الخميس، 26 أبريل 2012

كان تنويريا وتاجر رقيق


06-04-1433 01:39
يعنّ لأولئك الذين ينسبون إلى أنفسهم الانتماء إلى تيار "التنوير" أن يلقوا باللائمة على التشدد الديني فيما يتعلق بالتمييز العنصري تجاه الأعراق والديانات
المختلفة، أو حتى تجاه بعض الأفكار التي تحمل طابع إثنياً، أو
استغلالياً للإنسان، أياً يكن.
وبسهولة شديدة تجدهم يقدمون بعض المنجزات التحرريّة التي أبرمت بقرارات سياسيّة على أنها من ثمار نضال الفكر "التنويري" ضد التشدد الديني، فعلى سبيل المثال:
في مسألة الحرية، كثيراً ما يستحضر التنويريون أطروحات جون لوك الليبرالية التنويرية ودورها في تحرير الإنسان، وهم يتجاهلون أن جون لوك نفسه كان "تاجر رقيق"! نعم، تاجر رقيق! وهذا مما يفيدنا بأن جون لوك لم يكن حاملاً للواء نضال العنصرية أو تحرير البشر من العبودية، لكن ولسبب يتعلق بعمليات التجميل التي يجريها المنتمون إلى تياره إلى تاريخه، فإنّ ما حصل بعده من إنجازات إنسانية بسبب قرارات سياسيّة يسجل في حسابات منجزاته، حتى وإن كان هو عاملاً في حال نفسه وواقع أمره بضده تماماً!

كذلك الأمر فيما يتعلق بمفكر آخر، كجان جاك روسو، نسمع كثيراً عن جان جاك روسو الذي يؤكد أن "انعدام العقد الاجتماعي في بلاد يعني فقدان مواطنيه الحريّة"، ونحن نعلم أن روسو وإن أدان الرقّ –خلافاً للوك الذي كان تاجر رقيق– فإنه لم يكن يعني بذلك المساواة بين الأبيض والأسود في بلدهما الأوروبي، بل كان يعني إنهاء النخاسة وحسب. بل إنني لا أبالغ حين أقول – كما تشير إليه كارين أرمسترونغ وينقله باحثون عرب كهاشم صالح – إنه في القرن 18 الميلادي لم تكن فكرة انعدام الفرق بين الأبيض والأسود مطروحة في أوروبا من الأساس! فلا يمكن تبرئة أي شخص ينتمي إلى الفكر منها، سواء أكان "كنسياً متشدّداً" أو "بروتستانتيا" أو حتى لو كان "علمانيّاً"، أو "تنويريّاً" ليبرالياً، الجميع كانوا – بالنسبة إلى هذه اللعنة – سواء.

عطفاً على هذا –وفي موضوع هذا المقال– نجد أن التنويريين الأوروبيين –وكما تقرره كارين أرمسترونغ مرة أخرى– حتى المنتمين منهم إلى أصول يهوديّة مثل كارل ماركس، لم يكونوا يحملون نوايا طيّبة أو أفكاراً لمساواة اليهود الأوروبيين ببقية المواطنين، ولا قريباً من ذلك، بل إن ماركس نفسه كان يعلن أن وجود اليهود في أوروبا من أسباب تخلفها، والأمر نفسه لدى فولتير وغيره من سائر رموز التنوير في الغرب، فقد كانوا ضد منح اليهودي المواطنة على قدم المساواة بالمواطن المسيحي، لسبب بسيط جداً هو أنه في نظرهم مثلما هو في نظر رجل الدين الكنسي "كائن دنيء"! ولا يستثنى من ذلك أيٌّ من تنويريي أوروبا المشاهير، ولقد استمرّ الوضع على ما هو عليه حتى جاء منح المواطنة الفرنسية لليهود مساواة كغيرهم من النصارى بقرار سياسيّ من نابليون بونابرت فاعترضت عليه جميع الطوائف التنويرية في فرنسا أيما اعتراض، ولكن اعتُبر اليهودي الفرنسي مواطناً على رغم أنف المسيحي المتشدد والتنويري على السواء.
لا خلاف لدينا في أن اليهود والعرق السامي بعامّة كان يعاني في أوروبا من التيار المسيحي الكاثوليكي المتشدّد، فهذا أمر مسلّم به، وكراهية اليهود (لعنصرهم الساميّ) كانت من التفشّي بحيث فاحت رائحتها في جميع أقطار العالم، ولم يكن لهم من ملجإ يومئذ إلا في بلاد المسلمين (الأندلس أو تركيا)، لكن أن يسجّل تحسين وضع اليهود في أوروبا لصالح التنويريين الذين كانوا يحملون لهم الكراهية نفسها التي كانت تحملها لهم الكنائس الأوروبيّة، وأن يعد ذلك من ثمار نضالهم مع الكنيسة، فذلك من الاختلاق الذي لا يحتمل.

وقس على ذلك: ففي مشهدنا الخليجي والمحلّي، حين يُنجَز بقرار سياسي إنجازٌ ما (إنساني أو حقوقيّ، أو حتى حكم قضائيّ عاديّ نقرأ حصول أمثاله منذ بدء التاريخ الإسلامي) فهل يحق للتيار "التنويري" أو "الليبرالي" أن يمهر هذا الإنجاز بتوقيعه؟!
إن ثمة مسائل خارج مساحة التفكير التنويري –كما يقول هاشم صالح- خليجيّاً ومحليّاً، وهي قضايا حقوقية أو قانونية أو إنسانية تتفق عليها كل الفطر البشرية في الغالب، والعائق فيها أعراف محلية باردة لا تقل شناعة عن أعراف الإقطاع في العصور الوسطى، مثل قضايا "البدون" والمواليد (الذين بعضهم كان جده من المواليد!)، وأزواج السعوديات وزوجات السعوديين، وأنظمة العمل والعمال، وغيرها من تلك المسائل التي يستفيد منها كثير من "التنويريين" في حياتهم اليومية على حساب البشر الأبرياء، مثَلُهم في ذلك مثل غيرهم من المنتمين إلى التيارات الدينيّة، بل ومن جميع نخب المجتمع المتعامية عن هذه القضايا.

ما أودّ الوصول إليه، هو أن ثمة –في كل مرحلة من مراحل التاريخ- قضايا إنسانية فوق تفكير النخب، سواء المتشددة منها أو التي تتسمى بـ"التنويرية"، أو لنقل: قضايا إنسانية تتواطأ جميع النخب على اتخاذ موقف لا إنساني منها، وترحلها للمستقبل، لا فرق في ذلك بين نخبوي متدين متشدد أو نخبوي ليبرالي متنوّر، وذلك بسبب أنها قضايا تتعلق بـ"حق الآخر" الذي له تكلفة باهظة في هذه المجتمعات، مثلما أن بقاءها على ما هو عليه يدر على هذه المجتمعات دخلاً إضافياً طائلاً، أو أنه يجنب المجتمع تبعات وأعباء اقتصادية وديموغرافية، ولذلك يحصل التعامي عنها، وترحيلها للأجيال الآتية، أو تتم مناقشتها مع من يعترض عليها بطريقة فرعون حين طلب منه موسى عليه السلام أن يرسل معه بني إسرائيل، فقال له: "ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين"؟ أو حين قال له: "إن كنت جئت بآية فائت بها إن كنت من الصادقين"!

وتلك المسائل التي تتخلى عنها جميع نخب المجتمع وتتبرأ منها في هذا العصر، بل لا تزال "خارج نطاق تفكيرها" إنما هي مثل تلك القضايا التي يدّعيها "تنويريو" هذا الزمان لأنفسهم (قديماً) ,بيد أن تنويريي ذلك الزمن الماضي, لم يكونوا يفكرون فيها أصلاً. وما يحدث الآن من تبرؤ من القضايا المماثلة في المجتمعات الخليجية -على سبيل المثال- راجع إلى الأسباب نفسها التي من أجلها لم يكن يفكر رجل مثل جون لوك ولا غيره من التنويريين بعده في تحرير العبيد، أو على الأقل مساواتهم بالمواطن الأوروبي في بلدانهم.

فهل سننتظر في العقود –أو حتى القرون– المقبلة من "تنويريي" الزمن الآتي ادعاء أن حل هذه المشكلات –لو حلت- جاء بفضل مناضلتهم ومجاهدتهم التيارات الدينية المتشددة؟!
إن حصل ذلك فما أخلق أن يقال: ما أشبه الليلة بالبارحة.
 المثقف الجديد

عبدالواحد الأنصاري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..