بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد :
فقد كثُر السؤال عن ورقة تداولها الناس ، كما نُشر مضمونها في " الشبكة العنكبوتية " ، وحاصلها
الربط بين آية من سورة براءة وبين ما حدث لبرجي التجارة في إمريكا .
ومع تهافت محتوى تلك الورقة في ميزان العلم الصحيح إلا أن كثيرا من الناس اغتروا بها ، واعتبروا ذلك من أدلة إعجاز القرآن حيث أخبر عن هذا الأمر قبل وقوعه بما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان !! وفي آخر الورقة حثٌ على تصويرها ونشرها !
وقد عجبت من جُرأة كاتبها على الله وعلى كتابه ، والله يقول : " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " . [ الأعراف : 33 ] ، وقال : " وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . [ يونس : 60 ] ، وقال : " قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ " . [ يونس : 69 ] ، وقال : " إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ " . [ النحل : 105 ] .
ولما كان إيمان السلف وافراً ، وعلومهم راسخة اشتد تحرجهم من القول على الله بلا علم ، وكانوا أبعد الناس عن التكلف ، فهذا عمر بن الخطاب يقرأ على المنبر : " وَفَاكِهَةً وَأَبًّا " [ عبس : 31 ] فقال : هذه الفاكهة عرفناها فما الأبُّ ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو التكلف يا عمر ! (1) .
وفي رواية عن أنس قال : كنا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع ، فقرأ : " وَفَاكِهَةً وَأَبًّا " [ عبس : 31 ] فقال : فما الأبُّ ؟ ثم قال : إن هذا لهم التكلف !! فما عليك أن لا تدريه ؟ (2)
وهذا ابن عباس حَبْرُ الأمة ، وترجمان القرآن – كما روى عنه ابن أبي مليكة – أنه سُئل عن آية لو سُئل عنها بعضكم لقال فيها ، فأبى أن يقول فيها . (3)
وسأله رجل عن " يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ " [ السجدة : 5 ] فقال له ابن عباس : فما " يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [ المعارج : 4 ] ؟ فقال له الرجل : إنما سألتك لتحدثني !! فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما ، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم . (4)
وهذا جندب بن عبد الله صاحب رسول الله يأتيه طلق بن حبيب فيسأله عن آية من القرآن ، فقال : أُحَرِّجُ عليك إن كنت مسلما لَما قمت عني – أو قال - : أن تُجالسني . (5)
ولم يكن هذا الورع والتحرز مقتصراً على الصحابة بل كان خُلُقاً لمن جاء بعدهم من أهل الرسوخ والتُّقى ، فهذا سعيد بن المسيب وهو من خيار علما التابعين يُسئل عن تفسير آية من القرآن فبقول : إنَّا لا نقول في القرآن شيئا . (6)
وذكر عنه يحيى بن سعيد أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن . (7)
وسأله رجل عن آية من القرآن فقال : " لا تسألني عن القرآن ... " (8)
وقال يزيد بن أبي يزيد : كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحرام والحلال وكان أعلم الناس ، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع . (9)
وأخرج ابن جرير عن عبيد الله بن عمر قال : أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير ، منهم سالم بن عبيد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن المسيب ، ونافع . (10)
وقال هشام بن عروة بن الزبير : ما سمعت أبي يؤول آية من كتاب الله قط . (11)
وسأل محمد بن سيرين عَبِيْدَةَ السلماني عن آية من القرآن فأجابه بقوله : " ذهب الذين كانوا يعلمون فِيْمَ أُنْزِلَ القرآن . فاتق الله ، وعليك بالسداد . (12)
وهذا إبراهيم النخعي يقول : كان أصحابنا – يعني أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود وغيرهم من أصحاب ابن مسعود – يتقون التفسير ويهابونه . (13)
وقال الشعبي : والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ، ولكنَّها الرواية عن الله . (14) وقال ابن مسروق : اتقوا التفسير ، فإنما هو الرواية عن الله . (15)
وهذا شيح الإسلام ابن تيمية مع تَبَحُّرِهِ في العلم وسعة اطلاعه حتى إنه إذا سُئل عن فن ظن الرائي والسامع أنه لا يَعرف غير ذلك الفن ، وحَكَم بأن لا يعرفه أحد مثله ، وله يد طُولَى في التفسير مع قوة عجيبة في استحضار الأدلة من الكتاب والسنة (16)، فمع هذا كله كان يقول : ربما طالعت الآية الواحدة نحو مائة تفسير ، ثم أسأل الله الفهم وأقول : يا معلم آدم وإبراهيم علمني ، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأُمَرِّغ وجهي في التراب ، وأسأل الله تعالى وأقول : يا معلم إبراهيم فهمني . (17)
وهذا طرف يسير من شدة تحرزهم في الكلام على التفسير ، وأما ما ورد عنهم من عظم الورع في الفتيا والجواب على المسائل الموجهة إليهم فهذا أمر يطول وصفه ولا تحتمله هذه المقدمة . (18)
وبعد هذا أقول : أين حال هؤلاء المجترئين على الله تعالى من حال هؤلاء السلف ؟
وأما الرد على مضمون تلك الورقة المشار إليها فمن ثمانية أوجه هي :
الأول : أن مدار هذه الفرية يعود إلى ما يسمونه بـ ( الإعجاز العددي في القرآن ) .
وهذا النوع من الإعجاز باطل جملة وتفصيلا ، إذ لم يكن معهوداً لدى المخاطبين بالقرآن من أصحاب رسول ، وهم أعلم الأمة بكتاب الله ، وأبرها قلوباً ، وأكثرها صواباً ، فلم يُنقل عن أحد منهم بإسناد صحيح شيء من هذا القبيل إطلاقا ، ولو كان هذا من العلم المُعتبر لكانوا أسبق الناس إليه ، وأعلم الأمة به ، وذلك أن هذا الأمر لا يتطلب آلات وتقنيات حتى يتمكن الإنسان من اكتشافه ، وإنما هو مجرد إحصاء وعدد ، وهذا أمرٌ لا يُعْوِزُ أحداً ، وقد عَدَّ السلفُ جميع كلمات القرآن ، وجميع حروفه ، وعرفوا بذلك أعشاره ، وأرباعه ، وأثلاثه ، وأخماسه ، وأسداسه ، وأسباعه ، وأثمانه ، وأتساعه ، وأنصاف ذلك كله ، وغير ذلك بدقة متناهية كما هو معروف في محله . (19)
فكيف خفي عليهم هذا العلم جملة وتفصيلا وعرفه من بعدهم ؟
هذا لا يكون أبداً ، وما يذكره بعضهم من أمثلة على هذا الإعجاز المزعوم كثير منه لا يصح فيه العد أصلاً – كما في موضوعنا هذا كما سيأتي – وما كان العَدُّ فيه صحيحاً فإن ما يُذكر معه إنما هو من باب الموافقة والمصادفة ، ولا يَعْجَزُ الإنسان إذا أحصى أموراً كثيرة مما ورد في القرآن – مثلاً – كعدد المرات التي ذُكرت فيها الجنة ، والنار ، والبر ، والأبرار ، والخير ، والشر ، والنعيم ، والجزاء ، والعذاب ، والمحبة ، والبغض ، والكفار ، وأصحاب الجنة ، وأصحاب النار ، والمؤمنون ، والكفار ، والمنافقون ، والكفر ، والإيمان ، والنفاق ... إلخ .
فإذا أحصيت ذلك كله ستجد أشياء منه تستطيع أن تلفق منها بعض الفِرَى ، فقد تتساوى بعض الأعداد ، أو يكون بعضها على النصف بالنسبة لغيره ، وهكذا مما لا يعجز معه أهل التلبيس من إيجاد وجوه للربط بينها يطرب لها بعض السذج والمغفلين .
وليس المقصود هنا التفصيل فيما يُسمى بـ ( الإعجاز العددي ) وإنما المقصود الإشارة إلى بطلان هذا الأمر الذي تدور حوله تلك الورقة المشار إليها . (20)
الثاني : زعم هذا الكاتب أن رقم السورة - وهو تسعة – موافق للشهر الذي وقع فيه الحدث ، وهو الشهر التاسع .
والجواب عن هذا لا يخفى إذ إن ترتيب السور في المصحف لم يكن عن توقيف من النبي ، وإنما كان عن اجتهاد صدر عن الصحابة في زمن عثمان حينما جمع الناس على مصحف واحد (21) . وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز أن يُرتب على هذا الترتيب للسور استنباطات في المعاني ولا غيرها ، ومعلوم أن الصحابة قبل جمع عثمان للمصاحف كانوا يتفاوتون في ترتيب مصاحفهم ، فبعضهم كان يرتب السور حسب النزول ، وبعضهم على غير ذلك ، وبهذا تعرف قيمة ما بناه ذلك الكاتب على هذا الرقم (9) .
الثالث : زعم كاتب الورقة أن سورة براءة تقع في الجزء الحادي عشر من أجزاء القرآن الكريم ، وأن هذا يوافق اليوم الذي وقع فيه الحدث ، وهو اليوم الحادي عشر .
والجواب عن هذا يتبين مما قبله ، إذ لو لم تُرتب السور في المصحف على هذا الترتيب الذي أجمع عليه أصحاب النبي صلى الله عليه زمن عثمان لما وقعت السورة في الجزء المشار إليه .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى نقول : إن تجزئة القرآن على ثلاثين جزءاً لم تكن معروفة زمن النبي ولا في زمن الصحابة ، لا في زمن عثمان ولا قبله ولا بعده ، وإنما وقع ذلك بعدهم ، وكان الصحابة يحزبون القرآن بطريقة أُخرى حسب السور على النحو التالي :
1 – السبع الطوال . 2 – المئين . 3 – المثاني . 4 – المفصل .
ولا شك أن هذا الترتيب الذي كانوا عليه أدق وأفضل ، إذ إن ترتيب القرآن على الأجزاء يفضي إلى انتهاء الجزء قبل تمام المعنى ، حيث يفصل بين أجزاء الموضوع الواحد .
أما طريقة الصحابة فهي – كما سبق – على السور ، وبناء على ذلك تكون المعاني تامة . وإذا كان الأمر كذلك فليس لأحد أن يتمسك برقم الجزء الذي وقعت فيه السورة ليربط بينه وبين أمر آخر ليخرج لنا بمعنى كهذا .
الرابع : في البداية كانت الآية التي تعلق بها الكاتب هي الآية رقم (110) من سورة التوبة ، وهي قوله تعالى : " لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " وإنما تعلق بهذه الآية لتوافق عدد الأدوار في الأبراج حيث تبلغ هذا العدد ، ولكن مضمون الآية لا يساعده ، وإنما المناسب أن تكون الآية التي قبلها وهي (109) وذلك قوله تعالى : " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ... " ثم رأيت في الأوراق المنشورة مؤخراً الإحالة إلى هذه الآية (109) لكن هذه يتطلب كذبة إضافية لحبك الدعوى ، ولم يتطلب هذا من الكاتب كبير جهد حيث زعم أن عدد الأدوار (109) فأسقط دوراً ليوافق ذلك مُدَّعاه ، وهذا من أعجب الأمور !! ولا أدري كيف يسمح الناس لمثل هذا أن يستخف بعقولهم إلى هذا الحد ؟
الخامس : أن مبنى هذه الارتباطات على الحساب الشمسي ، وهو حساب متوارث عن أُمم وثنية ، ولم يكن معتبراً لدى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وإنما الحساب المعتبر في الشرع هو الحساب بالقمر والأهلة ، وهو الأدق والأضبط ، ومما يدل على أن المعروف في شرائع الأنبياء هو الحساب بالقمر والأهلة حديث واثلة بن الأسقع أن النبي قال : أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ . (22) وهذا لا يعرف إلا إذا كان الحساب بالقمر والأهلة ، ويدل عليه أيضا الحديث المخرج في الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى ... الحديث . (23) ، وقد صرح الحافظ أنهم كانوا لا يعتبرون الحساب بالشمس (24) .
وقال ابن القيم تعليقا على قوله تعالى : " هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ " [ يونس : 5 ] ، وقوله تعالى : " وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ " [ يس : 38-39 ] : ولذلك كان الحساب القمري أشهر وأعرف عند الأمم وأبعد من الغلط ، وأصح للضبط من الحساب الشمسي ، ويشترك فيه الناس دون الحساب ، ولهذا قال تعالى : " وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ " [ يونس : 5 ] ولم يقل ذلك في الشمس ، ولهذا كانت أشهر الحج والصوم والأعياد ومواسم الإسلام إنما هي على حساب الشمس وسيرها حكمة من الله ورحمة وحفظا لدينه لاشتراك الناس في هذا الحساب ، وتعذر الغلط والخطأ فيه ، فلا يدخل في الدين من الاختلاف والتخليط ما دخل في دين أهل الكتاب (25) .
وربما يُفهم من العبارة الأخيرة لابن القيم أن أهل الكتاب كانوا يعتمدون الحساب بالشمس ، وهذا قد صرح الحافظ ابن حجر برده بعد أن نسبه لابن القيم (26) .
والواقع أنه لم يكن معتبرا في شرعهم وإنما وقع لهم بعد ذلك لدى جهلتهم ، ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن زيد بن ثابت قال : " لَيْسَ يَوْم عَاشُورَاء بِالْيَوْمِ الَّذِي يَقُولهُ النَّاس , إِنَّمَا كَانَ يَوْم تُسْتَر فِيهِ الْكَعْبَة , وَكَانَ يَدُور فِي السَّنَة , وَكَانُوا يَأْتُونَ فُلَانًا الْيَهُودِيَّ - يَعْنِي لِيَحْسِبَ لَهُمْ - فَلَمَّا مَاتَ أَتَوْا زَيْدَ اِبْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلُوهُ " (27) وقد فسره الحافظ بما نقله من كتاب " الآثار القديمة " للبيروني ما حاصله : أن جهلة اليهود يعتمدون في صيامهم وأعيادهم حساب النجوم ، فالسنة عندهم شمسية لا هلالية . قال الحافظ : فَمِنْ ثَمَّ اِحْتَاجُوا إِلَى مَنْ يَعْرِف الْحِسَاب لِيَعْتَمِدُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ (28) .
السادس : أن الآية المشار إليها تتحدث مع ما قبلها وبعدها عن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ، ورَبْطها بالحدث الجديد تلاعب بكتاب الله تعالى ، وتحميل له ما لا يحتمل إطلاقا من أي وجه من وجوه الدلالة المعروفة لدى العلماء . وهذا أمر أوضح من أن يشرح .
السابع : زعم كاتب الورقة أن عدد الحروف من بداية السورة إلى الآية (109) = (2001) حرفا .
وهذا إضافة إلى الأوجه السابقة الدالة على عدم الاعتداد به فإنه كذب محض ، ذلك أن كل وجهين ( صفحتين ) من المصحف الكريم تحويان ما يقرب من ألف حرف ، وعدد الأوجه من أول السورة إلى الآية المشار إليها يبلغ (17.5) تقريبا ، فإذا اعتبرت هذا العدد عرفت البون الشاسع بين ما ذكره الكاتب وبين الحقيقة ؛ ولذا رأيت في بعض طبعات تلك الورقة المعدلة أن هذا الرقم (2001) هو عدد الكلمات من أول السورة إلى الآية المشار إليها ، وهذا أيضا غير صحيح ذلك أن العدد الحقيقي للكلمات هناك يزيد على (2920) كلمة .
وإذا أحسنَّا الظن بالكاتب قلنا إنه لا يحسن العَدَّ ، ذلك أن الكلمة عند أهل العربية على ثلاثة أقسام :
1 – الاسم .
2 – الفعل .
3 – الحرف الذي جاء لمعنى نحو : من ، على ، إلى ، والباء وغيرها من حروف الجر وما في حكمها ، وهكذا الضمائر سواء كانت متصلة أو منفصلة فإنها تُعد كلمات أيضا .
الثامن : زعم الكاتب أن المركز المشار إليه يقع على شارع اسمه : " جرف هار " .
وهكذا كذب مُلَفَّق ، وقد سألت من يعرفون تلك البلاد فلم يعرفوا هذا الاسم ، كما اطلعت على بعض المعلومات والخرائط التي توضح الموقع وما حوله عبر الشبكة العنكبوتية ، وليس لهذا الاسم ذكر في شيء من ذلك .
ثم لو فرضنا جدلا أن هذا هو الاسم الحقيقي لشارع فنقول : إن هذا الاسم أعجمي ، والقرآن بلسان عربي مبين ، ومعلوم أن الألفاظ قوالب المعاني ، وإنما تُفَسَّر الألفاظ بحسب ما وُضِعَت له من المعاني في اللغة التي تضاف إليها ، فكم من لفظة أعجمية توافق لفظا كلمة عربية وتناقضها في معناها ومدلولها ، ولا يقول أحد له أدنى مسكة من عقل بأن هذه الألفاظ المتوافقة في مجرد اللفظ أنها تُحمل على مدلول واحد .
ومعلوم أن ( الجرف ) في العربية هو المكان الذي يأكله السيل (29) .
وأما ( الهار ) فإن أصل الكلمة هذه الكلمة يدور على معنى واحد وهو السقوط والانهدام (30) .
ولا يبعد على هذا الكاتب وأمثاله أن يخرج علينا باستنباط جديد بعد أن عرف معنى هاتين الفظتين في لغة العرب ، وهو أن يقول بأن المبنى المشار إليه يمر بجانبه نهر ، فهو يقع على ضفافه وبالتالي فهو على جرف هار ، والدجل ليس له حد ينتهي إليه .
وفي الختام أنبه القارىء الكريم أن المقصود الأهم من كتابة هذه الورقات إنما هو التنبيه على حال هذه المُخْتَلَقَات وهي كثيرة ومتنوعة وذلك بعرضها على ميزان العلم فينكشف أمرها ، وهذا الذي بين يديك يمكنك أن تعتبر به حال كثير مما يمر بك مما قد يستهوي بعض السذج والبسطاء ، والله الموفق .
كتبه
د . خالد بن عثمان السبت
2/3/1423 هـ
--------------------------------------------------------------------------------
الـــحـــاشـــيـــة :
(1) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد (1/58) ، وابنُ أبي شيبة (10/512 – 513) ، وسعيد بن منصور في تفسيره (1/181) ، والحاكم (2/514) ، والبيهقي في الشعب (2084) .
(2) إسناده صحيح . أخرجه عبد بن حميد في تفسيره كما في الفتح (13/271) ، وابن سعد (3/327) ، وابن جرير (30/60-61) ، والبيهقي في الشعب (2084) ، وأصله في البخاري مختصرا .
(3) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير .
(4) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن جرير .
(5) إسناده صحيح . أحرجه ابن جرير . ولعل السائل أورد عليه مسألة مُتَكَلَّفَة ، وإلا فمن المعلوم أن السؤال عما يعني في التفسير وغيره أمرٌ غير مُسْتَنكَر .
(6) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير ، وابن سعد .
(7) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن جرير .
(8) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن أبي شيبة .
(9) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير .
(10) إسناده صحيح .
(11) إسناده جيد . أخرجه أبو عبيد .
(12) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي في الشعب .
(13) إسناده صحيح . أخرجه ابن أبي شيبة ، والبيهقي في الشعب ، وأبو نعيم في الحلية .
(14) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير .
(15) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد .
(16) انظر : الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية ص 706 .
(17) العقود الدرية ص 26، وهو في الكواكب ص 78 .
(18) للتوسع انظر على سبيل المثال : سنن الدارمي (1/53) فما بعدها ، الموافقات (4/286) .
(19) انظر في ذلك على سبيل المثال : فنون الأفنان لابن الجوزي ص 245 فما بعدها ، البرهان للزركشي (1/249) ، الإتقان للسيوطي (1/197) ، جمال القراء للسخاوي (1/231) .
(20) ورأيت بعضهم يحتج له بأن الله جعل خزنة النار تسعة عشر .
وهذا لحكمة يعلمها الله تعالى ولكن ما وجه الإعجاز في ذلك ؟ وهكذا سائر الأعداد المذكورة في القرآن كابواب النار وغير ذلك وسيكون بيان ذلك كله – إن شاء الله – في غير هذه الورقات عند الكلام على التفسير العلمي للقرآن .
(21) مع أننا نقول في الوقت نفسه : إن هذا الترتيب وقع عليه إجماع الصحابة في زمن عثمان ، فينبغي اتباعه في طباعة المصاحف ، ولا تصح مخالفته .
(22) أخرجه أحمد (4/107) ، والبيهقي في السنن (9/188) ، وسنده حسن ، وذكره الألباني في الصحيحة (1575) .
(23) أخرجه البخاري (2004) ، ومسلم (1130) .
(24) انظر : الفتح (4/291) ، وانظر (7/323) .
(25) مفتاح الدار السعادة ص 538 – 539 .
(26) انظر : الفتح (7/323) .
(27) قال في الفتح (4/248) : وسنده حسن " .
(28) السابق ، وللتوسع في هذا الحساب راجع : صبح الأعشى (2/382-401) .
(29) انظر : المفردات للراغب ( مادة : جرف ) .
(30) انظر : المقاييس في اللغة ، كتاب الهاء ، باب الهاء والواو وما يثلثها .
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد :
فقد كثُر السؤال عن ورقة تداولها الناس ، كما نُشر مضمونها في " الشبكة العنكبوتية " ، وحاصلها
الربط بين آية من سورة براءة وبين ما حدث لبرجي التجارة في إمريكا .
ومع تهافت محتوى تلك الورقة في ميزان العلم الصحيح إلا أن كثيرا من الناس اغتروا بها ، واعتبروا ذلك من أدلة إعجاز القرآن حيث أخبر عن هذا الأمر قبل وقوعه بما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان !! وفي آخر الورقة حثٌ على تصويرها ونشرها !
وقد عجبت من جُرأة كاتبها على الله وعلى كتابه ، والله يقول : " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " . [ الأعراف : 33 ] ، وقال : " وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . [ يونس : 60 ] ، وقال : " قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ " . [ يونس : 69 ] ، وقال : " إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ " . [ النحل : 105 ] .
ولما كان إيمان السلف وافراً ، وعلومهم راسخة اشتد تحرجهم من القول على الله بلا علم ، وكانوا أبعد الناس عن التكلف ، فهذا عمر بن الخطاب يقرأ على المنبر : " وَفَاكِهَةً وَأَبًّا " [ عبس : 31 ] فقال : هذه الفاكهة عرفناها فما الأبُّ ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو التكلف يا عمر ! (1) .
وفي رواية عن أنس قال : كنا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع ، فقرأ : " وَفَاكِهَةً وَأَبًّا " [ عبس : 31 ] فقال : فما الأبُّ ؟ ثم قال : إن هذا لهم التكلف !! فما عليك أن لا تدريه ؟ (2)
وهذا ابن عباس حَبْرُ الأمة ، وترجمان القرآن – كما روى عنه ابن أبي مليكة – أنه سُئل عن آية لو سُئل عنها بعضكم لقال فيها ، فأبى أن يقول فيها . (3)
وسأله رجل عن " يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ " [ السجدة : 5 ] فقال له ابن عباس : فما " يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [ المعارج : 4 ] ؟ فقال له الرجل : إنما سألتك لتحدثني !! فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما ، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم . (4)
وهذا جندب بن عبد الله صاحب رسول الله يأتيه طلق بن حبيب فيسأله عن آية من القرآن ، فقال : أُحَرِّجُ عليك إن كنت مسلما لَما قمت عني – أو قال - : أن تُجالسني . (5)
ولم يكن هذا الورع والتحرز مقتصراً على الصحابة بل كان خُلُقاً لمن جاء بعدهم من أهل الرسوخ والتُّقى ، فهذا سعيد بن المسيب وهو من خيار علما التابعين يُسئل عن تفسير آية من القرآن فبقول : إنَّا لا نقول في القرآن شيئا . (6)
وذكر عنه يحيى بن سعيد أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن . (7)
وسأله رجل عن آية من القرآن فقال : " لا تسألني عن القرآن ... " (8)
وقال يزيد بن أبي يزيد : كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحرام والحلال وكان أعلم الناس ، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع . (9)
وأخرج ابن جرير عن عبيد الله بن عمر قال : أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير ، منهم سالم بن عبيد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن المسيب ، ونافع . (10)
وقال هشام بن عروة بن الزبير : ما سمعت أبي يؤول آية من كتاب الله قط . (11)
وسأل محمد بن سيرين عَبِيْدَةَ السلماني عن آية من القرآن فأجابه بقوله : " ذهب الذين كانوا يعلمون فِيْمَ أُنْزِلَ القرآن . فاتق الله ، وعليك بالسداد . (12)
وهذا إبراهيم النخعي يقول : كان أصحابنا – يعني أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود وغيرهم من أصحاب ابن مسعود – يتقون التفسير ويهابونه . (13)
وقال الشعبي : والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ، ولكنَّها الرواية عن الله . (14) وقال ابن مسروق : اتقوا التفسير ، فإنما هو الرواية عن الله . (15)
وهذا شيح الإسلام ابن تيمية مع تَبَحُّرِهِ في العلم وسعة اطلاعه حتى إنه إذا سُئل عن فن ظن الرائي والسامع أنه لا يَعرف غير ذلك الفن ، وحَكَم بأن لا يعرفه أحد مثله ، وله يد طُولَى في التفسير مع قوة عجيبة في استحضار الأدلة من الكتاب والسنة (16)، فمع هذا كله كان يقول : ربما طالعت الآية الواحدة نحو مائة تفسير ، ثم أسأل الله الفهم وأقول : يا معلم آدم وإبراهيم علمني ، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأُمَرِّغ وجهي في التراب ، وأسأل الله تعالى وأقول : يا معلم إبراهيم فهمني . (17)
وهذا طرف يسير من شدة تحرزهم في الكلام على التفسير ، وأما ما ورد عنهم من عظم الورع في الفتيا والجواب على المسائل الموجهة إليهم فهذا أمر يطول وصفه ولا تحتمله هذه المقدمة . (18)
وبعد هذا أقول : أين حال هؤلاء المجترئين على الله تعالى من حال هؤلاء السلف ؟
وأما الرد على مضمون تلك الورقة المشار إليها فمن ثمانية أوجه هي :
الأول : أن مدار هذه الفرية يعود إلى ما يسمونه بـ ( الإعجاز العددي في القرآن ) .
وهذا النوع من الإعجاز باطل جملة وتفصيلا ، إذ لم يكن معهوداً لدى المخاطبين بالقرآن من أصحاب رسول ، وهم أعلم الأمة بكتاب الله ، وأبرها قلوباً ، وأكثرها صواباً ، فلم يُنقل عن أحد منهم بإسناد صحيح شيء من هذا القبيل إطلاقا ، ولو كان هذا من العلم المُعتبر لكانوا أسبق الناس إليه ، وأعلم الأمة به ، وذلك أن هذا الأمر لا يتطلب آلات وتقنيات حتى يتمكن الإنسان من اكتشافه ، وإنما هو مجرد إحصاء وعدد ، وهذا أمرٌ لا يُعْوِزُ أحداً ، وقد عَدَّ السلفُ جميع كلمات القرآن ، وجميع حروفه ، وعرفوا بذلك أعشاره ، وأرباعه ، وأثلاثه ، وأخماسه ، وأسداسه ، وأسباعه ، وأثمانه ، وأتساعه ، وأنصاف ذلك كله ، وغير ذلك بدقة متناهية كما هو معروف في محله . (19)
فكيف خفي عليهم هذا العلم جملة وتفصيلا وعرفه من بعدهم ؟
هذا لا يكون أبداً ، وما يذكره بعضهم من أمثلة على هذا الإعجاز المزعوم كثير منه لا يصح فيه العد أصلاً – كما في موضوعنا هذا كما سيأتي – وما كان العَدُّ فيه صحيحاً فإن ما يُذكر معه إنما هو من باب الموافقة والمصادفة ، ولا يَعْجَزُ الإنسان إذا أحصى أموراً كثيرة مما ورد في القرآن – مثلاً – كعدد المرات التي ذُكرت فيها الجنة ، والنار ، والبر ، والأبرار ، والخير ، والشر ، والنعيم ، والجزاء ، والعذاب ، والمحبة ، والبغض ، والكفار ، وأصحاب الجنة ، وأصحاب النار ، والمؤمنون ، والكفار ، والمنافقون ، والكفر ، والإيمان ، والنفاق ... إلخ .
فإذا أحصيت ذلك كله ستجد أشياء منه تستطيع أن تلفق منها بعض الفِرَى ، فقد تتساوى بعض الأعداد ، أو يكون بعضها على النصف بالنسبة لغيره ، وهكذا مما لا يعجز معه أهل التلبيس من إيجاد وجوه للربط بينها يطرب لها بعض السذج والمغفلين .
وليس المقصود هنا التفصيل فيما يُسمى بـ ( الإعجاز العددي ) وإنما المقصود الإشارة إلى بطلان هذا الأمر الذي تدور حوله تلك الورقة المشار إليها . (20)
الثاني : زعم هذا الكاتب أن رقم السورة - وهو تسعة – موافق للشهر الذي وقع فيه الحدث ، وهو الشهر التاسع .
والجواب عن هذا لا يخفى إذ إن ترتيب السور في المصحف لم يكن عن توقيف من النبي ، وإنما كان عن اجتهاد صدر عن الصحابة في زمن عثمان حينما جمع الناس على مصحف واحد (21) . وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز أن يُرتب على هذا الترتيب للسور استنباطات في المعاني ولا غيرها ، ومعلوم أن الصحابة قبل جمع عثمان للمصاحف كانوا يتفاوتون في ترتيب مصاحفهم ، فبعضهم كان يرتب السور حسب النزول ، وبعضهم على غير ذلك ، وبهذا تعرف قيمة ما بناه ذلك الكاتب على هذا الرقم (9) .
الثالث : زعم كاتب الورقة أن سورة براءة تقع في الجزء الحادي عشر من أجزاء القرآن الكريم ، وأن هذا يوافق اليوم الذي وقع فيه الحدث ، وهو اليوم الحادي عشر .
والجواب عن هذا يتبين مما قبله ، إذ لو لم تُرتب السور في المصحف على هذا الترتيب الذي أجمع عليه أصحاب النبي صلى الله عليه زمن عثمان لما وقعت السورة في الجزء المشار إليه .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى نقول : إن تجزئة القرآن على ثلاثين جزءاً لم تكن معروفة زمن النبي ولا في زمن الصحابة ، لا في زمن عثمان ولا قبله ولا بعده ، وإنما وقع ذلك بعدهم ، وكان الصحابة يحزبون القرآن بطريقة أُخرى حسب السور على النحو التالي :
1 – السبع الطوال . 2 – المئين . 3 – المثاني . 4 – المفصل .
ولا شك أن هذا الترتيب الذي كانوا عليه أدق وأفضل ، إذ إن ترتيب القرآن على الأجزاء يفضي إلى انتهاء الجزء قبل تمام المعنى ، حيث يفصل بين أجزاء الموضوع الواحد .
أما طريقة الصحابة فهي – كما سبق – على السور ، وبناء على ذلك تكون المعاني تامة . وإذا كان الأمر كذلك فليس لأحد أن يتمسك برقم الجزء الذي وقعت فيه السورة ليربط بينه وبين أمر آخر ليخرج لنا بمعنى كهذا .
الرابع : في البداية كانت الآية التي تعلق بها الكاتب هي الآية رقم (110) من سورة التوبة ، وهي قوله تعالى : " لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " وإنما تعلق بهذه الآية لتوافق عدد الأدوار في الأبراج حيث تبلغ هذا العدد ، ولكن مضمون الآية لا يساعده ، وإنما المناسب أن تكون الآية التي قبلها وهي (109) وذلك قوله تعالى : " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ... " ثم رأيت في الأوراق المنشورة مؤخراً الإحالة إلى هذه الآية (109) لكن هذه يتطلب كذبة إضافية لحبك الدعوى ، ولم يتطلب هذا من الكاتب كبير جهد حيث زعم أن عدد الأدوار (109) فأسقط دوراً ليوافق ذلك مُدَّعاه ، وهذا من أعجب الأمور !! ولا أدري كيف يسمح الناس لمثل هذا أن يستخف بعقولهم إلى هذا الحد ؟
الخامس : أن مبنى هذه الارتباطات على الحساب الشمسي ، وهو حساب متوارث عن أُمم وثنية ، ولم يكن معتبراً لدى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وإنما الحساب المعتبر في الشرع هو الحساب بالقمر والأهلة ، وهو الأدق والأضبط ، ومما يدل على أن المعروف في شرائع الأنبياء هو الحساب بالقمر والأهلة حديث واثلة بن الأسقع أن النبي قال : أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ . (22) وهذا لا يعرف إلا إذا كان الحساب بالقمر والأهلة ، ويدل عليه أيضا الحديث المخرج في الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى ... الحديث . (23) ، وقد صرح الحافظ أنهم كانوا لا يعتبرون الحساب بالشمس (24) .
وقال ابن القيم تعليقا على قوله تعالى : " هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ " [ يونس : 5 ] ، وقوله تعالى : " وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ " [ يس : 38-39 ] : ولذلك كان الحساب القمري أشهر وأعرف عند الأمم وأبعد من الغلط ، وأصح للضبط من الحساب الشمسي ، ويشترك فيه الناس دون الحساب ، ولهذا قال تعالى : " وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ " [ يونس : 5 ] ولم يقل ذلك في الشمس ، ولهذا كانت أشهر الحج والصوم والأعياد ومواسم الإسلام إنما هي على حساب الشمس وسيرها حكمة من الله ورحمة وحفظا لدينه لاشتراك الناس في هذا الحساب ، وتعذر الغلط والخطأ فيه ، فلا يدخل في الدين من الاختلاف والتخليط ما دخل في دين أهل الكتاب (25) .
وربما يُفهم من العبارة الأخيرة لابن القيم أن أهل الكتاب كانوا يعتمدون الحساب بالشمس ، وهذا قد صرح الحافظ ابن حجر برده بعد أن نسبه لابن القيم (26) .
والواقع أنه لم يكن معتبرا في شرعهم وإنما وقع لهم بعد ذلك لدى جهلتهم ، ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن زيد بن ثابت قال : " لَيْسَ يَوْم عَاشُورَاء بِالْيَوْمِ الَّذِي يَقُولهُ النَّاس , إِنَّمَا كَانَ يَوْم تُسْتَر فِيهِ الْكَعْبَة , وَكَانَ يَدُور فِي السَّنَة , وَكَانُوا يَأْتُونَ فُلَانًا الْيَهُودِيَّ - يَعْنِي لِيَحْسِبَ لَهُمْ - فَلَمَّا مَاتَ أَتَوْا زَيْدَ اِبْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلُوهُ " (27) وقد فسره الحافظ بما نقله من كتاب " الآثار القديمة " للبيروني ما حاصله : أن جهلة اليهود يعتمدون في صيامهم وأعيادهم حساب النجوم ، فالسنة عندهم شمسية لا هلالية . قال الحافظ : فَمِنْ ثَمَّ اِحْتَاجُوا إِلَى مَنْ يَعْرِف الْحِسَاب لِيَعْتَمِدُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ (28) .
السادس : أن الآية المشار إليها تتحدث مع ما قبلها وبعدها عن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ، ورَبْطها بالحدث الجديد تلاعب بكتاب الله تعالى ، وتحميل له ما لا يحتمل إطلاقا من أي وجه من وجوه الدلالة المعروفة لدى العلماء . وهذا أمر أوضح من أن يشرح .
السابع : زعم كاتب الورقة أن عدد الحروف من بداية السورة إلى الآية (109) = (2001) حرفا .
وهذا إضافة إلى الأوجه السابقة الدالة على عدم الاعتداد به فإنه كذب محض ، ذلك أن كل وجهين ( صفحتين ) من المصحف الكريم تحويان ما يقرب من ألف حرف ، وعدد الأوجه من أول السورة إلى الآية المشار إليها يبلغ (17.5) تقريبا ، فإذا اعتبرت هذا العدد عرفت البون الشاسع بين ما ذكره الكاتب وبين الحقيقة ؛ ولذا رأيت في بعض طبعات تلك الورقة المعدلة أن هذا الرقم (2001) هو عدد الكلمات من أول السورة إلى الآية المشار إليها ، وهذا أيضا غير صحيح ذلك أن العدد الحقيقي للكلمات هناك يزيد على (2920) كلمة .
وإذا أحسنَّا الظن بالكاتب قلنا إنه لا يحسن العَدَّ ، ذلك أن الكلمة عند أهل العربية على ثلاثة أقسام :
1 – الاسم .
2 – الفعل .
3 – الحرف الذي جاء لمعنى نحو : من ، على ، إلى ، والباء وغيرها من حروف الجر وما في حكمها ، وهكذا الضمائر سواء كانت متصلة أو منفصلة فإنها تُعد كلمات أيضا .
الثامن : زعم الكاتب أن المركز المشار إليه يقع على شارع اسمه : " جرف هار " .
وهكذا كذب مُلَفَّق ، وقد سألت من يعرفون تلك البلاد فلم يعرفوا هذا الاسم ، كما اطلعت على بعض المعلومات والخرائط التي توضح الموقع وما حوله عبر الشبكة العنكبوتية ، وليس لهذا الاسم ذكر في شيء من ذلك .
ثم لو فرضنا جدلا أن هذا هو الاسم الحقيقي لشارع فنقول : إن هذا الاسم أعجمي ، والقرآن بلسان عربي مبين ، ومعلوم أن الألفاظ قوالب المعاني ، وإنما تُفَسَّر الألفاظ بحسب ما وُضِعَت له من المعاني في اللغة التي تضاف إليها ، فكم من لفظة أعجمية توافق لفظا كلمة عربية وتناقضها في معناها ومدلولها ، ولا يقول أحد له أدنى مسكة من عقل بأن هذه الألفاظ المتوافقة في مجرد اللفظ أنها تُحمل على مدلول واحد .
ومعلوم أن ( الجرف ) في العربية هو المكان الذي يأكله السيل (29) .
وأما ( الهار ) فإن أصل الكلمة هذه الكلمة يدور على معنى واحد وهو السقوط والانهدام (30) .
ولا يبعد على هذا الكاتب وأمثاله أن يخرج علينا باستنباط جديد بعد أن عرف معنى هاتين الفظتين في لغة العرب ، وهو أن يقول بأن المبنى المشار إليه يمر بجانبه نهر ، فهو يقع على ضفافه وبالتالي فهو على جرف هار ، والدجل ليس له حد ينتهي إليه .
وفي الختام أنبه القارىء الكريم أن المقصود الأهم من كتابة هذه الورقات إنما هو التنبيه على حال هذه المُخْتَلَقَات وهي كثيرة ومتنوعة وذلك بعرضها على ميزان العلم فينكشف أمرها ، وهذا الذي بين يديك يمكنك أن تعتبر به حال كثير مما يمر بك مما قد يستهوي بعض السذج والبسطاء ، والله الموفق .
كتبه
د . خالد بن عثمان السبت
2/3/1423 هـ
--------------------------------------------------------------------------------
الـــحـــاشـــيـــة :
(1) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد (1/58) ، وابنُ أبي شيبة (10/512 – 513) ، وسعيد بن منصور في تفسيره (1/181) ، والحاكم (2/514) ، والبيهقي في الشعب (2084) .
(2) إسناده صحيح . أخرجه عبد بن حميد في تفسيره كما في الفتح (13/271) ، وابن سعد (3/327) ، وابن جرير (30/60-61) ، والبيهقي في الشعب (2084) ، وأصله في البخاري مختصرا .
(3) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير .
(4) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن جرير .
(5) إسناده صحيح . أحرجه ابن جرير . ولعل السائل أورد عليه مسألة مُتَكَلَّفَة ، وإلا فمن المعلوم أن السؤال عما يعني في التفسير وغيره أمرٌ غير مُسْتَنكَر .
(6) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير ، وابن سعد .
(7) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن جرير .
(8) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن أبي شيبة .
(9) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير .
(10) إسناده صحيح .
(11) إسناده جيد . أخرجه أبو عبيد .
(12) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي في الشعب .
(13) إسناده صحيح . أخرجه ابن أبي شيبة ، والبيهقي في الشعب ، وأبو نعيم في الحلية .
(14) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير .
(15) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد .
(16) انظر : الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية ص 706 .
(17) العقود الدرية ص 26، وهو في الكواكب ص 78 .
(18) للتوسع انظر على سبيل المثال : سنن الدارمي (1/53) فما بعدها ، الموافقات (4/286) .
(19) انظر في ذلك على سبيل المثال : فنون الأفنان لابن الجوزي ص 245 فما بعدها ، البرهان للزركشي (1/249) ، الإتقان للسيوطي (1/197) ، جمال القراء للسخاوي (1/231) .
(20) ورأيت بعضهم يحتج له بأن الله جعل خزنة النار تسعة عشر .
وهذا لحكمة يعلمها الله تعالى ولكن ما وجه الإعجاز في ذلك ؟ وهكذا سائر الأعداد المذكورة في القرآن كابواب النار وغير ذلك وسيكون بيان ذلك كله – إن شاء الله – في غير هذه الورقات عند الكلام على التفسير العلمي للقرآن .
(21) مع أننا نقول في الوقت نفسه : إن هذا الترتيب وقع عليه إجماع الصحابة في زمن عثمان ، فينبغي اتباعه في طباعة المصاحف ، ولا تصح مخالفته .
(22) أخرجه أحمد (4/107) ، والبيهقي في السنن (9/188) ، وسنده حسن ، وذكره الألباني في الصحيحة (1575) .
(23) أخرجه البخاري (2004) ، ومسلم (1130) .
(24) انظر : الفتح (4/291) ، وانظر (7/323) .
(25) مفتاح الدار السعادة ص 538 – 539 .
(26) انظر : الفتح (7/323) .
(27) قال في الفتح (4/248) : وسنده حسن " .
(28) السابق ، وللتوسع في هذا الحساب راجع : صبح الأعشى (2/382-401) .
(29) انظر : المفردات للراغب ( مادة : جرف ) .
(30) انظر : المقاييس في اللغة ، كتاب الهاء ، باب الهاء والواو وما يثلثها .
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..