الثلاثاء، 20 سبتمبر 2011

أعظم الحقوق (حق الله) أيها الحقوقي المسلم!


* هذا الاستبداد القائم اليوم أغلبه علماني يكفر بالأديان وينتصر لمشاعر زوجات الحكام في حين أنه يهين دين الله وثوابت الإسلام في وسائله الإعلامية ويقرب المجدفين ويكرّمهم بالمناصب الإعلامية والجوائز الثقافية

* أما أنّ الفكر لا يتعامل معه إلا بفكر: فليس على إطلاقه، وإنما هذا في مجال البحث الفكري وإثبات الحقائق، أما في مجال السياسة فالتنظير الفكري تصرفات سياسية يترتب عليها مسؤوليات، وهم يدركون هذه الحقيقة حينما يكون التنظير الفكري معتدٍ على حقوقهم – كتنظير التكفير والتفجير- فلا يستشكلون عقوبة المنظر في هذا الجانب

*
إن هؤلاء المعترضين لا يقفون في وجه الدعوة الجزئية للإصلاح السياسي أو الاقتصادي، فرأينا كيف أن جلهم جعل من مطلب (انتخاب أعضاء مجلس الشورى ) المطلب الإصلاحي الراهن الذي يؤملونه ويطالبون به، رغم أنه لا يحل مشكلة الفساد، ورغم أنه جزئية ضئيلة في سبيل الإصلاح، لكنهم يرحبون ويؤملون بأمثال هذه الجزئيات حينما تتعلق بحقوقهم الدنيوية، فمالهم لا يرحبون بجزئيات تتعلق بمصلحة دينهم الذي هو أعظم حقاً ؟




مدخل:
لم تكن الزندقة التي كتبها عبد العزيز بن علي السويد في مقاله : ( المفهوم المدني للألوهية ) سوى حلقة جديدة في سلسلة تجاوزات الصحافة السعودية و افتئاتها على ثوابت الإسلام، الجديد هذه المرة: هو التفاعل الإيجابي من ولي الأمر بإيقاف الكاتب ورئيس التحرير وإحالتهما للتحقيق، وغياب مثل هذا التجاوب المشكور – في الفترة الماضية – جعل من الصحافة الرسمية حاضنة لميكروبات الجرائم الفكرية المتنوعة، فلا زال في ذاكرة الكثير من الناس ألوان من التعدي والإساءة والتجاوزات التي لا تتفق أبداً مع هوية المجتمع ولا دينه، ولا تخدم ما يؤكد عليه المسؤولون بين فينة وأخرى من سلفية الدولة وعقيدتها، ولو ضُبط مسار الصحافة ضبطاً شرعياً ما كانت هذه التجاوزات، ولو قوبلت هذه التجاوزات بما تستحقه من إجراءات حازمة -هي من مسؤولية ولي الأمر الشرعية في إنكاره للمنكرات- ما وصلنا إلى اليوم الذي يتعدى فيه السويد على أصل الدين ومفهوم الألوهية في صحيفة دولة تحكم بالشريعة وتدين بالإسلام، ذلك التعدي الذي أدى بخادم الحرمين إلى الامتعاض الشديد!
وإنه لمن المؤسف أن تجد من أبناء الإسلام من لا يمتعض بسبب العدوان على دين الله والتجديف بحقه، ويشتد الأسف ويتعاظم حينما تجد مسلماً يمتعض بإيقاف المجدفين وعقابهم، ويستر امتعاضه ذلك بستار الحقوق، وما هي بحقوق ، إن هي إلا ثقافة العرب اللادينية التي تعظم حق الإنسان وتقدسه على حساب حق الله و حق دينه وشريعته.

واجب الدولة الإسلامية تجاه الدين:
و وقوف الدولة حامية لجناب الدين، ومواجهتها لمن يجدف بحقه: من أعظم مهمات الدولة في الإسلام، ومن أجلّ مسؤوليات ولي الأمر فيها، وهذه قضية من الوضوح والتأكد في التصور الإسلامي بدرجة كبيرة، جعلت كلمة أهل الإسلام تتوارد على أن مهمة الدولة (حفظ الدين وسياسة الدنيا به) وعلى أنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وعلى أنّ قوام الدين بكتاب يهدي وبسيف ينصر .
وذلك يجيء متسق مع الحقيقة الكبرى التي أخبر عنها الله في قوله : [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56}   وإذا وَضَع المسلم هذه الغاية نصب عينيه لم يسعه – في دولته وحكمه – إلا أن يسعى في تحقيق العبودية، كما أخبر الله عن عباده الصالحين : [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] {الحج:41}  والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينتظم كل ما من شأنه التأكيد على شرف المعروف وإشاعته في الناس وتقريبهم إليه ، وكل ما من شأنه التنبيه على جريمة المنكر وخطله وحجز الناس عنه.
وفي جزئية النهي عن المنكر تحديداً، يبين النبي صلى الله عليه وسلم مجالات هذا النهي ودرجاته، في قوله: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) [أخرجه مسلم في صحيحه] وأولى من له يد يستطيع بها تغيير المنكرات: الإمام وولي الأمر، والحديث نص في وجوب قيامه بهذا التغيير، كما أن المنكر وصف عام يتحقق في كل ما يخالف الشريعة وينافيها، في العلميات والعمليات، في حقوق الله وفي حقوق الناس .
وإن الناظر في سيرته صلى الله عليه وسلم وفي سيرة خلفائه الراشدين وفي تاريخ الإسلام وعمل المسلمين، يجد أن هذه المسألة – أعني مسؤولية ولي الأمر في حماية الدين وحفظه من عادية الزنادقة والمنافقين- ظاهرة في تصرفاتهم ومتجذرة في تصوراتهم، ولم تكن عندهم في يوم ما موضع إشكال أو تردد، لا كما يصوره بعض المتأثرين بطغيان المفاهيم الليبرالية وسطوتها.
ويكفي أنك لا تكاد تمر بموضع في السيرة فيه حكاية مخالفة قولية أو عملية لحكم الإسلام في دولته صلى الله عليه وسلم إلا وجدت من أصحابه من يبادر في استئذانه صلى الله عليه وسلم في قتل صاحبها، لما تجذر في أذهانهم من كونه مجرماً، وأنه يستحق العقاب بخروجه عن الدين، الذي هو أعظم مكونات الدولة والمجتمع، فهو في حكم المتمرد، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأذن لهم في كل الأحوال إلا أنه لا يخالفهم في كونه مستحقا للعقاب ومرتكبا جرماً، وإنما ينبههم إلى الالتفات لمصلحة إنفاذ القتل من عدمه كما في قوله : ( لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) .
ورغم وجود رعايا في دولته صلى الله عليه وسلم لم يكونوا من المؤمنين إلا أن الحزم الواضح في تطبيق شريعة الله، وتفاني الناس في حياطتها أدّى بهم إلى النفاق، وإعلان الإسلام خوفاً وخشية، وما كان يتفلت من ألسنتهم مما تكنه قلوبهم من تجاوزات شرعية كانوا يبادرون إلى الحلف على إنكاره، وتعقد لهم مجالس الاستتابة، يعتذرون فيها من أي فلتة أو قول يخرمون به نظام المجتمع الإسلامي عبر خرمهم لشريعة الإسلام.
وفي صدر الإسلام لم تكن مسؤولية ولي الأمر وحده في حياطة الدين، بل كانت مسؤولية الناس كلهم والمجتمع بأسره، فكانوا ينقلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصل لأسماعهم من تجاوزات قولية بحق الإسلام، لما يعلمون من كونها مخالفات تستحق العقوبة والنفي من المجتمع المسلم، وهذا فرع عن إيمانهم بدين الله ، وقوة تصديقهم بما فيه، فصار المخالف له لا بيئة تستوعب مخالفته في مجتمع أنصار الله وجنده .
على أن طبيعة المخالفات التي في صدر الإسلام لم تكن تصل للزندقة الصريحة والكفر بالله ورسوله، بل كانتت فلتات لسانية تدل على ما وراءها من شعور بالضيق والتبرم من دين الله عز وجل.
فأما من كان يريد (إعلان) الكفر بالله ورسوله، فلم يكن ليجرؤ على ذلك إلا بالخروج من المدينة والالتحاق بأرض الكفار، نظراً لما تجذر في ذلك الزمن من ربط وملازمة بين (إعلان الكفر) في المجتمع وبين (إعلان الحرب والتمرد عليه) .
وهذه الملازمة والربط بين (إعلان الكفر والردة) وبين (إعلان الحرب والتمرد) كما هي واضحة جلية في تاريخ الإسلام وسير المسلمين، فإنّ لها سنداً في النصوص قرآناً وسنة، فقوله تعالى : [وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ] {التوبة:12}  صريح في اعتبار تصرف (الطعن في الدين) تصرف حربي يبرر القتال ويساوي تصرفات العداوات السياسية كنكث العهود.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) [أخرجه البخاري]صريح أيضاً في اعتبار مجرد الرجوع عن الإسلام تصرف حربي يبرر القتل والقتال، وهو قاعدة في اعتبار التصرفات التي تمس (الدين) محلاً للمسؤولية أمام الدولة وأن ذلك يدخل في باب الجنايات.
ولذا لما ولي الخلافة الصديق رضي الله عنه، عدّ الرجوع عن الإسلام حرباً على دولته، ولم يقبل ممن أتاه إلا العودة للإسلام وإن بالسيف، ولم يتح خيارات أخرى كالدخول في الطاعة مع البقاء على الكفر، أو المسالمة والمهادنة، بل -ورغم الظرف السياسي العصيب- فقد كانت جيوشه تجوب أرجاء الجزيرة لا تقبل من الناس إلا الإسلام، لأنّ حفظ حق الله في هذا الموطن مسؤولية ولي الأمر قبل حق الدولة ككيان سياسي .
ولا يقتصر تناول الخلفاء الراشدين لمسؤوليتهم في حفظ الدين وحياطته على مواجهة المرتدين فحسب، بل يشمل ذلك كل من يأتي بالبدع والغرائب في دين الله، فجلد عمر رضي الله عنه صبيغ بن عسل الذي كان يتتبع المتشابه ويثير الأسئلة الغريبة، بل وذهب علي رضي الله عنه إلى أبعد من ذلك حينما رأى في أفراد واجباته: الوقوف في وجه من يحدث في سيرة المسلمين وتاريخهم، وفضائل رموز الإسلام، حينما قال: ( لا أوتين برجل يفضلني على الشيخين إلا جلدته حدّ المفتري) .
والمقصود بيان بدهية من بدهيات التصور الإسلامي التي عكّر عليها بعض المتأثرين بالتصورات اللادينية، هذه البدهية ملخصها: أن الدولة الإسلامية لها دين يمثل المكون الأساس من مكوناتها، ويتبع ذلك أن يكون من الأعمال والتصرفات العدائية بالنسبة لها (الجرائم) ما كان متجهاً إلى ذلك الدين تشكيكاً أو طعناً أو خروجاً عليه في ظل سلطانها ونطاق رعايتها .
ولقد أطبق فقهاء الإسلام، وأجمعوا في فتاويهم وكلامهم على مبدأ ( العقوبة ) لمن يخرج على الدين أو يشكك فيه أو يحدث فيه ما ليس منه، ونظرة في كتب المذاهب الفقهية التي هي بمثابة الشروحات لنظام الشريعة وقانونها تورث المتأمل يقيناً بأن الخروج عن دين الله من جملة الجرائم التي تواجه بزواجرها من الحدود والتعزيرات، فالحد قتلاً عندهم على كل من كان خروجه كلياً، والتعزير بما دونه على من كان خروجه جزئياً.
وهذه ( الزواجر ) ليست لتحقيق القناعة الفكرية بالإسلام عند الجاني، وليس غايتها حمل الناس على دين الله بالإكراه كما يخاله البعض، وإنما هي فرع عن (إيمان) الناس بالله ، وتدينهم بدينه، وفرع عن عميق تصديقهم بكونه الحق وأن ما سواه باطل، فنتج عن ذلك نفيهم للباطل من المجتمع، وطردهم لكل ما من شأنه تذويب وترقيق هذه الحقائق والعقائد، ومصادرة طمأنينة الناس بالحق، فحماية المؤمنين مما يصادم دينهم في مجتمعهم هو غاية هذه الزواجر، فهي متوجهة إلى أعمال ظهرت للعلن وأحدثت في الناس فخرجت عن كونها قناعات شخصية وانتقلت نحو معانٍ أخرى كالتبشير والمصادمة و الإيذاء والتجريح ونحو ذلك.

التصور اللاديني مقابل التصور الإسلامي:
وإذا كان عقاب الخارج عن الدين فرع عن عميق الإيمان به وأنه الحق و ما سواه باطل، فإن كفلان الحرية له – في المقابل – فرع عن الشك في الحق، والقول بنسبيته وتعدده وهو تصور لاديني أخذت به الليبرالية، في إحدى نقاط الخلاف الجوهري بينها وبين التصور الإسلامي القائل بثنائية (الحق والباطل) .
فثقافة الغرب اليوم – التي بنيت تصوراتهم السياسية في ضوءها- ثقافة لادينية لاتصدق بالأديان ثم لا تميز أصلاً بينها من جهة أن فيها حق وفيها باطل، بل كل الأديان فيها على مستوى واحد من هذه الناحية، فيتبع ذلك المساواة، وأن الاتجاه واحد سواء قلنا بإسلام أو بكفر .
فالدولة اللادينية لها موقفين تجاه الأديان، الموقف الأول: التكذيب بها وإبطالها، ويكون ذلك بعدم التصديق بكون شيء منها حق، فضلاً عن عدم تمثل شيء منها كدين تحفظه الدولة وتحوطه وتحقق للمؤمنين به مجتمعاً مؤمناً، الموقف الثاني: المساواة بينها في الحقوق بعد نقلها إلى حيّز القناعات الشخصية النسبية.
فالرؤية اللادينية في واقع الأمر ليست محايدة تماماً تجاه الأديان وإنما تتدخل في صياغتها وتتخذ منها موقفاً، فهي تبطل الأديان وتنقلها من حيز الحق المطلق وتأطرها في حيز القناعات النسبية، ولا يقيم زعم الحياد كونها تساوي بينها في جزئية كحرية التعبير والتعبد.
وزعم (الحرية المطلقة في التعبير) هو مرتكز على هذه الرؤية اللادينية ومنطلق منها، تماماً كزعم المساواة بين مختلف الرؤى والتصورات في حقوق: التعبير، والدعوة، وما يتصل بذلك، كلها منطلقة من قاعدة لادينية، تنفي قاعدة الدين فضلاً عن قاعدة الإسلام القائمة على ثنائية الحق والباطل.

تسرب التصور اللاديني لبعض المسلمين:
ونظراً للزخم اللاديني المركز، وأخذ النظم السياسية العالمية المؤثرة بالمبدأ اللاديني، وحربها الشنيعة على مبدأ الدين، فلقد تأثر كثير من المسلمين بالتصورات اللادينية، وصاروا لا يستوعبون دولة الإسلام إلا في ظل تصورات الغربيين ولعناتهم المنصبة على دولتهم الدينية المستبدة، ولئن كان الغرب قد مرّ بتجربة دين باطل محرف، فيه كذب على الله، وفي أحكامه ظلم ومصادمة للعقول والفطر، فإنّ المسلم لا يعرف مثل هذه الصورة من الدين، فلا مبرر لخنوعه لثقافة اللادين تحت زعم طلب العدل ونشدانه إلا أن يكون ضحية لاستبداد السطوة الليبرالية المعاصرة.
نعم، فدين الإسلام إذا كانت دولته تحفظه وتحوطه فإن هذا في إطار شرائعه التي ليس في شيء منها ما يحجم الإبداع ويعوق النهضة والتقدم، كما أنه على طبق من الشفافية بحيث إنها مهمة منوطة بالناس، فلا كهنوت في الإسلام، ولا صفوة من الناس مختارة من الله لتطبقه، ولا غموض في شرائعه بحيث تكون أسيرة لعب الساسة والمتنفذين، فهذه فروق عظيمة بين دولة الإسلام وبين دولة الدين المحرّف، لو تأملها المسلم لعلم أن العدل في إسلامه لا في اللادين: أولها أن الإسلام حق والنصرانية باطل، ثانيها أن الإسلام في شرائعه وعقائده التي يصونها ليس شيء منه ضد الإبداع والعمل الإيجابي والتقدم، بخلاف النصرانية التي تتناول المكتشفات العلمية – مثلاً – في سياق العداوة لها، وثالثها أن شرائع الإسلام ودلائله واضحة في الكتاب والسنة، وثوابته واضحة كذلك، وليس شيء منها منوط
برغبات ثلة من الناس، بل هي واجبات ثابتة يخضع لها الحاكم والمحكوم، فإن تجاوز أحدهما فتجاوزه مردود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الجميع، فلا محل لكهنوتٍ في الإسلام .
وأمام هذه الفروق الجوهرية بين (دولة الإسلام) و (الدولة الدينية وفق التجربة الكنسية) يتملكك العجب أمام إصرار بعض شباب الإسلام على اقتباس تجربة الغرب مع دولته المستبدة، فحال الغرب وبعض شباب الإسلام كحال من يسير في ذات الطريق أحدهما هارب من عدو متوحش والآخر هارب من والد مربي محقق لمصلحة ابنه!
وصدق صلى الله عليه وسلم في خبره : (لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه . قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن؟ ) [متفق عليه] وهاهو الغرب يسلك جحر ضب يندس فيه من جحيم الكنسية المحرفة، ويتبعه بعض شباب الإسلام ، والإسلام كقصر منيف خير لهم من جحر ضب لو كانوا يعلمون.
على أن ما يردده البعض من فاعلية الاستبداد في بلاد المسلمين في الجنوح نحو التصورات الغربية غير مسلم بمعزل عن نزعة الاتباع والتأثر بالغرب، وإلا فإنّ في تراث المسلمين وهويتهم ما يحميهم من لظى الاستبداد الجائر، وهذا الاستبداد القائم اليوم أغلبه علماني يكفر بالأديان وينتصر لمشاعر زوجات الحكام في حين أنه يهين دين الله وثوابت الإسلام في وسائله الإعلامية ويقرب المجدفين ويكرّمهم بالمناصب الإعلامية والجوائز الثقافية، فهو لا يتسمى باسم الدين، وإنما باسم الملك والجبروت والطغيان في غالبه، فما الذي يبرر للمستغربين لجوءهم للغرب وطرحهم للإسلام ونظامه؟

ورغم أن القاعدة والمنطلق الذي تنطلق منه هذه الأفكار التي تعظم حقوق الناس ولا تقيم لحق الله وزناً (قاعدة لاديينة) إلا أنه لا ينكر أن لبعض المتأثرين بها شبهات وتأويلات، كتب في علاجها وتفنيدها ولا يزال يكتب ، ومن واجب العصر أن ينتصب لها طلبة العلم الذين يحملونه في كل زمان، ينفون عنه تحريف الجاهلين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الغالين.

بعض تأويلات المتأثرين بالليبرالية :
في رفضهم لكل إجراء عقابي ضد من يتجاوز بحق الدين ومن يخرج عن الشرع، يستعمل المتأثرون بسطوة المفاهيم الليبرالية العديد من الاعتراضات والتأويلات التي يبررون بها هذا الرفض، وربما جاز لنا فرزها إلى رزمتين، في الأولى تجد الاعتراضات الأصلية على التصور الإسلامي، وفي الثانية تجد جملة من الاعتراضات لا على مبدأ العقاب وإنما على ظروفه وما يحتف به من واقعات.
ونستطيع أن نجعل من الأولى، قولهم: إنه ليس من مهمة الدولة محاسبة الناس على أديانهم، وقولهم: الفكر لا يحدّ ولا يعامل بغير الفكر، وقولهم: فرق بين الإساءة للدين وبين البحث المعرفي.
بينما نستطيع أن نجعل من الرزمة الثانية، قولهم: إن قرارات الدولة ضد المجدفين قرارات سياسية لتحقيق أغراض سياسية، وإنها توظيف للدين ولو كانت تطبيقاً له لكانت قرارات مطردة لا انتقائية، أو إن هذه القرارات هدفها إشغال الرأي العام عمّا هو أهم.

الاعتراضات في القسم الأول:
وما في القسم الأول من اعتراضات مدفوع بتأصيل الفرق بين التصور الإسلامي وبين التصور الليبرالي، فمهمة الدولة في حماية الإسلام وحفظه تشمل مهمتها في محاسبة من يخرج عليه، ولا يكون هذا من محاسبة الناس على أديانهم بمعنى قناعاتهم الشخصية التي محلها القلب، وإنما هو محاسبتهم على ما أظهروه وأشاعوه في المجتمع من قولٍ ورأي، وهذا الإظهار تصرف سياسي يترتب عليه التزامات في كل القوانين والثقافات، اللهم إن الليبرالية لا تحاسب على الآراء الدينية لكونها لا ترى فيها ما يناقض هوية دولتها وقد خرجت بها من حيز الحق إلى حيز القناعات النسبية، في المقابل: تحصل المحاسبة على ما يشيعه الفرد من قناعات وآراء حتى في ظل الليبرالية، كما يحاسبون على من ينكر الهولوكوست لما صار عندهم حقيقة ثابتة، وهم بالعموم يحاسبون على الآراء والإشاعات إذا صادمت ما يقررونه بمعيارهم الوضعي، كما يحاسبون على ما يمس الناس ويشوه صورتهم أو تاريخهم، وإن كان رأياً أو ممارسة كتابية مجردة، فالرأي المعلن تصرف مسؤول، فإذا صادم دين الله وشريعته كان من مهمات الدولة في الإسلام المحاسبة عليه وعقاب صاحبه، وهي مهمة أولى وأجلّ من محاسبة صاحب الرأي على ما يصادم حقوق الناس واعتباراتهم من آرائه المعلنة.

أما أنّ الفكر لا يتعامل معه إلا بفكر: فليس على إطلاقه، وإنما هذا في مجال البحث الفكري وإثبات الحقائق، أما في مجال السياسة فالتنظير الفكري تصرفات سياسية يترتب عليها مسؤوليات، وهم يدركون هذه الحقيقة حينما يكون التنظير الفكري معتدٍ على حقوقهم – كتنظير التكفير والتفجير- فلا يستشكلون عقوبة المنظر في هذا الجانب ولو كان عمله مجرد تنظير، ولا يستشكلون منعه، لكنهم يستشكلون عقوبته في جانب تنظيره لما يخرم دين الله، وذلك منهم تبعاً لطغيان المفاهيم التي لا تؤمن بدينٍ لله أصلاً !
والقول بعصمة الفكر من المحاسبة السياسية – كما هو ثابت أنه قول لاديني وأنه مقتصر على ما لا يمس حقوق الناس لأنه لا يؤمن بما سوى حقوق الناس – هو قول غريب على البيئة الإسلامية، فالإجماع الإسلامي قائم على منع الدعوة لغير الإسلام – مثلاً- في بلاد المسلمين وعقوبة صاحبها، بل وعلى منع الارتداد عن الإسلام وعقوبة مظهر الردة، وكما قال جابر رضي الله عنه: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا – يعني السيف – من خرج عن هذا -يعني المصحف- ) فالخروج عن المصحف في الدولة الإسلامية تصرف سياسي لأن السياسة أصلاً قائمة بالمصحف ومهمتها تطبيق مافيه، فالخروج عن المصحف بمثابة التمرد على دستور الدولة التي يكون الإسلام نظامها وهويتها وعدلها، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (قال تعالى : [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحديد:25}  فبين سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل وما به يعرف العدل ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فمن خرج عن الكتاب والميزان قوتل بالحديد، فالكتاب والعدل متلازمان، والكتاب هو المبين للشرع، فالشرع هو العدل والعدل هو الشرع ) [مجموع الفتاوى 366/35 ] وهذا الكلام البديع من شيخ الإسلام في بيان الرؤية الإسلامية، حيث التلازم بين الدين والشرع وبين العدل والنظام السياسي، فمن خرج على هذه فقد خرج على هذه، يدحض الرؤية العلمانية اللادينية التي تحاسب على الخروج عن المشروعية السياسية ولو كان خروجاً بالرأي والتنظير، اللهم إلا أنها لا تعد الكلام في الأديان والعقائد والأفكار من ذلك الخروج، نظراً لأنها تجردت منها وحبستها في أدراج القناعات النسبية وفصلت بين السلطة وبين الدين.

وأما التفريق بين الإساءة للدين وبين البحث المعرفي، فهذه عبارة لادينية، واضح أنها لم تحسم بعد الموقف من الدين، وتتناول التشكيك فيه والخروج عنه تناولاً معرفياً محضاً، لا يصادم شيئاً سوى مصادمة ( القناعات) وليت شعري كيف يرددها مسلم يعلم أن دولة الإسلام لا تقوم إلا بالإيمان القاطع بالشريعة والتسليم التام لها وعدم وجود حسك في القلوب منها، كيف وقد قال الله تعالى : [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}  ولم يوجد في تاريخ المسلمين من فرق بين الإساءة للدين وبين التشكيك فيه بدعوى البحث المعرفي، ومن تأمل فيهما وجد أنّ الإساءة نزق طائش، وأما التشكيك فهي مواجهة منظمة، فأيهما أشد صراخة في مواجهة (المشروعية) في الدولة الإسلامية وتهديدها؟

الاعتراضات في القسم الثاني:
وأما قولهم : ( إن قرارات الدولة ضد المجدفين قرارات سياسية لتحقيق أغراض سياسية، وإنها توظيف للدين ولو كانت تطبيقاً له لكانت قرارات مطردة لا انتقائية، أو إن هذه القرارات هدفها إشغال الرأي العام عمّا هو أهم ) فيكفي في تصور بطلانه ومعرفة العلة فيه، أنهم لا يطردونه على ذات القرارات حينما تتعلق بحقوق الناس الدنيوية المحضة، فلو فرضنا أن الدولة أصدرت قراراً ضد بعض الممارسات المفسدة في سوق العقار أو في سوق الأسهم، فهل سيكون موقفهم موقف الرافض لهذه القرارات بدعوى أن الدولة لها أغراض سياسية منها وتريد أن تحسن صورتها، أو أنها تريد إشغال الرأي العام؟
أم أن الموقف العقلاني المتزن يكون في الترحيب بهذه القرارات التي هي حق وعدل في ذاتها -بغض النظر عن دوافع من قررها- والسعي في المطالبة بالمزيد من الإصلاح والعدل؟
إن هؤلاء المعترضون لا يقفون في وجه الدعوة الجزئية للإصلاح السياسي أو الاقتصادي، فرأينا كيف أن جلهم جعل من مطلب (انتخاب أعضاء مجلس الشورى ) المطلب الإصلاحي الراهن الذي يؤملونه ويطالبون به، رغم أنه لا يحل مشكلة الفساد، ورغم أنه جزئية ضئيلة في سبيل الإصلاح، لكنهم يرحبون ويؤملون بأمثال هذه الجزئيات حينما تتعلق بحقوقهم الدنيوية، فمالهم لا يرحبون بجزئيات تتعلق بمصلحة دينهم الذي هو أعظم حقاً ؟

ختاماً:
إن الجدير بالمسلم أن يتلمس كمال إسلامه وسلامة دينه في موطن غيرته على حق الله ونصرته لدينه، كغيرته على حق نفسه ونصرته لدنياه، بل أشدّ غيرة، وإن أخفق في هذا المقام فليبك على نفسه، وليكتف بذلك البكاء، فهو خير له من أن يهلك بالانتقال لمقام خطير يحادّ فيه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويقف ضداً مما يراعي حقهما وحق الشريعة التي بُينت في كلامهما.
 قال الله تعالى: [وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ] {الحج:40،41}  


 بقلم/ عبد الوهاب آل غظيف 
ع ق   660

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..