الخميس، 19 أبريل 2012

من أجل جودة التعليم..ابحث عن السياسة...!



رفيف رضا صيداوي
رافقت الزيادة المطّردة في التعليم الثانوي والعالي على مدى العقود الماضية في الوطن العربي عموماً بطالة مطّردة أيضاً، قادت إلى التشكيك بجودة التعليم العربي وتحميله المسؤوليّة الرئيسة. ولئن كانت
جودة التعليم في الواقع من أبرز المشكلات التي يواجهها نظام التعليم في الوطن العربي بعامة، بقدر ما تترك تأثيراتها السلبيّة على سوق العمل، إلا أن ذلك يعدّ اختزالاً للمشكلة التعليميّة ولمشكلات سوق العمل في آن وللاقتصادات العربيّة نفسها.
من أبرز مظاهر هذه الاختلالات، الموثّقة بالأرقام والمستقاة كلّها من "التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافيّة"(مؤسّسة الفكر العربي،2011) تدافع أعداد الخريجين الجامعيّين وتكاثرها بعدما ازدادت الجامعات الخاصة منذ تسعينيّات القرن الفائت بوتيرة أسرع من الجامعات الحكومية في هذا البلد العربي أو ذاك، أو بعدما أصبح عدد الجامعات الحكومية والخاصة متساوياً إلى حدّ ما. لكن من دون أن يعني ذلك أن استيعاب الجامعات الحكوميّة للطلبة هو بالضرورة أكبر من استيعاب الجامعات الحكوميّة. إذ تظلّ هذه الأخيرة الملجأ الأول والأخير للفئات الاجتماعيّة الدنيا والوسطى. ففي بلد مثل لبنان المعروف تاريخيّاً بقوّة قطاعه التعليمي الخاص العام والجامعي، والذي يوجد فيه جامعة رسميّة واحدة، يلاحظ أن هذه الأخيرة تضمّ قرابة 40% من مجموع طلاب التعليم العالي؛ في حين استوعبت الجامعات الحكوميّة في مصر العام 2009/2010 -على سبيل المثال لا الحصر- نحو 95% من طلبة الجامعات فيها مقابل نحو 5% فقط للجامعات الخاصة.
هذا الإقبال على التعليم العالي، بشقّيه الرسمي والخاص، جعل عدد الطلاب في بلد مثل مصر يفوق في نموّه الزيادة في عدد السكان. فبلغ عدد الطلاب في العام 2010 حوالى 2.5 مليون طالب، بزيادة قدرها 777 ألف طالب عن العام 2000. وبلغ عدد المقيّدين في العام 2010 من الجنسين أيضاً في الجامعات السعوديّة 903567 مقيّداً مقارنةً بـنحو404094العام1999 بزيادة بلغت نسبتها 424% في المدّة نفسها، وانسحب هذا التوسّع على مخرجات التعليم العالي من حيث عدد الخريجين الذي بلغ120797 طالباً وطالبة العام 2010 مقارنةً بـ 56753 العام 1999، أي بزيادة قدرها 113% ....غير أن المشكلة في غالبيّة الدول العربيّة تكمن في عدم التكيّف مع هذا الإقبال الهائل على التعليم العالي من خلال تطوير الإمكانات والموارد التعليميّة؛ تكفي الإشارة مثلاً إلى أن مرتبات أعضاء هيئة التدريس في مصر، وبحسب تقرير عن المؤتمر القومي للتعليم العالي عقد العام 2000 ، لا تمثّل سوى 39% من جملة المرتبات والأجور في الجامعات، بينما تجاوزت أجور ومرتبات الجهاز الإداري نسبة 43%، والخدمات المعاونة 18%؛ فيما توجد أعداد غفيرة من خرّيجي الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية مثل حقول الجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، والدليل أن في بلد مثل الأردن أظهرت نتائج "التقرير التحليلي لمسح فرص العمل المستحدثة لسنة2010" الصادر عن "دائرة الإحصاءات العامّة"، أنّ من أكثر التخصّصات العلميّة الحاصلة على صافي فرص العمل المستحدثة للأفراد ممّن يحملون الدبلوم المتوسط فأعلى، كان تخصّص الصحّة والخدمات الاجتماعيّة وتخصّص العلوم والرياضيات والحوسبة (حوالى ستة آلاف وظيفة لكلّ منهما)، في الوقت الذي يشير فيه التوزيع النسبي للطلاب المقيدين في الجامعات السعوديّة وفق مجالات الدراسة إلى أن هناك نقصاً حاداً في مجال الدراسات الهندسية والعلوم الزراعية التي تحتاجها بعض الصناعات، وأن مخرجات الجامعات في المجالات التربويّة والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة تصل نسبتها إلى ما يقارب 64% من التخصّصات الجامعيّة كافة.
لكن..ماذا عن سوق العمل؟
بلغت نسبة المتعطّلين عن العمل في سورية العام 2010 حوالى476343 متعطلاً، أي بنسبة8.4%، وبلغت في الأردن12.4%، وفي لبنان قدّرت هذه النسبة بنحو 9.83% بحسب "إدارة الإحصاء المركزي"، وبنحو 15% بحسب مصادر أخرى، وما بين 13 أو 14 % في تونس( فيما عمدت الحكومة الانتقالية إلى تصحيح هذا الرقم بعدما قدّمت أرقاماً مغايرة تصل فيها نسبة البطالة إلى 30 % سنة 2009)، وتجاوز معدل بطالة القوى العاملة الوطنيّة السعوديّة نسبة 10.5% للذكور و28.4% للإناث..إلخ، أما الفئات الأكثر تعرضاً للبطالة فهي الفئات المتعلمّة، ولاسيما أصحاب الشهادات العليا. بحيث ارتفع معدل البطالة في مصر من1.2% للأميّين إلى18.4% للمتعلمين تعليماً عالياً، وارتفعت نسبة العاطلين عن العمل من بين حاملي الشهادات العليا في تونس ثلاث مرّات بين سنة 1999 و2009، أي من 8.6% إلى 23.3%، كما جاء معدّل البطالة مرتفعاً بين حملة الشهادات الجامعية في الأردن، حيث بلغ 15.7%. فضلاً عن أنّ 52% من المتعطّلين هم من حملة الشهادة الثانوية فأعلى؛ ويعاني لبنان من بطالة أصحاب التعليم العالي بنسبة 23.6 %...إلخ، ما يعني وجود تضاد بين مستوى التعليم ومعدل البطالة في غالبيّة الدول العربيّة.
هذه الظاهرة تشير إلى أن سوق العمل يتميّز بفائض من العروض يسمح لأصحاب العمل بتحديد أدنى الأجور للعمالة لكونهم هم مَن يتحكّم بالمشتغلين في سوق يسيطر عليه جانب الطلب. وقد بيّنت البحوث في مصر مثلاً أن91% من أصحاب العمل لم يواجهوا أيّ مشكلة خلال السنوات الخمس الماضية في الحصول على مشتغلين يحملون التخصّصات المطلوب.
ومن مشكلات السوق أيضاً ما هو مرتبط بطبيعة الاقتصاد نفسه في كلّ بلد عربيّ على حدة. وهي مشكلات تُضاف إلى المشكلة الرئيسة القائمة في عدم رسم استراتيجيات طويلة المدى توائم ما بين التوجيه الجامعي واستحداث الاختصاصات من جهة وحاجات الاقتصاد من جهة ثانية، أو ارتباطها بعدم وجود آليات تستوعب الزيادة المطّردة في عدد الطلاب، وعدم أهلية الجامعة في إعداد الخريجين للانخراط إيجاياً في سوق العمل. بحيث يشهد عديد من أسواق العمل العربيّة اختلالات في توزيع القوى العاملة قطاعياًّ وتعليميّاً ومهنيّاً، ويتميّز الاقتصاد أحياناً ببنية تقليديّة لا تحتاج إلى قدر كبير من العمالة المؤهلة، شأن سورية مثلاً، حيث يعمل40% من مجمل العمالة في القطاع غير الرسمي الذي لا يخضع للخطط التنمويّة، ما يؤدّي إلى تركّز الطلب على العمالة ذات المستوى التعليمي المنخفض وإلى تفشّي البطالة بين أعداد الخريجين الجامعيّين. فيما تفسّر الدراسات في السعودية عزوف المواطنين السعوديّين من حملة شهادة الدبلوم أو البكالوريوس عن العمل لدى القطاع الخاص إلى انخفاض الأجور التي يقدّمها القطاع الخاص للمواطن السعودي، وإلى العروض الكبيرة المتوفرة من العمالة غير السعودية بأجور متدنّية. كما أن بعض أسواق العمل العربيّة ، شأن الأردن ولبنان، على سبيل المثال لا الحصر، هي أسواق مرسلة ومستقبلة للعمالة في الوقت نفسه، وتصدّر قوى عاملة ذات تعليم وتأهيل مرتفعين، وتستورد عمالة ذات مهارات متواضعة للعمل في قطاعات لا يقبل مواطنو البلدين العمل فيها. لذا يلاحظ أن نسبة البطالة لدى الذكور في لبنان تكون في ذروتها بين الذين يملكون تعليماً ابتدائياً، وأن هذه النسبة تبدأ بالانخفاض تدريجياً كلما زاد مستوى التعليم، مع وجود تقارب لافت في النسب لدى أصحاب التعليم الثانوي والعالي.
ثمة إذاً تسرّب في أوساط الكفاءات العربيّة، ومعاناة عدد من الجامعات الرسميّة من أزمات مالية تؤثّر على جودة التعليم وتؤدّي إلى تسرّب الأساتذة الأكفاء، وإلى استقطاب بدائل ذات مستويات أقلّ كفاية، وغيرها الكثير من الظواهر التي تضع جودة التعليم العربي في قفص الاتّهام. ويواكب ذلك اختلالات في أسواق العمل العربيّة صارت تبدو لحدّتها بنيويّة. إلا أن "القطبة المخفيّة " في كلّ ذلك، إذا ما جاز التعبير، هي في أن الإصلاح الحقيقي يبدأ بإصلاح اقتصادي بنيوي من جهة، وباستقلاليّة مؤسّسات التعليم العالي العامة والخاصة في مواجهة كلّ من الدولة ورأس المال الخاص من جهة ثانية، وذلك في إطارٍ من المسؤولية والمحاسبة المجتمعية؛ على أن تسود المعايير العلميّة ومتطلّباتها على كلّ ما عداها من معايير خلال توجيه المسألة. ربما يكون ذلك عندئذ إيذاناً بفصل البعد السياسي عن أزمة التعليم العالي.
نشرة أفق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..