قلب العولمة: الشرق الأوسط "الجديد"
العولمة على لسان الجميع، ولوقْعها على الناس معنى القدر المحتوم، وهي تتقدّم متجلْبِبَةً بثوب "المنظمة العالمية للتجارة" و"صندوق النقد الدولي" و"البنك العالمي" وغيرها.. من المؤسّسات العالمية والدولية التي تحظى بمؤازرة الحكومات. فماذا يعرف العالم حقاً عن العولمة؟ منذ متى وجدت العولمة؟ ما هي آثارها على النموّ والعمل؟ هل تُسهِم في التنمية الشاملة وفي الحدّ من انتشار الفقر؟ هل هي بالفعل عامل فاعل في حلّ النزاعات ونشر السلام في ربوع العالم؟
يصف لوران كارّويهLaurent Carroué العولمة الراهنة بأنها "العملية الجغرافية التاريخية لتوسّع الرأسمالية التدريجي على نطاق الكرة الأرضية برمّتها لتشمل العالم قاطبةً". فهي في آن معاً، كما يقول كارّويه أيضاً:"أيديولوجيا (الّليبرالية الاقتصادية) وعملة (الدولار) وأداة (الرأسمالية) ونظام سياسي (الديمقراطية) ولغة (الإنجليزية)"(راجع كتابه "العولمة.. ولادتها، أهدافها والقائمون بها"L. Carroué, D. Collet et C. Ruiz, La Mondialisation. Genèse, acteurs et enjeux, Bréal, 2005.). ويُعرِّف جاك أدّا Jacques Adda العولمة بأنها: "إلغاء الفضاء العالمي تحت ضغط تعميم الرأسمالية وهيمنتها، وتفكيك الحدود الطبيعية والتنظيمية" (راجع كتاب جاك أدّا "عولمة الاقتصاد.. نشوؤها ومشكلاتها"J. Adda, La Mondialisation de l’économie. Genèse et problèmes, La Découverte, 7e éd. 2006.).
العولمة في التاريخ
مرّت الحضارة خلال الألفيتين الماضيتين بأربعة أطوار شهدت أربعة أشكال من السلطة السياسية:
1 ـ الطور القبلي تميّز بسلطة القويّ لا بسلطة الحكيم أو العالم، فكان المجتمع البشري قريب الشبه بالمجتمع الحيواني.
2 ـ طور الإمبراطوريات والملكيات تميّز بسلطة وراثية وانتهى بولادة الدولة الأمة.
3 ـ طور الدول القومية، تميّز بكون السلطة لا تنتقل بالوراثة بل بممثلين يُفترَض نظرياً أنهم يمثلون الشعب بانتخابات (الدولة الديمقراطية) أو بالتعيين (الدولة الاستبدادية).
4 ـ طور المجموعات الاقتصاية الضخمة.
بدأت ولادة العولمة المعروفة اليوم منذ أواسط القرن التاسع عشر: بين العامين 1870 و1914، ونشأ فضاء تبادل شبيه في اتساعه بفضاء التبادل المعروف اليوم، شهدت عليه قناة السويس وقناة باناما، وتضاعف حجم الأساطيل البحرية مرات عدّة، وانتشرت خطوط سكك الحديد في كلّ مكان من العالم.
منذ التسعينيّات بدأت "العولمة" تدلّ على مرحلة جديدة في مسار توحيد العمليات الاقتصادية والمالية والبيئية والثقافية في جميع جوانب الكرة الأرضية. غير أن تفحصاً دقيقاً لهذه الظاهرة يوضح أنها ليست جديدة ولا حتمية. وصفها في زمنه المؤرّخ الروماني بوليب الذي عاش في القرن الثاني ق م. وبعض المؤرخين يُعيدون وجود فضاء مشترك بين أبناء الجنس البشري أينما كانوا على وجه البسيطة، إلى فجر الإنسانية بالذات. غير أن الاكتشافات الكبرى في القرن الخامس عشر، كما يقول المؤرخ فرنان بروديل، هي التي "وصلت بين مختلف مجتمعات الأرض وأنشأت هذا الاقتصاد العالمي"(راجع كتاب Fernand Braudel "الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية، من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر" Civilisation matérielle, économie et capitalisme, XVe-XVIIIe siècle, 1979). فثمة قانون اقتصادي بديهي وهو أن انغلاق البلد الواحد على نفسه مضرٌّ جداً باقتصادياته ويؤدّي إلى إضعافه واختناقه. لذا فإن العلاقات الاقتصادية بين البلدان المتباعدة معروفة منذ القِدَم. ولكن على الدوام، كان هناك مركز ثقل معيّن في العلاقات الاقتصادية العالمية يتغيّر مكانه من بلد إلى بلد آخر تبعاً لغلبة المعطيات العسكرية والسياسية والمقدرات الاقتصادية والديمغرافية لهذا البلد أو ذاك..
ترى "منظمة التعاون للتنمية الاقتصادية" (OCDE) أن العولمة استأنفت مسارها، وهو يتضمّن 3 مراحل:
ـ التدويل (internationalisation)، أي تدفّق التصدير وتزايد معدلاته.
ـ عبور الحدود القوميّة(transnationalisation)،أي تدفّق الاستثمارات وازدهارها في الخارج، وزرع فروع للشركات الكبرى فيه.
ـ التجميع والشمول(globalisation)، أي إقامة شبكات عالمية للإنتاج والإعلام، وبخاصة تكنولوجيات الإعلام والاتصالات الجديدة (NTIC).
لا نجد في الإنجليزية عند الأنجلوسكسون كلمة globalisation التي تعني الجمع والشمل، ولا نجد معادلاً لعولمة المترجمة عن الفرنسيةmondialisation (موندياليزاسيون)؛ فما يسمّيه الأنجلوسكسون "غلوباليزيشن" ولِد من ازدهار التجارة الدولية بعد العام 1945، أي بعد الحرب العالمية الثانية على نحو لم يسبق له مثيل في التاريخ. فمنذ ذلك الحين نما التبادل التجاري بسرعة فاقت نموّ الإنتاج نفسه؛ فقد وقعت الخدعة بتعميم التبادل الحرّ، عبر إنشاء منظمة الـ"غات" (GATT)، أي الاتفاقية العامة حول التعرفة الجمركيّة والتجارة العام 1947، وإنشاء "المنظمة العالمية للتجارة" العام 1995. ولذا، فإن العولمة الحالية هي عولمة ماليّة قبل كلّ شيء عبر إنشاء سوق كونية لرؤوس الأموال، وانفجار الصناديق النقدية المتنافسة. فزوال الحدود بين الأسواق، وامِّحاء الحواجز التي كانت تفصل بين مختلف المهن المالية، أتاح للعاملين في هذا المجال أن يعزفوا على مختلف الأوتار المالية. وقد تجلَّت العولمة في آنيَّة انتقال رؤوس الأموال من مركز ماليّ إلى آخر بفضل التواصل عبر الساتلايت والمعلوماتية والإنترنت تبعاً لاحتمالات الربح على المدى القصير. وحيث إن بورصات العالم المالية متّصل بعضها ببعض، فإن سوق المال لا ينام بل يبقى مستيقظاً على الدوام.
عجّلت الأزمة المالية التي وقعت بين العامين 2008 و 2009 في انتقال مركز الثقل في الاقتصاد العالمي من البلدان الصناعية المتقدمة التقليدية نحو البلدان الصاعدة، فوجدت البلدان الصناعية نفسها أمام تحدّ قوامه الإبقاء على سياسة انفتاحها الاقتصادي على الرغم من احتمال خسارة نفوذها وازدهارها.
في السنوات الخمسين التي سبقت تلك الحرب كان حوالى 60 مليون أوروبي قد هاجروا إلى "العالم الجديد" بحثاً عن حياة أفضل وصاروا "أميركيّين" بعدما أخلوا أميركا من الأميركيّين الأصليّين.
في عصر الاستعمار بدأت التجارة الدولية تتركّز عبر الشركات البحرية الكبرى (كالشركة الإنجليزية للهند الشرقية التي كانت تنشر سفنها في كلّ أصقاع العالم). ولم تكن الحرب العالمية الأولى سوى صراع بين الدول الصناعية (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، روسيا، ثم الولايات المتّحدة) على تقاسم الأسواق (الشرق، أي السلطنة العثمانية، وأفريقيا) لتصريف منتجاتها.
إلا أن مسار العملية لا يتّبع خطاً واحداً ومستقيماً: الحرب التي دارت بين الدول الصناعية في العام 1914 سُمِّيَت بالحرب العالمية اعترافاً بأن فضاءها يُغطّي العالم، ثم الانهيار الاقتصادي الذي حدث بعد عقد واحد من الزمن ومهّد أمام تطاحن جديد بين الدول الصناعية نفسها لتقاسم الأسواق من جديد، فتصاعدت حدّة المشاعر القومية وعادت الدولة الحامية/الراعية من جديد. جمُدَت حركة العولمة طيلة الحرب الباردة وولادة التكتلات الدولية الكبرى، أي حوالى 50 سنة، لتعود بسرعة فائقة مع انهيار الاتحاد السوفياتي وجدار برلين.
العولمة السياسية: الشرق الأوسط "الجديد" في قلب العولمة
عبارة واحدة تختصر استراتيجية الجدّة في عولمة الشرق الأوسط: الفوضى والبناء. فالعولمة تعتمد على التفكيك في كلّ مكان بدءاً من الدولة وإقالتها من مهامّها وإسناد تلك المهمّات إلى مؤسّسات وشركات خاصة. لذا فإن الصراع الجاري اليوم بين مؤسّسات الاتّحاد الأوروبي مثلاً وبين الدول الأعضاء فيه يتمثّل في مقاومة الدول الوطنية لسياسة الاتحاد العولمية، كما يتمثّل ذلك الصراع أيضاً بين محاولات الحكومات التي تستجيب للمؤسّسات الأوروبية وبين الشعوب الأوروبية التي ترفض الانصياع لمخططات العولمة التي تسعى تلك الحكومات إلى تنفيذها.
يتحدث المفكّرون عن موت الديمقراطية في ظلّ العولمة السياسية كمارسيل غوشيه("الديمقراطية ضدّ نفسها" Marcel Gauchet, La democratie contre elle-même)، وجان ماري جيهينّو("موت الديمقراطية"Jean-Marie Guehenneau, Fin de la democratie). ذلك أن كبار المسؤولين في السلطة الاقتصادية يرون الرأي نفسه والرؤية نفسها حول ما يجب أن يكون عليه العالم في المستقبل، فتواضعوا وتوافقوا على استراتيجية تتجاوز سلطات الدول القائمة من أجل سلطة أرفع تمرّ عبْرَ إضعاف الدول والسلطات العامة، وتفكيك القوانين والأنظمة، وخصخصة الخدمات العامة. ويعني ذلك فكّ ارتباط الدول والحكومات من أيّ التزام أو ارتباط بالاقتصاد بما في ذلك قطاعات التربية والتعليم والأبحاث.
ويقول مارسيل غوشيه الذي وضع كتاباً في الديمقراطية في 3 مجلّدت أن الديمقراطية لم تعد حقيقة واقعة، وأنها باتت واجهة يستتر خلفها نقل السلطات إلى مراكز قرار أخرى غير الانتخابات. زعماء المنظمات التي تمارس السلطة الفعلية ليسوا منتخبين، والناس لا تعرف عنهم شيئاً، وما سمّي بالإعلام لا يعلمهم أيّ شيء عن قراراتهم.
هامش تحرّك الدول وعملها الفعلي ضاق ويضيق أكثر فأكثر وتقلّص إلى أقصى حدّ بفعل الاتفاقات الاقتصادية الدولية (تحت وهم يُشيعه في عقول الناس شيء اسمه "المجتمع الدولي" الذي لا وجود له إلا بالاسم فقط) التي لا يُستشار في شأنها المواطنون ولا حتى يُعلَمون بشيء في شأنها.
كلّ تلك الاتفاقات التي أُبرِمت خلال السنوات الخمس الأخيرة على يد المنظمات المهيمنة على القرارات الدولية، ومنها على سبيل المثال الاتفاقية العامة حول الرسوم الجمركية والتجارة ("غات" GATT)، اتفاقية التبادل الحرّ في أميركا الشمالية ("نافتا" NAFTA)، الاتفاقية المتعدّدة الجوانب للاستثمار ("آمي" AMI)، المنظمة العالميّة للتجارة (OMC)، استهدفت غاية واحدة: نقل السلطات من الدول إلى منظمات غير منتخَبَة، عن طريق تسمّى "العولمة".
ولو كان تعليق العمل بالديمقراطية على نحو علنيّ مفضوح لا يُحدِث ردود فعل عنيفة، في المجتمعات الأوروبية بخاصة، لما عمدت العولمة إلى الإبقاء على واجهة ديمقراطية شكلية تشكّل ستاراً يجري من ورائه نقل السلطة الفعلية إلى مراكز أخرى. في الشكل الديمقراطي، يستمرّ المواطنون في التصويت في الانتخابات، لكن تصويتهم يبقى فارغاً من أيّ مضمون. فهم ينتخبون أشخاصاً لم يعد لديهم أيّ سلطة فعلية. بالضبط، لأنه لم يعد هناك شيء يمكن تقريره، صارت البرامج السياسية "اليمينيّة" و"اليساريّة" شبيه بعضها ببعض إلى حدّ بعيد في جميع البلدان الغربية (لمعرفة كيف يُصنَع القرار في الولايات المتّحدة، راجع "كتاب العملاق" للأميركي جاك بيتي..
ع ق 722
نشرة أفق
العولمة على لسان الجميع، ولوقْعها على الناس معنى القدر المحتوم، وهي تتقدّم متجلْبِبَةً بثوب "المنظمة العالمية للتجارة" و"صندوق النقد الدولي" و"البنك العالمي" وغيرها.. من المؤسّسات العالمية والدولية التي تحظى بمؤازرة الحكومات. فماذا يعرف العالم حقاً عن العولمة؟ منذ متى وجدت العولمة؟ ما هي آثارها على النموّ والعمل؟ هل تُسهِم في التنمية الشاملة وفي الحدّ من انتشار الفقر؟ هل هي بالفعل عامل فاعل في حلّ النزاعات ونشر السلام في ربوع العالم؟
يصف لوران كارّويهLaurent Carroué العولمة الراهنة بأنها "العملية الجغرافية التاريخية لتوسّع الرأسمالية التدريجي على نطاق الكرة الأرضية برمّتها لتشمل العالم قاطبةً". فهي في آن معاً، كما يقول كارّويه أيضاً:"أيديولوجيا (الّليبرالية الاقتصادية) وعملة (الدولار) وأداة (الرأسمالية) ونظام سياسي (الديمقراطية) ولغة (الإنجليزية)"(راجع كتابه "العولمة.. ولادتها، أهدافها والقائمون بها"L. Carroué, D. Collet et C. Ruiz, La Mondialisation. Genèse, acteurs et enjeux, Bréal, 2005.). ويُعرِّف جاك أدّا Jacques Adda العولمة بأنها: "إلغاء الفضاء العالمي تحت ضغط تعميم الرأسمالية وهيمنتها، وتفكيك الحدود الطبيعية والتنظيمية" (راجع كتاب جاك أدّا "عولمة الاقتصاد.. نشوؤها ومشكلاتها"J. Adda, La Mondialisation de l’économie. Genèse et problèmes, La Découverte, 7e éd. 2006.).
العولمة في التاريخ
مرّت الحضارة خلال الألفيتين الماضيتين بأربعة أطوار شهدت أربعة أشكال من السلطة السياسية:
1 ـ الطور القبلي تميّز بسلطة القويّ لا بسلطة الحكيم أو العالم، فكان المجتمع البشري قريب الشبه بالمجتمع الحيواني.
2 ـ طور الإمبراطوريات والملكيات تميّز بسلطة وراثية وانتهى بولادة الدولة الأمة.
3 ـ طور الدول القومية، تميّز بكون السلطة لا تنتقل بالوراثة بل بممثلين يُفترَض نظرياً أنهم يمثلون الشعب بانتخابات (الدولة الديمقراطية) أو بالتعيين (الدولة الاستبدادية).
4 ـ طور المجموعات الاقتصاية الضخمة.
بدأت ولادة العولمة المعروفة اليوم منذ أواسط القرن التاسع عشر: بين العامين 1870 و1914، ونشأ فضاء تبادل شبيه في اتساعه بفضاء التبادل المعروف اليوم، شهدت عليه قناة السويس وقناة باناما، وتضاعف حجم الأساطيل البحرية مرات عدّة، وانتشرت خطوط سكك الحديد في كلّ مكان من العالم.
منذ التسعينيّات بدأت "العولمة" تدلّ على مرحلة جديدة في مسار توحيد العمليات الاقتصادية والمالية والبيئية والثقافية في جميع جوانب الكرة الأرضية. غير أن تفحصاً دقيقاً لهذه الظاهرة يوضح أنها ليست جديدة ولا حتمية. وصفها في زمنه المؤرّخ الروماني بوليب الذي عاش في القرن الثاني ق م. وبعض المؤرخين يُعيدون وجود فضاء مشترك بين أبناء الجنس البشري أينما كانوا على وجه البسيطة، إلى فجر الإنسانية بالذات. غير أن الاكتشافات الكبرى في القرن الخامس عشر، كما يقول المؤرخ فرنان بروديل، هي التي "وصلت بين مختلف مجتمعات الأرض وأنشأت هذا الاقتصاد العالمي"(راجع كتاب Fernand Braudel "الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية، من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر" Civilisation matérielle, économie et capitalisme, XVe-XVIIIe siècle, 1979). فثمة قانون اقتصادي بديهي وهو أن انغلاق البلد الواحد على نفسه مضرٌّ جداً باقتصادياته ويؤدّي إلى إضعافه واختناقه. لذا فإن العلاقات الاقتصادية بين البلدان المتباعدة معروفة منذ القِدَم. ولكن على الدوام، كان هناك مركز ثقل معيّن في العلاقات الاقتصادية العالمية يتغيّر مكانه من بلد إلى بلد آخر تبعاً لغلبة المعطيات العسكرية والسياسية والمقدرات الاقتصادية والديمغرافية لهذا البلد أو ذاك..
ترى "منظمة التعاون للتنمية الاقتصادية" (OCDE) أن العولمة استأنفت مسارها، وهو يتضمّن 3 مراحل:
ـ التدويل (internationalisation)، أي تدفّق التصدير وتزايد معدلاته.
ـ عبور الحدود القوميّة(transnationalisation)،أي تدفّق الاستثمارات وازدهارها في الخارج، وزرع فروع للشركات الكبرى فيه.
ـ التجميع والشمول(globalisation)، أي إقامة شبكات عالمية للإنتاج والإعلام، وبخاصة تكنولوجيات الإعلام والاتصالات الجديدة (NTIC).
لا نجد في الإنجليزية عند الأنجلوسكسون كلمة globalisation التي تعني الجمع والشمل، ولا نجد معادلاً لعولمة المترجمة عن الفرنسيةmondialisation (موندياليزاسيون)؛ فما يسمّيه الأنجلوسكسون "غلوباليزيشن" ولِد من ازدهار التجارة الدولية بعد العام 1945، أي بعد الحرب العالمية الثانية على نحو لم يسبق له مثيل في التاريخ. فمنذ ذلك الحين نما التبادل التجاري بسرعة فاقت نموّ الإنتاج نفسه؛ فقد وقعت الخدعة بتعميم التبادل الحرّ، عبر إنشاء منظمة الـ"غات" (GATT)، أي الاتفاقية العامة حول التعرفة الجمركيّة والتجارة العام 1947، وإنشاء "المنظمة العالمية للتجارة" العام 1995. ولذا، فإن العولمة الحالية هي عولمة ماليّة قبل كلّ شيء عبر إنشاء سوق كونية لرؤوس الأموال، وانفجار الصناديق النقدية المتنافسة. فزوال الحدود بين الأسواق، وامِّحاء الحواجز التي كانت تفصل بين مختلف المهن المالية، أتاح للعاملين في هذا المجال أن يعزفوا على مختلف الأوتار المالية. وقد تجلَّت العولمة في آنيَّة انتقال رؤوس الأموال من مركز ماليّ إلى آخر بفضل التواصل عبر الساتلايت والمعلوماتية والإنترنت تبعاً لاحتمالات الربح على المدى القصير. وحيث إن بورصات العالم المالية متّصل بعضها ببعض، فإن سوق المال لا ينام بل يبقى مستيقظاً على الدوام.
عجّلت الأزمة المالية التي وقعت بين العامين 2008 و 2009 في انتقال مركز الثقل في الاقتصاد العالمي من البلدان الصناعية المتقدمة التقليدية نحو البلدان الصاعدة، فوجدت البلدان الصناعية نفسها أمام تحدّ قوامه الإبقاء على سياسة انفتاحها الاقتصادي على الرغم من احتمال خسارة نفوذها وازدهارها.
في السنوات الخمسين التي سبقت تلك الحرب كان حوالى 60 مليون أوروبي قد هاجروا إلى "العالم الجديد" بحثاً عن حياة أفضل وصاروا "أميركيّين" بعدما أخلوا أميركا من الأميركيّين الأصليّين.
في عصر الاستعمار بدأت التجارة الدولية تتركّز عبر الشركات البحرية الكبرى (كالشركة الإنجليزية للهند الشرقية التي كانت تنشر سفنها في كلّ أصقاع العالم). ولم تكن الحرب العالمية الأولى سوى صراع بين الدول الصناعية (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، روسيا، ثم الولايات المتّحدة) على تقاسم الأسواق (الشرق، أي السلطنة العثمانية، وأفريقيا) لتصريف منتجاتها.
إلا أن مسار العملية لا يتّبع خطاً واحداً ومستقيماً: الحرب التي دارت بين الدول الصناعية في العام 1914 سُمِّيَت بالحرب العالمية اعترافاً بأن فضاءها يُغطّي العالم، ثم الانهيار الاقتصادي الذي حدث بعد عقد واحد من الزمن ومهّد أمام تطاحن جديد بين الدول الصناعية نفسها لتقاسم الأسواق من جديد، فتصاعدت حدّة المشاعر القومية وعادت الدولة الحامية/الراعية من جديد. جمُدَت حركة العولمة طيلة الحرب الباردة وولادة التكتلات الدولية الكبرى، أي حوالى 50 سنة، لتعود بسرعة فائقة مع انهيار الاتحاد السوفياتي وجدار برلين.
العولمة السياسية: الشرق الأوسط "الجديد" في قلب العولمة
عبارة واحدة تختصر استراتيجية الجدّة في عولمة الشرق الأوسط: الفوضى والبناء. فالعولمة تعتمد على التفكيك في كلّ مكان بدءاً من الدولة وإقالتها من مهامّها وإسناد تلك المهمّات إلى مؤسّسات وشركات خاصة. لذا فإن الصراع الجاري اليوم بين مؤسّسات الاتّحاد الأوروبي مثلاً وبين الدول الأعضاء فيه يتمثّل في مقاومة الدول الوطنية لسياسة الاتحاد العولمية، كما يتمثّل ذلك الصراع أيضاً بين محاولات الحكومات التي تستجيب للمؤسّسات الأوروبية وبين الشعوب الأوروبية التي ترفض الانصياع لمخططات العولمة التي تسعى تلك الحكومات إلى تنفيذها.
يتحدث المفكّرون عن موت الديمقراطية في ظلّ العولمة السياسية كمارسيل غوشيه("الديمقراطية ضدّ نفسها" Marcel Gauchet, La democratie contre elle-même)، وجان ماري جيهينّو("موت الديمقراطية"Jean-Marie Guehenneau, Fin de la democratie). ذلك أن كبار المسؤولين في السلطة الاقتصادية يرون الرأي نفسه والرؤية نفسها حول ما يجب أن يكون عليه العالم في المستقبل، فتواضعوا وتوافقوا على استراتيجية تتجاوز سلطات الدول القائمة من أجل سلطة أرفع تمرّ عبْرَ إضعاف الدول والسلطات العامة، وتفكيك القوانين والأنظمة، وخصخصة الخدمات العامة. ويعني ذلك فكّ ارتباط الدول والحكومات من أيّ التزام أو ارتباط بالاقتصاد بما في ذلك قطاعات التربية والتعليم والأبحاث.
ويقول مارسيل غوشيه الذي وضع كتاباً في الديمقراطية في 3 مجلّدت أن الديمقراطية لم تعد حقيقة واقعة، وأنها باتت واجهة يستتر خلفها نقل السلطات إلى مراكز قرار أخرى غير الانتخابات. زعماء المنظمات التي تمارس السلطة الفعلية ليسوا منتخبين، والناس لا تعرف عنهم شيئاً، وما سمّي بالإعلام لا يعلمهم أيّ شيء عن قراراتهم.
هامش تحرّك الدول وعملها الفعلي ضاق ويضيق أكثر فأكثر وتقلّص إلى أقصى حدّ بفعل الاتفاقات الاقتصادية الدولية (تحت وهم يُشيعه في عقول الناس شيء اسمه "المجتمع الدولي" الذي لا وجود له إلا بالاسم فقط) التي لا يُستشار في شأنها المواطنون ولا حتى يُعلَمون بشيء في شأنها.
كلّ تلك الاتفاقات التي أُبرِمت خلال السنوات الخمس الأخيرة على يد المنظمات المهيمنة على القرارات الدولية، ومنها على سبيل المثال الاتفاقية العامة حول الرسوم الجمركية والتجارة ("غات" GATT)، اتفاقية التبادل الحرّ في أميركا الشمالية ("نافتا" NAFTA)، الاتفاقية المتعدّدة الجوانب للاستثمار ("آمي" AMI)، المنظمة العالميّة للتجارة (OMC)، استهدفت غاية واحدة: نقل السلطات من الدول إلى منظمات غير منتخَبَة، عن طريق تسمّى "العولمة".
ولو كان تعليق العمل بالديمقراطية على نحو علنيّ مفضوح لا يُحدِث ردود فعل عنيفة، في المجتمعات الأوروبية بخاصة، لما عمدت العولمة إلى الإبقاء على واجهة ديمقراطية شكلية تشكّل ستاراً يجري من ورائه نقل السلطة الفعلية إلى مراكز أخرى. في الشكل الديمقراطي، يستمرّ المواطنون في التصويت في الانتخابات، لكن تصويتهم يبقى فارغاً من أيّ مضمون. فهم ينتخبون أشخاصاً لم يعد لديهم أيّ سلطة فعلية. بالضبط، لأنه لم يعد هناك شيء يمكن تقريره، صارت البرامج السياسية "اليمينيّة" و"اليساريّة" شبيه بعضها ببعض إلى حدّ بعيد في جميع البلدان الغربية (لمعرفة كيف يُصنَع القرار في الولايات المتّحدة، راجع "كتاب العملاق" للأميركي جاك بيتي..
ع ق 722
نشرة أفق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..