السبت، 27 سبتمبر 2025

💢 الركن المعنوي في المخالفات: بين الفعل والإرادة وضمانات العدالة !

         في القانون الجنائي، تقوم الجريمة على ركنين أساسيين: الركن المادي والركن المعنوي. فالركن المادي يمثل الفعل الخارجي الذي يمكن ملاحظته وقياسه، بينما الركن المعنوي يمثل الإرادة الواعية والقصد الذي يقف خلف الفعل ويضفي عليه الصفة الإجرامية.

المسألة التي أثارت جدلًا فقهيًا طويلًا هي: هل يُشترط الركن المعنوي حتى في المخالفات البسيطة، أم يكفي تحقق الفعل المادي؟

الاتجاه التقليدي يرى أن المخالفات ليست سوى "جرائم صغيرة"، ولا تستحق البحث في قصد الفاعل. لذلك، يكفي مجرد تحقق الفعل لقيام المسؤولية. فمثلاً، من يقود مركبته بسرعة تتجاوز الحد المقرر، أو يترك سيارته في مكان ممنوع، أو يلقي نفايات في الطريق، يُحاسب لمجرد وقوع الفعل، بغض النظر عن إرادته أو وعيه.

لكن الفكر الحديث رفض هذا التبسيط، مؤكدًا أن الركن المعنوي لا يسقط حتى في أبسط المخالفات. فالعدالة الجنائية لا تُبنى على محاسبة الفعل وحده، بل على مساءلة الفاعل عن إرادته ونيته، أو على الأقل عن إهمال يمكن نسبته إليه.
فمن قاد بسرعة بسبب خلل فني في عداد السيارة ولم يكن يعلم بذلك، لا يستوي مع من تجاوز الحد عمدًا وهو على علم بمخالفته. ومن سقطت منه ورقة بلا قصد، لا يعادل من رماها عامدًا مستهترًا بالنظام العام.

إن اعتماد المسؤولية المطلقة في المخالفات قد يبدو وسيلة سهلة للردع، لكنه يهدد أسس العدالة الجنائية ويهمل قاعدة أساسية: لا جريمة بغير ركن معنوي. فالفرق بين نظام عادل ونظام تعسفي ليس في نوع الجريمة أو شدة العقوبة، وإنما في احترام الإرادة الإنسانية، وإثبات أن الفعل وقع عن قصد أو على الأقل عن إهمال يُلام عليه صاحبه.

تطبيقات الركن المعنوي على مختلف الدرجات الجنائية:
الجنايات: 
غالبًا يُشترط القصد الجنائي المباشر.
الجنح: 
يكفي الإهمال أو التهور أو الخطأ غير العمدي.
المخالفات: 
رغم أن التقليد القانوني غالبًا يتجاهل الركن المعنوي، يرى الفكر الحديث أن النظر فيه أمر ضروري، ولو بأدنى درجات الخطأ، لضمان عدم مساءلة الأفعال غير المقصودة أو غير المعلومة لدى الفاعل.

المخالفات المنسوبة إلى الشركات:
تزداد أهمية الركن المعنوي حين تُنسب المخالفة إلى شركة، إذ أن الشركة شخصية اعتبارية لا تملك إرادة طبيعية، وإنما يُنسب إليها القصد الجنائي عبر أفعال ممثليها القانونيين. فإذا ارتكب موظف فعلاً فرديًا خارج صلاحياته فلا يصح إلزام الشركة به، أما إذا ثبت أن الإدارة أو المفوضين كانوا على علم بالفعل أو أهملوا في منعه، فإن الركن المعنوي يثبت بحق الشركة،وهنا يظهر الخطر في إعمال المسؤولية المطلقة على الشركات لمجرد تحقق الفعل المادي، دون بحث في إرادة ممثليها، لأن ذلك يؤدي إلى عقاب كيانات بأكملها دون سند عادل.

وبهذا يصبح احترام الركن المعنوي شرطًا أساسيًا للعدالة الجنائية في كل الجرائم والمخالفات، ويمنع تطبيق المسؤولية المطلقة التي تهدد الحريات الفردية وتخالف قاعدة لا جريمة بغير ركن معنوي. فالعدالة لا تتحقق بمحاسبة الأفعال وحدها، بل بمحاسبة الإرادة التي صنعتها.

وفي رأيي، فإن النظر إلى الركن المعنوي في المخالفات، سواء صدرت من الأفراد أو من الشركات، ضرورة لا غنى عنها لتحقيق العدالة. لأنه الضمانة التي تحمي الحرية الفردية، وتصون الحقوق، وتؤكد أن القانون العادل لا يعاقب الأفعال وحدها، بل ينظر قبل ذلك إلى الإرادة التي صنعتها. وبهذا يصبح الركن المعنوي حجر الزاوية الذي يميز نظامًا عقابيًا قائمًا على الشرعية والإنصاف عن آخر قائم على الجبرية والتعسف.

💢 كتبه / مازن المليح.
يوم الجمعة 1447/04/04هـ
الموافق 2025/09/26م .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..