الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. أمَّا بعد:
فإنَّ من أعظم الأصول التي قرَّرتها الشَّريعة الإسلاميَّة في ثبوت الأنساب ونفيها ..هي قاعدةَ الشُّهرة والاستفاضة التي اتَّفق عليها أئمَّة المذاهب الأربعة وغيرهم من أئمَّة الإسلام، ولا يُعرف عن أحدٍ منهم مخالفةٌ في ذلك، وعليها جرى العمل لدى علماء الإسلام قديمًا وحديثًا. وقد أفردتُّها بالحديث في مؤلَّف مستقلٍّ بعنوان: «الإفاضة بأدلة ثبوت النَّسب ونفيه بالشُّهرة والاستفاضة»، وبَيَّنتُ فيه مسائل هذه القاعدة وشروطها وقيودها.
ويلي قاعدةَ الشُّهرة والاستفاضة في ثبوت الأنساب ما حرَّره علماء النَّسب الثِّقات العارفون في مصنَّفاتهم عن القبائل، وليس شرطًا لازمًا؛ لأن علماء الإسلام لمَّا أجمعوا على ثبوت النَّسب بالشهرة والاستفاضة، لم يشترطوا ثبوتَه بما حرَّره علماء النَّسب أو شهادة القضاة، إنما أجمعوا على أنَّه يثبت بما شاع سماعًا واستفاض بين الناس من أنَّ فلانًا من بني فلان، ولم يُسمع طعن في ذلك ولم تقع ريبة فيه، ومن الأدلة على ذلك قولُ العلامة الونشريسي (ت914هـ):
«اعلم أنَّه يكفي في ثبوت هذا النَّسب لمدَّعِيه السَّماعُ الفاشي، وشهادتُه به، ودعاءُ النَّاس لديه».
«اعلم أنَّه يكفي في ثبوت هذا النَّسب لمدَّعِيه السَّماعُ الفاشي، وشهادتُه به، ودعاءُ النَّاس لديه».
وهذه هي الطرق المُعتبرة في معرفة الأنساب والحكم عليها ثبوتًا ونفيًا عند أهل الإسلام كافَّةً في جميع الأزمان إلَّا أنَّ بعض الباحثين في هذا العصر قد شذُّوا عن طريق الأمَّة المحمديَّة في إثبات الأنساب، فسلكوا طرائقَ محدثةً في ذلك كالحمض النووي DNA؛ حيث اتَّخذوه سبيلًا لإثبات الأنساب البعيدة، مجاوزين حيِّزه الضيق وهو معرفة نسبة الابن إلى أبيه في حال نفيه له لا غير، وهو ما أجمع عليه علماء المجمع الفقهي.
ثم إنَّ الحمض النَّووي مع كونه محصورًا في هذه الجزئيَّة الضَّيِّقة وهي نسبة الابن إلى أبيه فإنَّ القضاة لا يَعُدُّونه دليلًا عليها ولا قرينة فيها، وإنما يأخذون به للاستئناس فقط؛ فثَمَّة نصوصٌ شرعيةٌ جاءت لمعالجة مثل هذه المسائل النَّسبية، وقطع الوساوس عن الأب، منها قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، إذ دلَّ هذا الحديث على أنَّ الولد للفراش إلَّا إذا أتى الرجل بالبيِّنة على نفي ذلك الولد عنه، وهي أربعة شهود على أنَّ زوجته قد زَنَت، فإن تعذَّر ذلك نَقَلَه الشَّرع إلى الملاعنة بينه وبين الزَّوجة أمام القاضي، فإذا تَمَّ اللِّعان بينهما –بشروطه- نفى القاضي نسبَ الولدِ عن أبيه وألحقه بأمِّه كما فَعَلَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وهذا من كمال الشَّريعة الإسلاميَّة؛ فشرعُنا العظيم لم يترك جزئية في حياتنا إلَّا مَيَّزَ لنا خيرها من شرّها، وقرَّر قوانين لضبطها حتَّى آداب الطَّعام والشَّراب والخلاء، فما بالنا بمسائل الأنساب التي يُعدُّ حفظها وصيانتها من ضروريَّات الإسلام السِّت لتعلُّقها بالأعراض والأموال؟! ولذا لم يقتصر الشَّارع الحكيم على تغليظ أمرها إجمالًا، بل أوضح طرق صونها وحمايتها، كبيان أحكام خطبة الرجل للمرأة، وتفصيل شروط النِّكاح وأركانه، وأحكام الطَّلاق والرضاعة والنفقة وجميع ما يتعلَّق بالأسرة من آداب وأقضية. فهل يُهمِل الشَّرع الحنيف بعدَ كلِّ هذا مسائل الأنساب، وهي من أهمِّ المسائل المتعلِّقة بالحياة الأسريَّة والمواريث حتَّى نلجأ إلى الحمض النَّووي ونجعله حَكَمًا في إثبات الأنساب ونفيها؟!
وقد أدرك علماء الإسلام أهميَّة الحفاظ على الأنساب، فلم يكتفوا بتفصيل الأحكام الفقهيَّة المتعلقة بصيانة الأنساب وتعليمها للعامَّة وتطبيقها في القضاء بل ألَّفوا في حفظها آلاف المؤلَّفات، إذ كانت مسألة إثبات الأنساب عندهم من المسائل العظيمة كإقامة الحدود؛ ولذا أوجبوا على العالِم أو القاضي أن يكون معها نبيهًا يَقِظًا محتاطًا؛ لئلَّا تختلط الأرحام ويكون فسادٌ عظيمٌ، قال العلامة السبكي (ت756هـ): «التَّمسُّك في إثبات الحدود كالتَّمسُّك في إثبات الشَّرف»، وقال الفقيه الهيتمي (ت974هـ): «النَّسب يُحتاط له بخلاف المال».
فإذا تقرَّر هذا فإنَّ الشَّريعة قد عُنِيَت بحفظ الأنساب، قريبةً كانت أم بعيدةً، فصانتها، ورفعت قدرها، وأمرت بتعلمها، وقرَّرت لثبوتها الشُّهرة والاستفاضة، بما لا يدع مجالًا لتداخلها أو اختلاطها.
هذا وإنَّ كثيرًا من الدعاوى المحدثة تقف خلفها بواعث نفسيَّةٌ وتصوراتٌ سقيمة لا بُدَّ من بيانها؛ فبذلك يحصل تمام التَّصوُّر للعلَّة، ولا يخفى ما فيه من فائدة للقرَّاء المتطلعين والباحثين المهتمين. ومِن تتبع أقوال وأحوال مُروِّجي فكرة إثبات الأنساب البعيدة بالحمض والنووي DNA، واستنطاق نصوصهم، ومراجعة استدلالاتهم، وتأمل نتائجهم منطوقًا ومفهومًا -من كل ذلك ظَهَرَ لي أنَّ مَن يُروِّج هذه الفكرة أحد هؤلاء في الغالب:
أولًا: رجل يجهل أصله، ويرى أنَّ في الحمض النووي دليلًا يرشده إلى نسبه.
ثانيًا: رجلٌ متحيِّر لتعدد الأقوال في نسبه.
ثالثًا: رجلٌ مفتون بكلِّ ما جاء به الغرب، ولا يعلم أنَّ الشريعة أرشدت الأمَّة إلى حفظ الأنساب، ومن أهم ما قرَّرته في ذلك: قاعدة الشُّهرة والاستفاضة في ثبوت النَّسب، وهي من أعظم القواعد في الإسلام التي أُجمِعَ عليها، ولا يُعلَم لها مخالف.
رابعًا: رجلٌ حاسدٌ وحاقدٌ على انتظام أنساب ذوي الشُّهرة والاستفاضة، فتراه تارةً يقدح في قاعدة الشُّهرة والاستفاضة، وتارةً يُشكِّك بخُبثٍ في مؤلَّفات علماء النَّسب والمشجرات الأسريَّة المتوارثة، وهدفُه من وراء ذلك إحلال مشجرة جينيَّة محلَّها؛ لفقده الشُّهرة والاستفاضة والموروث العلمي الدَّال على نسبه.
خامسًا: رجلٌ جاهلٌ بالقواعد الشَّرعيَّة والنُّصوص والدَّلالات المرعيَّة في قضيَّة إثبات الأنساب ونفيها، ولم يَفتَح الله تعالى عليه بالتَّبصُّر في الحِكَم والغايات الشَّرعيَّة البديعة التي من أهمِّ مقاصدها حفظُ أنساب العباد وصيانتها عن الضياع والفوضى والاختلاط.
وفي هذا القدر من البيان كفايةٌ -إن شاء الله- لإبطال الشُّبهة وإزالة الوهم، وإيضاح النَّهج المُجمَع عليه عبر الأعصار في إثبات الأنساب ونفيها عند أهل هذه المِلَّة.
كتبها:
الشَّريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
10 شوال 1444هـ / 30 إبريل 2023م
مواضيع مشابهة-أو-ذات صلة بالموضوع:
الأسر المنقرضة في الزلفي أو النازحة عنه من خلال الوثائق والروايات
الإفاضة في أدلة ثبوت النسب ونفيه بالشهرة والاستفاضة» ١ ...
الإفاضة في أدلة ثبوت النسب ونفيه بالشهرة والاستفاضة» ٢ ...
---------------------------------مواضيع مشابهة-أو-ذات صلة بالموضوع:
أسماء بعض القبائل والعوائل والعشائر المتشابهة
عوائل من قبيلة شمر بمنطقة القصيـمالأسر المنقرضة في الزلفي أو النازحة عنه من خلال الوثائق والروايات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..