الأربعاء، 28 مارس 2012

منهج الألباني الثوري في دراسة الحديث وتأثيره على الحركة الوهابية


تقديم المترجم : نشرت هذه المقالة للدكتور ستيفان لاكروا ، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية في باريس ، في النشرة الفصلية لـ «المعهد الدولي لدراسة الإسلام المعاصر –هولندا» وهي بذرة نتج عنها بحث مطول للمؤلف نشر مؤخرا في كتاب «السلفية العالمية». وبحسب البحث ، فإن لاكروا يفرق بين الوهابية والسلفية كالتالي: «بعكس الوهابية، فإن السلفية تشير إلى جميع عملية التهجينات (المزج أو التلاقح) التي حدثت منذ الستينيات بين تعاليم الوهابية «العقدية» وأفكار الإخوان المسلمين «السياسية»». ولذلك – يقول لاكروا - يمكن أن يكون خطاب الألباني شكلاً من أشكال السلفية حتى حين ينتقد الوهابية».
ونلفت النظر إلى وجود تعقيب من المترجم بعد المقالة.
منهج الألباني الثوري في دراسة الحديث وتأثيره على الحركة الوهابية
عندما توفي الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، في 1 تشرين الأول/أكتوبر 1999، عن عمر يناهز الـ 85، نعاه بحزن بالغ تقريباً جميع المنتمين لتيار الإسلام السلفي؛ فقد كان يمثل للكثيرين ثالث أهم مرجع سلفي رئيسي معاصر، بعد عبد العزيز بن باز (الذي كان قد توفي قبل أشهر قليلة)، ومحمد بن عثيمين (الذي تـوفي كانون الثاني/يناير 2001)، وكلاهما من الشخصيات البارزة في المؤسسة الدينية السعودية. لقد أبّنت وسائل الإعلام السلفي (صحف ومجلات ومواقع الإنترنت) كافة، هذا السوري ابن مصلح الساعات الألباني الذي غادر ألبانيا مع عائلته في عام 1923، عندما كان الابن في عمر التسع سنوات، واستقر في دمشق، والذي أصبح يعرف باسم «محدث العصر»، أي أعظم علماء الحديث في جيله.
ترى كيف تمكن الألباني، على الرغم من أصوله الاجتماعية والعرقية غير المميزة، من الوصول إلى هذه المنزلة الرفيعة في حقل كان محتكراً لفترة طويلة من قبل نخبة دينية من منطقة نجد السعودية؟ والجواب هو، كما سنرى ، من خلال نموذج الألباني نفسه وعدد من تلاميذه، يكمن في نهجه الثوري في دراسة الحديث.

كشف تناقض علماء الوهابية
من المعروف والمعلوم أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني هو مؤيد ومناصر قوي للوهابية، التي تمثل الخطاب الذي أنتجته وتمسكت به المؤسسة الدينية الرسمية السعودية. وهذا بلا شك صحيح من حيث العقيدة، ولكن الألباني يختلف بشدة مع الوهابيين وخصوصا مع ممثليهم الرئيسين، أي علماء الدين السعوديين عندما يتعلق الأمر بالفقه. هنا، يشير الألباني إلى وجود تناقض جوهري داخل التعاليم الوهابية: لقد دعا الوهابيون «نظرياً» إلى الاعتماد الحصري على القرآن والسنة، وإجماع السلف الصالح في استنباط الأحكام، ولكنهم «عملياً» اعتمدوا بالكامل تقريباً على تقليد المذهب الحنبلي في فتاواهم، ولذلك فهم في الحقيقة مقلدون لمدرسة فقهية معينة هي المذهب الحنبلي. ووفقاً للألباني، فإن هذا التناقض ينطبق أيضا على عبد محمد بن الوهاب الذي يصفه بأنه «سلفي في العقيدة، ولكن ليس في الفقه».
إضافة إلى ذلك، وبالنسبة إلى الألباني، فإن تحقيق «السلفية في الفقه» يعني جعل الحديث الركيزة الأساسية لعملية استنباط الأحكام، لأن الحديث وحده يمكنه أن يجيب عن المسائل التي لا توجد في القرآن الكريم من دون تقليد مذهب فقهي. وبالتالي يصبح «علم الحديث»، أبو كل العلوم الدينية وهو العلم الذي يهدف إلى إعادة تقييم صحة الأحاديث المعروفة. ولكن وفقاً للألباني، يجب استبعاد استعمال العقل بصورة مستقلة من هذه العملية: نقد المتن (أي مضمون الحديث) يجب أن يكون شكلياً، أي مراجعة نحوية أو لغوية، وبذلك يصبح السند هو موضع التساؤل فحسب، (أي سلسلة نقل الحديث). ونتيجة لذلك، فإن التركيز الرئيسي لعلم الحديث يصبح «علم الرجال» المعروف أيضاً باسم «علم الجرح والتعديل» الذي يُقيم أخلاق ناقلي الحديث (لتحديد موثوقية الحديث)؛ وفي الوقت نفسه وخلافاً للممارسات السابقة في علم الحديث، أصر الألباني على أن نطاق هذه العملية يجب أن يشمل جميع الأحاديث الموجودة، حتى تلك الواردة في كتب المجموعات الرئيسة المعتمدة للحديث مثل البخاري ومسلم، والتي تجرأ الألباني على مراجعتها ووصف بعضها بالضعيف.

تفسيرات ثورية
ونتيجة لذلك المنهج الغريب بالنسبة إلى ما كان سائداً، تطور الأمر بالألباني إلى إصدار فتاوى تتعارض مع الإجماع المتفق عليه على نطاق إسلامي واسع، وبشكل أكثر تحديداً تعارض الفقه الوهابي/الحنبلي؛ فعلى سبيل المثال، ألف الألباني كتاباً (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير الى التسليم كأتك تراها) أعاد فيه تعريف بعض الممارسات والصيغ التي تشكل طقوس صلاة المسلم لكي تكون «وفقاً لممارسة النبي (ص)» بحسب الأحاديث التي درسها وكانت تلك الممارسات والصيغ تختلف مع جميع المذاهب الفقهية. أيضاً، أفتى الألباني بأن المحراب بدعة، وبجواز الصلاة في المسجد بالحذاء. وكان هناك موقف آخر للألباني مثير للجدل وهو دعوته للفلسطينيين بمغادرة الأراضي المحتلة لأنهم – برأيه – لا يستطيعون ممارسة شعائرهم الدينية هناك كما ينبغي، وهو أمر أكثر أهمية بكثير من قطعة أرض. وأخيراً، اتخذ الألباني موقفاً قوياً ضد ممارسة السياسة، مكرراً عبارته الشهيرة «من السياسة ترك السياسة»، وهي العبارة التي تنتقد ضمنيا جماعة الإخوان المسلمين المنهمكين في السياسة، والذين ندد الألباني باستمرار بآرائهم السياسية.
وجود الألباني في المملكة العربية السعودية، بعدما دعاه عام 1961، صديقه الشيخ عبد العزيز بن باز، للتدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة، أثار ردود فعل محرجة داخل قلعة المؤسسة الوهابية، التي تختلف معه ولكن لا يمكنها مطلقاً مهاجمته بسبب خلفيته الوهابية التي لا يمكن الطعن فيها وبخاصة من حيث العقيدة. ولكن الجدل الذي ثار بسبب كتابه «جلباب المرأة المسلمة»، والذي جادل فيه بالدليل بأن وجه المرأة ليس عورة، كان موقفاً غير مقبول بحسب المعايير السعودية، وأعطى هذا الموقف المؤسسة الوهابية أخيراً المبرر اللازم لإخراجه من المملكة في عام 1963. ثم عاد الألباني ليستقر في سوريا، قبل أن يغادرها إلى الأردن في عام 1979.
ولكن المعارضة التي واجهها الألباني من المؤسسة الدينية الوهابية لم تكن فكرية فحسب؛ فمن خلال تشككه في الأسس المنهجية التي بنى عليها الوهابيون شرعيتهم، فإنه تحدى أيضاً موقعهم المؤثر في «الحقل الديني السعودي». أسست الوهابية نفسها منذ نشأتها على أساس أنها دعوة دينية تتمحور حول عدد من الكتب الأساسية في العقيدة والفقه. وقد احتكر هذه الدعوة نخبة دينية صغيرة من نجد، تركزت في البداية حول محمد بن عبد الوهاب وذريته (المعروفة باسم آل الشيخ)، قبل أن تنفتح على عدد قليل من الأسر الأخرى. وهكذا أصبح علماء هذه النخبة الوهابية في النظام السعودي هم الممثلين والناقلين الشرعيين للتعاليم الوهابية؛ وفي هذا السياق تم استبعاد العلماء المستقلين لأنهم لم يتلقوا «العلم السليم» من العلماء «المؤهلين».

ولذلك، أصبح العلم الوهابي التقليدي ثمرة لعملية انتقال معتمداً على عدد من الإجازات: (جمع إجازة، وهي شهادة يعترف فيها عالم بنقل معرفته أو جزء منها إلى واحد من تلاميذه وتأذن له بنقلها للغير) التي يمنحها علماء الوهابية. وهذا هو المنطق نفسه الذي سوف يتحداه الألباني (وهو نفسه، لا يملك سوى القليل من الإجازات) من خلال تعزيز منهجه النقدي. وفي الواقع ووفقا للألباني، فإن النقل ليس له أي أهمية على الإطلاق، لأن نقل أي حديث مشتبه فيه من عالم مرموق لا يضمن ولا يعني صحته مطلقاً. وعلى العكس من ذلك، فإن المهم في العملية هنا هو «التراكم»، أي أن يكون العالم متميزاً بكونه شخص يحفظ كم كبير من الأحاديث النبوية، والأهم، يحفظ السيَر الذاتية لعدد كبير من ناقلي الحديث. وبالتالي، يمكن قياس «علم الحديث» وفقاً لمعايير موضوعية لا علاقة لها بأصل العائلة ولا بالقبيلة ولا بالإقليم، وهو ما يسمح بدخول مقياس مهم غاب سابقاً في تقييم علماء الوهابية وهو «الجدارة». والأهم من ما سبق، ادعاء الألباني أنه أكثر تعبيراً عن روح الوهابية من محمد بن عبد الوهاب نفسه، ما جعل أفكاره السابقة تحظى بشعبية كبيرة بين الشباب السلفي.

زعماء دينيون جدد
ولكل هذه الأسباب، فإن أفكار الألباني سرعان ما أصبحت وسيلة سهلت ظهور زعماء دينيين جدد في الحركة السلفية من خارج النخبة التقليدية لعلماء الوهابية، ولتتحدى بالتالي تلك النخبة النجدية التقليدية القائمة. وحصل الألباني نفسه بسرعة كبيرة على أتباع كثر في المملكة العربية السعودية وخارجها. وبالتالي شكّل الألباني قوة ومرجعية كان لابد من الاعتراف بها باعتباره أحد أبرز الشخصيات في السلفية المعاصرة على الرغم من العداء الأصلي له من المؤسسة الدينية الوهابية.
وفي منتصف الستينيات، أسس عدد من الأشخاص المتأثرين بدعوة الألباني في المدينة المنورة جماعة دينية متشددة باسم «الجماعة السلفية المحتسبة» وخرج منها فصيل راديكالي قاده جهيمان العتيبي لاقتحام المسجد الحرام في مكة المكرمة في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1979. العديد من أعضاء تلك الجماعة، وخصوصاً من علمائها، كانوا إما من أصول بدوية أو مقيمين غير سعوديين، وبالتالي كانوا مهمشين في «الحقل الديني السعودي» المحصور في نخبة نجدية كما أسلفنا. ويمكن القول إن نشاطهم – جزئيا على الأقل – كان رداً على ذلك التهميش. أحد أهم الشخصيات الرئيسة لهذه المجموعة كان مقبل الوادعي والذي كان «محظوظاً» بما فيه الكفاية عندما طرد من المملكة في عام 1978، وبالتالي لم يشارك في الاقتحام. ولاحقاً تمكن من إعادة تأسيس نفسه في وطنه اليمن ليصبح أبرز عالم سلفي هناك.
في أواخر الثمانينيات، شكل بعض تلاميذ الألباني، بقيادة شيخ من المدينة اسمه ربيع المدخلي شبكة دينية غير رسمية يشار إليها عموماً بـ الجامية (نسبة إلى عالم دين هو الشيخ محمد أمان الجامي). إضافة إلى تركيزهم على علم الحديث، عرفت «الجامية» بتأكيد دعوة الألباني بعدم العمل في السياسة وشجب أولئك الذين يفعلون ذلك. ومجدداً، فإن العديد من الجاميين كانوا من أصول متواضعة نسبياً (المدخلي كان من جازان، على الحدود اليمنية، في حين كان الجامي من إثيوبيا)؛ لذلك فقد استبعدوا من جميع المناصب القيادية في «الحقل الديني السعودي». ولكن «الجامية» اكتسبوا أهمية هائلة في أوائل التسعينيات، عندما دعمتهم الحكومة السعودية مالياً ومؤسسياً، على أمل جعلهم نظيراً أيديولوجياً «لاسياسياً» للمعارضة الإسلامية التي سميت بـالصحوة الإسلامية، وهي حركة دينية سياسية غير رسمية ظهرت في السعودية في الستينيات نتيجة لعملية تهجين وتلاقح بين أفكار الوهابية العقدية، وأفكار جماعة الإخوان المسلمين السياسية.
وفي التسعينيات، وصل الأمر بعدد قليل من طلاب الألباني إلى حد تحدي كل من النخبة الدينية الوهابية والألباني نفسه. لقد عملوا بحسب تعاليم شيخ هندي يدعى حمزة المليباري لتعزيز الدور المركزي للحديث، وانتقدوا الألباني لاعتماده على أساليب المتقدمين في تصحيح الحديث، أو على الأقل هكذا زعموا. وعلى العكس من ذلك، فإنهم يفخرون على اعتمادهم الحصري على منهجية المحدثين الأوائل، أي ما قبل الدار قطني (917-995)، ولذلك سيسمون منهجهم بـ «منهج المتقدمين». ومجدداً، كان معظم هؤلاء العلماء شخصيات من أصول هامشية أو غير قبلية في المجتمع، مثل سليمان العلوان، وهو عالم صغير جداً في السن أصله غير قبلي ولد في عام 1970، وبدأ يصبح معروفا كعالم في العشرينيات من عمره. وعبد الله السعد، الذي جاءت أسرته من الزبير. هذان الاثنان سيصبحان لاحقاً من كبار الشخصيات في التيار الجهادي السعودي، متحدين النظام السياسي بعد أن تحديا النظام الديني. ونتيجة لذلك، سيتم القبض عليهم ويسجنوا بعد تفجيرات أيار/مايو 2003.

المفارقة الكبرى
كشف واستنكار محمد ناصر الدين الألباني لــ «تناقض الوهابية» وترويجه لمنهجه في نقد الحديث باعتباره ركيزة المعرفة الدينية نتج منه ثورة داخل السلفية، شكلت تحدياً لاحتكار النخبة الوهابية النجدية. ونتيجة لذلك، أعطت أفكار الألباني سلاحاً لأصحاب المشاريع السلفية المستقلة ساعدهم للمحاربة ودخول دوائر كانت مغلقة من قبل. وعلى الرغم من أنه لا أحد من تلامذة الألباني حقق مثل منزلته الرفيعة والمؤثرة، إلا أن بعضهم أصبحوا علماء معترف بهم. ومن المثير للاهتمام حقاً أن بلوغ الألباني لمكانة مرموقة كجزء فعلي من مؤسسة سبق أن رفضها واستنكر تناقضها، شجع بعض تلامذته من أنصار «منهج المتقدمين» للدعوة – اقتداء بدعوة الألباني المبكرة للتصفية – إلى منهج «أنقى» في نقد الحديث. وهذا يثبت أن القوة الثورية لأساليبه لا تزال متماسكة.
تعقيب المترجم حمد العيسى :
من الصعب التعقيب على باحث متكمن مثل لاكروا، ولكن ربما كان من المناسب وصف مدرسة الشيخ الألباني بالسلفية الألبانية كما فعل بعض الباحثين وهو وصف جيد نظرا لأن الشيخ بالفعل ينفرد عن غيره بأراء مختلفة جدا. كما لاحظت أن لاكروا غفل عن ذكر موقف مهم جداً انفرد به الألباني مخالفاً علماء المؤسسة الدينية السعودية الوهابية، عندما أفتى قبيل حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء أو تحرير الكويت)، بعدم جواز القتال مع أي من الطرفين لأن الأمر فتنة، وهي فتوى سمعتها في شريط مسجل وقتها، ولحسن الحظ وجدت الشريط مسجلاً ومفرغاً في موقع يهتم بحفظ تراث الألباني (شريط رقم 460 في «سلسلة الهدى والنور» من الدروس العلمية والفتاوى الشرعية للشيخ محمد ناصر الدين الألباني): حيث قال الشيخ الألباني بحسب التفريغ «ففي زمن الفتن قال (ص) (كونوا أحلاس بيوتكم)»، أي كونوا على الحياد. وهذا الموقف أقوى بكثير من قوله إن وجه المرأة ليس عورة الذي استشهد به لاكروا. انتهى التعقيب
 
ملاحظة: حقوق هذه الترجمة «مفتوحة» لكل من يرغب في نقلها أو نشرها بأي وسيلة بدون أذن المترجم بشرط «عدم تحريفها»



بقلم : د. ستيفان لاكروا
 ( ترجمة وتعليق : د. حمد العيسى )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..