الأربعـــــــــــــــون
هذه المقطوعة النثرية كتبها الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي بعد بلوغه سنّ الأربعين ؛
الآن وصلت إلى قمّة هرم الحياة , والآن بدأت أنحدر في جانبه الآخر , ولا أعلم هل أستطيع أن
أهبط بهدوء وسكون حتى أصل إلى السفح بسلام , أو أعثر في طريقي عثرة تهوي بي إلى المصرع الأخير .
سلام عليك أيها الماضي الجميل , لقد كنت ميداناً فسيحاً للآمال والأحلام وكنّا نطير في أجوائك البديعة غادين رائحين طيران الحمائم البيضاء في آفاق السماء , لا نشكو ولا نتألّم , و لا نضجر ولا نسأم بل لا نعتقد أن في الدنيا هموماً وآلاماً .
وكان كل ما نعالج فيك من هموم وآلام , أن يكون لنا مأربان من مآرب الحياة فنظفر بأحدهما ويفوتنا الآخر ؛ وكان كل ما يستذرف الدمع من أعيننا هجر حبيب أو طلعة رقيب أو أرق ليلة أو ضجر ساعة , ثم لا تلبث مسرّاتنا ومباهجنا أن تطرد تلك الآلام أمامها كما يطرد النهر المتدفق الأقذار و الأكدار وتسلم لنا الحياة لا كدر ولا تنغيص .
سلام عليك أيها الشباب الذاهب , سلام على دوحتك الفينانة الغناء التي كنا نمرح في ظلالها ,فكأن العلم كله مملكتنا الواسعة العظيمة التي نسيطر عليها ونتصرّف في أي أقطارها شئنا .
أبكيك يا عهد الشباب , لا لأني تمتّعت فيك براح أو غزل , ولا لأني ركبت مطيّتك إلى لهو أو لعب , ولا لأني ذقت فيك العيش بارد الهواء كما يذوقه الناعمون المترفون
أما اليوم وقد بدأت أنحدر من قمّة الحياة إلى جانبها الآخر فقد احتجب عني كل شيء ولم يبق بين يدي ما أفكّر به لنفسي إلا أن أعدّ عدتي لتلك الساعة الرهيبة لتلك الساعة الرهيبة التي أنحدر فيها إلى قبري ؛ مضى عهد الشباب وتقاربت خطواتي , وبدأت أزور الأطباء : العيون , الأسنان , الباطنية , العظام . . . الخ
ونعى الناعون إليّ كثيراً من أصحابي وأترابي وكأنهم نعوا إليّ نفسي , ودعا لي الداعون بالقوة والنشاط وطول البقاء وحسن الختام , أي أن حياتي على وشك الانحدار إلى مغربها .
وانتقلت من النظر في شأن نفسي ومستقبلي إلى النظر في شأن أولادي فقط ومستقبلهم , لأن مستقبلي أصبح ماضياً , وغداً أصبح أمس لا رجعة له إلى الأبد وأصبحت أقول في نفسي مالي وللعالم ولما يحويه من خير وشرّ وأنا مفارقه وشيكاً , إن لم يكن اليوم فغداً , وأخذت أتحدث عن الماضي أكثر ممّا أتحدث عن الحاضر , لا لأن الأول أجمل من الثاني بل لأن الشبيبة أجمل من الشيخوخة .
ما أنا بخائف من الموت ,فالموت غاية كل حيّ ولكني أخاف من كتابي الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاً أحصاها , والله يعلم أني ما ألممت في حياتي بمعصية جرتني إليها نزوة الشباب والعنفوان إلا ترددت قبل الإلمام بها ثم ندمت بعد وقوعها واستغفرت وتبت إلى الله , وورائي أطفالاً صغاراً لا أعلم كيف يعيشون من بعدي , ولولا ما أمامي ومن ورائي ما باليت أسقطت على الموت أم سقط الموت علي , وأنا ولله الحمد ما شككت يوماً من الأيام في وحدانية الله وآياته وكتبه وملائكته ورسله وقضائه وقدره , ولا أذعنت لسلطان غير سلطانه وعظمته .
وداعاً يا عهد الشباب , فقد ودّعت بوداعك الحياة , وما الحياة إلّا تلك الخفقات التي يخفقها القلب في مطلع العمر فإذا هدأت هدأ كل شيء وانقضى كلّ شيء.
هذه المقطوعة النثرية كتبها الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي بعد بلوغه سنّ الأربعين ؛
الآن وصلت إلى قمّة هرم الحياة , والآن بدأت أنحدر في جانبه الآخر , ولا أعلم هل أستطيع أن
أهبط بهدوء وسكون حتى أصل إلى السفح بسلام , أو أعثر في طريقي عثرة تهوي بي إلى المصرع الأخير .
سلام عليك أيها الماضي الجميل , لقد كنت ميداناً فسيحاً للآمال والأحلام وكنّا نطير في أجوائك البديعة غادين رائحين طيران الحمائم البيضاء في آفاق السماء , لا نشكو ولا نتألّم , و لا نضجر ولا نسأم بل لا نعتقد أن في الدنيا هموماً وآلاماً .
وكان كل ما نعالج فيك من هموم وآلام , أن يكون لنا مأربان من مآرب الحياة فنظفر بأحدهما ويفوتنا الآخر ؛ وكان كل ما يستذرف الدمع من أعيننا هجر حبيب أو طلعة رقيب أو أرق ليلة أو ضجر ساعة , ثم لا تلبث مسرّاتنا ومباهجنا أن تطرد تلك الآلام أمامها كما يطرد النهر المتدفق الأقذار و الأكدار وتسلم لنا الحياة لا كدر ولا تنغيص .
سلام عليك أيها الشباب الذاهب , سلام على دوحتك الفينانة الغناء التي كنا نمرح في ظلالها ,فكأن العلم كله مملكتنا الواسعة العظيمة التي نسيطر عليها ونتصرّف في أي أقطارها شئنا .
أبكيك يا عهد الشباب , لا لأني تمتّعت فيك براح أو غزل , ولا لأني ركبت مطيّتك إلى لهو أو لعب , ولا لأني ذقت فيك العيش بارد الهواء كما يذوقه الناعمون المترفون
أما اليوم وقد بدأت أنحدر من قمّة الحياة إلى جانبها الآخر فقد احتجب عني كل شيء ولم يبق بين يدي ما أفكّر به لنفسي إلا أن أعدّ عدتي لتلك الساعة الرهيبة لتلك الساعة الرهيبة التي أنحدر فيها إلى قبري ؛ مضى عهد الشباب وتقاربت خطواتي , وبدأت أزور الأطباء : العيون , الأسنان , الباطنية , العظام . . . الخ
ونعى الناعون إليّ كثيراً من أصحابي وأترابي وكأنهم نعوا إليّ نفسي , ودعا لي الداعون بالقوة والنشاط وطول البقاء وحسن الختام , أي أن حياتي على وشك الانحدار إلى مغربها .
وانتقلت من النظر في شأن نفسي ومستقبلي إلى النظر في شأن أولادي فقط ومستقبلهم , لأن مستقبلي أصبح ماضياً , وغداً أصبح أمس لا رجعة له إلى الأبد وأصبحت أقول في نفسي مالي وللعالم ولما يحويه من خير وشرّ وأنا مفارقه وشيكاً , إن لم يكن اليوم فغداً , وأخذت أتحدث عن الماضي أكثر ممّا أتحدث عن الحاضر , لا لأن الأول أجمل من الثاني بل لأن الشبيبة أجمل من الشيخوخة .
ما أنا بخائف من الموت ,فالموت غاية كل حيّ ولكني أخاف من كتابي الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاً أحصاها , والله يعلم أني ما ألممت في حياتي بمعصية جرتني إليها نزوة الشباب والعنفوان إلا ترددت قبل الإلمام بها ثم ندمت بعد وقوعها واستغفرت وتبت إلى الله , وورائي أطفالاً صغاراً لا أعلم كيف يعيشون من بعدي , ولولا ما أمامي ومن ورائي ما باليت أسقطت على الموت أم سقط الموت علي , وأنا ولله الحمد ما شككت يوماً من الأيام في وحدانية الله وآياته وكتبه وملائكته ورسله وقضائه وقدره , ولا أذعنت لسلطان غير سلطانه وعظمته .
وداعاً يا عهد الشباب , فقد ودّعت بوداعك الحياة , وما الحياة إلّا تلك الخفقات التي يخفقها القلب في مطلع العمر فإذا هدأت هدأ كل شيء وانقضى كلّ شيء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..