أحتار
أحيانا في فهم معني أن المصريين هم أقدم شعوب الأرض, وأسأل نفسي: هل
هذا القدم عراقة أم تقادم؟ هل هي جذور إنسانية وحضارية حية مضروبة في
أعماقنا أم مقابر لأجداد كانوا متقدمين مثل أهل قارة أطلانتس الأسطورية
الغامضة, وهي قارة قيل إنها غرقت جراء زلزال هائل دمرها عن آخرها في عصر
ماقبل كتابة
التاريخ؟.. والفارق هائل بين العراقة والتقادم.. بين جذور
حضارة وأضرحة مقابر, فالأولي أصالة وتقاليد وقيم متواصلة, والثانية موت
ودعاء بالرحمة مع ذر ف نهر من الدموع علي أطلالها, الأولي جينات وصفات
وراثية تنتقل من جيل إلي جيل والثانية رفات وتراب وعظام وديدان تعيش
عليها.. فأين نحن؟!
أشعر
دوما بأننا حالة وسطي بين العراقة والتقادم, بين الأصالة والمقابر,
نقتفي أثر المثل الشائع: أننا نرقص علي السلم بلاجمهور.. لا أحد فوقنا
يرانا ولا أحد تحتنا يصفق لنا, أو مثل قطعة أرض معلقة في الفراغ بين نجوم
لامعة وشموس متوهجة, نود أن نمتلك نورها أو دفئها لكن الفراغ لا يسمح
لنا بالحركة, والفراغ هو العدم.. ولم يبق لنا إلا بعض وقت ونختفي في
حفرة سوداء كما اختفي أهل أطلانتس في البحر!لكن أهل أطلانتس اختفوا عقابا
من السماء علي ما قترفوه من مهازل وخطايا, بعد أن اغتروا واغترفوا
وأحسوا بأنهم امتلكوا مصادر الحياة, وجنوا كل مناحي التقدم والقوة
المادية والازدهار, بينما نحن علي العكس تماما تمضي بنا الأيام علي باب
الله لانبحث في سر الحياة ولانريد, فلم نرد وكتب الموت وعذاب القبر
وشرائط الشيوخ والدعاة تغنينا عن إعمال عقولنا في التفكير العلمي
المنظم؟! وعقولنا أصلا من فرط الجري وراء لقمة العيش المراوغة لم تعد
تتحمل هذا النوع من التفكير, والأهم أننا لانعرف كيف نتقدم إلي الأمام,
أو علي الأصح نتفنن في كيفية تثبيت أنفسنا بمسامير غليظة من النظم البالية
حتي نستقر في أماكننا إلي نهاية العالم مثل الصخور وعلامات الطريق..
نمارس الشيء الوحيد الذي نتقنه وهو صناعة الفراعين!
ويبدو
أن هذه الصناعة هي السبب الرئيسي فيما نحن فيه, أي الجري وقوفا أو
السباحة في رمال ناعمة, فالجماعة الإنسانية تتقدم بالمشاركة والعمل
الجماعي المنظم والعدل والمشورة, لكننا لانعرف إلا الفرد الفذ والتفكير
الأحادي والقرارات القاطعة, لافرق بين إدارة مرفق المجاري وشركة
النظافة, بين شركة اقتصادية عملاقة وناد رياضي, بين رئيس قسم ورئيس
جامعة, بين سائق الوزير وأمير الجماعات المتطرفة.. الخ.
وقد شاء حظي أن أتابع صناعة فراعين في مواقع كثيرة!
والفرعون
سواء كان صغيرا أو كبيرا لايولد فرعونا, ولا يحتل منصبه وهو يمارس دور
الفرعون, وإنما تصنعه شلة المقربين منه, البطانة التي تلتف حوله وتعبث
بـ حلم السلطة المطلقة النائم داخله, فتوقظه وتغذيه حتي يتوحش!
وقد
رأيت ذلك في مكاتب محافظين ووزراء ومديرين ورؤساء مجالس إدارات واصحاب عمل
خاص ورؤساء أقسام وفنانين وزوجات ناس مهمين, باختصار هي حالة منتشرة
كالوباء مع كل صاحب سلطة!
وذات
مرة تابعت مسئولا منذ لحظة تعيينه في منصبه إلي أن صار فرعونا يأمر
فيطاع, يشخط فترتج الأرض تحت أقدام مرءوسيه, تنفرج أساريره فتتهلل
وجوههم من البشر ويغرق الجميع في الضحك وهم لايدرون علي ماذا يضحكون!
وشاء
حظي أن اعرف هذا المسئول, وهو موظف صغير مثقف ومجتهد يتألم من سطوة
الرجل الأول, يصب نيران غضبه علي الشلة المحيطة به ونفاقها الرهيب
وامتيازاتها التي بلا حدود, وينتقد العلاقات المبنية علي الخوف والفزع
والابتزاز واستسلام الجميع للأمر الواقع المائل كما لو أنه قدر لامفر
منه!
ومرت
السنون ودارت عجلة الحظ ووقفت تحت قدميه, فتبوأ المنصب المرموق, فإذا
به في أقل من عامين يتحول إلي نفس الرجل الأول الذي كان يكرهه.. فسألته
في لحظة صفاء وصداقة ماذا حدث؟!
قال:
هذا نظام أقوي من أي رغبات شخصية أو غير شخصية.. نظام غير مكتوب لكنه
مسيطر وفعال, من أول لحظة دخلت مكتبي وكل الأشياء مجابة, حتي لو كانت
مخالفة للوائح والقوانين, فكل المديرين تقريبا يجندون أنفسهم لتبرير أي
طلبات أو تقنين أي أفكار تطرأ علي بالي قبل أن يقوموا بمهام أعمالهم..
بمجرد أن أقف يقفون جميعا, أمشي يمشون, أجلس يجلسون.. أحببت هذه
السلطة.. ثم عشقتها.. وأخيرا أدمنتها.. شيء لا أستطيع أن أصفه..
وأنت تمارس السطوة, يخيل لك أن صفة من صفات الله قد انتقلت إليك!
صعقت من إجابة الصديق الذي مكث في منصبه الرفيع سبع سنوات, ثم غادره إلي عمل خاص!
وصناعة
الفراعين هي أكبر عائق امام مصر, لأنها تختزل ثروة مصر الأساسية وهي
الثروة البشرية المكونة من عشرات الملايين إلي بضعة آلاف من الأشخاص, هم
أصحاب التكليف!
وهذا مايحتاج منا إلي إصلاح حقيقي!
بقلم : نبيــل عمــر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..