الثلاثاء، 4 أكتوبر 2011

عبدالملك بن مروان ودولة المؤسسات والحقوق


1


          ياسر بن ماطر المطرفي


عندما يعيد التاريخ نفسه ... فإنه لا يعيد تلك أحداثه المتشابهة فحسب ولكنه يعيد معها مجموعة من المفاهيم والأفكار المصاحبة لتلك الأحداث والتي لازالت قابلة للحياة والتأثير والبعث من جديد.  

إذا لم يكن من الغريب أن تفهم أحداث الأمس من خلال مفاهيم اليوم...فإنه ليس غريبا- كذلك- أن تفهم - ولو بأثر رجعي- بعضا من مفاهيم اليوم من خلال أحداث الأمس.

بين الحاضر والماضي علاقة جدلية لا تنفك كل منهما يؤثر في فهم الآخر...إذا كنا نريد فهم طبيعة ما يجري فليس من صالحنا أن ننحاز لطرف الحاضر على حساب الماضي ولا الماضي على حساب الحاضر كلاهما يؤدي دوره في حال أحسنا التعامل مع هذا الدور.

تفيدنا بعض مشاهد التاريخ أنها أن تختصر لنا مسافات طويلة من الجدل والنقاش حول جدية بعض الأفكار أو تهافتها.

في هذه الأسطر القليلة أريد أن أخوض تجربة لفهم طبيعة الدعوة لفكرة (المؤسسات والحقوق) من خلال انعكاسها على واحد من مشاهد هذا التاريخ.

يبدأ مشهدنا التاريخي من عبدالملك بن مروان العالم- الفقيه- العابد ... وينتهي إلى عبدالملك الوالي- الأمير -الملك([1]).

يبدأ من عبدالملك بن مروان وهو على كرسي الدراسة في مجلس الفقيه إلى عبدالملك وهو على كرسي الخلافة في مجلس الملك.
لقد جلس هذا الغلام في مجلس عثمان بن عفان، وأبي هريرة، وابن عمر، ومعاوية، وأبا سعيد وغيرهم. 
رأى فيه ابن عمر العلم وهو لا يزال شابا فقال عنه:"إن لمروان ابنا فقيها فسلوه".
وطاف نافع مولى ابن عمر المدينة فخرج بنتيجة اختصرها بقوله:"لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميراً ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ من عبدالملك".  
وتعرض عبيدالله بن عمر لفرسان المرحلة الانتقالية التي حصلت للفقه بعد الصحابة فكان هذا الشاب واحدا من فرسانها حيث يقول:"كان الفقه بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في خارجة بن زيد، وسعيد بن المسيب، وعروة، والقاسم، وقبيصة بن ذويب، وعبدالملك بن مروان، وسليمان بن يسار". 

وقام أبو الزناد بعملية إحصاء لأفضل فقهاء المدينة فخرج بنتيجة مقاربة للنتيجة التي توصل لها عبيدالله فقال: "فقهاء المدينة: سعيد بن المسيب، وعبدالملك، وعروة، وقبيصة بن ذويب".

ولم يكن الفقه والعلم فحسب هو كل ما يستوقف الآخرين في شخصية هذا الشاب الفقيه بل برزت عليه مواصفات القيادة والرئاسة وهو لم يزل في سني حياته الأولى حتى قال ابن عمر:" ولد الناس أبناء وولد مروان أبا"، والملحظ نفسه ينتقل لأبي هريرة-رضي الله عنه- الذي لحظ على هذا الغلام علامات القيادة والرئاسة فقال عنه-وهو لم يزل غلاما-:"هذا يملك العرب". 

هكذا هو مشهد هذا الشاب في شبابه ... فقيه-عالم- عابد- زاهد- تبدو عليه سيما القيادة والرئاسة- من بيت ملك وخلافه. 

إن هكذا مؤهلات كفيلة أن تُكسب الناس حالة من الرضى عندما تكون الرئاسة من نصيب شخص كهذا ... لكن كعادة الحياة السياسية في غالب التاريخ الإسلامي لم القرار هنا قرار الناس بل كان القرار قرار أبيه الذي عهد له بالولاية من بعده! 
بمجرد قدوم هذا الشاب على كرسي الرئاسة قدمت مرحلة جديدة معه، حتى أنك تستطيع أن تتحدث بدون تردد عن عبدالملك ماقبل الخلافة وعبدالملك مابعدها.   

 من حين أن اعتلى عبدالملك على كرسي الخلافة شاهد الناس عليه ظهور مواصفات جديدة وضمور مواصفات أخرى... 
في محور اهتماماته ثمة تحول كبير يلحظه ابن عائشة فيقول عنه :"أفضى الأمر إلى عبدالملك والمصحف بين يديه فأطبقه وقال:"هذا آخر العهد بك". 
وفي سلوكه الشخصي ثمة تحول آخر تبلغ أخباره أم الدرداء فتسأله وتقول: بلغني أنك شربت الطلاء (اسم تطلقه بعض العرب على الخمر) بعد النسك والعبادة! قال: إي والله والدماء. 
أما على صعيد السياسية فثمة تحولات وتحولات: فمن كان يتعاطف معهم في مواقفه السياسة قديما صاروا خصومه الأكثر بروزا في ميدان السياسة، وما كان يستنكره قبل الخلافة بدأ يمارسه بصورة أشد مما كانت عليه، لقد تأوّه قبل خلافته من تنفيذ يزيد جيشه إلى حرب ابن الزبير ... لكنه بعد أن اعتلى كرسي الخلافة قام بتجهيز جيشه إلى ذات المكان وذات الشخص على رأس قائد أكثر ظلما وبطشا وجبروتا وهو (الحجاج) حتى جاء برأسه!! 
إن الذي تأوه على محاربة يزيد له في السابق -وهو الزبير- هو ذاته الذي جعله ينزل من سريره ليسجد فرحا بخبر مقتله!!
وعندما أنكر عليه عروة الوقيعة في ابن الزبير بعد موته لم يجد أن يقول له هذا الفقيه السابق:"إن أخاك لم نقتله عداوة ولكنه طلب أمرا فطلبناه فقتلناه، وإن أهل الشام من أخلاقهم أن لا يقتلوا رجلاً إلا شتموه". 

هؤلاء هم خصوم السياسة فماذا عن رفقاء الأمس في العلم والفقه؟ 

لم يكن العلم والفقه الذي اشتركوا فيه بالأمس ليشفع لهم إذا ماخالفوا أغراضه السياسية، حتى قرينه في الفقه قبل الخلافة (سعيد بن المسيب) لم يسلم من ملاحقته ومطاردته ليبايع له بولاية العهد لابنه... وعندما امتنع معللا ذلك بقوله :"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين" لم يتردد أن يهدده بالسيف، بعد أن أوفد إليه مجموعة من الفقهاء ليلين رأيه،فأوصلوا له رسالته الأخيرة وهي :"إن أمير المؤمنين كتب إن لم تبايع ضرب عنقك". وعندما رأي إصراره على ذلك أمر الوالي فضربه خمسين سوطا، ثم أمر أن يُطاف به في أسواق المدينة تأديبا لغيره أن يقول بقوله. 

برعاية هذا الفقيه السابق مارس الحجاج ظلمه وجوره على الناس...وشرد الحجاج العلماء والفقهاء...حتى بدأت ظاهره اختفاء الفقهاء والعلماء بشكل لم يكن مسبوقا من قبل ...
وفي أمرته استخف الحجاج  ببقايا الصحابة كأنس و جابر بن عبد الله و سهل بن سعد الساعدي ممن بقوا في المدينة عندما دخلها، وختم في أعناقهم وأيديهم يذلهم بذلك ... ولم يقابله إلا بشيء من التوبيخ... وبعد عام سيّره أميرا على العراق، وما أجمل ما اختصر به الذهبي التعليق على هذا بقوله:"وكان الحجاج من ذنوبه". 

عبدالملك هذا هو الذي توسعت في عهده الفتوح، وهو الذي قاتل الخوارج، وهو الذي كتب القرآن على الدنانير، وهو الذي كان يخطب ويقول:"اللهم إن ذنوبي عظام وهي صغار في جنب عفوك ياكريم فاغفرها لي"!!   

هذا هو المشهد باختصار... الغرض منه أن نرسم تحولات الموقف بين مرحلتين...لا أن نتحدث عن خلافته ومجمل حياته. 

من خلال تحولات هذا المشهد التاريخي المختصر يمكننا أن نختبر فكرة (صلاح الفرد) باعتباره ضامنا لصلاح (المجتمع) عندما تكون معزولة عما يضمن استمرار هذا الصلاح... 

من كان يتخيل أن ينقلب حال عبدالملك من تلك الصورة إلى الصورة الأخرى، ألا يدعونا مشهد كهذا أن نقول بأن التعويل على مجرد (صلاح الفرد) إذا لم يجد من داخل المجتمع المؤسسات التي تساعد على استمرارية هذا الصلاح أو تضمن عملية استصلاحه=هو أشبه ما يكون بالمقامرة التي لا يُدري أيخرج منها المجتمع رابحا أم خاسرا !!
يمكننا أن نقول بكل اطمئنان: أن مجتمع (ما) يقامر بنفسه عندما يرهن نفسه بمجرد صلاح بضعة أفراد فيه. 
 وإن الوقوف على أطلال هذا الصلاح دون توفير البيئة التي يمكنها استصلاح هذا الفرد أو ذاك عندما تغريه نفسه بالظلم والتعدي على حقوق المجتمع لا يعدو أننا نقذف بكل صالح في بيئة تستنزف من معدل صلاحه أكثر مما تضيف إليه...
تحتاج الخطابات الشرعية التي تولي أهمية لفكرة (صلاح الفرد) وتعطيها مركز الاهتمام وهي تؤسس لفكرة الحكم الرشيد، أن تتهم كذلك بفكرة المؤسسات التي تضمن للمجتمع استمرارية هذا الصلاح أو استصلاحه.  

لا تتأخر كثير من الأطروحات عن الحديث عن أهمية البطانه الصالحة، لكنها تتأخر كثيرا عن الحديث عن أهمية بناء دولة المؤسسات والحقوق، ولكم كان ابن أنعم حكيما عندما قال له المنصور:"كيف لي بأعوان؟ فقال له:"الوالي بمنزلة السوق يجلب إليه ماينفق فيه؟". 

باختصار هذه هي الأرضية التي يبني عليها المصلحون الدعوة لدولة المؤسسات والحقوق، وباختصار كذلك يمكننا أن نقول: "اضمنوا لنا دولة المؤسسات والحقوق... نضمن لكم صلاح أفرادها".




([1])   ينظر في ترجمة عبدالملك سير أعلام النبلاء (٤/ ٢٤٦- ٢٤٩)، (٤٣٢)،(٤٢٩).   

ع     ق   726

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..