الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله تعالى كلهم أجمعينوعلى آله الطاهرين وصحبه الغر الميامين أما بعد :
كل
الدول حين تنشأ تحتضن ضمن ظروف نشأتها بذور الفساد في داخلها هكذا يستطيع
المستقرئ لتاريخ الدول أن يستخلص هذا الأمر كقاعدة عامة لا تكاد
تنخرم .
ونحقق
هذه البذور مستوى من النمو يتناسب مع نمو تلك الدولة من حيث السرعة
والاتساع إلى أن يصل إلى مستوى من الظهور يجعله بادياً للعيان , بحيث لا
يشك أحد أن التأخر في عدم اجتثاث نباتات الفساد تلك سوف يؤدي إلى مزاحمة
جذورها لجذور الدولة وأغصانها لأغصانها ,حتى تأتيَ عليها وتسقطها من أسفلها
ومن أعلاها.
هنالك
فقط يأتي العمل الجاد في سبيل الإصلاح , لكن المصلحين غالباً , كما يعلمنا
التاريخ لا يُوَفقون إلى الطريقة المثلى لمعالجة ما استشرى في دولتهم من
الفساد , فيعمدون إلى معالجته بطريقة خاطئة تؤدي إلى التسريع في انهيار
الدولة إما لأن مشروع الإصلاح لم يؤد إلى اجتثاث الفساد حقا , أو لأنه عالج
الفساد القديم بزرع نبتة فساد أخرى قد تكون أخطر وأسرع نكاية .
وقلبل
من الدول تنجح في الوصول إلى الطريقة الصحيحة في علاج الفساد بأسلوب ملائم
لواقع الدولة والعوامل التاريخية والجغرافية والاجتماعية المكونة لها.
في
الدولة الأموية تجلت مظاهر الفساد في عهد الوليد بن يزيد بن عبد الملك ,
وكانت قبله تختفي خلف قوة العصبية وقوة الخلفاء وغير ذلك من الظروف الخادمة
لدولتهم , وعلى الفور قامت محاولة الإصلاح من قلب البيت الأموي , على شكل
ثورة على الخليفة القائم ومحاولة للعودة بالدولة إلى منهج الحكم الذي أسسه
عمر بن عبدالعزيز , ويبدو أن محاولة الإصلاح تلك لم تكن واعية بالواقع وما
يناسبه كما لم تراع التدرج في مكافحة الفساد , مما أدى لأن تكون محاولة
الإصلاح تلك بمثابة الإجهاز على الدولة من داخلها .
وفي
الدولة العباسية تجلت مظاهر الفساد في عهد الخليفة المعتصم الذي نفذ بنفسه
مشروع الإصلاح , لكنه كان مشروعا يعتمد على نتيجة غير صحيحة لتشخيص مرض
الدولة , وكان كل ما قام به هو إضافة نبتة غريبة زاحمت كل نباتات الفساد
وتغلبت عليها ثم كانت هي من أودى بمكانة الدولة وقيمتها الحقيقية وإن بقيت
بعد ذلك قرونا على سرير الإنعاش وتحت أجهزة التنفس الصناعي .
وأعني
بذلك استبدال العنصر التركي في إدارة الدولة وجيشها بالعنصرين الأساسيين
اللذين قامت على أكتافهما دولة بني العباس وهما الفرس والعرب .
هذان مثلان لمحاولات الإصلاح الفاشلة , نقابلهما بمثلين لمشاريع الإصلاح الناجحة .
فالأول
مشروع الخليفة الأموي الأندلسي عبدالرحمن الناصر , والآخر مشروع السلطان
المملوكي الناصر بن قلاوون , ويتلخص المشروعان في العودة بمؤسسات الدولة
إلى الأساس الفكري والعصبي الذي قامت عليه دولتاهما , الأمر الذي أعاد
إليهما الالتفاف وساهم في تنشيط الموارد المالية , مما ساعدهما على
الالتفات للنواحي الإدارية الداخلية وتحقيق نجاحات متميزة فيها .
وهذه
القاعدة في إصلاح الدول يجب أن تكون حاضرة في ذهن كل من ينادي بالإصلاح في
الدول المعاصرة , فيعلم أن أُولى خطوات الإصلاح هي التعرف على الفساد ليس
من مشهده الحاضر الماثل أمامه , بل بتتبع بذوره التي احتضنتها بنية الدولة
الناشئة , ومن ثَم اقتلاعه من جذوره مع مراعات أن طول الزمن به قد جعل تلك
الجذور مختلطة بشكل دقيق بجذور الدولة مما يجعل الاقتلاع في حاجة إلى جراحة
ماهرة ومتأنية تستطيع التمييز بين جذور الدولة وجذور الفساد الكامن فيها ,
وذلك لأن الخطأ في هذه الجراحة يعني استئصال جذور الدولة نفسها أو بعضٍ
منها مما يعني على أحسن التقديرات إنهاكها بشكل مؤدٍ إلى الهلاك .
المملكة
العربية السعودية ليست بِدعاً في التاريخ الإنساني , وما نستخلصه من فوائد
التاريخ يُمكن أن نطبقه عليها, بل يجب أن نُطبقه عليها , لأن محاولة
الإصلاح بمعزل عن تجارب الأمم وفوائد التاريخ وبمنآى عن سنن الله تعالى في
الكون هو ضرب من الغرور أو الحُمق , وكلاهما طريقان سريعان جداً ولكن إلى
الهاوية .
هناك
نداءات كثيرة من أصوات مسموعة بالإصلاح في المملكة العربية السعودية عن
طريق اجتزاء شيء من الأنموذج الغربي في نظام الحكم وفي المناصب العامة لاحتذائه في بلادنا , ويرى هؤلاء أن نجاحه هناك يكفي دليلا على إمكانية نجاحه هنا.
وأنا
لا أنكر إمكانية استفادة الأمم بعضها من بعض في كل مجال ولا يُستَثنَى من
ذلك الحكمُ والسياسةُ , إلا أن من المُخاطرة بالأمة أن تتم هذه الاستفادة
نتيجة انطباعات وتصورات شخصية لا تُسنُدها دراسات واعية لملائمة هذه
الإضافات للبيئة الجديدة بجميع مكوناتها , فنظام الحكم وإن كانت طبقة
الساسة هي المعنية به مباشرة إلا أن نجاحه في تحقيق الإصلاح مترتب على
ملائمته للأمة وثقافتها وظرفها الاجتماعي والتاريخي .
ولهذا
لا ينبغي المخاطرة بنقل آليات الديمقراطية مثلا قبل التحقق العلمي من
مآلات إيجادها ضمن أجوائنا ونظامنا العام , فلا يكفي أن نحكم بجمالها
ويأخذنا سحرها كي نُوقن بصلاحيتها لنا , إذ ليست فضيلة النظام كافية
لإنزاله في كل بيئة وكل مكان.
وهناك
أصوات أخر هي أقل ظهوراً من الأولى في جانب الطرح الإعلامي مع أنها في
تقديري أكثر وجوداً في العمل الحركي تنظر إلى أنموذج الخلافة في العصر
الأول كمنهج سياسي قابل للتطبيق في كل زمان ومكان ,وتسعى إلى تحقيقه عن
طريق النشاط السياسي الدولي كما هو حال حزب التحرير , أو النشاط العسكري
العالمي كما هو شأن القاعدة .
والحقيقة
التي لا يُمكن التنازع فيها أن الأنموذج الراشد هو أفضل نظام يُمكن أن
يطمح إليه شعب أو أمة , وهو كذلك النظام الذي وعد الرسول صلى الله عليه
وسلم بعودته في آخر الزمان كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد وغيره ,
والمطالبة الحادة بعودة هذا النظام الأمثل في أيامنا الراهنة أنموذج لما
قدمت من مطالبات الإصلاح التي تنظر إلى أشجار الصنوبر الوارفة لكنها لا
تتحمل الحديث عن استحالة غرسها في بيئات أخر غير ملائمة لها,
وقد
كان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يعلم يقينا أن اختيار ولي للعهد من غير
البيت الأموي هو الأفضل والأعدل ونُقِل عنه ترشيحه للقاسم بن محمد بن أبي
بكر لمنصب الخلافة بعده ,هذا من حيث التنظير لكنه كان يعلم أيضا أن خروج
الخلافة عن البيت الأموي في ذلك الظرف سيعيد جذوة الصراعات التي لم يكد
المسلمون ينسون جراحاتها , فعمل رحمه الله بما يحقق سلامة المآل في تقديره ,
مع علمه بأن غيره أجدى وأفضل منه من حيث الحقيقة .
وكم
كنت أتمنى على المثقفين السعوديين أن يسبقوا دعواتهم لاستيراد آليات
تنظيمية من بيئات مختلفة بدعوات أكثر واقعية وهي إنشاء مراكز بحثية متخصصة
لتقديم دراسات علمية دقيقة حول الإصلاح والسُبُل المُثلَى لتحقيقه بدلاً من
ملء الأجواء بالدعوات الضاغطة نحو التغيير في اتجاه معين قد لا يكون
مناسباً ودون مبالاة بحجم المخاطرة التي يعنيها هذا السلوك في أساليب
التغيير.
محمد بن إبراهيم السعيدي
5/3/1433هـ
1328
1328
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..