قبل حوالي خمسين سنة دارَ الحديث التالي بين عميد كلية الزراعة بجامعة الملك سعود وطالب بالكلية أنهى السنة الأولى دَخَلَ على العميد في مكتبه للإنسحاب مِن الكلية.
الطالب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
العميد: حياك الله.
الطالب: أُريد إستعادة إستمارة الشهادة الثانوية.
العميد: لـمـاذا ؟
الطالب: لقد حَصلت على بعثَة مِنْ وزارة المواصلات للدراسة في أمريكا، وطلبوا إستمارة الثانوية.
العميد: وماذا ستدرس في أمريكا ؟
الطالب: هندسة إلكترونية.
العميد: وما هي الشهادة التي ستعود بها مِنْ أمريكا ؟
الطالب: بكالوريوس.
العميد: أنت الآن نَجَحت مِنْ السنة الأولى في الكلية بتقدير إمتياز بجميع المواد، فإذا حافَظت على هذا المستوى سَـتَبتَعِثك الجامعة للحصول على الدكتوراه وليس البكالوريوس. هل سألت الدكتور عبدالله عن قرارك بالانسحاب من الكلية ؟
الطالب: لا، لم أسأله.
العميد: إذهب واسأله، ولا ترجع عندي إلاّ بعد أنْ تُفَكِّر في قرارك مدة إسبوعين.
الطالب: أبشِـر.
خَرَج الطالب مِنْ مكتب العميد مَذهولاً مِنْ الأسئلة القصيرة والسريعة التي أمطَرَهُ بها العميد، حيث لَم يَكُن مُستَعِدَّاً لها مُطلَقَاً. الغريب في هذه القصة أنَّ الطالب لم يُحَدِّث العميد عن التداعيات الأكاديمية الجميلة لذلك الحوار إلاّ بعد حوالي خمسين سنة، بعدَ أنْ حَصَلَ الطالب على الدكتوراة في نفس تخصص العميد، وهو الاقتصاد الزراعي. ولكن الأغرب مِنْ ذلك أنَّ هذا الطالب لم يَدُر في خياله أثناء المرحلة الثانوية أو في السنة الأولى بالكلية موضوع الدراسات العُليا، ناهيك عن الحصول على درجة الدكتوراه، إلاّ عندما أيقَظَ هذا الهدف الأكاديمي الكبير ذلك العميد الفاضِل. وبالتالي، فإنَّ الطالب بكُلّ تأكيد مَدين بدرجة الدكتوراه لذلك العميد الرائع.
الطالب هو صاحب "أكاديميات"، محمد القنيبط؛ والعميد هوَ معالي الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز آل الشيخ، وزير الزراعة والمياه السابق (1395 – 1415 هـ)، الذي غادرَ دُنيانا الفانية يوم الأحد 8 ذو القعدة 1444هـ. رَحِمَ الله أُستاذي ومُعَلِّمي "أبا أنَس" وأسكنهُ جَنَّة الفردوس.
عَرَّاب التنمية الزراعية وتحلية المياه في المملكة
عندما شَكَّلَ الملك خالد، رحمه الله، مجلس الوزراء عام 1395هـ، والذي أطلَقَ عليه البعض إسم "مجلس وزراء الدكاترة"، لَمَعَ وزيران في هذا المجلس، هُما الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ والدكتور غازي القصيبي؛ حيث أبدَعَ كُلاً منهما في الوظيفة التي تولاها. فكان الدكتور عبدالرحمن "مهندس" تطوير قطاعي الزراعة والمياه، والدكتور غازي "مُهندس" تطوير قطاعي الصناعة والكهرباء.
فقد تَزَامَنَ توَلّي معالي الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ دَفَّة وزارة الزراعة والمياه عام 1395هـ مع بدء الطفرة النفطية الأولى في المملكة خلال الفترة 1395 – 1405 هـ، حيث أدَّى تَضَاعُف إيرادات النفط إلى تَضاعُف الميزانية العامة للمملكة مراتٍ عديدة، وبالتالي تَضَاعُف إنفاق المملكة على جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية في المملكة، ومِنها القطاع الزراعي والمائي.
وكان للثقة الكبيرة التي تَمَتَّعَ بها معاليه مِنْ لَدُن الملك خالد والملك فهد، رحمهما الله، أثراً كبيراً جداً في سُرعَة تلبية الطلبات التي ترفعها وزارة الزراعة والمياه للمقام السامي إبَّان تلك الفترة.
وخلال أقل مِنْ سبع سنوات إستطاع معاليه تحويل القطاع الزراعي السعودي مِنْ قطاعٍ زراعي بدائي جداً، إلى قطاعٍ زراعي مُتَطَوِّر جداً، بل إلى أفضل قطاع زراعي في العالم العربي. حيث أدَّت سياسات المِنَح والقروض والإعفاءات المُتَنَوِّعَة مِنْ الوزارة والبنك الزراعي العربي السعودي (صندوق التنمية الزراعية) إلى سُرعَة تَبَنِّي المُزارعين والمستثمرين السعوديين للتقنيات الزراعية الحديثة في جميع مناطق المملكة، حيث وُلِدَت المشاريع العملاقة لإنتاج الدجاج اللاحم مثل شركة الوطنية ومنتجات الحليب مثل شركات المراعي والصافي ونادك، وانتشرت الزراعة في عشرات الآلاف مِن البيوت المحمية لإنتاج مختلف أنواع الخضار والفاكهة، واكتَفَت المملكة مِنْ محصول القمح عَبرَ دعم شراء القمح مِن المزارعين، وحققت المملكة نسب إكتفاء ذاتي جيدة في عَددٍ كبير مِنْ السلع والمنتجات الزراعية. ولا يَختَلِف إثنان على أنَّ الوضع المُتَطَوُّر جدَّاً للقطاع الزراعي السعودي الذي نُشاهِده الآن، مُقارنَةً بجميع الدول العربية، إنما هو نتيجة للبرامج والسياسات التنموية في القطاع الزراعي التي وَضَعَها معاليه وأشرف على تنفيذها خلال قيادته لوزارة الزراعة والمياه لعقدين مِنْ الزمن.
أما في جانب قطاع المياه، الشِّق الثاني لوزارة الزراعة والمياه آنذاك، فيكفي معاليه فَخرَاً أنَّ أكبر محطة تحلية في العالم آنذاك قُرب مدينة الجبيل تَمَّ افتتاحها إبَّان فترة إدارته لوزارة الزراعة والمياه، حيث تَتَرَبَّع المملكة على قائمة أكبر الدول المُنتِجَة للمياه المُحلاة. وصاحَبَ التطوُّر الكبير في إنتاج المملكة مِنْ المياه المُحلاة خلال تلك الفترة، وصول شبكات المياه إلى جميع مُدن وقُرى المملكة المترامية الأطراف.
يَحمي مرؤوسـيه
مِنْ صِفات معالي الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ التي قد تَخفى على كثيرين، أنَّه جرئ في اتخاذ القرارات وشُجاع في الدّفاع عنها أمام المقام السامي. يُحَدِّثني "أبو عبدالرحمن" قائلاً أنَّ معاليه فَوَّضَهُ وزميله بوزارة الزراعة والمياه بإجراء مُناقَلات بين المبالِغ المُخصَّصَة لمشاريع مُحَدَّدَة جاءت في ميزانية وزارة الزراعة والمياه، وذلك لتنفيذ مشاريع لم يُرصَد لها مبالغ كافية في ميزانية الوزارة. وبعد عِدَّة أشهر مِنْ مُمارَسَتِهم لهذا التفويض، فوجئ وزميله بخطابٍ رسمي مِن جهازٍ رقابي خارج الوزارة للتحقيق معهُما بشأن هذه المخالَفَة النظامية. يقول أبو عبدالرحمن، أُصبنا بالهَلَع مِنْ هذا الخطاب، فذهبنا إلى معالي الوزير "أبا أنس" ونحن نرتَجف ولا ندري ماذا سيكون موقِفه مِنْ هذا الخطاب. فإذا بمعاليه يَبتَسِم ضاحِكَاً بعد أنْ قرأ الخطاب، وقال لهما: تعالا اليوم بعد المغرب إلى مكتبي لأقرأ عليكُما الرَّد الذي سأكتُبه بنفسي وأُرسِله إلى المقام السامي الكريم. يقول أبو عبدالرحمن، كانت الساعات الخَمس التي بين إنتهاء دوام العمل وآذان المغرب كأنها خَمسَة قُرون. وعندما دخلنا على أبي أنس بمكتبه، قرأ علينا الخطاب الذي سَـيُرسِـله إلى المقام السامي، حيث قال فيه ما معناه: إنْ كان هناك مسؤول في الوزارة يُحَقَّق معه بشأن مُخالفات المناقلات بين بنود ميزانية الوزارة فهو الوزير وليس هذان الموظفان، لأنهما قاما بما فَوَّضهما الوزير وذلك لسُرعَة تنفيذ مشاريع المياه لبعض المدن الصغيرة والقرى لخدمة المواطنين وتنمية المملكة. يقول أبو عبدالرحمن، تقاعَدتُ مِنْ عَملي بوزارة الزراعة والمياه ولم يَصِلني وزميلي أي شيء عن خطاب التحقيق المشئوم. رَحِمَ الله أبي أنس وأسكَنَهُ جنَّة الفردوس.
رَجُل كَلِمَة ومَبدأ
في جانبٍ آخر، وغير ظاهِر للعموم، فإنَّ معالي الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ رَجُل كَلِمَة ومبدأ، يَلتَزِم بأي كلمةٍ يُعطيها. حَدَّثني العم "أبو إبراهيم"، أنّ شركته فازت بمناقصة بناء مبنى بمَقَرّ وزارة الزراعة والمياه على طريق الملك عبدالعزيز في الرياض.
يقول أبو إبراهيم، عندما إنتهينا مِنْ تسليم المبنى للوزارة تَبقَّى حوالي ثُلث قيمة العقد الذي وَقَّعَه مع الوزارة، حيث قال له موَظَّف الشؤون المالية بالوزارة أنَّ الوزارة دَفَعَت له كامل المبلغ المُخَصَّص في ميزانية الوزارة لمشروع المبنى، وعليك أنْ تُراجِع وزارة المالية بشأن المبلغ المُتبقي لشركتك. يقول "أبو إبراهيم"، ذهبت إلى وزارة المالية فقالوا له نفس كلام الشؤون المالية بوزارة الزراعة والمياه، وقال له مسؤول كبير جداً بوزارة المالية: لماذا لم تسأل هل الوزارة رَصَدَت المبلغ الذي فازت شركتك به لبناء المبنى !؟ يقول، رَدَدت على ذلك المسؤول قائلاً: لو أنَّك مكاني هل كُنتَ سَتَسأَل هذا السؤال !؟ يقول أبو إبراهيم، لم يُجِب ذلك المسؤول على سؤالي !!
يقول أبو إبراهيم، لم يَتَبَقَ لي سوى مُراجَعَة الوزير معالي الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ بشأن هذا المأزق المالي، حيث أخبَرت معاليه بكامل القصة ومُراجعاتي لوزارة المالية، فقال لي معاليه: يصير خير، إن شاء الله. يقول أبو إبراهيم، خَرجتُ مِن عند معاليه وأنا مُتشائِم جداً مِن إمكانية استلام المبلغ المُتبقي في المُستقبَل المنظور. وما هي إلا أسابيع قليلة، حتى جاءَ "أبو إبراهيم" مكالمة مِنْ وزارة الزراعة والمياه تدعوه لإستلام المبلغ المُتبقي له، حيث عَلِمَ أنَّ معالي الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ خاطَبَ المقام السامي مُباشرَةً لتوفير هذا المبلغ وصَرفِه للمقاول. لقد كان بإمكان معاليه أنْ يَترُك المقاول الذي أوفى بشروط عَقد بناء المبنى يضيع في دهاليز البيروقراطية مُطارداً مبلغاً مالياً مُستَحَقَّاً بموجب عقد رسمي، لا لشيء إلا بسَـبَب العلاقة بين الوزيرين. ولكن، أبا أنَس أخذ الموضوع مِنْ مبدأ احترام الكَلِمَة، فخَاطَبَ صاحِب الحلّ والعَقد، واستحصَلَ على المبلغ المُتَبَقي للمقاول، رحِمَهُما الله وأسكنهُما جَنَّة الفِردَوس.
طريق بمسارين
أما أجمل ما سَمِعت عن أُستاذي ومُعَلِّمي معالي الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ خارج وزارة الزراعة والمياه تلك القصة التي رواها لي أُستاذي الدكتور عاطف بخاري (رحمه الله) الذي كان ضِمن دكاترة كلية الزراعة إبَّان دراستي فيها. فقد استعان به الدكتور عبدالرحمن وكيلاً لوزارة الزراعة والمياه، ثُمَّ رَشَّحَهُ مُمَثِّلاً للمملكة في منظمة الأغذية والزراعة (الفاو FAO) في روما بإيطاليا، ثُمَّ عُيِّنَ مديراً لمكتب منظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا في القاهرة. حيث كُنت في شعبان 1416هـ أُشارِك في ندوة عَقَدَتها الفاو في القاهرة عن اتفاقية الجات التي أصبحت منظمة التجارة العالمية، فقُمت بزيارة أُستاذي الدكتور عاطف بخاري بمكتبه في القاهرة، وذُهِلت عندما قال لي حَرفيَّاً: هذا الكرسي (الوظيفة) الذي أجلس عليه جاء به معالي الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ. قُلت كيف ذلك !؟ فبدأ بسَرد الحكاية كما يلي.
تَزامَنَت زيارة الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ إلى روما لتمثيل المملكة في الاجتماع السنوي للدول أعضاء مُنظمة الفاو مع قرار المُنَظَمة إعادة فَتح مكتبها الإقليمي في القاهرة، وذلك بعد إغلاقه بسبب المقاطعة العربية لجمهورية مصر العربية بعد زيارة الرئيس محمد أنور السادات لإسرائيل والتطبيع مع الدولة الصهيونية. يقول الدكتور عاطف، كُنت في زيارة للدكتور عبدالرحمن في مقرّ إقامته بالفندق في روما، وأبديت له عن رغبتي بتَوَلَّي مَنصب مدير المكتب الإقليمي للفاو في القاهرة. فقال الدكتور عبدالرحمن: سيزورني بعد قليل مدير الفاو الدكتور إدوارد صوما، وسأطلُب منه ترشيحك مديراً لذلك المكتب. وبعد قليل جاء الدكتور صوما لزيارة الدكتور عبدالرحمن في مقر إقامته بالفندق، حيث تبادلا الحديث عن الفاو والزراعة في العالم. ثُمَّ طَلَب الدكتور عبدالرحمن مِن الدكتور صوما اختيار الدكتور عاطف مُديراً لمكتب الفاو بالقاهرة، فقال الدكتور صوما: هذه وظيفة قيادية كبيرة والفاو يجب أنْ تُعلِن عنها للدول الأعضاء ليُرَشِّحوا عليها، ثُمَّ نُجري مقابلات مع المُرَشَحين لاختيار مديراً لمكتب الفاو في القاهرة. يقول الدكتور عاطف، رَدَّ الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ على تبرير الدكتور صوما بحزم قائلاً: أمامك خيارين، تعيين الدكتور عاطف بخاري مديراً لمكتب الفاو بالقاهرة، أو فُقدان وظيفتك مديراً عاماً للفاو !! يقول الدكتور عاطف، قُلت في نَفسي: راحت وظيفة مكتب القاهرة !! ولكنّي فوجئِت بقول الدكتور صوما: كما يرى معاليكم، سَـيَتِم تعيين الدكتور عاطف مديراً لمكتب الفاو بالقاهرة. ومُنذُ تولي الدكتور عاطف بخاري إدارة مكتب الفاو في القاهرة، تَعَاقَب عِدَّة مُدراء سعوديين على المكتب حتى عَهدٍ قريب.
أمَّا السَّـبب الذي جَعَل الدكتور معالي عبدالرحمن آل الشيخ يَتَكَلَّم بحَزم مع مدير الفاو هو حقيقة أنَّه بعد تخفيض الولايات المتحدة الأمريكية مِنْ دعمها المالي لمنظمة الفاو بداية الثمانينات الميلادية بسبب عَدَم رضاها عن سياسات الفاو، أصبَحَت المملكة العربية السعودية أكبر دولة تُمَوِّل ميزانية الفاو، وبدون الدعم المالي للمملكة آنذاك لن تستطيع الفاو الوفاء بالتزاماتها. وهذه حقيقة سياسية يَعرفها جيداً "أبو أنس"، ويعلَم أنَّ هذا الدعم المالي السعودي له استحقاقات واجبة ومُستَحَقَّة على الفاو للمملكة العربية السعودية، كما هي الحال الآن مع إدارة البنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية. لذلك كان معاليه حازماً في رَدِّه على مدير الفاو الدكتور إدوارد صوما عندما أراد تمييع طلبه باختيار الدكتور عاطف بخاري مديراً لمكتب الفاو في القاهرة. ليتَ بقية وزراءنا يَقتَدون بمعاليه في الاستفادة مِن مُساهَمات المملكة في المنظمات الدولية التي تَقَع ضِِمن صلاحياتهم.
مَهموم بالأمن الغذائي
بدأ معالي الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ دراسته الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث حَصَلَ عام 1965م على درجة البكالوريوس في الاقتصاد الزراعي مِنْ جامعة تكساس تك Texas Tech University في ولاية تكساس الأمريكية، ثُمَّ انتقَل إلى جامعة ولاية بنسلفانيا الحكومية Pennsylvania State Universityالمرموقة في التخصصات الزراعية، ليَحصَل منها عام 1967م على درجة الماجستير في الاقتصاد الزراعي مُرَكِّزَاً في رسالة الماجستير على السياسات الزراعية. بعد ذلك إنتقل إلى جامعة أدنبره University of Edinburg في بريطانيا ليحصَل عام 1970م على درجة الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي في تخصص دقيق التنمية الزراعية. ولم يكتفِ بذلك، بل حَصَلَ قُبَيل إنهائه درجة الدكتوراه على بعثة دراسية مجانية مِنْ جامعة هلسنكي University of Helsinki في فنلندا لمدة سنة تحت برنامج "بحث ما بعد الدكتوراه Postdoctoral"، ليعود إلى المملكة عام 1971م ويبدأ مسيرته العملية دكتوراً بكلية الزراعة بجامعة الملك سعود، بعد أنْ دَرَسَ في ثلاث دوَل وأطَّلَع على مسيرة هذه الدول في تنمية القطاع الزراعي.
كَنت أتساءَل كثيراً لـمـاذا تَوَجَّه معالي الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ لدراسة تَخَصُّص له علاقة وثيقة بالقطاع الزراعي وهو مِنْ عائلة كريمة لا علاقَة لها بالزراعة، ولم يُكُن القطاع الزراعي ذا أهمية في تلك الفترة، إضافةً إلى أنَّ والده آنذاك كان وزيراً للمعارف (التعليم)، رحمهما الله. وقد زالت هذه الحيرة بعد قراءَة سيرته الذاتية والعملية التي كَتَبها معاليه بعنوان "عشرون عاماً ... بين الزراعة والمياه"، وشَرَّفني بإهداء نسخة منها في آخر لقاء معه.
فها هو يقول في سيرته الذاتية: "كُنتُ عازماً حينها على دراسة هندسة البترول والمعادن، ولكن نظام الجامعة التعليمي وسَنَتَها التحضيرية أسهَما في تعديل توجهاتي، وأصبحت مُغرَمَاً بدراسة الاقتصاد الزراعي. ولا أعرف سبباً آخر مُلهِمَاً لي غير أنّي إطَّلَعت على معارف وعلوم مختلفة خلال تلك السنة دَفَعَت بي لتطوير معارفي وتغيير نطاق اهتمامي وتخصصي مِنْ دراسة البترول إلى الاقتصاد الزراعي...".
وقد كان معاليه مهموماً بهاجس الأمن الغذائي مُنذُ أنْ بدأ بدراسة التخصص الذي اختاره (الاقتصاد الزراعي) في جامعة تكساس تك.
حيث كَتَبَ في سيرته العملية قائلاً: "ولعلّ السبب وراء إصراري (دراسة الاقتصاد الزراعي) أنّي توَقَّفتُ كثيراً عند محاضرات في التاريخ الاقتصادي أشارت إلى أهمية ومكانة الزراعة عن الأُمَم والحضارات والمجتمعات والدول التي قادت وسادت ... وعليه بدأ التفكير في الزراعة يسيطر على اهتماماتي ... كُنت أرى الدولة التي تَزرَع تعيش في أمنٍ واستقرار؛ فالاستقرار ليس أمنياً أو عسكرياً فحسب، والأمن ليس في كثرة البوليس والشرطة، وإنما الأمن الحقيقي في التصالح والاكتفاء الذاتي المتوازن وفي الأمن الغذائي والمائي".
لذلك كان هَمَّه وهاجسه الأوَّل والأخير مُنذُ توليه دَفَّة وزارة الزراعة والمياه عام 1395هـ أنْ تُحَقِّق المملكة مستوى آمناً مِنْ الأمن الغذائي في أهمّ السلع والمنتجات الزراعية. وقد تَعَرَّضت السياسات الزراعية التي طبَّقها معاليه في القطاع الزراعي إلى العديد مِنْ الانتقادات المحلية والخارجية، خاصةً دعم زراعة القمح؛ وقد كُنتُ أحد هؤلاء النُّقـاد. ولكن أثبَتَت تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية صِحَّة تلك السياسات الزراعية التي وضعها معاليه إبَّان إدارته لوزارة الزراعة والمياه ودافَعَ عنها حتى مُغادَرته دُنيانا الفانية.
رَحِمَ الله أُستاذي ومُعَلِّمي وقُدوَتي الوزير السابق لوزارة الزراعة والمياه معالي الدكتور عبدالرحمن آل الشيخ وأسكنهُ جَنَّة الفردوس مع الأنبياء والصديقين والشهُداء، وألهَمَ ذويه وأصدقائه وطَلَبَتِه الصبرَ والسِّلوان. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
08/06/2023
أكاديميات - د .محمد حمد القنيبط
المصدر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..