بقلم
: مجدى أحمد حسين
أعلم أن فتح ملف دور
المخابرات العامة (فرع الأمن القومى) فى إفساد الحياة السياسية أكثر خطورة من حملتى
السابقة على حسنى مبارك وهو فى ذروة قوته وصولجانه عام 2002، فمهاجمة الجهاز الأمنى
أكثر خطورة من مهاجمة رمز النظام، لأن الجهاز هو الذى يحمى النظام ويحمى رمز
النظام. ولكن هذا قدرى أو دورى المفروض علىّ، فكل ما أراه فى سبيل الله ولخدمة
الوطن، وأرى أن الآخرين يتجنبون الخوض فيه إيثارا للسلامة أو لعدم الإدراك
والمعرفة، فى هذه الحالة أتقدم وأدلى بدلوى معتمدا على الله سبحانه وتعالى. فعلى
كثرة ما كتب وقيل فى الأسابيع الماضية عن مخاطر حكم العسكر، وعن بقايا وفلول
النظام، خاصة جهاز أمن الدولة، إلا أن أهم عناصر هذه الموضوعات ما تزال مخفية تحت
الأرض، ولا يجرى الحديث عنها، مع أن مجرد الحديث عنها يحاصرها ويقيد
دورها.وتصادف فى الأيام الأخيرة أن طفت سيرة جهاز المخابرات على السطح، بسبب
ظهور دوره وسطوته وهذه من محاسن الصدف! ففى خلال أيام قليلة وقفت المخابرات العامة
بشكل صريح وراء إيقاف 3 صحف بسبب موضوعات منشورة عن الجهاز، كما نشرت الصحف الكثير
عن التسجيلات المصورة التى قدمتها المخابرات بخصوص موقعة الجمل والتى ثبت أنها لا
تفيد فى شىء. كما أضيف فى مواقع الإعلام أن المخابرات كانت هى المسئولة عن تأمين
المتحف، وهذا ذكرنا أن المتحف كان مكانا لتعذيب المتظاهرين!! ثم فى تطور دراماتيكى
آخر أعلن أن رئيس جهاز المخابرات العامة قد التقى بنفسه بعشرة من شباب الثورة ليبحث
معهم مسألة الانتخابات البرلمانية! وأعقب ذلك لقاؤه مع ممثلى مجموعة من منظمات حقوق
الإنسان. وقد استغرب الناس بينما كنت سعيدا بهذا الظهور العلنى لجهاز المخابرات فى
العمل السياسى حتى يدرك الناس دوره الحقيقى الذى يتجاوز مسألة الاستخبارات بالمعنى
الفنى، وحماية ما يسمى بالأمن القومى الذى أصبح يحتاج إلى إعادة تعريف حتى نفهم
معناه.
واستكمالا لهذه المقدمة وقبل الدخول فى جوهر الموضوع لابد من التأكيد على التالى: أننى كنت أكن ولا زلت احتراما خاصا لجهاز المخابرات العامة فى مجال دوره فى مكافحة التجسس الصهيونى، وأرى ضرورة الحفاظ على هذا الجهاز وتطويره، ووضعه قدر الإمكان تحت الإشراف البرلمانى فى حدود الحفاظ على أسراره. وبالتالى لا أدعو للدخول معه فى أى نوع من المواجهات أو شن حملات إعلامية عليه، ولكن مع تقييم دوره خلال عصر مبارك، ومع إعادة النظر فى توسعه الداخلى كجهاز أمن داخلى بمسمى جهاز الأمن القومى، ولا أملك الحديث فى تقييم هذين المجالين (الخارجى والداخلى) بدون تقارير وبدون ممارسة عملية وتعامل واقعى. فكل ما نعرفه عن الجهاز هو ما يسربه هو عن نفسه من خلال قصص وروايات وأفلام، وبعض قضايا التجسس التى تصل إلى المحاكم.
ولذلك فإننى أقصر حديثى فى هذا الموضوع على دور جهاز الأمن القومى فى مجال العمل السياسى والحزبى والإعلامى. وقد يكون فى ذلك مؤشر على أحوال الجهاز فى المجالات الأخرى. ولكن ليس هذا هو موضوعى الآن، بل أحسب أنه سيكون أحد الموضوعات المهمة للعهد الجديد حين يتأسس. وأتمنى أن نتمكن من تصحيح أوضاع هذا الجهاز الذى قدم الكثير من التضحيات من أجل مصر، ولا نضطر يوما أن نردد قول جمال عبد الناصر (الآن سقطت دولة المخابرات!).
فى عهد مبارك كأى عهد استبدادى فإن أجهزة الأمن كانت هى القوة الحاكمة الحقيقية، وحتى لا أتهم بالسذاجة السياسية، أعرف أن أجهزة الأمن لها دور أساسى ومحورى فى أى نوع من الأنظمة السياسية. ولكنها عندما تكون هى القوة الحاكمة بشكل مباشر فإن ذلك يكون من علامات فساد النظام السياسى، لأن عقلية الأجهزة تغلب العنصر الأمنى فى قراراتها، وتتراجع لديها المكونات الأساسية لأى قرار: وهى مكونات وخلفيات فكرية وسياسية واجتماعية، رغم أن أجهزة الأمن تدعى وتتصور أنها تراعى كل هذه المرجعيات وتستعين بالخبراء فى مختلف المجالات، ولكنهم يحولون هؤلاء الخبراء إلى مجرد موظفين استشاريين، ومن يتخذ القرار هو رجل الأمن بخلفية شرطية أو عسكرية. وسنعود إلى التأصيل الإسلامى لمسألة دور الأمن فى النظام السياسى، فقد تعلمنا أن الإسلام كما عرفناه من القرآن والسنة هو الذى يعصمنا من الزلل فى أى موضوع من الموضوعات.
ولا يكتفى النظام السياسى الاستبدادى بجهاز أمنى واحد بل من ضمن آلياته تعدد أجهزة الأمن على سبيل التخصص فى المجالات المختلفة، وعلى سبيل مراقبة بعضها بعضا، وهذا هو البعد الأخطر من وجهة نظر الحاكم المستبد. فالجهاز الأمنى ذو الصلاحيات المفتوحة يتحول إلى وحش كاسر قد يخيف الحاكم نفسه وينقلب عليه، لذلك يتعين وجود جهاز رئيسى آخر ليراقب كل منهما الآخر. ثم يتطور الأمر إلى تعدد الأجهزة. واليقين أن فى عهد مبارك كانت هناك 4 أجهزة رئيسية: أمن الدولة - المخابرات العامة - المخابرات الحربية - مخابرات الرئاسة، ولكن العاملين فى هذه الأجهزة يسربون عن عمد دون إمكانية للتأكد من ذلك أن عدد الأجهزة الأمنية أكثر من ذلك بكثير، ويحدد بعضهم العدد بـ 17 جهاز أمنى!!
ولكن دعونا من السراب أو غير المتيقن منه ولنتحدث عن الأمور اليقينية، وهى الأجهزة الأربعة المعروفة والمعلنة، وإن كان أمن أو مخابرات الرئاسة يحيط به الغموض، وقيل إنه جزء لا يتجزأ من المخابرات العامة، ولكن عمله فى الرئاسة أكسبه استقلالية حقيقية كذلك من المفترض أن المخابرات الحربية تعمل فى المجالات العسكرية دون المدنية. فى هذه الحدود، يكون من الخطأ التركيز وفتح النيران على جهاز أمن الدولة وحده لتحميله منفردا كافة أوزار النظام. واستبعاد الجهاز الكبير الموازى والمتعاون معه وهو الأمن القومى (المخابرات العامة فى القطاع الداخلى). والأمر المتيقن منه أن الأجهزة الأمنية كانت تعمل كوحدة واحدة وفق تنسيق على أعلى مستوى وفى شتى المجالات. وإن كان جهاز أمن الدولة يتميز بضيق أفق أكثر نظرا لانشغاله بالحفاظ على أمن الحاكم أولا وأخيرا، وفى المقابل ربما يتميز الأمن القومى بسعة أفق أكبر إلى حد ما لرؤيته الأكثر شمولية. فالخلاف فى الوظيفة يؤدى إلى بعض الخلاف فى الممارسة ولكنه لا يكون أبدا خلافا جوهريا، ثم أتت مسالة التوريث وأحدثت شرخا حقيقيا بين أمن الدولة وأجهزة أمن القوات المسلحة، وكانت هذه من عوامل إضعاف النظام من الداخل، وقد كتبت عن ذلك فى حينها. ومع ذلك فإن الحفاظ على أمن النظام ظل يجمع المنظومة الأمنية، وكان تأجيل التوريث واستمرار مبارك فى الحكم مهما تدهورت حالته الصحية هو الحل الوسط الذى حافظ على تماسك النظام. ويؤكد العالمون ببواطن الأمور أن جهاز المخابرات العامة كان هو الجهاز الأعلى وأنه لم يكن يوافق فحسب على ممارسات أمن الدولة بل كان هو الموجه لها. وأنه ترك الأعمال القذرة لأمن الدولة كى تحمل وحدها أوزار النظام. فلم يقم هو باستدعاء المعارضين أو تعذيبهم أو استجوابهم، ولكنه كان يشرف ويراقب من بعيد. ولكن فى المقابل قام بتعذيب مصريين وإسلاميين قدموا من الخارج، أو أرسلتهم أمريكا خصيصا من أجل ذلك. والطريف أن الصحف تنشر ذلك منسوبا لعمر سليمان كما لو كان انحرافا شخصيا له، وليس كسياسة للجهاز. (سنأتى لاحقا لموقف عمر سليمان والجهاز من أمريكا وإسرائيل). والدليل على اعتماد أمن مبارك على الجيش أكثر من اعتماده على الشرطة، أن الجيش بكل مكوناته كان هو أساس تأمين تحركاته.
وكل ما ذكرناه آنفا يعتمد على معلومات معروفة ومعلنة، ويعتمد على التحليل المنطقى الذى يقول أن كل شركاء وأجهزة مبارك مسئولة تماما عن سياساته أمام الله والشعب والتاريخ (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين). ولكن عنوان المقال يشير إلى إفساد الحياة السياسية. وهذا هو موضوعنا الرئيسى الآن ولدى شهادة سأسئل عنها يوم القيامة إذا أنا كتمتها الآن خوفا أو طمعا.
فقد كان الأمن القومى (واختصارا لن نكرر أنه القسم الداخلى للمخابرات) شريكا أصيلا لأمن الدولة فى إفساد الحياة السياسية والحزبية عن طريق اختراق الأحزاب السياسية ولكنهم لم يكتفوا بالاختراق لمعرفة أخبار الأحزاب من الداخل، بل رأوا أن يجندوا أعضاءها فى كل المستويات خاصة فى القيادة، وبحيث يكونون مؤثرين فى اتخاذ القرارات، ثم رأوا أنهم يخترقون الأحزاب كاختراق السكين للزبد فقالوا لماذا لا نسيطر على أغلبية القيادة ويصبح القرار فى أيدينا، بل لماذا لا نجند رئيس الحزب نفسه؟! بالإضافة لأصحاب المواقع الرئيسية كرئيس التحرير. وهكذا أصبح الحزب كله يدار بمعرفة الأمن (أمن الدولة والأمن القومى بتعاون وتناغم كامل)، فى حين أن القرارات تصدر بصورة طبيعية من المؤسسات الشرعية للحزب فى أزهى عصور الديمقراطية. وقد كان رئيس حزب شهير يتسم بالخفة والظرف يتحدث عن هذه الظاهرة فقال فى إحدى الجلسات على طريقة السخرية من بؤس الأحوال: إن كل الأحزاب فى مصر مخترقة من الأمن، وحزبى مخترق من رأسه حتى أخمص قدميه!! أى أنه اتهم نفسه بالعمالة للأجهزة فى لحظة صدق، والحقيقة فإنه لم يكن عميلا بالمعنى الحرفى للكلمة، ولكنه لم يكن يرفض للأمن طلبا إذا اتصل به!!
ثم ازداد طمع أجهزة الأمن فحولت أحزابا صغيرة ومتوسطة الحجم إلى حالة كاملة من العمالة تصل إلى 100%، ثم ازداد الطمع فقالوا لأنفسهم لماذا لا نؤسس أحزابا جديدة على أعيننا بالكامل، وقد كان هذا القرار السبب الرئيسى وراء ارتفاع عدد الأحزاب السياسية من 4 أو 5 أحزاب إلى 24 حزبا مرة واحدة! وتم تأسيس أحزاب الأنابيب من شخص واحد لكل حزب تتم زيادة عضويته إلى خمسة أو ستة أعضاء على الأكثر لكل حزب. ولم نكن ندرى ما هو مغزى تفريخ هذه الأحزاب الوهمية، ولكن سرعان ما اتضح فقد استخدم بعضهم فى الترشح الوهمى لرئاسة الجمهورية أمام مبارك، أو لإصدار بعض الصحف لإحداث بعض الفرقعات الوقتية، وإرباك الناس بكثرة الصحف. وهى تستغل الآن لتأييد المجلس العسكرى!!
ولكن كيف كان يتم اختراق هذه الأحزاب؟ فى غياب العقيدة يكون الاختراق سهلا، والمسألة وإن تطلبت إدخال عناصر من الأمن القومى وأمن الدولة فى الأحزاب إلا أن الأسلوب الأسهل هو تجنيد عناصر وقيادات من الحزب ذاته. وسائل التجنيد معروفة. تبدأ بالتخويف من عواقب الأمور (الترهيب) وتنتهى بالترغيب، الترهيب يبدأ بتلفيق القضايا وبعض الاحتجازات والضرب فى الشوارع، واعتقال لبعض الوقت فى السجون لتليين رأس الزبون. ولكن الأجهزة اكتشفت أن الترغيب أفضل كثيرا من الترهيب ويؤدى إلى نتائج أفضل، لأنه يحقق عدة أغراض بضربة واحدة. فالترهيب يسيىء لسمعة النظام، أما الترغيب فيحول المعارضين بشكل "قانونى" إلى أصدقاء للنظام. أول درجات الترغيب أن ترضى بأحوالك كما هى لمجرد الحفاظ على وجودك ورأسك فوق كتفيك حتى لا يحدث لك ما حدث لحزب العمل الذى تم تجميده وإيقاف صحيفته. ولكن فى المقابل أمامك كثير من الجوائز يمكن أن تنهل منها. فهناك السفر مع الرئيس فى نفس طائرته، وحضور كل الاحتفالات التى يحضرها. وهناك سفريات أخرى للخارج، وهناك برامج إذاعية وتلفزيونية لزوم الشهرة وربما بمقابل مادى. وهناك مقالات يمكن أن تنشر فى الصحف والمجلات الرسمية بمقابل مادى أو أدبى، وهناك مغارة وزارة الثقافة بكل مطبوعاتها وأنشطتها ومؤتمراتها يمكن أن تنهل منها ما تريد كمغارة على بابا تماما. وهناك التعيين فى مجلس الشورى وهناك التزوير لإنجاحك فى مجلس الشعب حيث لا شعبية لك أيها المعارض المزيف. وهناك تكليفات يتعين أن تقوم بها من حين لآخر، كالترشح لرئاسة الجمهورية على سبيل التهريج والاستخفاف، أو الظهور فى الإعلام الرسمى لمهاجمة المعارضة الشعبية الحقيقية والتحدث عن المناقب العظيمة للمخلوع.
وعندما جاءت نهاية عهد مبارك، كانت الحياة الحزبية تلفظ أنفاسها الأخيرة وقد كان ذلك من أسباب اندلاع الثورة لأن وجود نظام حزبى سليم وحقيقى كان كافيا لمنع وقوع أى نوع من الثورات. كل العاملين فى الأحزاب يعرفون هذه المنافسة "الشريفة" التى كانت بين أمن الدولة والأمن القومى فى تقويض الأحزاب من الداخل، وتحويلها إلى مجرد أدوات تستخدم فى المناسبات، ثم توضع على الرف أو فى الأدراج. والمفهوم العسكرى للأحزاب السياسية هو ذلك بالضبط، فالأحزاب مجرد ديكور ومناظر بينما الجيش والمخابرات هما اللذان يحكمان، وهذا ليس على سبيل الاستنتاج بل هذا ما يكتبه ممثلو الجيش والمخابرات فى مقالات منشورة أو يقولونه فى برامج تلفزيونية وهذا ما يمارسه المجلس العسكرى الآن!
لم يهتم كثير من الثوار والمثقفون بوضع حزب العمل، ولماذا هو الحزب الأصيل فى الحياة السياسية الذى تم تجميده وإغلاق جريدته فى عهد المخلوع، ولماذا هو الحزب الوحيد تقريبا الذى يحارب بعد الثورة من قبل المخابرات العامة والمجلس العسكرى وريث مبارك؟ وحتى نحن لن ننشغل بمشكلتنا بأكثر من انشغالنا بمشكلة الوطن، نحن لم ننشغل بها قبل الثورة لأننا اعتبرناها عرضا لمرض مصر وكان علينا الاهتمام بشفاء مصر من مبارك. ولا أتحدث الآن عن مشكلة حزب العمل إلا باعتبارها عرضا لمرض الحكم العسكرى، وللكشف عن أحد المصادر الأساسية المسكوت عنها لإفساد الحياة السياسية.
ع ق 727
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..