الجمعة، 18 نوفمبر 2011

فتح القُسْطنطينيَّة




الحمد لله؛ مالكِ الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يقع شيءٌ إلا بإرادته، ولا يُقْضَى قضاء إلا بأمره، يفعلُ ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ اصطفاه الله - تعالى - فجعله خاتم الرسل، واختار أمته لتكون خير الأمم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ بذلوا نفوسهم رخيصة في سبيل الله - تعالى - فما وَهَنَتْ لهم عزيمة، ولا وقفت في وجوههم قوةٌ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فلا مخرج للأُمَّة من همومها، ولا مسلاة لها من أحزانها، ولا نجاة لها من عذاب ربها، ومن تسَلُّطِ أعدائها عليها إلا بتقوى الله - تعالى - والتزام دينه، وامتثال شريعته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} {محمد: 7}.
أيها المسلمون: لئن كانتْ أمة الإسلام في هذا الزمن تعاني تكالُب أعدائها عليها، وبُعْد كثير من المسلمين عن دينهم وكتاب ربّهم؛ حتّى استباح العدو حماها، وسلطَ سلاحَه عليها، وغلَّ يدها بالعُهود الغادِرة، والمواثيق الجائرة، فقعد كثير من المسلمين عن نصرة إخوانهم في فلسطين، والشيشان، ومقدونيا، وكشمير، والفلبّين، وغيرها من البقاع التي يُستباح فيها المسلمون في وَضَح النهار. إذا كان ذلك كله واقعًا أليمًا مهينًا فإنَّ للمسلمين تاريخًا يحفز الهِمَم، ويطردُ اليأس، ويهيجُ العزائم، ويدعو المسلمين إلى التزام دينهم إن أرادوا النصر والعِزَّة، تاريخًا مَليئًا بالشرف والمجد والكرامة، لا يستحيي قارئ مسلم أن يجهر به، ولا باحث فيه أن يبرز أحداثه، تاريخًا يحكي عن رجال أبطال كرام؛ لما أهينوا أو أُهِينَ دِينُهم غضبوا فقاتلوا، فلما انتصروا عَفَوْا وتسامحوا، ويخبر عن حصونٍ دُكَّتْ، ومدن فتِحَت على أيدي المسلمين، قد عزت طوال تاريخها على كبار الفاتحين.
هذه القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، التي امتنعت بِبِحارها وخنادقها، وتحصَّنت بحصونها وأسوارها، بشَّر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بفتحها قبل أن يبارحَ العرب جزيرة العرب[1]، سيَّر لها بنو أمية الجيوش، ومات أبو أيوب الأنصاري ودُفِنَ تَحْتَ أسوارها[2]، فما استطاعوا فتحها، ثم تأبَّت على بني العباس؛ ولكنها لانت لبني عثمان، ففتحوها في مثل هذا الشهر جمادى الأولى من عام سبعة وخمسين وثمانمائة للهجرة.
وأحداث هذا الفتح عظيمة، وأخباره كثيرة، تحتاج في عرضها وتفصيلها إلى خطب كثيرة.
كانت القسطنطينية العاصمة المُقَدَّسَة الكبرى لنصارى الشرق، وفيها أكثر تراثهم وتاريخهم، وقد حَوَتْ كنائسُها تماثيل أشهر رهبانهم وبَطَاركَتِهم. وموقعها بين آسيا وأوربة جعلها من أفضل المدن موقعًا؛ حتى قال نابليون: "لو كانتِ الدُّنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمةً لها"[3]، وذكر أنها وحدها تساوي إمبراطورية كاملة، وأنها مفتاحُ العالم؛ منِ استولى عليها استطاع أن يسيطرَ على العالم بأجمعه.
ولما قامت الدولة العثمانيةُ واتسعت رقعتها، كانت القسطنطينية في وسطها، تفصل ممالكها الغربية عن ممالكها الشرقية؛ ولذا حاول خلفاءُ بني عثمان فتحها أكثر من مرة، وكان ملوكها ورهبانُها يَكيدُون للدولة العثمانية، ويدسون الدسائس، ويُدَبِّرُون المكائد، ويؤون كل خارج عليها، ويمدّونه بالسلاح والمال والرجال، وكم مرة عاهدوا ثم نقضوا؛ كما هي سيرة أهل الكتاب[4]. فلمَّا تولَّى عرش السلطنة العثمانيَّة محمَّد بن مراد بعد وفاة والدِه كان همّه الأكبر أن يفتح تلك المدينة المنيعة؛ فأشْغَلَ فِكْرَه بها، وكرَّس جهده لها، وعمل كل عمل يُحَقّق ذلك سياسيًّا وعسكريًّا.
فبَنَى قلعةً جبَّارة قبالتها، وصالح الدول المجاورة لها حتى لا تهبّ لنجدتها، وعقد الهدنة مع كل محاربيه ليتفرَّغ لها، وصنع المدافع العملاقة لدكِّ حصونها، واستحدث أساطيلَ بَحْرِيّة؛ ليَغْزُوَها مِنَ البَرّ والبَحْرِ، ثم درس أسوارها من الداخل والخارج، وأوضاعها وأوضاع أهلها[5].
فلما رأى ملكُها قُسْطَنْطِين أنَّ الأَمْرَ جِدٌّ، راسل السلطان يطلب الصلح، فطالبه السلطان بتسليمِها بلا قتال، وله ولأهلها الأمنُ والعيش فيها أو غيرها بسلام، فرفض حاكمها ذلك[6]. فعزم السلطان على فتحها، وسار بجيش يُقارب مئة وستّين ألف مقاتل، معهم خيولهم وأنعامهم وعتادهم؛ فضربوا الحصار عليها، وبداخل أسوارها ثمانمائة ألف نفس، منهم أربعون ألف مقاتل قد اصطفُّوا على أسوارها لحمايتها، واستمرَّ الحصار ثلاثًا وخمسين ليلة[7]، كانت مدافعُ المسلمين أثناءها تَدُكّ حُصونَها، ولكنَّ النَّصارى كانوا يَبْنون ما تهدَّم في الحال، وكل طريقة يخترعها المسلمون للاقتحام، أو فتح ثَغْرة، أو التَّسَلُّل إلى داخلها يفشلها النصارى، وكل طريقة تفشل كانت لا تزيد المسلمين إلا إصرارًا على قَهْر تلك الحصون، واجتياز تلك الأسوار، وظَهَرَتْ بطولات عجيبة من الفريقَيْنِ، فالمسلمون المهاجمون صَمَدُوا أمام نيران مدافع القسطنطينية، وواجهوا النِّبال والرماح بِصُدُورِهِمْ، ولم يردَّهم عن تسلق أسوارها الماء المغلي، والزيت الحار الذي يصبه النصارى على المسلمين لردّهم عن الحصون؛ حتى مات حرقًا عشراتٌ من المسلمين، وقُتِلَ مِئاتٌ بالنبال والمدافع، وكل ذلك لم يردَّ السّلطان محمَّدًا عن فتحها؛ بل يفكر في الطريقة تلو الطريقة، وتأْتِيه الفكرة وراءَ الفِكْرة[8].
ورغْم ما قام به قُسْطَنْطِين من قَتْلِ مائتينِ منَ المسلمينَ المقيمينَ في القُسْطنطينية، وتعليقهم على أسوارها؛ فإن ذلك لم يرهب المسلمين؛ بل زادهم حماسًا لفتحها، وبدأتْ مُؤْنة النصارى تنقص، وأَخَذَهُمُ الجهدُ والتعبُ من هذا الحصار المحكم، وعزم السلطان على الاقتحام العام، لمَّا أحسَّ أنَّ الوقت قد حان؛ فأرسل رسالة إلى قُسْطَنْطِين يطالبُه بالتسليم قبل الهجوم العامّ، وله وللنصارى الأمنُ على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم وديارهم، ومَنْ أراد منهم الرحيل منها رحل، ومن أراد البقاء بقي فيها آمنا[9].
وما كان قُسْطَنْطِين إلا شجاعًا متدينًا يعلمُ ما لهذه المدينة من تاريخ وتقديس عند النصارى، فآثر أن يموت فيها على أن يهرب منها، أو أن يسلمها للمسلمينَ، فردَّ على السلطان بأنه قد أقسم أن يدافع عنها إلى آخر نَفَس في حياته، فإمَّا أن يحتفظ بعرشها، أو يدفن تحت أسوارها، فلما بلغ السلطانَ محمَّدًا مقالةُ قُسْطَنْطِين قال - رحمه الله تعالى -: "حسنًا، عمَّا قريب سيكون لي في القُسْطنطِينية عرشٌ، أو يكون لي فيها قبرٌ"[10].
وقبل الهجوم العام بيومينِ - وكان يوم الأحد - أمر السلطان جنده بالصيام لله - تعالى - تطهيرًا للنفوس؛ وتقويةً للعزم والإرادة، وفي مساء ذلك اليوم أمر جنده بإضرام النيران العظيمة؛ ليرهب النصارى، وظل المسلمون طيلة الليل يذكرون الله - تعالى - ويكَبِّرُون بأصوات عالية، حتى قال رئيس أساقفة القسطنطينية: "لو أنَّك سمِعْتَ مثلنا صيحاتهم المتوالية المتصاعدة إلى السماء، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لأخذتك الروعةُ والإعجاب"[11].
وفي يوم الاثنين ترك السلطان جنده يرتاحون، وبدأ يُخَطِّط للهجوم، ثم عبَّأ جنوده في ليلة الثلاثاء، وأمر العلماءَ والمشايخ والخطباءَ أن يحمّسوا الجند، ويذكروهم فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله - تعالى - فكانوا يتْلُون على الجند آيات الجهاد، ويرغّبونهم فيه، ثم يقولون لهم: "لقد نزل سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - عند هجرته إلى المدينة في دار أبي أيوب الأنصاري، وقد قصد أبو أيوب هذه البقعة، ومات فيها، ودفن تحت هذه الأسوار"؛ فيلهب ذلك حماسَ الجند، ويكونون أشدَّ شوقًا إلى الاقتحام والفداء"[12].
وخطب فيهم السلطان خطبة قال فيها: "إذا تمَّ لنا فتح القسطنطينية تحقَّق فينا حديثٌ من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعجزةٌ من معجزاته، وسيكون من حظّنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير، فأبلغوا أبناءنا العساكر فردًا فردًا أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيدُ الإسلام قدْرًا وشرفًا، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغرَّاء نصب عينيه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، ليجتنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسّوها بأذًى، ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون"[13].
وفي مقابل ذلك دقَّتْ أجراس الكنائس، واجتمع النصارى فخطب فيهم قُسْطَنْطِين فقال: "أيها المحاربون: أعدوا أنفسكم للقتال والتضحية بأنفسكم وأرواحكم في سبيل هذه البلدة المقدسة، وفي سبيل النصرانية... إن الساعة الخَطِرة الفاصلة التي ارتَقَبْنَاها منذ أيام قد أزفَتْ، إن الرجل ليقاتل ذودًا عن دينه؛ أو وطنه؛ أو ملكه؛ أو أهله؛ أو ولده؛ فكيف وقد جاءت هذه الأسباب كلها مجتمعة؟! والقسطنطينية هي معقل النصرانية، وملكةُ المدن، وقد كانت زمنًا ما عاصمة الدنيا، لقد مضى ثلاثة وخمسون يومًا والعدوّ يُحَاصر هذه المدينة بكل عتاده وقُواه، وقد رددناه عن أسوارنا..، وهو يتَأَهَّبُ الآن؛ ليضرب ضربته الأخيرة، فاثْبُتوا كما ثبتّم من قبل، وادفعوه اليوم عن أسواركم كما دفعتموه بالأمس، حتى تخورَ قواه، وينتكص على أعقابه.
أيها الإخوان: إنكم سلالة صناديد أثينا، وأبطال روما، فكونوا أهلاً لهذا النسب الرفيع، ولا تُخِيفنَّكم صيحاتُ العدو، ونيرانُه المُتَصاعدة، وشدوا عزيمتكم، واصدقوا في القتال.." ثم أعلن أنه سيدافع حتى الموت.. ثم صلَّى النصارى صلاتَهُم، وقد امتلأتِ بِهِمُ الكنائس[14].
بعدها ذهب قُسْطَنْطِين إلى قَصْرِه يودعه، ويلقي عليه آخر نظرة قبل القتال، وظَلَّ يَبْكِي بُكاءً شديدًا حتى قال مَنْ حَضَرَهُ: "لو أنَّ شخصًا قُدَّ قلبه من خشب أو صخر لفاضت عيناه بالدمع لهذا المنظر"[15].
وقبيل منتصف ليلة الثلاثاء رشت السماء بمطر خفيف ثبت الأرض، وفي الساعات الأولى من صباح يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى عام سبعة وخمسين وثمانمائة دقت طُبول الحرب، وتصاعَدَتِ التكبيرات مدوية مجلجلة من البر والبحر، وانطلق المسلمون يتسلقون الأسوار، والمدافع تضرب، والجنود تُكَبِّر، وحَمِيَ وطيس المعركة، واستمرَّتْ ساعات تدوي خلالها المدافع، وتمطر النبال، وتتحرَّكُ السفن والمراكب، والقتال مستعر في البر والبحر، وأبدى الفريقان بسالة عظيمة: النصارى يدافعون عن مدينتهم، والمسلمون يتسلَّقونَ الأسوار، ويلاقون المِحَن؛ حتى نجحوا في اختراق دفاعات النصارى ودخول المدينة[16].
فما برح قُسْطَنْطِين حتَّى رأى أعلام المسلمين تُرَفْرِف على قلاع القُسطنطينية وأسوارها، وجنودُه تهرب من أمام المسلمين، فأخذ يقاتل ذات اليمين وذات الشمال حتى كلَّت يده، ثم ضربه أحد المسلمين فخرَّ صريعًا[17].
وهكذا سقطت تلك المدينة المنيعة التي امتنعت على كبار القادة والفاتحين؛ ليذللها الله - تعالى - لمحمد بن مراد العثماني الذي لُقّب بعد ذلك بمحمَّد الفاتح، وكُنّي بأبي الفتح، وذلك فضل الله يُؤْتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مُباركًا فيه كما يُحِبُّ ربنا ويَرْضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - كما أمر، واجْتَنِبُوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر، واعلموا أن الله يحب المتقينَ.
أيها المؤمنون: لما سقطت القُسطنطينية في أيدي المسلمين، وتَمَّ الفتح المبين؛ جاء القادة يُهنِّئُون الفاتح، ويقولون: "لقد بارك الله في جهادِكَ يا سلطان، فكان يقول: حمدًا لله، ليرحم الله الشهداء، ويمنح المجاهدينَ الشَّرَفَ والمجد، ولشعبي الفخر والشكر"[18].
لقد خاف النصارى وفزعوا في أوَّل الأمر؛ لأنَّهم ظنّوا أن يفعل بهم المسلمون مثل الذي فعله بهم الصليبيون لما دخلوا القسطنطينية في الحملة الصليبية الرابعة؛ إذِ استباحوا الحُرُمات، وأمْعَنُوا في قتل الناس، ونَهْبِ الأموال، وقالوا في أنفسهم: إذا كان هذا فعل حماة الصليب بنا لاختلاف مذهبنا عن مذهبهم، فكيف بمن يخالفوننا في ديننا؟! يعنون المسلمين، ولجؤوا إلى الكنائس يصلون ويبكون ويدعون.
وعند الظهيرة تَوَجَّه السلطان الفاتح إلى القسطنطينية على ظهر جواده، يحف به كبار قادته، وهَنَّأَ جنده بالنصر، ونَهَاهم عن القتل والسلب، وأوصاهم بأن يكونوا أهلاً لهذا الشرف والمجد بأخلاقهم الكريمة، فلمَّا توسَّط في المدينة ترجَّل عن فرسه، واستقبل القبلة، وسجد على الأرض، وحثا التراب على رأسه؛ تواضُعًا وشُكرًا لله - تعالى - على ما منحه من توفيق ونصر، ثم استأنف سيره إلى أكبر كنيسة للنصارى وهي كنيسةُ القديسة (أيا صوفيا)، ولما اقترب منها وصلت إليه أصواتٌ خافتة حزينة هي أصوات النصارى بداخلها، يصلون ويدعون بالنجاة، فقصد أحد أبوابها، فأمر الراهب بفتح الباب على مصراعيه، وانتاب الناسَ خوفٌ عظيم، وتوجَّسوا شرًّا مُسْتطيرًا، وانقطعوا عمَّا كانوا عليه، وسجد الفاتح مرة أخرى يشكر الله - تعالى - ويحمَدُه، ثم أمر النصارى بالعودة إلى منازلهم آمنينَ على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يعود كل واحد منهم إلى عمله الذي كان يُمَارسه من قبل، فنزل هذا التأمين بردًا وسلامًا على أهل القسطنطينية، وقد كانوا يتوقعون أن ينكل بهم المسلمون.
وكان نفر من الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة خوفًا من القتل، فلما سمعوا بما فعله الفاتح، وحسن معاملته للنصارى؛ خرجوا من أماكنهم، وأعلن كثيرٌ منهم إسلامهم، ثم أمر السلطان بتحويل الكنيسة إلى مسجد، فأَذَّنَ فيها أحد العلماء، وأدَّوْا فيها صلاة العصر، ثم أعلن السلطان أنَّ أوَّل جمعة قادمة ستقام فيها الصلاة؛ فرفعت منها الصلبان، وهدمت التماثيل، وطمست التصاوير، وأنشأوا فيها مِحْرابًا ومِنْبرًا ومئذنةً[19]، وظَلَّت مسجدًا تُقَام فيه الصلاة وحلقات العلم خمسةَ قرونٍ تِباعًا إلى أنِ استولى على السلطة: العلماني اليهوديُ أتاتورك؛ فحوَّل المسجد إلى متحف[20]، عليه من الله ما يستحق.
ثم قصد السلطانُ قصر الإمبراطور قُسْطَنْطِين، فرأى ما فيه من الأُبَّهَة والعظمة وقد اغبرَّ بآثار الحرب والحصار، وأقْفَرَ من سكانه، وعشَّشَتِ العناكب في جدرانه، واستبدل في ليلة وضحاها حاكمًا بحاكم، وسيدًا بسيد؛ فكان عبرة بالغة، اعتبر بها السلطان الفاتح فقال - رحمه الله تعالى -: "إن العنكبوت قد نسجتْ بيوتها في قصر الأباطرة، وإنَّ البوم ينعق فيها نعيقاً محزنًا"[21].
وأمر السُّلطانُ بمُداواة الجرحى من النصارى، وفدى كثيرًا من كبار الأسرى، وأمر بدفن قُسْطَنْطِين في مقبرة ملوك النَّصارى، ثُمَّ أمر النَّصارى أن ينتخِبوا أحد رهبانهم بطريركًا لهم، فجعله مسؤولاً عن شؤونهم وزواجهم وميراثهم وما يتعلَّق بدينهم، وأعطاه مقرًّا لعمله، وبالَغَ في إكرامه، حتى خجِل النصارى من كرم الفاتح فقال البطريرك: "إن الأباطرة النصارى لم يفعلوا قطّ مثلَ هذا لِمَن سَبَقَهُ مِنَ البَطَارِكَة".
وقد قال المؤرخون: "إنَّ السّلطانَ الفاتح قد حنا على أهْلِ القُسْطَنْطِينيَّة حُنُوَّ الوالد الشفيق العطوف على ولده"[22].
ولم تمضِ إلا أيامٌ على فتحها حتى ساد الأمن والسكينة رُبُوع المدينة، واستأنف الناس حياتهم وأعمالهم، وفرح كثيرٌ منَ النصارى بهذا الفتح لما رأوا العدل الذي لم يكن موجودًا من قبل، ودخل كثير منهم في الإسلام.
أيُّها الإخوة المؤمنون: أتدرون - رحِمَكم الله تعالى - كم كان عمر هذا السلطان لمَّا أتمَّ الله - تعالى - له هذا الفتح المبين لهذه المدينة العتيدة؟! لقد أجمع المؤرخون من عرب وترك وروم وإفرنج على أنَّه لم يكن يتجاوَزُ الخامِسَةَ والعشرين من عمره[23]، وقد قاد هذا الجيش العَرَمْرَم في البر والبحر، وبنى القلاع العظيمة، وفتح هذه المدينة المنيعة، ثم لم يستخفّه الفتح؛ بل عمِلَ فيها وفي أهلها عَمَلَ أهْلِ الحكمة والرأي والخبرة، ملتزمًا شريعة الإسلام التي هي العدل والرحمة.
ورغم هذا الطول في العرض فإني لم آت إلا على القليل من أخبار هذا الفتح المبين.
أسأل الله - تعالى - أن ينصر دينه، ويعزَّ جنده، ويُعْلي كلمته، ويدحر الباطل وأهله، إنه سميع مجيب.
سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

[1] جاءتِ البشارة بفتح القسطنطينية في أحاديثَ عِدَّة منها:
  1. حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سمعتم بمدينة جانب منها في البَرِّ، وجانب منها في البحر؟))، قالوا: "نعم يا رسول الله"، قال: ((لا تقوم الساعة حتى يغزُوَها سبعون ألفًا من بني إسحاق فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها، (قال ثور: لا أعلمه إلا قال: الذي في البحر)، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوها الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلوها فيَغْنَمُوا، فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ، فقال: إنَّ الدَّجَّال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون))؛ أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة؛ باب: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء" (2920).
  2. حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: "بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكتب إذ سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أي المدينتينِ تفتح أولاً: قسطنطينية أو رومية؟" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مدينة هرقل تفتح أولاً. - يعني: قسطنطينية))؛ أخرجه أحمد (2/176)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (5/329)، وأبو عمرو الداني في "الفتن" (607)، ونعيم بن حماد في "الفتن" (1367)، والدَّارمي في "سننه" (1/126)، والحاكم (4/422 - 508 - 555)، وصحَّحه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "الزوائد" (6/219): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي قبيل، وهو ثقة"، وصححه الشيخ: أحمد شاكر في "شرحه على المسند" (6645)، وأورده الألباني في "السلسلة الصحيحة" (7)، ونقل تصحيح الحاكم والذهبي، ثم قال: "وهو كما قالا".
  3. حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال))؛ أخرجه أحمد (5/245)، وأبو داود في الملاحم؛ باب في أمارات الملاحم (4294)، وأبو عمرو الداني في "الفتن" (457)، وقال ابن كثير في "النهاية" (1/94): "هذا إسناد جيد وحديث حسن، وعليه نور الصدق، وجلالة النبوة".
تنبيهات:
التنبيه الأول: وقع إشكال في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - حاصِلُه: أن الذين يفتحون القسطنطينية من ولد إسحاق - عليه السلام - وقد أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة منها:
  1. ما نقله القُرطبي عن القاضي عياض من قوله: "قال بعضهم: المعروف المحفوظ من بني إسماعيل وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه؛ لأنَّه إنَّما يعني به العرب والمسلمين بدليل الحديث الذي سمَّاها فيه في الأم، وأنها القسطنطينية، وإن لم يصفها بما وصفها به هنا" ا هـ من "المُفْهِم" (7/249).
    قلت: يعني به حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدَابِق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ... وفيه: ويفتتح الثلث لا يفتنون أبدًا، فيفتتحون قسطنطينية...))؛ أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة؛ باب فتح القسطنطينية وخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم (2897).
    وقد تعقَّب القرطبي - رحمه الله تعالى - هذا القول بقوله: "وهذا فيه بعد من جهة اتفاق الرواة والأمهات على بني إسحاق، فإذًا المعروف خلاف ما قال هذا القائل" (7/249).
  2. ما أجاب به القرطبي - رحمه الله تعالى - في "المفْهِم" (7/249) بقوله: "ويمكن أن يقال: إن الذي وقع في الرواية صحيح غير أنه أراد به العرب، ونسبهم إلى عمّهم، وأطلق عليهم ما يطلق على ولد الأب؛ كما يقال ذلك في الخال، حتى قيل: الخال أحد الأبوين والله - تعالى – أعلم" ا هـ.
    قلت: "ولا يخفى ما في هذا الجواب من تكلف".
  3. ما أجاب به الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - في "النهاية" (1/46) بقوله: "وهذا يدل على أنَّ الروم يسلمون في آخر الزمان، ولعل فتح القسطنطينية يكون على أيدي طائفة منهم؛ كما نطق به الحديث المتقدم: ((أنه يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق، والروم من سلالة العيص بن إسحاق بعد إبراهيم الخليل" ا هـ.
قلت: "ولعل هذا الجواب هو الأقرب إلى الصواب؛ ذلك أن كثيرًا من مدن الإمبراطورية البيزنطية الرومية قد دخلت في الإسلام في عهد الصحابة بعد معركة اليرموك، وعقب سائر فتوح الشام وما يليها من بلاد الترك في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان، وفي دولة بني عثمان تم فتح القسطنطينية، ودخل كثير من أهلها في الإسلام، واستمرَّت بلدًا من بُلْدان المسلمين إلى أن فُرِضَتْ عليها العلمانية الحديثة على أيدي المنافقين أتاتورك وأتباعه، المدعومين من قبل عُبَّاد الصليب الإفرنج. والحديث يخبر عما سيقع في الفتح الذي يكون في آخر الزمان؛ وذلك بعد أن دخل كثيرٌ من أبناء الروم في الإسلام، وهم من ولد إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام. ويقوي ذلك أن (مِنْ) بيانية، وأن العدد ((سبعون ألفاً)) نص في معناها، فيكون هذا العدد من هذا الجنس مقصودًا في هذا الحديث، والقاعدة: أن الأعداد نص في معناها، فلا يزاد عليها ولا ينقص منها؛ كما هو مُضطرِد في النصوص، ويدعم ذلك أن الأحاديث دالة على أن العرب في آخر الزمان يكونون قلة؛ كما في أحاديث ذكر الدجال"، والله أعلم.
التنبيه الثاني: أنَّ الفتح المذكور في الحديث يكون قرب قيام الساعة، ووقوع الفتن والملاحم؛ ولذلك أورد العلماء أحاديث فتح القسطنطينية في أبواب الملاحم التي تقع في آخر الزمان، وجعلوه من علامات قرب الساعة، وقد دلت النصوص على ذلك من وجوه عِدَّة، منها:
  1. لفظ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فقد جاء فيه أن فَتْحَها مقرونٌ بخروج الدجال، فعند اقتسامهم لغنائمها جاءهم الصريخ بأن الدجال قد خلفهم في أهلهم.
  2. لفظ حديث معاذ - رضي الله عنه - فقد جاء فيه ترتيب الأحداث الواقعة في آخر الزمان وفيه: ((وفتح القسطنطينية، خروج الدجال)).
  3. حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "فتح القسطنطينية مع قيام الساعة"؛ أخرجه الترمذي في الفتن؛ باب: "ما جاء في علامات خروج الدجال" (2239).
  4. حديث معاذ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الملْحَمَة العُظْمَى، وفتح القسطنطينية، وخروج الدجال في سبعة أشهر))؛ أخرجه أحمد (5/334)، وأبو داود في الملاحم (4295)، والترمذي في الفتن؛ باب: "علامات خروج الدجال" (2239)، وابن ماجَهْ في الفتن؛ باب الملاحم (492)، والطبراني في "الكبير" (20/19) برقم: (173 - 174 - 175) والحاكم، وسكت عنه الذهبي في "التلخيص" (4/426)، وفي سنده أبو بكر بن عبدالله بن أبي مريم، وهو ضعيف الحديث.
وبناء على هذه الأحاديث وما في معناها، فإن ما حصل من فتح محمد بن مراد العثماني - رحمه الله تعالى - ليس هو الفتح المقصود بتلك الأحاديث لما يلي:
  1. أن الفتح المذكور في الأحاديث مقرونٌ بخروج الدجال، وقيام الساعة، ولم يكن كذلك الفتح العثماني.
  2. أن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يدلُّ على أن فتحها يكون بدون قتال، وإنما بالذكر والتكبير، وفتح العثمانيين لها كان بالسلاح والقتال مع التكبير.
قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى - قال في "حاشية عمدة التفسير" (2/256): "فتح القسطنطينية المبشّر به في الحديث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد يعلمه الله - عزَّ وجلَّ - وهو الفتح الصحيح لها حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه، وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا هذا؛ فإنه كان تمهيدًا للفتح الأعظم، ثم هي قد خرجت بعد ذلك من أيدي المسلمين، مُنْذُ أَعْلَنَتْ حكومَتُهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية، وعاهدت الكفار أعداء الإسلام، وحكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية الكافرة، وسيعود الفتح الإسلامي لها - إن شاء الله - كما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم" ا هـ.
التنبيه الثالث: احتج بعض المبتدعة بفتح العثمانيين للقسطنطينية على أنَّ الأشاعِرَة والصوفيَّة أهدى سبيلاً من أهل السنة والجماعة أَتْبَاع السلف الصالح؛ وذلك أنَّ المذهب الأشعري هو المذهب السائد في الدولة العثمانية، كما أن فيها تصوّفًا كثيرًا، وقد زكى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجيش الذي يفتحها، ومدح أميره؛ كما جاء في حديث عبدالله بن بشر الغنوي عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لَتُفْتَحَنَّ القسطنطينية، فَلَنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ولَنِعْمَ الجيش ذلك الجيش))؛ أخرجه أحمد (4/335)، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي (4/422)، والطبراني في "الكبير" (2/38)، برقم: (1216)، و(2/81) برقم: (1760)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/81)، و"الصغير" (1482).
ومِمَّنِ استدل بهذا الحديث على صحة مذهب الأشاعرة، والماتريدية عيسى بن عبدالله مانع الحميري في رسالة "تصحيح المفاهيم العقدية في الصفات الإلهية"، وقد حشاه بجملة من الأباطيل والتُّرَّهَات - ليس هذا مقام الردِّ عليه فيها - ومع أنَّه قرَّر في رسالته تلك لزوم أخذ كل فنّ عن أهله، فإنَّنا نجده لم يلتزم بهذا المنهج؛ بل راح يدخل في كل فنّ بلا علم، فرسالَتُه في العقيدة وهو غير مُتَخَصِّص فيها، وراح يصحّح ما يشتهي من الأحاديث، ويردّ تضعيفَ أهل الحديث لها وهو ليس من أهل الحديث، ومن ذلك تصحيحه لهذا الحديث، ولم يجب عن الاضطراب الوارد في اسم من رواه، واسم أبيه ونسبهما؛ كما سيأتي ذكر ذلك.
وتتمحور رسالته حول إثبات إمامة الإمام أبي الحسن الأشعري - رحمه الله تعالى - ولزوم أخذ مذهبه في الأسماء والصفات القاضي بإثبات الصفات العقلية السبع، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، وتأويل ما عداها من الصفات.
وقد نقل الزُّبَيديّ في "إتحاف السادة المتقين" (2/6) عن ابن كثير الدمشقي الشافعي - رحمه الله تعالى -: "أنَّ الشيخ أبا الحسن الأشعري مرَّت به أحوال ثلاثة:
  • الحال الأولى: حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالةَ.
  • الحال الثانية: إثبات الصفات العقليَّة السبعة، وتأويل الجزئية؛ كالوجه؛ واليدين؛ والقدم؛ والساق؛ ونحو ذلك، وهي مرحلة تأثره - رحمه الله - بمذهب ابن كُلاَّب الذي تنسب إليه الطائفة الكُلاَّبِيَّة.
  • الحال الثالثة: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريًا على مِنْوَال السلف، وهي طريقته في الإبانة التي صنَّفها آخرًا، وشرَحَهَا الباقلاني، ونقلها ابنُ عساكر، وهي التي مال إليها الباقلانيّ وإمامُ الحرمين وغيرُهما من أئمة الأصحاب المتقدمين في أواخِرِ أقوالهم، والله أعلم" ا هـ.
فيا ليت أنَّ الحميري لما دعا الناس إلى الأخذ بمذهب الإمام أبي الحسن الأشعري أخذ عقيدته التي استقر عليها أخيرًا، والتي نسخت ما سبق من قوله بالاعتزال، ثم قوله بتأويل بعض الصفات، فاستقرَّ به المطاف بعد طول تطْوَاف على مذهب السلف الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان بإثبات ما أثبته الرَّبّ - تبارك وتعالى - لنفسه من الصفات العَلِيَّة، وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوَجْه اللائِقِ بجلاله وعظمته بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، ولكن الحميري - هداه الله إلى الحق - راح ينتقي ما يشتهي، وقَبِلَ من الإمام أبي الحسن الأشعري المرحلة الوسطى التي كانت بين اعتزاله، وبين أخذه بمذهب السلف الصالح التي استقرَّ عليها أمره بعد أن هداه الله - تعالى - إلى الحق، واستمر عليها إلى وفاته، وبينها في كتابه العظيم: "الإبانة عن أصول الديانة".
ومعلوم أن عقيدة الشخص هي ما استقر عليه أخيرًا حتى مات، والأشعري - رحمه الله تعالى - تُوفِّيَ على مذهب أهل السنة والجماعة؛ كما أثبت ذلك في كتابه "الإبانة".
وقد وقع الحميري ومن كان على شاكِلَتِه في هذا المأزق المتضايق، ولم يجد سبيلاً إلى الخروج منه إلا بالتشكيك في ثبوت "الإبانة" عن أبي الحسن، كما في رسالته الآنف ذكرها ص(25)، مع أن كثيرًا من العلماء أثبتوا صحة "الإبانة" إلى أبي الحسن، وعَدّوهَا من مصنفاته، ومن هؤلاء العلماء: ابنُ عساكر الدمشقي في "تبيين كذب المفتري"، وهو كتاب ألَّفه في الانتصار للإمام أبي الحسن الأشعري، حيث قال ص (28): "ومن وقف على كتابه المسمَّى "الإبانة" عَرَفَ موضعه من العلم والديانة". والبيهقي في "الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد" ص(31)، والذهبي في "العلو للعلي الغفار" (160)، وابن فرحون المالكي في "الديباج" ص(194)، وغيرهم كثير.
فلا مجال للتشكيك في نسبة كتاب "الإبانة عن أصول الديانة" إلى الإمام أبي الحسن الأشعري؛ إلا عند من له هوًى في نفسه، وهو يضر نفسه ولا يضر أبا الحسن أو غيره من العلماء شيئًا، ولن يستطيع إخفاء الحق عن كل الناس مهما عمل.
وأما الجواب عن الحديث الذي زعم فيه صاحب الرسالة المذكورة أن فيه تزكية لمذهبي الأشاعرة والماتريدية فمن أوجه كثيرة منها:
  • الوجه الأول: أنَّ الحديث ضعيف، فهو من رواية عبدالله بن بشر الخثعمي وهو مجهول، لم يُوَثِّقْه إلا ابن حبان، وذكر الحافظ في "تعجيل المنفعة" (1/721) الاختلاف في اسمه واسم أبيه وفي نسبه، فقيل: "اسمه عبدالله"، و"عبيدالله"، وقيل: "عبيد" بلا إضافة، وقيل: اسم أبيه: "بشير"، وقيل: "بشر"، وقيل في نسبه: "الغنوي"، وقيل: "الخثعمي"، والله أعلم؛ ولذلك ذكره الألباني - رحمه الله تعالى - في "السلسلة الضعيفة" (778)، وقال: "ضعيف"، ثم ذكر الاختلاف في اسم عبدالله بن بشر، وقال: "وجملة القول أنَّ الحديث لم يصحَّ عندي؛ لعدم الاطمئنان إلى توثيق ابن حبان للغنوي هذا، وهو غير الخثعمي كما مال إليه العسقلاني"، والله أعلم.
  • الوجه الثاني: لو سلَّمنا بصحة الحديث، فلا نسلم باستنباط الحميري منه؛ فإنه لا يدل على ما يريد لا من قريب ولا من بعيد.
  • الوجه الثالث: على فرض وجود وجه دلالة فقد يحمل على فتح غير هذا الفتح، وهو الذي يكون في آخر الزمان، والأحاديث المتضافرة في فتح القسطنطينية كلها تذكر فتحًا غير هذا الفتح، والفتح المذكور في هذا الحديث مجمل، والقاعدة حمل المجمل على المبين؛ فيكون المقصود بهذا الحديث هو الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان، خاصة وأن الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان جنده من خيار الناس كما جاء في السنة، ولا يعني ذلك تنقص محمد بن مراد، أو عدم الاحتفاء بفتحه للقسطنطينية؛ فإن من أعظم مناقب هذا الفاتح المظفر، ومناقب دولته فتح عاصمة البيزنْطيين.
  • الوجه الرابع: أنَّه لا حُجَّة في هذا الحديث لأهل البدع والضلالات؛ إذ الحكم على عوام المسلمين أنهم يعتقدون في الله - تعالى - الكمال، ولا يعرفون تفصيلات الأسماء والصفات، وما أحدث فيها أهل البدع من ضلالات، فالواقع أنهم من أهل السنة ولو كان مشايخهم يُؤَوِّلُون الصفات، ويُحَرِّفُون نصوصها، ومن هنا يغلط كثير من الناس حينما ينسبون عوامَّ المسلمين في البلاد التي مشايخها على ضلال فيما يتعلَّق بالأسماء والصفات إلى البدعة؛ لأنَّ ذلك المعتقد الخاطئ متعلّق بالشيوخ دون العوامّ. كما أنَّ عوام المسلمين في البلاد التي مشايخها من أهل السنة والجماعة لا يعرفون تفصيلات الأسماء والصّفات؛ ولكنهم يؤمنون إيماناً مجملاً بكمال الرب - تبارك وتعالى - وأنه مستحقّ لكل ما يليق به، بخلاف الشيوخ الضالّين، ودعاة البدعة. وما من شك في أن الجيش العثماني الذي فتح القسطنطينية أكثَرُه من عوامّ المسلمين، ولربما كان أميره محمد الفاتح كذلك - وخاصَّة أنَّه كان حدث السن - وليس لديه تفصيلات فيما يتعلَّق بالأسماء والصفات، ولم أَقِفْ على مَنْ نقل عنه كلامًا في ذلك، فحكمه حكم عوامّ المسلمين الذين يَعْتَقِدُونَ صِفات الكمال في الله عزَّ وجلَّ.
  • الوجه الخامس: لو قدّر أنَّ الجيش العثماني كله أشاعرة، وأميره كذلك، وعندهم من تفصيلات هذا المذهب ما يجعلهم مبتدعة مع قيام الحجَّة عليهم - وذلك مستبعد - فإن الحديث لا يدل على صحة مذهبهم لما يلي:
    أولاً: أن متعلَّق المدح هو فتح القسطنطينية، وهو عمل طيب، وسعي مشكور، ولا يَتَعَدَّاهُ إلى غيره.
    ثانيًا: أنَّ الشخص الواحد تكون فيه حسنات وسيئات، فيُثْنَى على حسناته، وتُذَمّ سيئاته، والفاتح وجيشه وإن كانوا أشاعرة وفيهم تصوف، فإنهم مُجَاهِدُون في سبيل الله - تعالى - مُعْلُون لكلمته، مظهرون لدينه؛ فيحمدون على ذلك، ويثنى عليهم به، ولا يلزم من ذلك عصمتهم من الخطأ، والثناء عليهم من كل وجه، ولا يستدل بتزكيتهم في الجملة على صحَّة ما أخطؤوا فيه، نعم! يصحّ ذلك لو كانت التزكية لعقائدهم وهو ما لم يكن، ولعل جهادهم في سبيل الله - تعالى - وما قام في قلوبهم من التوكّل عليه، وصدق التعلق به، حتى بذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل الله - تعالى - وفتحهم لهذه المدينة العتيدة يكون سببًا في مغفرة ذنوبهم، والتي منها تمذهبهم بمذهب الأشاعرة، وأخذهم بطرائق المتصوفة.
  • الوجه السادس: أنَّ الجيش يكون خليطًا من القادة والعلماء والعامة، وهو خليط من الصالحين، ومن هم أقل صلاحًا؛ وأي ثناء عليهم فإنه ينصرف للعموم، ولا يلزم منه الثناء على أعيانهم فردًا فردًا؛ وذلك لتعاونهم على أمر يُحِبُّه الله، فيحصُل لكل فرد منهم من الثناء والتزكية، بقدر ما قدم في هذا العمل المزكَّى، ومن المتفق عليه أن الجيش الذي يقوده النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون جنده من الصحابة - رضي الله عنهم - هو خير جيش وجد في الدنيا، وهو خير من الجيش الذي فتح القسطنطينية، وهو أَوْلَى بالثناء منه، ومع ذلك وجد فيه من غلَّ من الغنيمة، ومن قَتَل نفسه؛ بل وجد فيه مُنافِقون يُظْهِرون الإيمان ويبطِنُون الكفر، ورغم ذلك فإن هذا الجيش كان محل مدح وثناء في الكتاب والسنة، ولا يلزم من ذلك مَدْح المنافقينَ الموجودينَ فيه، أو مدح أهل الغلول، أو من قتل نفسه.
  • الوجه السابع: أننا لو لم نعتبر كل الأوجه الستة الماضية، وسلمنا أيضًا بأن جيش الفاتح كلهم أشاعرة وصوفية؛ فإن قصارى ما يفيده هذا الحديث احتمال تزكية عقائد ذلك الجيش، وأنَّهم على الحق، بينما نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تَقْطَعُ بخطأ الأشاعرة والماتريدية والمتصوفة، فهل تترك الأدلة المتواترة المقطوع بها ثُبُوتًا ودلالة لمجرد دليل محتمل قد ضعف من جهة ثبوته، وأما من جهة دلالته على المراد فهو أضعف وأضعف؟! هذا غير مستقيم في المنهج العلمي.
وبناء على ذلك فليس لأي صوفي أو أشعري أو ماتريدي أن يحتجَّ على مذهبه الخاطئ بهذا الحديث، والله أعلم.
[2] ثبت ذلك من حديث أسلم بن أبي عمران قال: "غزونا من المدينة نريد القسطنطينية..." وفي آخره: "فلم يزل أبو أيوب يُجَاهِد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية"؛ أخرجه أبو داود في الجهاد؛ باب في قوله - تعالى -: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] (2512)، والترمذي في التفسير؛ باب تفسير سورة البقرة، وقال: "حديث حسن غريب صحيح" (2976)، وصححه ابن حبان (4711)، والحاكم ووافقه الذهبي (2/275)، وذكر الحاكم في "معرفة الصحابة" أحاديثَ أخرى تثبت ذلك (3/457 - 458).
[3] انظر: "الدولة العثمانية وعلاقاتها الخارجية". تأليف الدكتور: علي حسون، ص(31).
[4] انظر: "تاريخ الدولة العثمانية"، تأليف: الميرالاي إسماعيل سرهنك، تقديم ومراجعة الدكتور حسن الزين ص(39)، و"السلطان محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوربا الشرقية"، تأليف: الدكتور سيد رضوان علي ص(20)، و"الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث"، تأليف: الدكتور إسماعيل أحمد ياغي، ص(48) و"محاضرات في العثمانيين وحاضر العالم الإسلامي"، تأليف: الدكتور محمود محمد زيادة ص(8).
[5] انظر: "السلطان محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية" (23 - 31)، و"العثمانيون في التاريخ والحضارة"، تأليف: الدكتور محمد حرب ص(71) و"الترك في العصور الوسطى" تأليف: الدكتورة زبيدة محمد عطا ص(195 - 196 - 198)، و"تاريخ الدولة العثمانية" لسرهنك (40 - 41)، وقد أمضى في استعداداته - رحمه الله - لهذا الفتح العظيم ثلاث سنوات؛ كما ذكر الدكتور محمد هريدي في كتابه "الحروب العثمانية الفارسية"، ص(32).
[6] انظر: "محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية" ص(22)، و"العثمانيون في التاريخ والحضارة"، (72 - 85)، و"تاريخ الدولة العثمانية وحضارتها"، تأليف: الأستاذ الدكتور محمود السيد ص(58).
[7] وقع خلاف بين المؤرخينَ والناقلِينَ عنهم في أعداد الجيش العثماني، وأعداد البيزنطيين، ومدة الحصار، ولعل ما ذكرته هو الأقرب اعتمادًا على مصادر نقلت عن مصادر تركية، وبعضها مُتَقَدِّم، وانظر: "تاريخ الدولة العثمانية"، لسرهنك (45)، وقال: "وكان استيلاء العثمانيينَ على هذه المدينة العظيمة في يوم الثلاثاء العاشر من شهر جمادى الآخرة سنة 857هـ (29 مايو 1453م) بعد حصار دام ثلاثة وخمسين يومًا حسب رواية غالب المؤرخينَ، وقد أرخ بعضهم سنة افتتاحها بقوله (بلدة طيبة) ا هـ. وانظر أيضًا: "الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث" للدكتور إسماعيل ياغي ص(49)، وفي مصادر أخرى أن الحصار دام خمسين يومًا فقط؛ كما في "الدولة العثمانية وعلاقاتها الخارجية" للدكتور: علي حسون ص(39).
[8] انظر: "الترك في العصور الوسطى" (204)، و"محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية" ص(34)، و"تاريخ الدولة العثمانية" لسرهنك ص(42)، و"محمد الفاتح" للدكتور سالم الرشيدي (135) وهو أجمع كتاب وقفت عليه في شأن هذا الفتح العظيم، وأكثر المصادر تحقيقًا، وأغلب ظني أنه رسالة علمية، وقد رجع إلى كثير من المصادر التركية المتقدمة إضافة إلى المصادر العربية والإفرنجية والرومية.
[9] انظر: "السلطان محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية" ص(22)، و"العثمانيون في التاريخ والحضارة" ص(72 - 85)، و"تاريخ الدولة العثمانية وحضارتها" ص(58).
[10] "محمد الفاتح" للرشيدي (119).
[11]   "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، تأليف: محمد فريد بك، تحقيق: د.إحسان حقي ص(160)، و"محمد الفاتح" للرشيدي ص (124).
[12] " محمد الفاتح" للرشيدي ص(36)، و"محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية"، ص(32).
[13] "محمد الفاتح" للرشيدي ص(126).
[14] المصدر السابق (128)، وانظر: "السلطان محمد الفاتح بطل الفتح الإسلامي في أوروبا الشرقية" (33).
[15] انظر: "محمد الفاتح" للرشيدي (129).
[16] انظر: "محمد الفاتح" للرشيدي (130 - 136).
[17] المصدر السابق (137)
[18] "محمد الفاتح" للرشيدي (139).
[19] ملخصًا من "محمد الفاتح" للرشيدي (140 - 142).
[20] انظر: "العثمانيون في التاريخ والحضارة" (79).
[21] "محمد الفاتح" للرشيدي (143).
[22] المصدر السابق (143 - 146).
[23] ولد محمد الفاتح - رحمه الله تعالى - عام 833هـ، وتولَّى السلطة عام 855هـ، وعمره ثنتين وعشرين سنة، وقد فرح النصارى بتوليه وهو صغير؛ ولكن الله - تعالى - أراهم ما يسوؤهم؛ إذ كان الفتح على يديه وهو صغير، وقد عجز عن فتحها القادة الكبار، وذلك فضل الله يُؤْتِيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقد قيل: "إن عمره وقت الفتح إحدى وعشرين سنة"، وقيل: "ثلاثًا وعشرين سنة"، وقيل: "أربعًا وعشرين سنة"، وقيل: "خمسًا وعشرين سنة"، ولم أقِفْ على مَنْ قال أكثر من ذلك، وقد كان - رحمه الله تعالى - عازمًا على فتح روما بعد فتحه القُسْطنطينية، ولكنه مرض وتوفي في يوم الخميس 4/3/886هـ - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - انظر: "تاريخ الدولة العثمانية" لسرهنك (39 - 56)، و"التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية" لإبراهيم بك حليم (64)، و"الدولة العثمانية وعلاقتها الخارجية" (32 - 41)، و"تاريخ الدولة العثمانية وحضارتها" (29)، و"محاضرات في العثمانيين وحاضر العالم الإسلامي" (9) و"المسألة الشرقية، دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية"، تأليف: محمود ثابت الشاذلي (42).


الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..