السبت، 16 يوليو 2022

الأردن وإيران وكبوة بشر الخصاونة

 الخصاونة ربما أراد أن يدفن فكرة الناتو ولكنه استعان بافتراضات لا يصدقها هو نفسه وربما أراد أن يرسل تطمينات للميليشيات الحاكمة في العراق ولكنه غازل التهديد من حيث لا يستحق.
الخميس 2022/07/14
 
في ورطة

الدعوة إلى إقامة “ناتو عربي في مواجهة إيران” باتت جديرة بالدفن الآن. الأردن الذي أطلق الدعوة، هو الذي حفر قبرها بيديه، وأهال عليها التراب. لأن الأردن، بحسب رئيس الوزراء بشر الخصاونة، “لم يتعامل مع إيران يوما واحدا على أنها مصدر تهديد للأمن القومي”، ولأن “وتيرة التهديدات الإيرانية لدول الجوار تراجعت”.

هذا الكلام، لا يُبقي أيّ معنى لفكرة مواجهة إيران من خلال بناء قوة عسكرية مشتركة. فطالما أن التهديد غير موجود، فإن بناء هذه القوة يُصبح تمرينا ضارا من تمارين السياسات الإقليمية.

إيران، مع ذلك، تهديد فعلي. يراه الخصاونة، ولكنه لا يعرف ماذا يقول بعدما أصبحت بلاده وإيران جيرانا ولهما حدود مشتركة من جهة العراق ومن جهة سوريا. فكلا هذين البلدين يخضعان لسلطة ميليشيات تابعة لإيران، وتستطيع طهران أن تتحكم بكل قرار يصدر عن العاصمتين.

يظهر تهديد أمني مباشر من جهة العراق، ولكن يمكن أن يظهر تهديد اقتصادي في أيّ وقت. ولئن يسعى الأردن لتقديم تسهيلات اقتصادية لسوريا، فإن التهديد الأمني على حدوده الشمالية قائم بالفعل. وهذا هو، في الواقع، سبب اضطراب التصورات في الأردن عن الحاجة إلى الناتو العربي وعدم الحاجة إليه. وهو الذي يقف وراء فكرة أن “إيران تهديد يستحق المواجهة المشتركة”، والفكرة المضادة التي تقول إنها “ليست تهديدا”

الخصاونة جدير بأن يعيد النظر. قد يكبو، كما يكبو الجواد. إلا أنه ليس قليل الخبرة على الإطلاق، ويعرف مسالك الاستدراك

حاول الخصاونة، أن يشرح سبب اضطراباته، ولكنه كلما أمعن في الإيضاح كلما زاد في الكشف عن ورطته. قال في مقابلة مع “بي.بي.سي” العربية “ليس سرا أن التموضع الإيراني بشأن الكثير من الملفات شكل تحديا لبعض الدول الشقيقة في ما يتعلق بممارسة شكل من أشكال النفوذ، الذي لم يخدم بالضرورة استقرار تلك الدول”، ولكنه زاد الطين بلة عندما قال إن “الأردن يسعى للوصول إلى صيغة حوار مع إيران مبنية على علاقات حسن الجوار.. والانفتاح على علاقة صحية للغاية مع إيران، ولكن على قاعدة الضوابط والأحكام التي قام عليها النظام الدولي المعاصر”.

الخصاونة يعرف أن آخر ما يمكن لإيران أن تفعله هو إقامة علاقات مع دول المنطقة قائمة على أساس تلك الضوابط والأحكام. مشروعها الثوري يمنعها من ذلك، ويحضّها حضّا على التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة وتهديد استقرارها وزعزعة تماسكها الاجتماعي. فلماذا النفاق؟

الحقيقة التي لطالما طغت على علاقات الأردن بدول المنطقة وقضاياها، هي أنه ليس في وضع يسمح له باجتراح سياسات إقليمية جذرية. موقعه الجغرافي إذا كان يجعل من استقراره حجر زاوية في استقرار المنطقة برمّتها، وهذا شرحه يطول، فإن ظروفه الخاصة الاجتماعية والاقتصادية لا تسمح له بأن يكون في مقدمة المواجهات الكبرى. يمكن أن يأتي ثانيا أو ثالثا، ولكنه لا يستطيع أن يأتي أولا. وفكرة إنشاء ناتو عربي، وضعته في “بوز المدفع” من وجهة نظر إيران، فحركت عصاباتها في العراق لتهديد الأردن باقتصاده، فاضطر الخصاونة أن يقدم ما يبدو وكأنه اعتذارات وتراجعات.

الفكرة ولدت على أيّ حال. وسرعان ما أظهرت إسرائيل والولايات المتحدة اهتماما بها، من أجل تمرير شراكة أمنية عربية إسرائيلية في مواجهة إيران.

المسألة هنا أبعد من مجرد شكل آخر من أشكال التطبيع. إنها محاولة لإحداث انقلاب استراتيجي في موضع إسرائيل في المنطقة، من عدوّ أو خصم أو غريم إلى حليف.

وبينما ما تزال إسرائيل تحتل أراض عربية، وترفض السير في طريق السلام مع الفلسطينيين، وتستولي على أراضيهم ومقدساتهم، فإن هذا الانقلاب سرعان ما سوف يبدو خطيئة خالصة. غير مبررة وزائدة عن الحاجة.

ربما كانت الفكرة الأساس تذهب إلى توفير أفق من آفاق الإغراء لإسرائيل بأنها لو سلكت طريق السلام، فإنها ستجد متسعا للشراكة الاقتصادية والتعاون الإقليمي لا يقتصر على الاعتراف والقبول بل يمتد إلى الشراكة الأمنية والاستراتيجية.

ولكن إسرائيل لم تُظهر حتى الآن استعدادا للسير في هذا الاتجاه. ومثلما أن أفق السلام ما يزال مغلقا، فإن أفق الإغراءات يصح ألا يُبالغ في تقديم الإغراءات.

وهناك جانب آخر مهم يحسن دائما أخذه بعين الاعتبار، هو أن إسرائيل لا تصلح من الأساس أن تكون شريكا في مواجهة إيران. ولا بأيّ صورة من الصور. لا بالأحلام ولا حتى الأوهام.

أولا، صراعنا مع إيران ذو بعد تاريخي. إسرائيل خارج هذا البعد تماما. إنه صراع يمتد إلى عدة آلاف من السنوات. وهو يتجدد بأشكال مختلفة، بين قرن وآخر، ما يجعل من إسرائيل مجرد ندبة على جلد هذا التاريخ.

ثانيا، ولأنه صراع تاريخي، فإسرائيل لا علاقة لها بالموضوع. وعندما أرادت أن تكون لها علاقة بالموضوع فقد قامت بتزويد إيران بالأسلحة في صفقة “إيران – كونترا” الشهيرة، في العام 1985، في عهد الإمام الخميني، تضمنت في البداية إرسال 96 صاروخاً من نوع “تاو” على متن طائرة DC-8 انطلقت من إسرائيل، وتواصلت إلى أواخر عهد الإمام شمعون بيريز. والمعنى من ذلك هو أن إسرائيل سوف تفعل الشيء نفسه بأشكال أخرى.

المسألة هنا أبعد من مجرد شكل آخر من أشكال التطبيع. إنها محاولة لإحداث انقلاب استراتيجي في موضع إسرائيل في المنطقة، من عدوّ أو خصم أو غريم إلى حليف

ثالثا، إنه صراع “داخل إسلامي”. وإشراك “دولة يهودية” فيه، يصب في مصلحة إيران ويبرر دعاويها ويقدم لنفاقها كل ما يحتاجه. ما يسمح بالقول إن أيّ محاولة لإقامة صلة بين إسرائيل وبين هذا الصراع، سوف تجعلنا نبدو كمن يستعين بمجرم لكي يحميه من مجرم آخر.

الفكرة الأساس من “الناتو العربي” لم تطرح مشاركة إسرائيل إلا بشروط. هذا صحيح. ولكن، كأيّ شروط أخرى، فإنها موضوع تفاوضي في النهاية. وهذه ورطة.

الخصاونة، بسبب من سوء التدبير، قلب الورطة إلى ورطة مضادة. ربما أراد أن يدفن فكرة الناتو، ولكنه استعان بافتراضات لا يصدقها هو نفسه. وربما أراد أن يرسل تطمينات للميليشيات الحاكمة في العراق، ولكنه غازل التهديد من حيث لا يستحق.

كان من الأولى، لو كانت الرؤية واضحة، أن ينظر الخصاونة إلى وجهي المخاطر. فيقول:

1ـ إن إسرائيل، بوضعها الراهن، لا تصلح شريكا في أيّ تحالف عسكري في المنطقة، حتى تكف عن أن تكون قوة احتلال.

2ـ إنها لا تصلح، من الأساس، شريكا في نزاع “داخلي” بين المسلمين.

3ـ إيران تمارس تهديدات تضر باستقرار دول المنطقة، كما تضر بمصالحها الخاصة أيضا.

4ـ الأردن مستعد لمواجهة التهديدات، ولكنه مستعد أيضا للمشاركة في أيّ جهد لتشجيع إيران على الأخذ بمسار آخر في العلاقات مع دول المنطقة.

5ـ توجد جسور مصالح بين الأردن والعراق وسوريا يمكن تنميتها بمعزل عن النزاع الإقليمي بين إيران ودول المنطقة. هذا النزاع شيء، وجسور المصالح العربية شيء آخر.

الخصاونة جدير بأن يعيد النظر. قد يكبو، كما يكبو الجواد. إلا أنه ليس قليل الخبرة على الإطلاق، ويعرف مسالك الاستدراك.


المصدر
-

.... مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..