بقلم الشيخ : سلمان العودة
سألني
بحيرة عن حاله .. وهل هو داخل في عداد المسلمين؟ أم منتظم في سلك الكفار
والمشركين؟ فقد مرت به حالة نفسية وترك الصلاة شهوراً، وتكرر ذلك منه مرات،
ثم سأل المفتين في بلدنا، فمنهم من قال: إنك كافر مرتد، وزعم أنه أوجب
عليه تجديد العقد، وتجديد الإيمان، والنطق بالشهادتين ... إلخ.
ومنهم من قال بخلاف ذلك، ودعا إلى المحافظة وقضاء ما فات، والتوبة إلى الله ..
ومنهم من اكتفى بدعوته إلى الاستقامة وكثرة النوافل دون أمره بالقضاء.
وذكرني سؤال أخي بكلام كنت أسمعه من بعض فضلاء الشيوخ بأن من ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها كافر خارج من الملة لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يرمى كالجيفة في فلاة من الأرض، وربما أمر بوضع التراب عليه حتى لا تأكله الكلاب!
وتنزيل حكم كهذا على شخص بعينه والحكم بكفره، وسياق لوازم الكفر هو قول مركب من مجموعة اختيارات، ولا أظنك ستجد هذا القول بهذه الصيغة منسوباً لصحابي جليل ولا لإمام من الأئمة السابقين، ولا أن أحداً من المسلمين عمل به، ممن يؤخذ بقوله أو يقتدى بفعله، فهذا القول أخذ (أولاً) بالقول الأشد، وهو أن تارك الصلاة كافر، وهو أحد قولي العلماء في المسألة.
ومذهب جمهور العلماء أن تارك الصلاة مرتكب كبيرة من الكبائر وآتٍ إثماً عظيماً وليس بكافر كفراً يخرج من الملة، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، وذكر النووي أن هذا مذهب الأكثرين من السلف والخلف، وله أدلة منها أحاديث الرجاء « مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ »، وهي في الصحاح والمسانيد مشهورة متداولة، ومنها قوله عليه السلام عن عبد الله بن جدعان أنه لا يقبل عمله « إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ »، ولم يذكر غير ذلك.
ويعتضد ذلك بأن الأصل بقاء المرء على ما هو عليه ولا يخرج منه إلا بيقين لا شك فيه.
والقول الآخر في المسألة معروف، وهو رواية صحيحة عن الإمام أحمد وبها قال إسحاق وابن المبارك وغيرهم واحتجوا بأدلة صحيحة منها « الْعَهْدُ الَّذِى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ »، وحديث « إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاَةِ ». ونسبه بعضهم للصحابة إجماعاً، وفي هذه النسبة نظر، لأن الأئمة القائلين بعدم التكفير أعلم بإجماع الصحابة من غيرهم، ولو كان في المسألة إجماع للصحابة ما تجرؤوا على مخالفته والقول بسواه.
ومعلوم ما يقع في نقل الإجماع من الاحتمال حتى قال الإمام أحمد (من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعلهم اختلفوا وهو لا يعلم)، وهو يشير هنا إلى احتمال أن يكون الناقل لا يعلم في المسالة خلافاً، وربما كان الخلاف قائماً دون أن يطلع عليه.
وحكاية الإجماع هي قول عبد الله بن شفيق: لم يكن أصحاب محمد -صلى عليه وسلم- يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
والخلاف في المسألة ذائع مشهور متداول منذ عهود السلف الأولى فلا سبيل إلى ردمه أو إلغائه.
والإمام الزهري هو من أوعية العلم بالسنة وأقوال الصحابة وهو مقدم على غيره في ذلك، ولم يكن يقول بكفر تارك الصلاة ولا بقتله، بل يرى تعزيره بالحبس أو غيره حتى يصلي. (انظر شرح السنة للبغوي 2/180).
وسواء قلنا بأن الأئمة المخالفين لحكاية الإجماع لم يروها ثابتة أو رأوه إجماعاً ظنياً، أو أنهم تأولوها على أن المقصود كفر دون كفر كما ورد في مسائل كثيرة.. فالمقصود أن الاختلاف مشهور عند السلف، وليس مثل هؤلاء الأئمة من يجهل إجماعا في مسألة عظيمة كهذه المسألة، وليس من الممكن نقل المسألة من كونها خلافية فروعية إلى كونها عقائدية أصولية.
وليس الموضع محل بحث وتفصيل للأقوال ولا سرد للأدلة، وهي تطلب في مواضعها للمتخصص، والمقصود هنا إثبات أن في المسألة خلافاً ظاهراً وأن جمهور الأئمة الأربعة المتبوعين لا يقولون بكفر تارك الصلاة كفراً أكبر مخرجاً من الملة، فمن ساق المقالة المذكورة في مطلع المقال أخذ بالقول الأشد، واختار التكفير، ولكن لم يكتف بذلك حتى أضاف إليه اختياراً آخر أشد.. هو ما سوف أعالجه في مقالة قادمة بإذن الله.
ومنهم من قال بخلاف ذلك، ودعا إلى المحافظة وقضاء ما فات، والتوبة إلى الله ..
ومنهم من اكتفى بدعوته إلى الاستقامة وكثرة النوافل دون أمره بالقضاء.
وذكرني سؤال أخي بكلام كنت أسمعه من بعض فضلاء الشيوخ بأن من ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها كافر خارج من الملة لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يرمى كالجيفة في فلاة من الأرض، وربما أمر بوضع التراب عليه حتى لا تأكله الكلاب!
وتنزيل حكم كهذا على شخص بعينه والحكم بكفره، وسياق لوازم الكفر هو قول مركب من مجموعة اختيارات، ولا أظنك ستجد هذا القول بهذه الصيغة منسوباً لصحابي جليل ولا لإمام من الأئمة السابقين، ولا أن أحداً من المسلمين عمل به، ممن يؤخذ بقوله أو يقتدى بفعله، فهذا القول أخذ (أولاً) بالقول الأشد، وهو أن تارك الصلاة كافر، وهو أحد قولي العلماء في المسألة.
ومذهب جمهور العلماء أن تارك الصلاة مرتكب كبيرة من الكبائر وآتٍ إثماً عظيماً وليس بكافر كفراً يخرج من الملة، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، وذكر النووي أن هذا مذهب الأكثرين من السلف والخلف، وله أدلة منها أحاديث الرجاء « مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ »، وهي في الصحاح والمسانيد مشهورة متداولة، ومنها قوله عليه السلام عن عبد الله بن جدعان أنه لا يقبل عمله « إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ »، ولم يذكر غير ذلك.
ويعتضد ذلك بأن الأصل بقاء المرء على ما هو عليه ولا يخرج منه إلا بيقين لا شك فيه.
والقول الآخر في المسألة معروف، وهو رواية صحيحة عن الإمام أحمد وبها قال إسحاق وابن المبارك وغيرهم واحتجوا بأدلة صحيحة منها « الْعَهْدُ الَّذِى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ »، وحديث « إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاَةِ ». ونسبه بعضهم للصحابة إجماعاً، وفي هذه النسبة نظر، لأن الأئمة القائلين بعدم التكفير أعلم بإجماع الصحابة من غيرهم، ولو كان في المسألة إجماع للصحابة ما تجرؤوا على مخالفته والقول بسواه.
ومعلوم ما يقع في نقل الإجماع من الاحتمال حتى قال الإمام أحمد (من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعلهم اختلفوا وهو لا يعلم)، وهو يشير هنا إلى احتمال أن يكون الناقل لا يعلم في المسالة خلافاً، وربما كان الخلاف قائماً دون أن يطلع عليه.
وحكاية الإجماع هي قول عبد الله بن شفيق: لم يكن أصحاب محمد -صلى عليه وسلم- يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
والخلاف في المسألة ذائع مشهور متداول منذ عهود السلف الأولى فلا سبيل إلى ردمه أو إلغائه.
والإمام الزهري هو من أوعية العلم بالسنة وأقوال الصحابة وهو مقدم على غيره في ذلك، ولم يكن يقول بكفر تارك الصلاة ولا بقتله، بل يرى تعزيره بالحبس أو غيره حتى يصلي. (انظر شرح السنة للبغوي 2/180).
وسواء قلنا بأن الأئمة المخالفين لحكاية الإجماع لم يروها ثابتة أو رأوه إجماعاً ظنياً، أو أنهم تأولوها على أن المقصود كفر دون كفر كما ورد في مسائل كثيرة.. فالمقصود أن الاختلاف مشهور عند السلف، وليس مثل هؤلاء الأئمة من يجهل إجماعا في مسألة عظيمة كهذه المسألة، وليس من الممكن نقل المسألة من كونها خلافية فروعية إلى كونها عقائدية أصولية.
وليس الموضع محل بحث وتفصيل للأقوال ولا سرد للأدلة، وهي تطلب في مواضعها للمتخصص، والمقصود هنا إثبات أن في المسألة خلافاً ظاهراً وأن جمهور الأئمة الأربعة المتبوعين لا يقولون بكفر تارك الصلاة كفراً أكبر مخرجاً من الملة، فمن ساق المقالة المذكورة في مطلع المقال أخذ بالقول الأشد، واختار التكفير، ولكن لم يكتف بذلك حتى أضاف إليه اختياراً آخر أشد.. هو ما سوف أعالجه في مقالة قادمة بإذن الله.
هل تارك الصلاة كافر (2)الاختيار
الأول الذي مال فيه المفتون بتكفير الأعيان إلى الأخذ بالأشدّ كان هو
ترجيح كفة القائلين بأن ترك الصلاة كفر أكبر، وهو قول لجماعة من السلف
والخلف، ولا تثريب على اختيار قول كهذا فهو قول معروف وإن كان خلاف مذهب
الجمهور، وقد وجدت أحدهم ينسب هذا القول "للوهابية"، وفاته أن الشيخ محمد
بن عبد الوهاب يقول كما في مجموع مؤلفاته (3/2/9) ومصادر عدّة موثوقة
"والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود، ولا نُكفِّر إلا
ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان".
ومقصوده بالتارك لها هنا: التارك لأركان الإسلام الأربعة: الصلاة والزكاة والصوم والحج!
ولعل هذا آخر ما استقر عليه قوله رحمه الله، وهو اختيار جميل أن يذهب الشيخ إلى الاقتصار في التكفير على ما أجمعت عليه المذاهب وهو الشهادتان.
بيد أن من أشرت إليه اختار الأشد في مسألة (ثانية) وهي:
ما معنى (التَّرْك)؟
أهو ترك صلاة واحدة مفروضة حتى يخرج وقتها؟ أم تركها وما يجمع إليها، كأن يترك الظهر والعصر، أو يترك المغرب والعشاء؟ وعليه فترك صلاة الفجر وحده حتى يخرج وقتها كفر لأنه لا يوجد ما يجمع معها.
أم الترك ترك صلاة يوم كامل؟ أم هو أن يصلي ويترك بحيث لا يكون محافظاً عليها، أم هو التَرك بالكلية، أي: الترك المطلق؟ وهي أقوال ذكرها ابن حزم وابن عبد البر وابن القيم في كتاب الصلاة، وغيرهم من أهل العلم، وجرى الخلف فيها.
وفي جامع الخلال (2/543) عن الإمام أحمد قال: "قد يحتمل أن يكون تاركاً أبداً" وعلى هذا فهو قول للإمام أحمد نفسه أن لا يكفر إلا بترك الصلاة بالكلية مطلقاً، وقوّى هذا القول المرداوي في الإنصاف (1/378) ومال إليه ابن القيم (ص60).
وقال ابن تيمية :"فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلماً، بل أكثر الناس يصلون تارة، ويتركون تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد .." وانظر: الفتاوى (7 / 578 – 614).
وهذا القول قوي، والملحوظ أنه داخل أقوال الأئمة القائلين بالتكفير أيضاً، ويحتمل أن يكون عند غيرهم، كما ذكره ابن رشد في البيان والتحصيل (16/393) وعزاه لأصبغ من المالكية.
وقد اختاره الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع (2/26).
وعليه فحتى مع القول بكفر تارك الصلاة، إلا أن تحديد مفهوم (الترك) هنا يختلف، وقد أشار ابن تيمية إلى أن يموت على هذا الإصرار، وهذا قد يوحي بأن المقصود هو حفز الناس على المحافظة عليها بأمر تحتمله النصوص، وأن الخطر أخروي يتعلق بلقاء العبد لربه وهو عنه معرض، كما قال سبحانه (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) (مريم:59-60)، وليس أمراً يتعلق بأحكام الدنيا.
فالأمر إذاً تنفير وتشنيع على تاركها، وليس سبباً للحكم الدنيوي على أفراد من الناس بسبب ما يظهر لنا من تقصيرهم في أدائها.
ولذا قال ابن قدامة في المغني: "إننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه، ولا منع هو ميراث مورّثه، ولا فرق بين زوجين لترك الصلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافراً لثبتت له هذه الأحكام، ولا نعلم بين المسلمين خلافاً في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتداً لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام ..."
ومع ثبوت الخلاف في قضاء ما فات، وقد رجح ابن تيمية وابن القيم أنه لا يقضي ما تركه عمداً، بخلاف مذهب الجمهور في وجوب القضاء، وقول الجمهور منصوص عن الإمام أحمد أيضاً، إلا أن المقصود حكايته رحمه الله لعدم حدوث التكفير الخاص في سائر الأعصار والأمصار وما يترتب عليه.
ولا شك أن الترك إذا فهم بمعنى عدم المحافظة فلا يسهل الحكم على أحد بعينه بأنه تارك، وبالتالي لا يحكم عليه بعينه وشخصه بالكفر ولا بلوازم الكفر، وسأزيد ذلك إيضاحا بإذن الله تعالى في الفقرة الثالثة، وهي الفرق بين الحكم العام، والحكم على المعين، أو الفرق بين الحكم على الفعل، والحكم على الفاعل والله أعلم.
هل تارك الصلاة كافر (3)حين يحكم أحد على (س) بأنه كافر لأنه لا يصلي فهو قد اختار القول الأشد في كفر تارك الصلاة، أولاً.
ثم اختار (ثانياً) القول الأشد في معنى (الترك)، وأنه يشمل ترك بعض الصلوات لأيام أو أسابيع أو لفترة من الزمن.
ثم اختار (ثالثاً) الحكم على شخص بعينه في الكفر، مع أن مذهب علماء الأمة وحفاظ السنة التفريق بين الحكم على الفعل، والحكم على الفاعل، فقد يصفون الفعل بأنه كفر ولا يصفون فاعله بأنه كافر، حتى تتوفر شروط وتزول موانع، وعندهم أن التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها (ابن تيمية 35 / 164).
ومع حكم جماعة من أئمة السلف بكفر مقالة الجهمية، إلا أنهم ما كانوا يُكفِّرون أعيانهم، والإمام أحمد نفسه لم يكن يُكفِّر أعيان الجهمية.
وابن تيمية يقول: "إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى" (الرد على البكري 2 / 494).
وكل من ثبت له عقد الإسلام في وقتٍ بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنباً أو تأول تأويلاً، فاختلفوا بعدُ في خروجه من الإسلام، لم يكن اختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها. (ابن عبد البر: التمهيد 16/315).
والحكم على المسلم بخروجه من الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما. (الشوكاني: السيل الجرار 4/578).
و "تكفير المعيَّن لا بد فيه من توفر شروط وانتفاء موانع، وقد يفعل المسلم عملاً كفرياً ولا يحكم عليه بالكفر نظراً لوجود مانع كالإكراه أو الجهل أو التأويل ونحو ذلك.
ولذا قرر أهل العلم أنه لا يحكم على مسلم معيَّن بالكفر لمجرد عمل وقع فيه حتى تقام عليه الحجة التي يكفر مخالفها، وأنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه، وأن الحكم على الفعل بأنه كفر لا يلزم منه كفر فاعله" (د. صالح الفوزان فتوى 106483).
الخلاصة إذاً: التفريق بين الحكم على الفعل بأنه (كفر)، وبين الحكم على الفاعل بأنه (كافر).
وهذه ملحوظات يحسن الوقوف عندها:
1. أن التكفير من أخطر المسائل وأعظمها شأناً فلا يقتحمه إلا المفتون الراسخون، أو القضاة الحاكمون، ونصوص الوعيد في تكفير المسلم متواترة في الصحيحين وغيرهما، وأن تخطئ في الاحتياط والمحافظة على الأصل واستصحابه خير من أن تخطئ في الجراءة على أعراض المسلمين وأديانهم.
2. أن مسألة التفريق بين العين والفعل، وإن كانت معلومة لدى طلبة العلم الشرعي إلا أن كثيراً من عوام الناس لا يفطنون لها، وربما نسبوا المتكلم إلى تكفير الأعيان وهو لم يُكفِّرهم، لكنه قال قولاً عاماً، فحملوه هم على التعيين، ومع توفر وسائل الإعلام الحديثة يجمُل أن يراعي القائل عقلية المخاطبين واستيعابهم وأن يخاطبهم بلغتهم التي يعرفون، وهي غير اللغة العلمية التي تصلح للخاصة.
3. أن التكفير الذي تبنى عليه نتيجة دنيوية كالقتل، أو التفريق بين الزوجين، أو نزع الولاية، أو المنع من الميراث، أو ما شاكل ذلك لا بد أن يكون صادراً من جهة قضائية تنظر للأمر من جميع جوانبه، وتتأكد من وجود الشروط وزوال الموانع، ووقوع الكفر الذي لا لبس فيه، فليست هذه التصرفات من شأن آحاد الناس.
أما مجرد الاعتقاد الشخصي بكفر إنسان ما لأنه اطلع من حاله على ذلك فمجاله أوسع، وقد يسمع بعضهم تصريحاً من إنسان بالكفر أو جحوداً أو إنكاراً لقطعي من الشريعة فيحكم عليه في نفسه دون أن يرتب عليه حكماً دنيوياً إلا في خاصة نفسه.
مع أن الإنسان يتغيَّر، وقد يقول القول فيرجع عنه، أو يفعل الفعل ثم يندم عليه ويتوب منه.
وما زال المسلمون يُصلُّون على من مات، ويقرؤون الدعاء النبوي له بالمغفرة والرحمة دون أن يستفصلوا أو يسألوا عن حاله.
و (رابعاً) فمع تكفير المعيَّن يقع من بعضهم سرد لوازم التفكير بأنه (لا يُغسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّى عليه ولا يُدفَن في مقابر المسلمين... إلخ).
مع عدم العمل بهذا، وقد يقوله بعضهم قصد الزجر والتحذير، لعل الأَوْلى في الدعوة التذكير بأن الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين.
وأن الفرد يُطالَب بها في كل وقت، وفي كل ظرف، المسافر والمقيم، الصحيح والمريض، إلا من سقط عنه التكليف، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: « صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ »
وأن المداومة على أداء الفرائض تطبع شخصية المؤمن بالانضباط والإحساس بالرضا وتمنحه جرعات من السعادة والأمل، ومع الاستمرار يترسخ الإيمان وتتعمق جذوره في القلب، وتكون اللحظات الروحانية التي يناجي فيها العبد ربه قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً محطة إشراق وتزود، ودفعة إيمان وسكينة، ووسيلة لمجانبة المعاصي والموبقات، وآثارها العميقة في النفس، وفي علاقة الفرد بغيره هي مجال لحديث طويل.
ثم التحذير من قطع حبلٍ واصلٍ برب العالمين، وهجر باب لمناجاته وسؤاله والتضرع إليه، وسياق ما ورد من النصوص في التحذير من ذلك، وفيها من الزجر والوعيد والتخويف ما ليس في كلام البشر، وقد ورد عن بعض الأئمة، وهو رواية عن أحمد، أن نصوص الوعيد تساق ولا تفسر ليكون أبلغ في وقعها وأثرها، والله أعلم.
ومقصوده بالتارك لها هنا: التارك لأركان الإسلام الأربعة: الصلاة والزكاة والصوم والحج!
ولعل هذا آخر ما استقر عليه قوله رحمه الله، وهو اختيار جميل أن يذهب الشيخ إلى الاقتصار في التكفير على ما أجمعت عليه المذاهب وهو الشهادتان.
بيد أن من أشرت إليه اختار الأشد في مسألة (ثانية) وهي:
ما معنى (التَّرْك)؟
أهو ترك صلاة واحدة مفروضة حتى يخرج وقتها؟ أم تركها وما يجمع إليها، كأن يترك الظهر والعصر، أو يترك المغرب والعشاء؟ وعليه فترك صلاة الفجر وحده حتى يخرج وقتها كفر لأنه لا يوجد ما يجمع معها.
أم الترك ترك صلاة يوم كامل؟ أم هو أن يصلي ويترك بحيث لا يكون محافظاً عليها، أم هو التَرك بالكلية، أي: الترك المطلق؟ وهي أقوال ذكرها ابن حزم وابن عبد البر وابن القيم في كتاب الصلاة، وغيرهم من أهل العلم، وجرى الخلف فيها.
وفي جامع الخلال (2/543) عن الإمام أحمد قال: "قد يحتمل أن يكون تاركاً أبداً" وعلى هذا فهو قول للإمام أحمد نفسه أن لا يكفر إلا بترك الصلاة بالكلية مطلقاً، وقوّى هذا القول المرداوي في الإنصاف (1/378) ومال إليه ابن القيم (ص60).
وقال ابن تيمية :"فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلماً، بل أكثر الناس يصلون تارة، ويتركون تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد .." وانظر: الفتاوى (7 / 578 – 614).
وهذا القول قوي، والملحوظ أنه داخل أقوال الأئمة القائلين بالتكفير أيضاً، ويحتمل أن يكون عند غيرهم، كما ذكره ابن رشد في البيان والتحصيل (16/393) وعزاه لأصبغ من المالكية.
وقد اختاره الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع (2/26).
وعليه فحتى مع القول بكفر تارك الصلاة، إلا أن تحديد مفهوم (الترك) هنا يختلف، وقد أشار ابن تيمية إلى أن يموت على هذا الإصرار، وهذا قد يوحي بأن المقصود هو حفز الناس على المحافظة عليها بأمر تحتمله النصوص، وأن الخطر أخروي يتعلق بلقاء العبد لربه وهو عنه معرض، كما قال سبحانه (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) (مريم:59-60)، وليس أمراً يتعلق بأحكام الدنيا.
فالأمر إذاً تنفير وتشنيع على تاركها، وليس سبباً للحكم الدنيوي على أفراد من الناس بسبب ما يظهر لنا من تقصيرهم في أدائها.
ولذا قال ابن قدامة في المغني: "إننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه، ولا منع هو ميراث مورّثه، ولا فرق بين زوجين لترك الصلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافراً لثبتت له هذه الأحكام، ولا نعلم بين المسلمين خلافاً في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتداً لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام ..."
ومع ثبوت الخلاف في قضاء ما فات، وقد رجح ابن تيمية وابن القيم أنه لا يقضي ما تركه عمداً، بخلاف مذهب الجمهور في وجوب القضاء، وقول الجمهور منصوص عن الإمام أحمد أيضاً، إلا أن المقصود حكايته رحمه الله لعدم حدوث التكفير الخاص في سائر الأعصار والأمصار وما يترتب عليه.
ولا شك أن الترك إذا فهم بمعنى عدم المحافظة فلا يسهل الحكم على أحد بعينه بأنه تارك، وبالتالي لا يحكم عليه بعينه وشخصه بالكفر ولا بلوازم الكفر، وسأزيد ذلك إيضاحا بإذن الله تعالى في الفقرة الثالثة، وهي الفرق بين الحكم العام، والحكم على المعين، أو الفرق بين الحكم على الفعل، والحكم على الفاعل والله أعلم.
هل تارك الصلاة كافر (3)حين يحكم أحد على (س) بأنه كافر لأنه لا يصلي فهو قد اختار القول الأشد في كفر تارك الصلاة، أولاً.
ثم اختار (ثانياً) القول الأشد في معنى (الترك)، وأنه يشمل ترك بعض الصلوات لأيام أو أسابيع أو لفترة من الزمن.
ثم اختار (ثالثاً) الحكم على شخص بعينه في الكفر، مع أن مذهب علماء الأمة وحفاظ السنة التفريق بين الحكم على الفعل، والحكم على الفاعل، فقد يصفون الفعل بأنه كفر ولا يصفون فاعله بأنه كافر، حتى تتوفر شروط وتزول موانع، وعندهم أن التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها (ابن تيمية 35 / 164).
ومع حكم جماعة من أئمة السلف بكفر مقالة الجهمية، إلا أنهم ما كانوا يُكفِّرون أعيانهم، والإمام أحمد نفسه لم يكن يُكفِّر أعيان الجهمية.
وابن تيمية يقول: "إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى" (الرد على البكري 2 / 494).
وكل من ثبت له عقد الإسلام في وقتٍ بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنباً أو تأول تأويلاً، فاختلفوا بعدُ في خروجه من الإسلام، لم يكن اختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها. (ابن عبد البر: التمهيد 16/315).
والحكم على المسلم بخروجه من الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما. (الشوكاني: السيل الجرار 4/578).
و "تكفير المعيَّن لا بد فيه من توفر شروط وانتفاء موانع، وقد يفعل المسلم عملاً كفرياً ولا يحكم عليه بالكفر نظراً لوجود مانع كالإكراه أو الجهل أو التأويل ونحو ذلك.
ولذا قرر أهل العلم أنه لا يحكم على مسلم معيَّن بالكفر لمجرد عمل وقع فيه حتى تقام عليه الحجة التي يكفر مخالفها، وأنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه، وأن الحكم على الفعل بأنه كفر لا يلزم منه كفر فاعله" (د. صالح الفوزان فتوى 106483).
الخلاصة إذاً: التفريق بين الحكم على الفعل بأنه (كفر)، وبين الحكم على الفاعل بأنه (كافر).
وهذه ملحوظات يحسن الوقوف عندها:
1. أن التكفير من أخطر المسائل وأعظمها شأناً فلا يقتحمه إلا المفتون الراسخون، أو القضاة الحاكمون، ونصوص الوعيد في تكفير المسلم متواترة في الصحيحين وغيرهما، وأن تخطئ في الاحتياط والمحافظة على الأصل واستصحابه خير من أن تخطئ في الجراءة على أعراض المسلمين وأديانهم.
2. أن مسألة التفريق بين العين والفعل، وإن كانت معلومة لدى طلبة العلم الشرعي إلا أن كثيراً من عوام الناس لا يفطنون لها، وربما نسبوا المتكلم إلى تكفير الأعيان وهو لم يُكفِّرهم، لكنه قال قولاً عاماً، فحملوه هم على التعيين، ومع توفر وسائل الإعلام الحديثة يجمُل أن يراعي القائل عقلية المخاطبين واستيعابهم وأن يخاطبهم بلغتهم التي يعرفون، وهي غير اللغة العلمية التي تصلح للخاصة.
3. أن التكفير الذي تبنى عليه نتيجة دنيوية كالقتل، أو التفريق بين الزوجين، أو نزع الولاية، أو المنع من الميراث، أو ما شاكل ذلك لا بد أن يكون صادراً من جهة قضائية تنظر للأمر من جميع جوانبه، وتتأكد من وجود الشروط وزوال الموانع، ووقوع الكفر الذي لا لبس فيه، فليست هذه التصرفات من شأن آحاد الناس.
أما مجرد الاعتقاد الشخصي بكفر إنسان ما لأنه اطلع من حاله على ذلك فمجاله أوسع، وقد يسمع بعضهم تصريحاً من إنسان بالكفر أو جحوداً أو إنكاراً لقطعي من الشريعة فيحكم عليه في نفسه دون أن يرتب عليه حكماً دنيوياً إلا في خاصة نفسه.
مع أن الإنسان يتغيَّر، وقد يقول القول فيرجع عنه، أو يفعل الفعل ثم يندم عليه ويتوب منه.
وما زال المسلمون يُصلُّون على من مات، ويقرؤون الدعاء النبوي له بالمغفرة والرحمة دون أن يستفصلوا أو يسألوا عن حاله.
و (رابعاً) فمع تكفير المعيَّن يقع من بعضهم سرد لوازم التفكير بأنه (لا يُغسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّى عليه ولا يُدفَن في مقابر المسلمين... إلخ).
مع عدم العمل بهذا، وقد يقوله بعضهم قصد الزجر والتحذير، لعل الأَوْلى في الدعوة التذكير بأن الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين.
وأن الفرد يُطالَب بها في كل وقت، وفي كل ظرف، المسافر والمقيم، الصحيح والمريض، إلا من سقط عنه التكليف، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: « صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ »
وأن المداومة على أداء الفرائض تطبع شخصية المؤمن بالانضباط والإحساس بالرضا وتمنحه جرعات من السعادة والأمل، ومع الاستمرار يترسخ الإيمان وتتعمق جذوره في القلب، وتكون اللحظات الروحانية التي يناجي فيها العبد ربه قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً محطة إشراق وتزود، ودفعة إيمان وسكينة، ووسيلة لمجانبة المعاصي والموبقات، وآثارها العميقة في النفس، وفي علاقة الفرد بغيره هي مجال لحديث طويل.
ثم التحذير من قطع حبلٍ واصلٍ برب العالمين، وهجر باب لمناجاته وسؤاله والتضرع إليه، وسياق ما ورد من النصوص في التحذير من ذلك، وفيها من الزجر والوعيد والتخويف ما ليس في كلام البشر، وقد ورد عن بعض الأئمة، وهو رواية عن أحمد، أن نصوص الوعيد تساق ولا تفسر ليكون أبلغ في وقعها وأثرها، والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..