الجمعة، 25 نوفمبر 2011

كتاب (النواة الصلبة) ذكريات ومذكرات

المذكرة (1)
البداية

ولد ونشأ في مدينة مقدسة أجمعت الأمة على طهارتها واجتماع الإيمان بها ،،
تنفس الهواء الأول في جنبات حنانها وترعرع فوق ترابها ، ذلك أن والده يرحمه الله كان له طلب علم فيها  ،،
كان بين عدة أولاد ذكور وإناث ، وله أم حنونة يقطر حنانها كما
يقطر عسل الجبال الفياض ،،
ثم قدر وانتقلوا منها  إلى ضيعة بعيدة لا تكاد توجد فيها مظاهر المدنية أو التحضر وذلك بتكليف شيخ الوالد وهو علم جليل ينعت بـ (ابن شاهين)
كان الأشقاء الذكور والإناث يدرسون جميعاً وكان أصغر المرشحين للدراسة ، ولديه إخوة أصغر سناً  ،،
كان إخوته يأتون في كل يوم ويحدثون عن المدرسة ومشاكلها وقسوة الأساتذة وتنكيلهم بالطلاب؟!
            ولما حان وقت دراسته اشترى له والده شنطة جديدة من البلاستيك ودفتراً ومرسماً من رصاص ومنحه أربعة قروش ليفطر بها صباحاً في فسحة المدرسة ،،
كانت سيارة والده جيب (شاص) لاند كروزر جديد موديل 71 على ما يظن ، كان يحملهم فيه إلى المدرسة ،،
ذهب آنذاك وأوصل أشقاءه وتركه في الأخير ، وهو يتوجس خيفة من هذه الوحدة مع الوالد في جو غريب وكأنه كمن سيقدم إلى عالم آخر أو كوكب آخر ،،
ذهب به إلى مدرسة جديدة ومبني كبير في نظره ودلفوا إلى الفناء الكبير من بوابته الرئيسة ، وأوصله مباشرة إلى الفصل الذي يقع في نهاية ممر طويل على اليسار ،،
فوجئ بوجود رجل وعدد كبير من الأطفال ، والأستاذ قصير مربوع له شنب خفيف من دولة عربية كبيرة مجاورة ،،
كان يدرس جميع المواد وهو المدرس الوحيد بالمدرسة ؛ لأنهم في أول أوان افتتاح المدرسة وهم أول دفعة .
كان الفصل عبارة عن مخزن للطاولات والكراسي في تلك المدرسة المتوسطة التي ألحقوا بها مؤقتاً ،،
ولا يزال يذكر منظر الطاولات والكراسي فوق بعضها في المنتصف الأخير من الصف بشكل عشوائي يثير القلق بل الفزع في نفوس الطلاب الصغار ، زحام وغبار وصدأ ومكان شبه مظلم ، هذه البداية في الدرس ،،
فرحم الله التربية وتغمدها برحمته.
            جلس على طاولة مشتركة مع زميل له في الأمام عند الأستاذ ،،
كان ينظر إليه طوال الوقت ،، كان يشده بملامحه القوية والحازمة وصوته المدوي،،
ينظر إلى الأطفال باستغراب وقلب يحمل هموم الدنيا ، فهم يرددون ويكتبون ويتفاعلون وهو كالأطرش أو الأبله ، فقد سبقوه بالدراسة عدة أيام ، وهيهات أن يتساوى معهم لاسيما وأنه أخذ إلى المدرسة دون أي سابقة للتعليم أو ما شابه ..
مضى اليوم الأول بذهوله وشدة وطأته ، وكان يمر بخياله كلام أشقائه عن تعاسة المدرسة وصعوبتها وإزعاجها ومشكلاتها ورعونة الأساتذة وقسوتهم المفرطة على الطلاب وهو ما يدخل اليأس أحياناً.
            خرجوا من المدرسة بعد عناء ووجل من الأجواء الجديدة ، وجاء والده وأخذه إلى البيت إلى الحضن الدافئ والمكان الذي تأقلم فيه وانزاح عنه الهم برؤية والدته وإخوته وأخذ يحدثهم عن أحداث ذلك اليوم والعجائب التي رآها في ذلك العالم خارج البيت.

اليوم الثاني

في صباح اليوم التالي جهزتهم الوالدة وكان الاستيقاظ صعباً ،
بيده الشنطة الكبيرة شبه الفارغة إلا من قلم ودفتر ، وفي الطريق إلى المدرسة حدثت له مفاجأة غير سارة بل مزعجة جداً ومفزعة؟!
لقد توقف والده على قارعة الطريق العام (الأسفلت)
وقال انزل  واذهب إلى مدرستك؟! وأشار إلى طريق ترابي من هناك!!
ووسط بكاء وخوف نزل مضطراً مسلماً أمره لله يتلفت يمنة ويسرة ،،
لا أحد في الطريق ولا يدري كم سيبلغ طوله ؟ وهناك فرعيات من الطريق فأيها يسلك ثم إنه لم ينتبه يوم أمس أي طريق سلك الوالد ,,
لقد ركبته هموم الدنيا فالسن صغيرة حدود الخامسة وقليل والبيت بعيد ولا يمكنه الرجوع وعالمه صغير محدود جدا ،،
كان يلمح جبلا خلف تلك المدرسة يتوهمه نهاية العالم ،،
فأخذ بالاتجاه إلى الأمام لكي يجد المدرسة ,,
بالفعل توجه إلى نفس الطريق ورجح لديه أن الطريق الذي سيسلكه هو طريق المدرسة نعم,,
وبعد مدة عشر دقائق بدأت تلوح المدرسة وكانت هذه الدقائق دهورا طويلة ,,
دب الفرح إلى قلبه أنه وجد ملجأ يأوي إليه , لكن سرعان ما تذكر هم المدرسة وغربتها عنه ولكنه واصل المسير حتى لقي الطلاب ، ولم يضل عنهم حيث عرفهم لأنهم جميعا صغار وبقية الطلبة كانوا في المرحلة المتوسطة،،  فلا تضل العين أبداً, دخل إلى ذلك المخزن المليء بالطاولات (والذي يسمى الفصل لمدرسة تحفيظ القرآن).
بدأ الأستاذ بالدرس ويتذكر أنه بالقرآن الكريم بداية من سورة الناس من جزء عم , ثم بالكتابة من حروف الهجاء ,,
كان الطلاب يكتبون بعض الحروف, ولكنه لا يعرف شيئا وإنما ينظر يمنه ويسره ويرمق الأستاذ خوفاً أن يعاقبه لم لم يكتب كالطلاب ،،
فجأة وبعد معاناة طويلة توجه الأستاذ عبد الرؤف نحوه وقال لماذا لا تكتب الحروف؟
 فوجل منه وتردد في الجواب ولكنه قال : لا أعرف ؟
فأخذ منه الدفتر وقلم الرصاص وكتب في أعلاه: بسم الله الرحمن الرحيم وقال أكتب تحتها مثلها؟
فأغتم لذلك لأنه لا يعرف شيئاً بل لأول مرة يمسك القلم ,, وكان لابد من امتثال أمر الأستاذ فقلد ذلك الخط الجميل بخط أشبه شيء بالطلاسم ،،
كان هذا من خطأ الأستاذ أن يكلف طفلاً لا يعرف بكتابة جملة كاملة؟ لكنه حاول ولم تجد المحاولة.
وكان فرحه عظيما أنه استطاع أن يقلد الأستاذ عبد الرؤوف  ببعض الكتابات؟؟,,
ذهب إلى البيت وبدأت تنهال عليه التساؤلات ماذا درستم ماذا أخذتم؟؟
فقال لهم الحمد لله صرت اليوم أكتب أحسن منكم وفتح الدفتر وأراهم الخط وزعم أن خط الأستاذ هو خطه فضحكوا جميعاً وتندروا من هذا الادعاء المكشوف.

لك الجلد واللحم ولنا العظم

في المرحلة الابتدائية تعلموا العبودية المطلقة للأستاذ, وتعلموا الخوف والرعب , تعلموا الذل والخضوع للمدير والمدرسين وحتى الفراش..
مرت السنين الثلاث الأولى ولم يكونوا يعرفوا إلا الأستاذ عبد الرؤوف فهو"معلم بتاع كله" قرآن تجويد خط حساب علوم......إلخ,،
ولم يروا المدير إلا مرة واحده عابرة طيلة هذه السنوات حيث مر بالفصل ولم يكونوا يعرفون من هو؟
وبعد الانتقال إلى بيت مستأجر وهم في السنة الثانية ، كان بعض زملائهم يدرس في مطبخ مجاور لفصلهم وأغلب الظن أنهم من أتى بعدهم بسنة أو سنتين حيث كانوا في الطليعة في تلك المدرسة العجفاء ،،
كان كثير من أولياء الطلبة يدخلهم المدرسة الدينية لأنهم يمنحون الطالب مكافأة قدرها200 مئتا ريال فيما يظن ,,
لا غرابة في عدم معرفة قدرها إلى اليوم فقد كان يستلمها ويعطيها الوالد أو الوالدة ,,
المهم أن الكثير من أولياء الطلاب يدخلهم المدرسة لأجل المال ، على أنهم لا يمتازون بشيء من الذكاء أو قوة الحافظة مع الأمية و الجهل الشديد بوسائل التربية والتعليم لدى الأهل والمدرسة ,,
ومدرسة كهذه تقتضي المتابعة والهمة والتدريس بالبيت ,,
حيث كانوا يحفظون كل يوم صفحة واحدة تقريبا وأولياء الأمور لا يدركون ذلك ، وكان الطلاب لا يدركون أيضا ولكنهم ينالون عقاباً جماعياً شبه يومي ,,
كان ينعم  بحافظة قوية ، بل كان يحفظ في الفصل خلال دقائق قبل أن يتم السؤال والتحقيق ,,
كان أولياء الأمور يزورون المدرسة ويقولون للأستاذ أمام الطلاب "لك الجلد واللحم ولنا العظم" ،،
ومع شديد الأسف لا متابعة ولا تعليم ولا تربية في البيت إلا ما ندر ،،
كان أكثر الطلاب يجلد كل صباح اليوم التالي جلد الحمير ؛ لأنه لا يحفظ القرآن مثلاً ،،
مما انعكس سلبيا على نفسيات أكثر الطلاب ، وكان الطلاب "يلعن القرآن" -أستغفر الله- لأنه سبب تعاستهم وعقابهم فيما يرون ؟؟
لكن ما باليد حيلة فالطفل الصغير وقع بين المطرقة و السندان بين مطرقة الأستاذ المتسلط وسندان الأهل الجهلة..
بالإضافة إلى بقية الأساتذة وكانوا جميعا في تلك المرحلة من دول عربية كبيرة مجاورة لها أثرها في التعليم والتدريس ..
كان يغلب عليهم طريقة التعليم في بلادهم ,, تعليم بالسوط والخيزران والأسلاك المفتولة ,,
كانت الفصول مثل زنازين التعذيب يقرأ الطالب فإذا لم يحفظ يتفنن الأستاذ في تعذيبه وتأديبه ,,
كان لدى الأستاذ عبدالرؤوف "فلكه" وهبي عبارة عن عصا قدر متر أو أكثر في طرفيها حبل متدل متصل ثم توضع أرجل الطالب فيها ثم يشد على الرجل ويمدد الطالب على البلاط ويمسك طالبين من الطلاب العصا من طرفيها وترفع الأرجل ثم يبدأ الجاني المسمى أستاذاً بجلد الطالب ما بين 5-15 سوطاّ لو ضرب بها بعير لهلك ,,
كان الطالب يجلد ثم لا يستطيع أن يمشي من شدة الألم كان بعضهم يتعثر في خطاه ثم يسقط , وكان البعض لحداثة سنة وقوامه الضعيف لا يتحمل الآلام المبرحة فيبول على نفسه ،،،
 فيخرج إلى خارج المدرسة ويصب على ثيابه بعض الماء ثم يعود إلى الفصل في حالة نفسية وجسدية يرثى لها ،، حيث يتضاحك بعض الطلاب على زميلهم وربما نعتوه ببعض النعوت المقذعة كالبوال والخواف ونحوه ,,
يذكر مرة في أيام دراسته جولة من جولات التعذيب ، ضرب أحد الطلاب وكان نحيل الجسم يعاني من سوء تغذية ربما ،، فسقط مغشياً عليه فأمر الأستاذ بصب الماء على وجهه ليستفيق .
هذا شئ مما بقى في ذاكرته من ذلك العذاب الذي كانوا يعانونه فيما يسمى مدارس تربية وتعليم على أنه كان من المثابرين ولم يضرب كزملائه إلا في النادر اليسير.
كان لهم زميل يتميز بخفة الدم وبجرعة خفيفة من السذاجة أو الغباء, وكان لديهم أستاذ مواطن أسود يسمى نصيب , وكان هذا الأستاذ طيب في الجملة ،، ولكنه إذا غضب فالويل لمن أمامه ،،
أمر الأستاذ نصيب الطالب أن يأتي "بمنقلة " وهي أداة كبيرة من أدوات الهندسة في المرحلة الابتدائية ،،
والطالب لا يعرف ما هي المنقلة التي يريدها الأستاذ ليشرح على السبورة ويرسم بها ،،
غاب الطالب أكثر من نصف الحصة وبعد ذلك جاء بـ "حق مانجو" فارغ،، وكان يتعذر ويقول يا أستاذ لم أجده إلا عند المتوسطة هناك بعيدا ، فغضب منه الأستاذ نصيب ،،
وكان بيده مثلث كبير حاد الزوايا وقال له يا غبي "منقلة" وليس "حق مانجو" ثم ضربه على رأسه بالمثلث فإذا بالدماء تصب من دماغ الولد على وجه وثيابه ..
لم يخف الأستاذ ولم تتحرك منه شعره ، ، بل دعى الفراش "حمد المشوي" وأخذه إلى الإدارة وهناك عولج وربط بشاش وذهب الولد إلى بيته وكأن شيئا لم يكن؟!.
هذا المشهد يذكره عندما كبر وأصبح في الجامعة وهو يقرأ في كتب أحمد رائف (البوابة السوداء) ومذكراته ما يحدث في سجون الطاغية عبد الناصر..






د.خالد بن ناصر الغامدي


الكتاب لم تفسحه وزارة الاعلام السعودية



--------
ع ق 938

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..