الأربعاء، 3 سبتمبر 2025

ليلةٌ مع صديقي ..والد محمد القاسم

حين لا يعودُ الألم سؤالًا… بل يُصبح هو الإجابةَ*
.
تتّخذ الأرواح المثقلة من الليل سكنًا، وتجعل من امتداد البحر كاتمًا لأسرارها التي تعجز الألسنة عن بوحها؛ بيد أنّ صَفِيُّ الرّوح ورفيقُ الحياة يوسفُ القاسم؛ *لم يكن واقفًا ليُلقي في البحر حزنه، بل ليعلّم البحر درسًا في الثبات…*
.
في وقفته تلك، صلابةٌ وهبها الله له؛ لم يكن هناك انحناءٌ للعاصفة، بل تجذّرٌ وجوديٌّ عميق، فالفقد العظيم لا يكسر الأرواح العظيمة، وإنّما يصقلها بيقينٍ أزليٍّ.
.
*كان حزنُ صديقي بحرًا، لكنّ إيمانَه كان هو الشاطئَ الآخر.* 
.
لقد انقضت مراسم العزاء، وجفّت دموعُ المُعزّين، وعاد كلٌّ إلى دنياه، وبقي هو وحده في مواجهة الفراغ المتّسع الذي خلّفه رحيلُ فلذةِ كبده «محمّدٍ» غدرًا في غربة باردة؛ أتاني، لا ليشتكي -فالشكوى ليست من شِيمِه- بل ليفضفض؛ ليلقي بهمّه الثقيل في صدرِ صديقِ عمرٍ… وبحرٍ.
.
يبدأ وجعُ الفقدِ الحقيقيّ حين تغادرُ آخرُ يدٍ كانت تُربّت عليك؛ وأثقلُ صمتٍ في الكون هو الصمتُ الذي يعقب ضجيجَ المُعزّين.
.
*يا الله! الفراغُ ليس غيابَ فقيد، بل حضورُ غيابه المُدَوِّي في كلّ شيء.*
.
انفردنا هناك، في شاطئ أبحر الجنوبية بجدة، ومشينا طويلًا في ذلك الطريق؛ يحكي لي ما يعتوره في دواخله، وأستمع لهذا الثبات؛ مُقسّمًا بيني وبين نفسي أنّ لصديقي هذا عملٌ صالحٌ خفيٌّ؛ لِيُثبِّتَه الله بكل هذا الإيمان والصبر والرضا…
.
واللهِ يا أحبّة، وأنا أستمع له يتحدّث بكلّ يقينٍ بعدل الله؛ وأمام هذا الرضا المطلق؛ لتشعر أنّ شكواك أنتَ من الحياة محضُ خجل. 
.
*هناك قلوبٌ تستمدّ ثباتَها من خالقها؛ فلا تهزّها عواصفُ الأرض أبدًا.*
.
أتركه قليلًا يتأمّل في البحر… 
كان صمتُه هناك حوارًا فلسفيًّا مع الامتداد؛ وكأنّه يقول للأفق: إنّ ما يسكن فيَّ من ذكرى أوسعُ منك؛ وما أحملُه من إيمانٍ أرسخُ من صخورك…
.
أمّا القمرُ المُطِلّ عليه مباشرةً، فلم يكن ضوءًا للمواساة؛ بل كان شهادةً كونيّةً على أنّ النور حقيقةٌ مطلقة؛ وأنّه -حتى في أشدّ الليالي حلكة- هناك دائمًا سبيلٌ سماويّ يهدي إلى فجر جديد؛ فالنور لا يأتي من قمر السماء، بل من شمس اليقين بالقلب.
.
*حتى في أعمق الظلام، هناك دائمًا ضوءٌ ينتظرُ أن نراه.*
.
كان هاتفُه لا يكفّ عن الإضاءة الخافتة؛ كأنّه نجمةٌ تُومض في عتمة كفّه؛ اتّصالاتٌ لم تنقطع بعدُ، وأصواتٌ ما تزالُ تواسيه وتواصله؛ خيوطٌ رقيقةٌ من الودّ تشدّه إلى الحياة شدًّا، وتذكّره بأنّ محبّة الناس كنزٌ لا يفنى…
.
*يا سادة: من الكنوز يدٌ تمتدّ إليك في الظلام حين يغيب الكلّ؛ وصوتُ مُحبٍّ في ليل الوحشة..*
.
لقد حوَّل صَفِيُّ الرّوح ذاكرته من جرحٍ نازفٍ إلى فنار يُهتدي به، ومن غصّةٍ إلى قوةٍ دافعةٍ؛ *مُثبتًا أنّ تماسكه لم يكن صبرًا… بل قرارًا.*
.
صديقي أحالَ ندبتَه إلى نجمةٍ؛ لأنّ الشجعان يكتبون بالخسارات قصصَ الانتصار؛ وتماسكه في -محنته هاته- إرادةٌ جبّارة؛ يتحدّى الفقد بعزمٍ وإيمانٍ… وعقيدةٍ تعانق السماء.
.
عدتُ إلى منزلي بعد أربعِ ساعاتٍ متّصلاتٍ مع صديق العمر؛ وجلستُ أحكي لزوجتي، وأقول لها: 
لقد استلهمتُ الليلة من يوسف درسًا عميقًا؛ *بأنّ في مدرسة الفقد الأعظم نتعلّم أنّ الصبر هو تحمّل الظلام؛ أمّا الإيمان فهو قرارٌ أن تكون أنتَ نفسَك النورَ… والقدوةَ والمثالَ لمن حولك*.
.
يا أبا آلاءِ الحبيب:
لقد كنتَ التجلّي الحيّ لدرسٍ لم تخطُّه الأقلام، بل نقشه فعلك في أعماق الوجدان. منك تعلَّمنا كيف يكون الرسوخ جبلًا أشمَّ حين تعتصرنا النَّوائب، وكيف يكون الرِّضا بقضاء اللّه تسليمًا مشرقًا يبدِّد ظلمة الألم.
.
لقد أيقنتُ أنّ كلَّ ما تشرَّبناه في محاريب العقيدة والإيمان، إنّما هو محكٌّ إلهيٌّ تمتحن فيه حقيقةُ إيماننا؛ ليرى اللّه منّا صدق الصبر في قلب العاصفة، أو النُّكوصَ المرَّ على الأعقاب.
.
*فأيَّة سريرةٍ عظيمةٍ تلك التي بينك وبين اللّه، وأيُّ خَبيئةٍ خفيّةٍ أثمرت هذا الثَّبات المبين!*

بقلم: عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحفي
.
10 ربيع الأول 1447هـ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..