الثلاثاء، 20 مارس 2012

جرأة الصحفيين على تفسير القرآن :

  نقد لمقالة الأستاذ فهد الأحمدي في جريدة الرياض


أرسل لي أحد الفضلاء على صفحتي في تويتر رابط لمقالة الأستاذ فهد بن عامر الأحمدي - وفقه الله - في جريدة الرياض (العدد 15975) بتاريخ (الثلاثاء 27/4/1433هـ) بعنوان (إنَّ هذان لساحران) ، وهذا نص المقالة :

إن هذان لساحران

فهد عامر الأحمدي
كل من يجيد قواعد النحو يعرف أن عنوان المقال خاطئ (من حيث الإعراب) ولكنني قررت اختياره بعد بحثي في الانترنت عن إعراب جملة قرآنية صعب علي تفسيرها.. فأثناء تنقلي - من رابط لرابط وصلت إلى قس حاقد يدعى زكريا بطرس ادعى وجود أخطاء لغوية في القرآن الكريم .. ومن الأمثلة التي استشهد بها في اليوتيوب قوله تعالى: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا)..
فحسب قواعد اللغة العربية يفترض أن تكون الآية (إن هذين لساحران) وليس (إنْ هذان لساحران) كون المثنى ينصب بالياء وليس بالألف ..
فكما هو معروف (إن وأخواتها) تنصب المبتدأ وترفع الخبر وبالتالي يجب أن نقول: إن هذين لتلميذان، لا أن نرفع الاثنين ونقول : إن هذان لتلميذان..
وكان بطرس المخادع يتحدث بحماس شديد وكأنه اكتشف شيئاً جديدا، في حين أن علماء اللغة والتفسير تحدثوا منذ قرون في هذا الموضوع وأشبعوه بحثاً.. وكي أعفيكم من التفاصيل سألخص أقوال النحويين في ثلاثة أقسام رئيسية:
- القول الأول: أن هذه الآية نزلت بلغة الحارث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة ممن يجعلون رفع الاثنين ونصبهما وخفضهما بالألف بحيث يقولون مثلا: جاء الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، وقال أحد شعرائهم:

تزوّد منا بين أذناه ضربة * دعته إلى هابي التراب عقيم

(حيث جاءت أذناه هنا بالألف رغم أنها في موضع الخفض)...
- والقول الثاني: أن حرف "إن" في الآية السابقة يأتي بمعنى (نعم) كما حكى الكسائي بأن العرب تأتي ب"إن" بمعنى نعم ، وقول سيبويه "إن" تأتي بمعنى أجل، وقول أبي محمد الخفاف "إن الحمد لله" إعرابها بالنصب ولكن العرب تجعل "إن" في معنى نعم وترفع مابعدها..
أما القسم الثالث فاعتبره بكل بساطة خطأ إملائياً غير مقصود يفترض تصحيحه.. فمن المعروف أن القرآن الكريم جمع بعد وفاة الرسول وكُتب برسوم إملائية مختلفة/ أو ربما خاطئة سها عنها الكُتاب.. وهذه من الأسباب التي جعلت عثمان بن عفان يحرق بقية المصاحف ويكتفي بمصحف واحد دعي بالمصحف العثماني..
... وأنا شخصيا أستبعد الرأي الثاني وأرتاح للرأي الثالث كونه الأكثر بساطة والأقرب للوقوع .. فكما قرأ ابن مسعود وابن عباس وغيرهما قوله تعالى (والشمس تجري لا مستقر لها) بدل (والشمس تجري لمستقر لها) قرأ أيضا بعض النحويين الكبار مثل ابن عمر والجرجاني وعيسى بن عمرو (إن هذين لساحران) بدل (إن هذان لساحران)!!
... ومن جهة أخرى ؛ لا أتردد في اتخاذ (القول الأول) كدليل على أن قواعد اللغة ذاتها ليست (قرآنا منزلا) بل ابتكار بشري ظهر (بعد تدوين القرآن) واعتمد على لغة قريش كأساس ..
بكلام آخر.. توجد لهجات أخرى (لقبائل عربية أصيلة عاشت زمن قريش) تخالف من حيث التركيب والإعراب قواعد النحو والصرف التي نعتمدها حاليا / والدليل قوله تعالى:(إن هذان لساحران)!!
... ولأن القرآن نزل على سبعة أحرف (ولأنه حمال أوجه كما قال علي ) لا يفضل علماء النحو الاستشهاد به دائما..
وكنت قبل سنوات قد تعرفت - في حفل زفاف - على أستاذ عراقي عمل في الماضي في مجمع اللغة العربية في بغداد.. وحين أتى الحديث عن الاستشهاد بالقرآن الكريم قال شيئا صدمني في البداية ثم وجدته منطقيا في النهاية .. قال: من أسرارنا نحن علماء اللغة أننا نتحاشى الاستشهاد بالقرآن الكريم في المسائل النحوية لأننا بذلك نترك فرصة لمنافسينا للاستشهاد بآية أخرى تخالف رأينا وتقوي رأي المعارضين لنا.. والحل الأفضل - حسب رأيه - هو الاستشهاد بأبيات شعرية وحيدة لشاعر جاهلي كبير (مثل زهير أو الأعشى أو طرفة بن العبد) بحيث يعجز منافسك عن معارضتك بأبيات مخالفة لذات الشاعر/ أو في أفضل الحالات لا يجد غير الاستشهاد بشاعر أقل منه مستوى وشهرة!!
... أذكر جيدا أنه ابتلع حبة عنب كبيرة وقال: لا تخبر أحدا بسر المهنة ..

انتهت المقالة . وهذا رابطها : صحيفة الرياض

ولي مع هذه المقالة وقفات أرجو أن أوفق في التعبير عنها ، وأن تبلغ أخي الكريم الأستاذ فهد الأحمدي .
أولاً : الكلام في تفسير القرآن وفي إعراب المواضع المشكلة كهذه الآية لا يجوز لأي أحد أن يقوم به بهذه الطريقة ، وأسلوب الكاتب يدل على تواضع مستواه العلمي في جانب النحو ، وطريقة تخريج المعربين لإعراب هذه الآية ، ولستُ بحاجة إلى نقل أقوال السلف في تعظيم القول في القرآن وفي تفسيره وخطورة ذلك ، فلم يكن من المقبول ولا السائغ للكاتب ما دام بهذا المستوى العلمي في التفسير والنحو أن يتصدى لكتابة هذه المقالة مطلقاً ، ولا سيما أنني أعرف من فضل الأستاذ الأحمدي ونشاطه الصحفي ما يجعله يحترم القرآن ويحجم عن الكلام بغير علم في تفسيره ، وهذه المقالة دليل واضح جداً على القول في تفسير القرآن بغير علم ، وإنما بمجرد الرأي الذي لا يستند لدليل مقبول معتبر .

ثانياً : قراءة (إنَّ هذانِ لَساحران) بتشديد النون في (إنَّ) ورفع (هذان) هي قراءة الجمهور من القراء ، فقد قرأ بها عاصم بن أبي النجود ، ونافع المدني ، وابن كثير المكي ، وابن عامر الشامي ، والكسائي الكوفي ، ويعقوب الحضرمي البصري، وغيرهم من أئمة القراء . ولم يقرأ بقراءة النصب (إنَّ هذين لساحران) إلا أبو عمرو ابن العلاء البصري ، وعدد من القراء من الصحابة والتابعين . فالقراءة التي نتحدث عنها هي قراءة الجمهور .

والخلاف في توجيه إعراب هذه الآية على قراءة الجمهور معروف ، وقد ورد في توجيهها ما يقارب سبعة أوجه من الإعراب ، ليس منها الوجه الثالث الذي نقله الكاتب عن بعض المناوئين للقرآن . وقد ذكر توجيه هذه القراءات النحويون والمفسرون وأصحاب توجيه القراءات في مؤلفاتهم ، كالإمام ابن أبي مريم في كتابه (الموضح في وجوه القراءات وعللها) 2/836، والإمام أحمد بن عبيد الله بن إدريس في كتابه (الكتاب المختار في معاني قراءات أهل الأمصار)1/542
، وأبي علي الفارسي في كتابه (الحجة للقراء السبعة) 5/229.

وأبرز حجج من شدد النون (إنَّ) ورفع (هذان) واحد من أربعة أمور :

1- أنها جاءت على لغة قبيلة بني الحارث بن كعب وكنانة وغيرهم من قبائل العرب . واستشهد النحويون على ذلك بشواهد صحيحة من الشعر والنثر تؤيد ذلك .

2- أنَّّ (إنَّ) في الآية ليست حرف تأكيد ونصب ، وإنما حرف بمعنى (نعم) ، وتكون اللام في قوله (لساحران) زائدة من حيث الإعراب ، وتكون فائدتها المعنوية للتأكيد ، واستشهدوا على صحة هذا التوجيه بشواهد شعرية مقبولة .

3- أن الألف في (هذا) دعامة ، وليست بلام فعل ، فلما ثنيت زدت عليها نوناً ، ثم تركت الألف ثابتة على حالتها لا تزول على كل حال ، كما قالت العرب (الذي) وهو اسم موصول للمفرد ، ثم زادوا نوناً تدل على الجمع فقالوا (الذين) في رفعهم ونصبهم وخفضهم ، كما تركوا هذان في رفعه ونصبه وخفضه . ومن أجود من رأيته يوجه هذا القول العلامة اللغوي أحمد بن فارس الرازي (ت 395هـ) في كتابه [الصاحبي 21] حيث قال :(وذلك أن (هذا) اسم منهوك ، ونهكه أنه على حرفين أحدهما حرف علة ، وهي الألف ، و (ها) كلمة تنبيه ليست من الاسم في شيء، فلما ثني احتيج إلى ألف التثنية فلم يوصل إليها لسكون الألف الأصلية ، واحتيج إلى حذف إحداهما ، فقالوا : إن حذفنا الألف الأصلية بقي الاسم على حرف واحد ، وإن أسقطنا ألف التثنية كان في النون منها عوض ، ودلالة على معنى التثنية ، فحذفوا ألف التثنية ، فلما كانت الألف الباقية هي ألف الاسم احتاجوا إلى إعراب التثنية ، فلم يغيروا الألف عن صورتها ؛ لأن الإعراب واختلافه في التثنية والجمع فتركوها على حالها في النصب والخفض).
وهذا توجيهٌ جَميلٌ ، وتعليل سائغٌ من عالم بلغة العرب ودقة مسالكها .

4- أن الإعراب في المفرد (هذا) لا يظهر ، فكذلك في المثنى منه (هذان) يبقى على حالة واحدة ليكون المثنى كالمفرد لأنه فرع عنه، وقد اختار هذا القول أبو العباس بن تيمية وذكر أن بناء المثنى إذا كان مفرده مبنياً أفصح من إعرابه . [الفتاوى 15/248-264 ، شذور الذهب لابن هشام النحوي 49] .
وقد أكد هذا التوجيه الإمام النحوي ابن هشام فقال في كتابه [مغني اللبيب 1/58] :(هذان مبني لدلالته على معنى الإشارة ، وإن قول الأكثرين (هذين) جراً ونصباً ليس إعراباً أيضاً ... وعلى هذا فقراءة (هذان) أقيس ؛ إذ الأصل في المبني ألا تختلف صيغته مع أن فيها مناسبة لألف ساحران) .

وقد ذهب العلامة اللغوي تمام حسان إلى قريب مما في كلام ابن هشام ، إذ يرى أن في قراءة التشديد والرفع إهداراً للعلامة الإعرابية التي أمن اللبس فيها ؛ وذلك لأنه لا يتقدم خبر إن على اسمها إلآ إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً ، وليس قوله (لساحران) من هذا القبيل ، فعلم أن (هذان) اسم (إنّ) فجاء الترخص في الإعراب لأمن اللبس ، ولإيجاد نوع من المناسبة الصوتية بين اسم (إنَّ) وخبرها) [البيان في روائع القرآن 257] .

ثالثاً : القول الثالث الذي ذكره الأستاذ فهد الأحمدي قول غير مقبول علمياً ، وفيه طعنٌ في حفظ القرآن ، وتهوين من شأن كتاب الوحي ، وهم أحرص الناس على تدوين القرآن بدقة متناهية ، وإخلاص منقطع النظير ، وليت الأستاذ فهد الأحمدي يقرأ في كتب جمع القرآن ورسم المصحف ليعلم حق اليقين مدى عناية العلماء برسم حروف القرآن حرفاً حرفاً وعلامةً علامةً ، وأنه ليس ثمة مجال للخطأ الإملائي بهذه السهولة. وإجماع القراء على هذه القراءة المتواترة ليس مبنياً على كتابتها بالألف في المصاحف ، فالعمدة في القراءة هو السماع والتلقي وليس الكتابة في المصحف ، والكتابة تابعة للتلقي لاالعكس ، وهذا أمرٌ معروف مجمع عليه عند علماء القراءات ورسم المصحف والتفسير وأهل العلم ، وليس من المقبول علمياً تخطي كل هؤلاء وترجيح القول الثالث بجرة قلم، وهذا علامة على الخلل المنهجي في الكلام على القرآن وتفسيره ينبغي التنبه له ، ولزوم الحذر الشديد عند الكلام عن كتاب الله، فالمسلم في غنية عن إثم الدخول في تفسير القرآن دون علم ، وليسأل أهل العلم فهم متوافرون ولله الحمد ، نسأل الله أن يعفو عنا وأن يغفر لنا جميعاً ما نقع فيه من الخطأ والزلل .

ولا ينقضي عجبي من قول الأستاذ فهد الأحمدي :
.. وأنا شخصيا أستبعد الرأي الثاني وأرتاح للرأي الثالث كونه الأكثر بساطة والأقرب للوقوع .. فكما قرأ ابن مسعود وابن عباس وغيرهما قوله تعالى (والشمس تجري لا مستقر لها) بدل (والشمس تجري لمستقر لها) قرأ أيضا بعض النحويين الكبار مثل ابن عمر والجرجاني وعيسى بن عمرو (إن هذين لساحران) بدل (إن هذان لساحران) !!

فهذا كلام لا علاقة له بالعلم ولا بالمنطق ، (أستبعد الرأي الثاني وأرتاح للرأي الثالث) لماذا ؟ (كونه الأكثر بساطة والأقرب للوقوع) . فليس من ضوابط الاختيار والتفضيل بين أقوال المعربين بساطة القول ، وقرب الوقوع ، وإنما يتحاكم علماء النحو والمفسرون إلى لغة العرب المسموعة ، واجتهادات النحويين الذين أفنوا أعمارهم في دراسة لغة العرب ، وليست المسألة بالتشهي والارتياح وقرب الوقوع . والقول بقرب وقوع الأخطاء الإملائية والنحوية في القراءات القرآنية المتواترة كارثة علمية لا يجوز القول بها ، ولولا حسن ظني بالكاتب لذهبت في توجيه هذا الكلام مذاهب أخرى .

وقول الكاتب :قرأ أيضا بعض النحويين الكبار مثل ابن عمر والجرجاني وعيسى بن عمرو (إن هذين لساحران) بدل (إن هذان لساحران) !! فيه خلل في النسبة . فهذه القراءة أيضاً صحيحة ومتواترة ، وهي قراءة أبي عمرو بن العلاء البصري وهو أحد القراء السبعة الذين تواترت قراءتهم . فلم يقرأ بها ابن عمر الصحابي الجليل كما أفهمه من قوله (ابن عمر) إلا إذا كان يقصد أبا عمرو بن العلاء وأخطأ في النقل ، ولستُ أدري من هو الجرجاني الذي قرأ بهذه القراءة فليس مشهوراً بين القراء أحد بهذه النسبة ، وأما عيسى بن عمرو فكذلك غير معروف ، والمعروف من أئمة النحو هو عيسى بن عمر وليس ابن عمرو . وعلى كل حال فهذه مسألة سهلة ، وخطؤه فيها متوقع لعدم خبرته بأهل القراءات ولو كانوا مشهورين عندنا أهل التخصص . لكن الكلام في توجيه القراءات بهذه (السذاجة) غير مقبول في صحيفة سيارة مشهورة ، ومن كاتب صاحب عمود صحفي يومي . وأقول له : شيئا من احترام القرآن يا أخي العزيز ، واحترام أهل التخصص فيه .

رابعاً : قول الكاتب :
ومن جهة أخرى ؛ لا أتردد في اتخاذ (القول الأول) كدليل على أن قواعد اللغة ذاتها ليست (قرآنا منزلا) بل ابتكار بشري ظهر (بعد تدوين القرآن) واعتمد على لغة قريش كأساس ..
بكلام آخر.. توجد لهجات أخرى (لقبائل عربية أصيلة عاشت زمن قريش) تخالف من حيث التركيب والإعراب قواعد النحو والصرف التي نعتمدها حاليا / والدليل قوله تعالى:(إن هذان لساحران)!!
... ولأن القرآن نزل على سبعة أحرف (ولأنه حمال أوجه كما قال علي ) لا يفضل علماء النحو الاستشهاد به دائما..

هذا كلام في غاية السقوط والجهل والتعالم ، ولستُ أدري كيف أتناول الرد عليه إلا بذكره فقط بين يدي أهل العلم ، فمن الذي قال إن قواعد النحو قرآن منزل ، ولكنها ليست متاحة لكل أحد لكي يفتي فيها ، فنحن نقبل الاجتهاد في بعض القواعد من أهلها النحويين الذين يقولون بعلم وحجة وليس بكلام مرسل لا قيمة له كهذا الكلام .

ثم إن اختلاف لهجات العرب معروف ، وله بابه وكتبه وتوجيهه وفائدته ، وليس كما فهمه الكاتب بهذه السذاجة.
وأما قوله (... ولأن القرآن نزل على سبعة أحرف (ولأنه حمال أوجه كما قال علي ) لا يفضل علماء النحو الاستشهاد به دائما..) فغريب عجيب لم أسمع به من قبل على كثرة قراءتي وعنايتي الشديدة ، فمن من النحويين لا يحب الاستشهاد بالقرآن ؟ وكيف فهم من كلمة ابن عباس (القرآن ذو وجوه) هذا المعنى الغريب . والقرآن هو أوثق حجج وشواهد النحويين بجميع قراءاته المتواترة والشاذة ، ولا أعلم أحدا رد الاستشهاد بالقرآن. وأما إشارة الكاتب للأحرف السبعة في هذا السياق فهي دليل على عدم معرفته بمعناها ، فالمقالة كلها مبنية على الكلام المرسل الذي ليس له قيمة علمية.


خامساً : وأما قول الكاتب :
وكنت قبل سنوات قد تعرفت - في حفل زفاف - على أستاذ عراقي عمل في الماضي في مجمع اللغة العربية في بغداد.. وحين أتى الحديث عن الاستشهاد بالقرآن الكريم قال شيئا صدمني في البداية ثم وجدته منطقيا في النهاية .. قال: من أسرارنا نحن علماء اللغة أننا نتحاشى الاستشهاد بالقرآن الكريم في المسائل النحوية لأننا بذلك نترك فرصة لمنافسينا للاستشهاد بآية أخرى تخالف رأينا وتقوي رأي المعارضين لنا.. والحل الأفضل - حسب رأيه - هو الاستشهاد بأبيات شعرية وحيدة لشاعر جاهلي كبير (مثل زهير أو الأعشى أو طرفة بن العبد) بحيث يعجز منافسك عن معارضتك بأبيات مخالفة لذات الشاعر/ أو في أفضل الحالات لا يجد غير الاستشهاد بشاعر أقل منه مستوى وشهرة!!
... أذكر جيدا أنه ابتلع حبة عنب كبيرة وقال: لا تخبر أحدا بسر المهنة .

فما أرخص هذا الكلام وأهونه على العلم وأهله ، إذ كيف يستجيز الكاتب نقل مثل هذا الرأي بزعم رد استشهاد النحويين بالقرآن بناء على صاحبه آكل العنب بلا مبالاة، وكأنه يحب أن يضحك القراء في نهاية هذا المقال الخفيف في ميزان العلم والأدب مع القرآن ومع العلماء من أهل التفسير والنحو ، ويسخر منهم ومن منهجهم في بناء صرح النحو ، الذي لم يستوعب هو وصاحبه مدى الجهد الذي بذله أولئك العلماء الأفذاذ في خدمة اللغة العربية والقرآن ، ولم يتركوه لأهواء الكتاب وأشباه الكتاب .


وأخيراً فإنني أشعر بحزن شديد أن أقرأ مثل هذا الكلام لكاتب معروف كالأستاذ فهد الأحمدي في صحيفة مشهورة كالرياض، ولم أشأ أن أكتب مثل هذا الرد الذي فيه بعض الغلظة، ولكنني شعرت بغضب شديد لمدى الاستخفاف بالقرآن وبالقارئ وبالنحو وأهله ، وسوء استخدام هذه الزاوية في كتابة أمثال هذا الكلام الخالي من العلم والأدب مع القرآن ، ولذلك فإن غيرتي على القرآن والعلم هي التي دفعتني للكتابة بهذا الأسلوب وبهذه اللغة ، وألوم لوماً شديداً المسؤولين في صحيفة الرياض أن يبيحوا نشر مثل هذا الكلام في الصحيفة . فتفسير القرآن ليس كلأ مباحاً للصحفيين الذين لا يعرفون أصول التفسير وكيفية التعامل مع كتاب الله ، وقديماً قال العلماء : من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب .

وأختم مقالتي هنا بكلام رائع نفيس نقله الإمام أحمد بن عبيد الله بن إدريس في كتابه (المختار في معاني قراءات أهل الأمصار) 1/546 الذي حققه صديقي وأخي الدكتور عبدالعزيز بن حميد الجهني وأجاد في تحقيقه ، حيث نقل هذا الإمام كلاماً رائعاً لأحد العلماء لم يسمه عن فائدة مثل الاختلاف في إعراب هذه الآية ، وكيف يظهر الله حفظ كتابه بمثل هذه المواضع المشكلة في الإعراب ، حيث قال :
قال بعض أهل العلم :(إن نزول القرآن في هذا الحرف على خلاف الوجه الأشهر في العربية له منزلةٌ من الحكمة جليلةٌ ، وموضعٌ من الصلاح عظيمٌ ، وهو من الأشياء التي قطع الله بها أطماع المحلدين وأهل الزيغ عن التطرق على كتابه بادعاء الفساد عليه من جهة النقل ودخول الزيادة والنقصان ، من قبل أن الله حرّك بذلك قلوبَ المؤمنين من عباده على التحفظ من وقوع الخطأ والزلل عليهم فيه ، وألجأهم بما أزعج به قلوبهم من هذه الأحرف إلى تصفح إعراب القرآن ، بالتفقد الشديد ، وجمع البال ، واستفراغ الذهن ، ليعرفوا ما يقع فيه مما يجري هذا المجرى ، فيتكلموا فيه ، ويُعدوا الاحتجاجَ له على من طعن على كتاب الله تعالى وما أداه إليهم نبيهم فيكون نظرُهم في ذلك وشدةُ عنايتهم يؤديهم إلى ضبطه وإعرابه وحُسنِ أدائه على المنهاج الذي أنزل عليه ، لأنه لو لم يحركْهم بمثل هذا جاز أن يتكلموا على أنه إذا كان من عند ربهم ، وكان المؤدي له نبيهم والسامعون له القوم الذين أنزل بلغتهم لم يقع فيه غلطٌ ، ولم يدخله خللٌ ، فلا يتفقدون من أجل ذلك حروفه وإعرابه، ويثقون لسلامته ، فيؤديهم ذلك مع تراخي الزمان وتطاول الأيام إلى أن يُخلّوا بأدائه ، ويفرّطوا في معرفة الأمور التي بها يضبط إعرابه ، فيؤول أمره بذلك إلى الاختلال والفساد في المعاني ، وإلى أن يذهب بهاؤه وطلاوته ورونقه وحسن ألفاظه ، ويبطل استصلاح كثير من العباد ، فأزعج الله قلوب السامعين له بما يرون فيه من مشكل الإعراب من الحروف التي صرفت عن الوجه الذي هو أشهر في لغتهم إلى تفقد جميع إعرابه ، ليقيم الحجة على جميع العباد بسلامته من الخلل في ذلك والفساد ، وبموافقته لغة القوم الذين أخبر أنه نزل بلغتهم ، وجعله قرآناً عربياً بلسانهم ، كما أزعج قلوب السامعين بما أنزل من متشابه التأويل الذي لا يقفون عليه مع سماعه دون أن يتأملوه ويفكروا في معانيه، فيعلموا أنه لا تناقض فيه ولا فساد ؛ لأنه علم جل ثناؤه أنه إذا جعل ذلك كذلك ، كان أشد لتدبرهم ، وأكثر لتأملهم، وأحرى ألا يهملوه ، ولا يعرضوا عن النظر في معانيه، والعناية بأمره، فيؤدي ذلك إلى الإخلال بعلمه، ويكون سبباً مؤدياً لتضييع المعرفة من جهة الحجج ، ودلالات العقول التي يستدرك الإيمان به ، سبحانه من لطيف ما ألطف حكمته وأصح تدبيره .
وبعد فهل رأى الناس أمةً من الأمم وأهل دين من الأديان استعلموا من ضبط كتابهم ، وما أنزل إليهم من ربهم ما استعمله صحابة رسول الله وأهل دعوته . فإنا قرأنا التوراة والإنجيل ، وكثيراً مما في أيدي أهل الكتاب من كتب التنزيل ، فرأيناها كلها تنبئ عن نفسها ، وتهتف في أسماع السامعين لها بأن الناقلين لها قد حرفوها وأزالوها عن منهاجها ، وأدخلوا فيها كلاماً ليس من كلامهم ، ولو جهد الخلائق كلهم أن يحدثوا في القرآن كلمةً واحدة أو حرفاً واحداً من هذا الضرب لم يقدروا عليه ، فلو لم يكن في سلامة نقله إلآ هذا لكان كافياً ، ولم يرجع به المخالف إلآ خاسئاً .وإن قوماً تفقدوا مثل هذه الأحرف المعدودة ، ودعتهم نفوسهم إلى الكلام فيها ، والاحتجاج لها ، فناهيك بهم ضبطاً لما استودعوا، وحفظاً لما استحفظوا، وكيف لا يكون ذلك كذلك، والله يحفظ لهم ما استحفظهم، ويرعى لهم ما استرعاهم، وإن هذا لمن أوضح الدلالة على أنه لو اعترض عن كتابهم شيء من الأمور التي توهن نقله أو يخالف أصل ما أنزل عليه، لقالوا فيه ولتكلموا ، ولما تركوه وسكتوا . فهنيئاً لأهل التقوى بما أعزهم بالعلو في الدنيا على من خالفهم ، والفوز في الآخرة عند ربهم ، وإلى الله الرغبة في التوفيق لاتباع سبيلهم) .

وقد علق ابن عبيد الله على هذا الكلام بقوله :
(وهذا الكلام من أوضح معنى وأكثر فائدة في هذا الباب ، وذكر هذا الإنسانُ هذا الكلام على أربعة أحرف من الكتاب ، وهو هذا الحرف ، وحرف في سورة النساء وهو قوله (والمقيمي الصلاة) وحرف في سورة المائدة وهو قوله (والصابئون) ، والحرف الذي في سورة المنافقين وهو قوله (فأصدق وأكن من الصالحين) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..