الأحد، 18 ديسمبر 2011

العقوبات البديلة هل تكون رادعة؟



المحامي أحمد الودعاني

ع ق 1035

جوابا على سؤال طرح علي من قبل صحيفة الشرق وحيث لم ينشر الجواب كاملا أعدت نشره هنا :

أقول
شكرا لكم على طرح مثل هذا السؤال المهم والمتزامن مع الملتقى المزمع عقده في وزارة العدل عن نظام ( العقوبات البديلة ) الذي تعمل وزارة العدل على تطبيقه  ..
والسؤال الذي يطرح نفسه ؛ عقوبات بديلة عن ماذا ؟
والسؤال الآخر: من الذي جعل التكديس في السجون عقوبة أصيلة ، حتى تأتي الآن الوزارة وتتبنى إنشاء عقوبة بديلة عنه كما يقولون ؟؟؟ نعم هي عقوبة بديلة لهذا الواقع الخاطئ وليست عقوبة بديلة لعقوبة أصيلة .
فلم يثبت في عصر صدر الإسلام أن الرسول عليه الصلاة والسلام أو الخلفاء من بعده حكموا أو حُكم في عصرهم بسجن أحد وكل الذي كان يحصل إنما هو إجراءات احترازية مؤقتة حصلت في عهد عمر حيث اشترى دارا ليحبس فيها الشخص المتهم الذي يخشى هروبه حتى تثبت إدانته فيقام عليه الحد أو تثبت براءته فيطلق وكل هذه لم تكن تتجاوز أياما معدودة حتى يحضر من له صلة بالقضية ويُفصل في الموضوع وهذه ليست عقوبات وإنما هي وسائل واحترازات وقتية لا أقضية ولا أحكاما ولا عقوبات ، أما الوضع الحالي المزري والذي يعد انتهاكا صريحا صارخا لحقوق الإنسان من حين القبض على المطلوب ونقله إلى السجن وتكديسه مع آلاف من الناس في سجون يختلط فيها القتلة والمجرمون وأصحاب المخدرات والسوابق وقبل ذلك سوء معاملته حال القبض عليه بالضرب والركل والإهانة فهذا ليس من الإسلام في شيء بل ويتنافى مع حقوق الإنسان وكرامته وإنسانيته .
فإن قال قائل لماذا يسكت عليه طوال الفترة الماضية ما دام أنه بهذه الوحشية ؟
فالجواب عليه : ليس العيب أن نقع في الخطأ إنما العيب أن نتمادى فيه ولنعلم جميعا أن الدولة ناشئة ووليدة مقارنة بأعمار الدول ، وأن الأنظمة التي يضعها البشر قد تصلح لذلك الزمن فحسب لكنها تشيخ معه ولا تصلح للزمن الذي يليه ما لم تكن مبنية على عمق ودراسة ورؤية مستقبلية وحينها لا بد أن تقع التجاوزات والأخطاء مع مرور الزمن ، وأجزم أن هذه التجاوزات والأخطاء لم تكن مقصودة لذاتها وكثير منها يقع بتصرفات فردية لكنها للأسف كثيرة جدا ، والذي أعلمه أن كثيرا من دول العالم كانت في بعض مراحلها وحقبها تقع فيما هو أسوأ من هذا وأبشع بكثير ولكنها بدأت شيئا فشيئا بالتعديل إلى الأحسن ، ولهذا فإن هذه الخطوة التي نراها الآن والتي يسمونها بالعقوبات البديلة هي خطوة على طريق التصحيح والإصلاح الذي يقوده خادم الحرمين الشريفين وولي عهده وزير الداخلية والمسؤولون في الجهات المختصة وذات العلاقة وأبناء المجتمع المخلصون المحبون لدينهم ووطنهم وقيادتهم.
أما من ناحية العقوبات فمنها ما هو مقرر ومحدد شرعا كالقصاص سواء في النفس أو فيما دونها كالعين بالعين والسن بالسن ، وكذلك عقوبة الزاني المحصن وغير المحصن وعقوبة السارق وحد المرتد والحرابة والقذف والخمر وغيرها فهذه عقوبات محددة ومقدرة شرعا وليست محل البحث أو النقاش أو التغيير لأنها شُرعت بوحي من أرحم الراحمين ولم يشرعها إلا لمصالح كثيرة هو سبحانه أعلم بها ، أحدها حفظ وحماية المجتمع من انتشار هذه الجرائم والمصائب وكذلك فيها حفظ لأموال الناس وأعراضهم وأنفسهم كما قال الله تعالى ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ..) ، وأنا إنما ذكرت هذا النوع من العقوبات الثابتة شرعا حتى يتبين للناس أن العقوبات البديلة لا تشمل هذا النوع الثابت بنصوص الشريعة ، وبهذا يطمئنوا ويزول عنهم اللبس الذي يثيره البعض حول تعطيل حدود الله الأمر الذي تطالب به منظمات حقوقية عالمية ، كما أن الأحكام البديلة لا علاقة لها بحقوق الخلق فلا يعقل أن يرفض شخص أن يسلمك مالك الثابت في ذمته ويحكم عليه القاضي بعقوبة بديلة كحفر قبر أو تنظيف حديقة أو عمل شاق فليطمئن الناس من هذا الجانب  على أموالهم وحقوقهم وأعراضهم ، وأما النوع الثاني من العقوبات فهو ما يسمى بالتعزير وهو متروك لاجتهاد الحاكم أو من ينيبه وللحاكم أن يحدده أو يترك هذا لنوابه من القضاة ، وتحديد العقوبات التعزيرية أمر متعذر لأنها كما قال عمر بن العزيز رحمه الله "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور " ولكن على الحاكم أن يضع إشارات وإرشادات ومعالم مستمدة من الشرع الحنيف لا يتجاوزها القاضي في أمور التعزير حتى لا يحصل الإجحاف ولا ينزل عنها القاضي حتى لا يقع التمييع الذي يخشى منه البعض ، فلا يصح أن يقع التعزير على شخص معسر لا يستطيع دفع الدين بأن يسجن عشر سنوات فتضيع أسرته وأولاده ويفصل من وظيفته ولا يستطيع تسديد دينه وكذلك لا يصح بأن يوقع التعزير عليه مخففا كأن يقال له اجلس في بيتك حتى تجد المال الذي عليك ثم سلمه لصاحبه متى ما وجدته بعد سنة أو عشر سنوات فلا ذلك يجدي ولا هذا يفيد فالأول جور والثاني تضييع لحقوق الناس .
والعقوبة يجب أن تكون متناسبة مع الجرم معالجة له رادعة للجميع عنه ، بحيث يعلم الجاني أنه إن أقدم على هذا الفعل فالعقاب الرادع أمامه وبهذا تخف أمثال هذه الجرائم والأخطاء والتجاوزات ، فالله سبحانه وتعالى وهو رحيم بخلقه جعل القتل عقوبة لمن يقتل أو يفسد في الأرض كل هذا رحمة بالمجتمع من وجود مثل هذا العضو الفاسد بينهم كالطبيب يقطع رجل المريض المصابة لكي لا ينتشر الوباء الذي فيها إلى بقية أعضاء المريض فيموت وهو إنما يفعل ذلك رحمة بالمريض وارتكابا لأخف الضررين ، فيجب أن تأتي العقوبات البديلة رادعة ويكون لها أثرها ووقعها على النفس حتى لو لم يكن على البدن لكي لا يتجرأ عليها الناس فتصبح بدون قيمة ولا تأثير وقد تصبح متنزها للبعض ، فالشخص الذي يحكم عليه بأن ينظف المسجد أو يحفظ شيئا من القرآن هل تظنون أنه سيرتدع ؟ لا أظن ذلك ، ومن هنا فعلينا تجنب إيقاع عقوبات من هذا النوع لأن المسجد ليس مكانا للعقوبة بل هو مكان للعبادة فتنظيف المسجد عبادة والأذان عبادة وقراءة القرآن عبادة فلا يصح أن تكون عقوبة بأي شكل من الأشكال فالصلاة نور والقرآن هداية فلا يصح أن يكون النور والهداية عقوبة ، لا أظن هذا يعالج المشاكل بل ربما يساهم في استفحالها وانتشارها والأصل في العقوبة أن تكون رادعة وإن استطاع المختصون جعلها تحوي فائدة للمجتمع فهو خير لكن الأهم أن تبقى عقوبة وأن تحتفظ بمعنى العقوبة حتى لا يتجرأ الناس عليها .
والحقيقة أن العقوبات البديلة لها أصل وحكم بها كثير من قضاة المسلمين على مر العصور بهدف خدمة المجتمع واستصلاح المعاقب إذا كان في ذلك مصلحة للمجتمع والفرد وليس فيه هضم لحقوق الآخرين ولا تضييع لمصالحهم ، فإذا نفعت هذه العقوبة المخففة وساهمت في إصلاح المعاقب وإلا انتقل القاضي إلى عقوبة أقوى وأشد حتى يرتدع ، ولذا ينبغي أن تكون العقوبة البديلة مطروحة على طاولة القاضي ضمن منظومة من العقوبات يصح للقاضي استخدامها إذا رأى في ذلك مصلحة ، مع ملاحظة أن هناك من لا يردعه رادع إلا العقوبات الكبيرة أو الحيلولة بينه وبين الجريمة فهذا ينبغي أن يجد العقوبة التي تردعه وتوقفه عند حده ، ومن هنا وجب إيجاد السجون التي تراعي حقوق الإنسان وتحفظ كرامته وتحميه من البرد والحر والمرض ويجد فيها المكان الذي يتحرك فيه ويتعرض للشمس والهواء النقي ، وهذا مع الأسف ما ليس متوفرا الآن في أغلب السجون لدينا إن لم تكن كلها لكن نتمنى أن يتحسن الحال ويعالج هذا الموضوع مع موضوع العقوبات البديلة لأنه إذا قل عدد المساجين سهل إيجاد الأماكن المناسبة لهم .
وأجدها فرصة قبل ختم كلامي أن أقترح إيجاد وظائف تابعة لقضاة التنفيذ في محاكم التنفيذ تنحصر مسؤوليتها في متابعة تنفيذ مثل هذه الأحكام بالتعاون مع الحقوق المدنية والشرط والجهات المعنية بذلك ، فإذا تحقق هذا الاقتراح فإنه يعد أول بركات نظام العقوبات البديلة وذلك بإيجاد فرص وظيفية جديدة للشباب العاطلين عن العمل ليس من خريجي الثانوية فحسب بل من خريجي الجامعات والدراسات العليا .
وختاما أقول : إن هذه الخطوة التي تسعى إليها الدولة ممثلة في الوزارة والجهات المعنية تعد خطوة مهمة ورائدة في طريق التقدم وحفظ حقوق الإنسان وكرامته وتحقيق العدالة إن هم أحسنوا دراستها وتأصيلها وجمعوا لها المختصين واستفادوا من تجارب الآخرين وأخذوا بالتوصيات التي يقدمها الخبراء والمجتمعون لذلك ، أسأل الله لهم التوفيق والتسديد وتحقيق أفضل النتائج في ذلك وأن يحفظ علينا الأمن والإيمان ويحقق لنا التقدم والنماء والازدهار إنه سميع مجيب .
المحامي والمستشار القانوني والمحكم الدولي / أحمد الودعاني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..