أسئلة كثيرة يطرحها المشهد الأوروبي إذن، فيما بلدانه، وفقاً لدراسة تمّ إعدادها من قبل "مركز بحوث عقود الأجيال" في جامعة فريبيرغ بتكليف من البنك المركزي الأوروبي، تواجه، إلى جانب أزمة الديون السيادية، أزمات اجتماعيّة، ليس أقلّها بلوغ مستحقات المعاشات على الحكومات في 19 من دول الاتّحاد الأوروبي 5 أضعاف ديونها مجتمعة. وقد جاء في الدراسة أن الأموال المستحقَّة على هذه الدول لأصحاب المعاشات تبلغ نحو 39.3 تريليون دولار عند بلوغهم سنّ التقاعد. علماً بأن نسبة الذين تجاوزت أعمارهم 60 سنة هي الأعلى في أوروبا مقارنةً بمناطق أخرى في العالم، وأنه من المتوقّع أن ترتفع هذه النسبة من 22% في 2009 إلى 35% بحلول2050( من مقال لمايك ميش شيلدوك Mike Mish Shedlock بعنوان "Europe’s $39 Trillion Pension Time Bomb Explodes in 2012" نشر في 11 /1 /2012 على موقع globaleconomicanalysis).
في خلفيات الحلول الممكنة
ثمة حلول عدّة ممكنة على المستوى المالي، كالاستدانة من خارج أوروبا أو اتّخاذ البنك المركزي الأوروبي تدابير جديدة أو عودة الدول إلى عملاتها الوطنيّة، حتّى ولو كان مثل هذا الأمر مكلفاً جداً. فخروج اليونان مثلاً من منطقة اليورو "سيكلّفها 45% من ناتجها القومي الخام. كذلك خروج فرنسا أو ألمانيا أو أيّ بلد أوروبي آخر ستكون تكلفته غير بعيدة عن هذه النسبة" (عمر محي الدين، مصير العملة الأوروبيّة الموحّدة رهن الاصلاحات ووحدة القرار الاقتصادي، مجلة المشاهد، 5 /5 /2012).
لكن السؤال المطروح هو ما إذا كان الحلّ المالي قادراً حقاً على امتصاص الأزمة، ولاسيما مع تشابك الجوانب السياسيّة والقانونيّة والاقتصاديّة التي حدّدت هذه الأزمة أساساً؛ إذ إن تضارب السياسات وارتباطه بالمصالح الخاصة، تقابله بحسب بعض المحلّلين الاقتصاديّين اقتصادات قصيرة النظر في أوروبا. ففي مقاله "الاستيلاء على البنك المركزي الأوروبي"، نُشر على "موقع الخليج في الإعلام(مركز الخليج للأبحاث)"، في 13 فبراير الفائت، ينتقد جوزيف ستيجليتز المناقشة الدائرة حول إعادة هيكلة الديون السيادية اليونانية، والتي تتجلّى بإصرار ألمانيا على إعادة الهيكلة العميقة - "تقليم" أصول الدين بما لا يقلّ عن 50 في المائة لحاملي السندات - وإصرار البنك المركزي الأوروبي على أن تكون أيّ إعادة لهيكلة الديون طوعية. فالبنك المركزي الأوروبي يريد أن تتكبّد البنوك خسارة تعادل 50 في المائة ممّا تحتفظ به من سندات، ومن دون اضطرار أيّ جهة إلى سداد "فوائد" التأمين. وينهي كلامه بالقول: "ولكن لا ينبغي لسلوك البنك المركزي الأوروبي أن يدهشنا: فكما رأينا في أماكن أخرى، تميل المؤسّسات غير الخاضعة للمساءلة الديمقراطية إلى الوقوع في أسر المصالح الخاصة. وكان هذا صادقاً حتى قبل العام 2008؛ ومن المؤسف بالنسبة إلى أوروبا - والاقتصاد العالمي - أن المشكلة لم تعالج بالشكل اللائق الوافي منذ ذلك الوقت".
أما رئيس الوزراء الفرنسي السابق ميشيل روكار، في كتابه" نقاطي على الحروف موضوعات حول الانتخابات الرئاسية والأزمة المالية" (Mes points sur les i - Propos sur la présidentielle et la crise) الصادر حديثاً عن دار أوديل جاكوب الفرنسيّة، فيركّز على أن الأزمة المالية عميقة وأن النموّ سيكون بطيئاً، وبالتالي فإن اليمين الفرنسي يضلّل المواطنين عندما يفهمهم أن الخروج من الأزمة يتمّ من خلال نموّ دينامكي، في حين أن هذا الادّعاء غير واقعي. صحيح أنه ينبغي على الاشتراكيّين برأيه العمل على أن يكون هناك نموّ دائم لا يمكن من دونه الحدّ من عدم المساواة والبطالة، لكن هذا النموّ سيكون ضعيفاً ولا يتناسب مع الذين يراهنون على ارتفاع الناتج الإجمالي المحلّي من 2 إلى 2.5 % سنوياً بدءاً من العام 2015 "؛ فالأزمة بحسب روكار ناجمة عن التنافس والمقامرة المالية المالية.
هذا، في حين كتب الاقتصادي الأميركي بول كروغمان في صحيفة "نيويوك تايمز" الأميركية بتاريخ 27 /2 /2012، وتحت عنوان "ممَّ تعاني أوروبا؟"(What Ails Europe)، كتب "أن غالبيّة ما يدركه الناس حول الأزمة الأوروبيّة مليء بالروايات الخاطئة؛ إذ يزعم الخطاب الجمهوري إن معاناة أوروبا عائدة إلى المساعدات الجمّة التي قدّمتها إلى الفقراء والأقل حظّاً، وأننا نشهد الأنفاس الأخيرة لدولة الرعاية. في حين يردّ الخطاب الألماني السبب إلى اللامسؤولية المالية. وإذ يبيّن كروغمان خطأ هذين الادعائين، ينتهي إلى القول إن الحقيقة تكمن في أن الأزمة نقدية، وأن وضع عملة موحّدة من دون وجود المؤسّسات المناسبة لسير عملها شكّل السبب الأساسي في الانهيار الكبير.
صراعات متنوّعة داخل الاتّحاد
تشير المواقف البريطانية والألمانية والفرنسيّة إلى انشطار الاتّحاد عامودياً من خلال اتجاه بلدانه ذات النفوذ السياسي والاقتصادي، ولاسيما ألمانيا وفرنسا لفرض نفوذهما على سائر بلدان الاتّحاد من جهة، ومن خلال اتجاه البلدان الأكثر ثراءً فيه لإخضاع الأعضاء الأكثر فقراً واستغلالهم بواسطة آلية الدين من جهة ثانية، ومن ثمّ حشر الدول التي تواجه صعوبة في إدارة عجزها العام وديونها السيادية تحت الوصاية الأوروبية المباشرة، أو مغادرة منطقة اليورو. فيما يعاني الاتّحاد أيضاً من انشطار أفقي يثمثّل بتصاعد المشاعر الوطنيّة، والمتطرّفة أحياناً، ليس في اليونان فحسب، بل في إسبانيا وإيطاليا وبعض بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، حتى وإن أخذت هذه الصورة أحياناً، وكما هو الحال في بعض بلدان أوروبا الوسطى تحديداً، شكل خيبة أمل من السلوك العام للاتّحاد. ففي حوار بعنوان "أوروبا الوسطى: خيبة أمل كبيرة جداً من الاتحاد الأوروبي" أجراه الصحافي "كانتان جيرار" Quentin Girard مع الباحثة الفرنسيّة "كاترين بيرّون"Catherine Perron، ونُشر في جريدة "ليبراسيون" الفرنسيّة في 18/1/2012، أشارت الباحثة إلى أن ميل المواطنين إلى رفض الليبراليّة الجديدة والاتّحاد الأوروبي ليس مؤكداً بالضرورة في بلدان أوروبا الوسطى التي انضمّت إلى الاتّحاد، وذلك على الرغم من الشعور السائد في هذه البلدان بأنها فقدت سلطتها السياسية. فالليبراليّون حتى العظم في بلد مثل جمهورية تشيكيا يناصرون الرئيس فاتسلاف كلاوس الذي يعتبر من المشكّكين في أوروبا. وهو ما يؤكّد وجود شبكة متداخلة من العوامل المحدّدة للانقسامات في هذه البلدان.
أما الخوف من الجهة التي قد تقود الاتّحاد، فيشكّل بدوره أحد أبرز العوامل المولّدة لعدم الثقة والتوجّس حيال مصير أوروبا. فالخوف من الولايات المتّحدة شكّل سبب حذر كلّ من ألمانيا وفرنسا حيال بريطانيا، خصوصاً بعد رفض الأخيرة توقيع أيّ اتفاقية لا تحمي مصالحها، مثل أهمية السوق الموحدة والخدمات المالية. وعدم الثقة هذه ببريطانيا ليست ناتجة عن "انعزالها" الجغرافي، بوصفها جزيرة تفصلها المياه عن القارة الأوروبية الأم، أو عن حرصها على سيادتها القومية فحسب، بل عن ارتباطها بالولايات المتّحدة الأميركية، والذي قد يسمح للأخيرة بالتعدّي على استقلاليّة أوروبا.
فهل تستدعي أزمة الاتّحاد الأوروبي، مزيداً من الانفتاح والتعاون مع مجموعة الدول الصاعدة والواعدة، مثل الصين وروسيا والبرازيل والهند، أو الانجرار نحو مزيد من الصراع الاقتصادي والعسكري ردّاً لاعتبار مجد الدول الأوروبيّة الممسكة بزمام هذا الاتّحاد؟ وما هي انعكاسات هذه المتغيّرات على استقرار العالم العربي أمنيّاً واقتصاديّاً؟ لعلّ أحد أطراف الجواب جاءت من الخبير الاقتصادي الّلبناني الدكتور كمال حمدان، الذي لخّص كلامه لنشرتنا "افق" بالقول إن "مصلحة أوروبا تقضي بالدرجة الأولى بتصحيح علاقتها بالجوار، أي بدول البحر الأبيض المتوسّط، ولاسيّما الدول العربيّة، وأن تضع نفسها في موقعِ التفاعل الإيجابي مع التحوّلات المتأتية من الربيع العربي على قاعدة التنمية المتبادلة والمصالح المشتركة،والتي من شأنها أن تحدّ من خطر الهجرات الوافدة من جنوب المتوسط في اتّجاه شماله. كما أن من مصلحتها أن توسّع وأن تنوّع شبكة علاقاتها الدوليّة، وكذلك شبكة علاقاتها الاقتصاديّة الدوليّة مع البلدان الصاعدة، ولاسيما كتلة البريك التي تُنبئ بحصول تعديلات مهمّة في لوحة توازنات القوى الاقتصاديّة على المستوى الكوني. وفي هذا الإطار(أي العربي) على أوروبا أن تمارس دوراً أكثر تقدّماً واستقلالية عن الولايات المتّحدة بالنسبة إلى وجوب إيجاد حلّ للصراع العربي الإسرائيلي على أساس القرارات الدوليّة، بما يحقّق للشعب الفلسطيني دولته المستقلّة.
رفيف رضا صيداوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..