناً يَغِيْب عن الأطباء أنْ يطلبوا فحوصاً يعتقدون أنها ليست ضرورية، فزوجتي لم تُجْرَ لها أشعَّة مقطعية لمنطقة البطن منذ ما يزيد على أربع سنوات لأنها لم تكن تشتكي من ألم في البطن، فالنصيحة هي عدم إهمال مثل هذا الفحص سنوياً إنْ أمكن، فإمكانية العلاج تكون أوسع إذا اكتُشِفَ المرض في مرحلة مبكِّرة، وسرطان البنكرياس مِنْ أخبَث الأمراض السرطانية ولا تظهَر أعراضُه إلَّا بعد أنْ يستفحل. لا شكَّ في أنَّ الأعمار بيد الله، ولكنَّنا مأمورون ببَذْل الأسباب.

أسأل الله أنْ يحفظكم، وأنْ يحفظ أحبابكم.. ففي فَقْد الأحبَّة ذبولٌ أليم..

ولا نقول إلَّا ما يُرضي ربَّنا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

الجمعة/السبت 27 اغسطس 2021
عبدالرحمن بن أحمد  الجعفري
رحمك الله يا أبا عليرحمك الله يا أبا غسانصراع الإراداتتساؤلات حائرة تبحث عن إجاباتقمَّة العشرين.. وصياغة القِيَم الإنسانية العُليا2721.jpg

عبدالرحمن بن أحمد الجعفري

المصدر

----------------
  أثار رثاء الدكتور عبدالرحمن الجعفري زوجه ، كوامن أشجان أصدقاء ، وفيها عبرة لمن يعتبر :
—————
التعليق الأول -
أسأل الله أن ينزّل على قبر زوجة الصّديق عبدالرّحمن الجعفري (أم خالد) شآبيب الرّحمات، وأن يعوضها الجنّة، ويعوّض زوجها وأبناءها وكل من أصيب فيها  الصّبر والاحتساب.
لقد عرفنا هذه الأسرة الكريمة في مدينة نورمان  باوكلاهوما بالولايات المتحدة، فكانت أم خالد نعم السّيدة المسلمة، كانت الرّاعية والحاضنة لشؤون نساء السّعوديين في نورمان، كما كان الأخ د.عبدالرّحمن من أبرز القائمين على شؤون مسجد في المدينة، والدّاعمين للطلاّب السّعودين، ولاحقًا سبقنا في عضويّة مجلس الشّورى، وعندما التحقنا بعضوية المجلس وجدناه يعبق بطيب د. الجعفري.
ومن مرّ بما مرّ به الأخ د. عبدالرّحمن (مثلي) يشعر بشعوره، ويدرك معنى وحجم معاناته  وفداحة خسارته..
فقد فقدت من قبله زوجتي (أم سامي) وكان ذلك في (السّاعة السّادسة والنّصف من صباح يوم السّبت/ ١٢صفر ١٤٣٨ / 
١٢ نوفمبر ٢٠١٦)
وأتذكّر هذا اليوم بكل دقائقه ولحظاته، وهو محفور في الذّاكرة، وتكتوي به النفس ألمًا كلّما تذكّرته.

(‏( أحتـاجُ كي أبكي عليكِ عيونا..
‏ومن المدامعِ أنهرًا ومزونا))

اسم زوجتي ( مزون) 

وقد كتبتُ عنها في يوم وفاتها مرثية تحت عنوان: (دمعة حزن) وتم نشرها في حينه. 
رحم الله فقيدتي أم سامي، ورحم ورحم فقيدة د. الجعفري، ورحم موتانا، وموتاكم، وموتى المسلمين، وجمعنا بهم في مستقرّ رحمته..
والحمد لله من قبل ومن بعد..
[٢٧/‏٨ ٩:٢٧ م] د .سعد عطية الغامدي: التعليق الثاني:
ابكاني والله ..
إنا لله وإنا إليه راجعون...
تذكر قبل ٣ او ٤ أشهر ؟أخبرتك عن قريبتي التي توفاها الله بالكورونا وكانت ترجو من ابنها أن يخرجها من المستشفى فورا وبأي شكل حتى أنها كتبت له ورقة من خلف الزجاج كتبت فيها *أخرجني يا وادي نفخوا صدري بالأكسجين* أراد إخراجها فقالوا له على مسؤوليتك فتراجع خوفا عليها وانتقلت إلى رحمة الله بعد أيام من تلك الرسالة..
أمس الخميس قررت زيارة زوجها (إبن خالتي) فماذا وجدت ؟
إنسان مكسور بدا عليه الهزال وهو الذي كان يشكو من البدانة ، كأن الحدث من هوله زاد في عمره عشرين عاماً!!
شكى لي الحال فعرفت أن الزوجة هي الام والاخت والبنت والصديقة لا يُسدُ غيابها مهما حاول من حوله ...
مازحته ما رأيك نبحث لك عن شريكة تتقاسم وإياها ما تبقى من العمر زفر وقال هل ستكون كما أم مهنا ؟ وصمت !!
خنقتني العبرة وودعته ..
رحم الله امواتنا وأمواتكم وعصم من فقد حبيب بالصبر..
اسعد الله مساءك وتقبل طاعتك وسامحني أطلت ..💐💐
[٢٧/‏٨ ٩:٢٩ م] د .سعد عطية الغامدي: التعليق الثالث:
غفر الله لها وأسكنها فسيح جناته...
 
نماذج وفاء الزوجات كثيرة  ورغم مصيبته إلا أنها نهاية سعيدة!!

إبن خالي ذهب لإمريكا  للدراسة فتعرف على إسبانية راقت له وراق لها  فبعث لوالديه يخبرهم بنية الزواج منها  كانت صدمة كبيرة لهما وبخاصة والدته ولكنه أصر رغم معارضتهم  إلا أن تقبلو الامر....
أسلمت وحسن إسلامها  وكانت مثالا للبر بوالديه والتربية الحسنة لأولادها . لم تكن من أسرة فقيرة بل على العكس كان والديها يسكنان قصرا في بلدهما اسبانيا .
توفيت زوجة خالي و كان يحبها حبا فائقا لدرجة انه لم يرض بالزواج بعدها؛  فطلبت زوجة الابن الانتقال إلى بيت الخال لرعايته ......
بالمقابل هناك سعوديات  هانت عليهن العشرة ما أن كبر اولادها و رغبت في التحرر من أعباء الزوج. 

الحياة قصص

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..