شخصية علمية واجتماعية ذات وجاهة ومكانة في القصيم
من القضاة، ومن طلبة العلم الزهّاد
الذين باعوا الدنيا وتعلقوا بطاعة الله عز وجل، كانت حياته وقفاً على
العلم، درس
وُلد صالح بن أحمد الخريصي في بريدة عام 1327هـ، وقد ترجم له المؤرخ إبراهيم السيف في كتابه (المبتدأ والخبر لعلماء في القرن الرابع عشر)، وكذلك الشيخ عبدالله البسام في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون) -المجلد الثاني-، ومحمد العثمان القاضي في كتابه (روضة الناظرين) -في المجلد الثالث-، وأفرده بالترجمة الشيخ المؤرخ الباحث إسماعيل بن سعد بن عتيق في كتيب بعنوان (هذا هو العالم) ثم ترجم له مرة ثانية في كتاب القيم (أعلام وعلماء عايشتهم)، وهذا من وفائه؛ لأن إسماعيل من تلاميذ صالح الخريصي في بريدة ما بين 1376 و1378هـ، وسوف نختار بعضاً من سيرته من هذين الكتابين، والتلميذ أعرف بشيخه، علماً أن الخريصي قد درس عليه الجمهرة من التلاميذ والطلاب من بريدة وخارجها.
تعليم ومشايخ
بدأ صالح الخريصي -رحمه الله- مراحل التعليم في الكتاتيب آنذاك، فهو من خريجي هذه المدارس غير النظامية، ويورد المؤرخ إبراهيم السيف في كتابه (المبتدأ والخبر) أن المعلم الذي درس عليه الخريصي هو محمد بن أحمد الهويمل، وكذلك على المقرئ صالح الكريديس، حيث درس عليه مختصرات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، مثل الأصول الثلاثة، ثم درس على الشيخ محمد بن حسين، وتعلم منه النحو والفرائض والفقه، ثم لازم علماء آل سليم، فهو من خريج هذه المدرسة التي كانت بمثابة الجامعة في بريدة، حيث ارتوى من علوم الشيخ عبدالله بن محمد بن سليم وقرأ عليه الكتب المطولة والمختصرة على الطريقة النجدية القديمة، ودرس على الشيخ عمر بن سليم ولازمه في السفر والإقامة، ومن المعروف عن الشيخ عمر أنه حتى في السفر وأثناء ركوب الجمال تقرأ عليه الكتب، ودرس على الشيخ العالم عبدالله بن حميد عندما تولى القضاء في بريدة، مع أنه في سن ابن حميد إن لم يكن أكبر منه، حيث حدد ميلاده الشيخ البسام عام 1328هـ، وأثبت الباحث إسماعيل بن عتيق في كتابه عن الخريصي أن ميلاده 1327هـ، يعني أنه أكبر من الشيخ ابن حميد بعام أو عامين، ولأن ميلاد ابن حميد بالاتفاق لمن ترجم له عام 1329هـ.
قوة شخصية
وكما قلت إن صالح الخريصي -رحمه الله- من أعلام القضاء، جمع صفات القاضي الممثلة في قوة الشخصية من غير عنف وقسوة ولين من غير ضعف، بتَّ في الأحكام دون مجاملة في هذا الموضوع الخطير والحساس، فالخريصي لا يقبل المجاملة ولا المداهنة، له قصص في ذلك ومواقف، سرد جزءاً منها تلميذه إسماعيل بن عتيق، وعندما رأى فيه شيخه عمر بن سليم مؤهلات القضاء ألزمه به عندما مرض عام 1361هـ، وقبله كان ينيبه في القضاء والتدريس، لكن الخريصي رفض القضاء وقبل التدريس، وكان شيخه ابن حميد يوليه القضايا والحكم فيها إذا سافر.
بعدها صدر الأمر الملكي من الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- بأن يكون صالح الخريصي قاضياً في الأسياح، ثم نقل قاضياً إلى بلدة الدلم عام 1371هـ وحل محل الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، ثم تعيّن مساعداً لشيخه عبدالله بن حميد في قضاء بريدة، وبعد استقالة ابن حميد من القضاء عام 1377هـ جاء الأمر الملكي من الملك سعود -رحمه الله- بأن يكون رئيس محكمة بريدة، وقد روى تلميذه إسماعيل بن عتيق قصة توليه رئاسة محكمة بريدة، حيث إنه في بداية الحال امتنع، وملخص القصة أن الخريصي جاءه الأمر بالسفر إلى الرياض فأنزله المفتي محمد بن إبراهيم في منزل خاص له ومن معه، ولما علم الملك سعود قال: «إن الشيخ الخريصي ضيفي أنا، وأنزله في قصور الناصرية مكرماً، وأصبح صالح الخريصي بين الملك سعود والمفتي يتردد عليهما، حتى قبل رئاسة محكمة بريدة، وعمل فيها حتى تقاعد».
ويذكر إسماعيل بن عتيق عن صالح الخريصي -رحمه الله- نقلاً عن عبدالله بن عمر بن سليم: «يمضي في أحكامه، أي لا ينقضها ولا يتراجع عما يصدره، كذلك يطلب تنفيذها من الجهات التنفيذية، وعندما أسست مباني خاصة للمحاكم في بريدة، حاول الشيخ عبدالله بن حميد أن يقنعه بعقد الجلسات في المحكمة، إلاّ أنه رفض، متبعاً حالته الأولى وسيرته بالقضاء في أي مكان دون الالتزام بالحضور للمحكمة، إلاّ أنه لما أصبح رئيساً لمحكمة بريدة أصبح يعقد الجلسات فيها ويدوّن القضايا»، هذا ما ذكره إسماعيل بن عتيق بتصرف.
لا يكثر الإطالة
ومنذ عام 1353هـ تقريباً وصالح الخريصي -رحمه الله- كان يدرّس ويُعلّم، وقد وصف إسماعيل بن عتيق برنامج الخريصي في التدريس قائلاً: «كان الطلاب يتقاطرون من بعد صلاة الفجر للقراءة في المختصرات من المتون حتى تشرق الشمس وترتفع، ثم ينصرف الخريصي لأداء ركعتي الإشراق، وبعد هذا الدرس يذكر ابن عتيق أن تلاميذه يذهبون معه إلى منزله لتناول القهوة وجزء يسير من الطعام، ثم بعد صلاة الظهر يجلس في المسجد للدرس ولقرائه، فيتكاثر عليه الطلاب، خاصةً الذين يمارسون أعمال التجارة وقد انصرفوا من متاجرهم، يستمر الدرس بعد الظهر حتى ينتهي جميع الطلاب، ثم ينهض الخريصي إلى المنزل، وعلى غرار ما سبق يلحق به الطلبة لتناول قهوة الظهر والشاي معه، ويصف ابن عتيق برنامج شخصيتنا العلمي قائلاً: «أما بعد الصلاة فيقرأ عليه في حدود السبعة من خواص الطلبة من الزاد وشرحه، أمّا أنا فقد أذن لي بقراءة شروح في التوحيد بعد قراءة الإخوان في الزاد، قرأت عليه بعد العصر إبطال التنديد بكامله، وقرة عيون الموحدين، وفتح المجيد مع الاشتراك بقراءة زاد المستنقع والاستماع إلى شرح الخريصي بعد هذا الدرس، ويشخّص ابن عتيق أسلوب وطريقة شخصيتنا في الطرح العلمي قائلاً: والشيخ صالح لا يكثر الإطالة في الشرح، ولا التعليقات».
كريم وسخي
واتصف صالح الخريصي -رحمه الله- بالسخاء وبذل المال دون سؤال لمن يعرف حاجته وفقره، أما إذا سُئل فلا يمكن أن يرد، بل يمد يده إلى جيبه ويناول السائل بدون النظر إلى العملة التي أعطاها، وقد تكون مبلغاً كبيراً، وقد تكون مبلغاً يسيراً، وكانت نفسه سمحة راقية، ويذكر عنه أنه إذا استلم راتبه وزع جزءاً كبيراً منه على ذويه وأقاربه وعلى جملة من الفقراء الذين يعلم حاجتهم، فكان المال عنده وسيلة وليس غاية، بل المال عنده قربة يتقرب بها إلى الله عز وجل، وكان في الزمن الماضي لما كان الناس همهم القوت اليومي كان منزله مأوى لعابر السبيل، خاصةً التلاميذ الفقراء، فكان يطعمهم، وحتى ولو دُعي إلى وليمة يصحبهم معه إلى هذه الوليمة، وكان ذلك لا يزعج الداعي بل يسره أن يكون الخريصي ومعه تلاميذه، فهم أحق أن يأكلوا من طعامه الذي أعده لهم.
ومن الأخلاق الفاضلة التي كانت طبعاً في الخريصي حب الخير للناس، كان يسخّر جاهه ببذل الشفاعة لمن قصده بالكتابة للمسؤولين أو الأغنياء، فهو كريم وسخي بالمال، فقد اتصف بخصلتين ندر من يتصف بهما؛ بذل المال والجود بالجاه، وليس كل عالم جواد وسخي، مع أن الأولى أن يكون ممن له عناية بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون قدوة في بذل الإحسان إذا كان ذا مالاً وجاهًا، ولكن السخاء طبع في الشخص، وقيل ذلك توفيق من الله عز وجل سواء كان عالماً أو عامياً.
منهج فريد
وتكاد الألسن التي عرفت صالح الخريصي -رحمه الله- تجمع على الثناء عليه، وبالأخص لما رحل عن هذه الفانية، وهنا نقل إلينا الشيخ عبدالله البسام بعض الرثائيات عن شخصيتنا، وكذا المؤرخ إبراهيم السيف، وهناك رثائيات نشرت في الصحف المحلية ونختار منها ما كتبه علي المرشد وهو من الذين تتلمذوا على يد الخريصي، يقول: «كان صالح الخريصي -رحمه الله- يتبع منهجاً فريداً في وقته ودروسه اليومية التي كان يلقيها في مسجده ويستفيد منها طلاب العلم في مختلف العلوم والفنون، فهو مثال العالم المتواضع الذي كرس جهده ووقته لخدمة العلم تعليماً ودعوة وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وقد كان متمكناً من علم التوحيد والتفسير وعلم الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رَحِمَهُ الله- وَيَعْمَل بصمت، ويكره المدح والاطراء».
وكذلك ما كتبه عبدالعزيز الدباسي في جريدة الجزيرة قائلاً: «كان صالح الخريصي -رحمه الله- لا يدع الحج والعمرة، ولا يدع صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولا يدع قيام الليل سفراً وحضراً، زاهداً ورعاً بكّـاء مــن خشية الله عندما يخطب للجمعة أو غيرها أو عندما يؤم المسلمين فيبكي لبكائه من حضر، يشفع لكثير من أصحاب الحاجات والغارمين واليتامى والمساكين والأرامل، جاهه لهم وماله مشترك بينه وبينهم في وجه طلق وقلب رحيم».
وعظ وإرشاد
ويُحدد علي بن عبدالله الحسين خصال شخصيتنا، ويقول: «كان صالح الخريصي -رحمه الله- يقضي جل وقته بقراءة القرآن والوعظ والإرشاد، وألف كتباً لا يحضرني ذكرها، ومن زهده في الحياة لــم يجمع مالاً، فالمال الذي يكسبه يوزعه على الفقراء والمحتاجين أولاً بأول، وكَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- صاحب قيام ليل حضراً وسفراً وحتى أيام الشتاء والماء بارد».
وكتب الباحث عبدالكريم بن صالح الطويان في المجلة العربية في عددها لشهر ذي الحجة 1415هـ مقالاً مطولاً عن الشيخ صالح بعنوان: راحل كَانَ عَلَى الأمر الأول، نلخص منه: «لقد كان الخريصي -تغمده الله بواسع رحمته- أحد العلماء الصالحين المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، كان قاضياً عدلاً نزيهاً، حريصاً على إصلاح ذات البين محباً للفقراء والمساكين عطوفاً عَلَيْهِم، وكان زاهداً في الدنيا زهادة القادر لإزهاده العاجز، كثير المكث في مسجده تالياً للقرآن ذاكراً للرحمن مسبحاً بحمده، وكان جهوري الصوت في قراءته ووعظه، لقد كانت سيرته أكثر تأثيراً في القلوب من لسانه، وكانت أعماله أبلغ وأفصح من أقواله، لقد رحل عن دنيانا لكن سيرته الحميدة وأقضيته العادلة، وذكراه الجميلة في ذاكرة الأجيال التي رأته وسمعت منه وتعلمت عَلَيْهِ، ولا غرو في ذَلِكَ، فقد نشأ رَحِمَهُ الله في أسرة متدينة، وبيئة صالحة، وحدثني علي بن عبدالله الحسين عن أحد إخوان الخريصي: كان في صباه صَالِحاً متعبداً، وحين كان عمره تسعة أعوام بعثته والدته لخراف النخل من إحدى المزارع فاستبطأته، فأرسلت في أثره أخاه الكبير فوجده في عرض الطريق قد ألقى مطحن الخراف وقام مصلياً».
محبة القلوب
وقال سليمان بن صالح الخريصي: «لقد حج والدي فرضه 1347هـ، ولم يدع الحج بعدها سوى موسماً واحداً، وكان يتابع العمرة ويصوم التطوع، ولو قلت إنه يقوم الليل كله لما كنت مبالغاً، بل كلما أفاق من نومه صلى ما كتب الله له، وكان يصلي بالناس صلاة التراويح ثلاثاً وعشرين ركعة، ويختم القرآن مرتين في شهر رمضان، وربما ختمه ثلاث مرات، وربما قرأ في ركعة التهجد بجزء أو نصف جزء، وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وكان سلفياً على الأمر الأول، حريصاً على اتباع السنة عاضاً عليها بالنواجذ، نابذاً للبدعة، متمسكاً بأخلاق أهل القرآن، وصلى مرة بالناس المغرب وقرأ فيها سورة الأعراف إحياءً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا زار أحداً جاء ومعه أولاده، ويستفتح المجلس بدعوتهم لقراءة القرآن الكريم واحداً بعد الآخر، وكان -رحمه الله- إذا أمَّ الناس لا تكاد تسمع قراءته من البكاء.
وكثيرون ممن رثوا الخريصي حينما توفي، فقد ألقى الله محبته في قلوب الناس، واذكر أنني سمعت حمد الحقيل -رحمه الله- يقول لي: «أحببت الشيخ الخريصي من أول نظرة»، وكانت في مناسبة رسمية بمدينة الرياض.
توفي صالح بن أحمد الخريصي بتاريخ 28 /9 /1415هـ بمدينة بريدة، أسكنه الله الفردوس الأعلى من الجنة.
1 المؤرخ الباحث إسماعيل بن سعد بن عتيق
2
الخريصي درس على العلماء والمشايخ في
مسقط رأسه بريدة
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..