الخميس، 31 مايو 2012

صناعة الفراعين‏!!‏

أحتار أحيانا في فهم معني أن المصريين هم أقدم شعوب الأرض‏,‏ وأسأل نفسي‏:‏ هل هذا القدم عراقة أم تقادم؟ هل هي جذور إنسانية وحضارية حية مضروبة في أعماقنا أم مقابر لأجداد كانوا متقدمين مثل أهل قارة أطلانتس الأسطورية الغامضة‏,‏ وهي قارة قيل إنها غرقت جراء زلزال هائل دمرها عن آخرها في عصر ماقبل كتابة
التاريخ؟‏..‏ والفارق هائل بين العراقة والتقادم‏..‏ بين جذور حضارة وأضرحة مقابر‏,‏ فالأولي أصالة وتقاليد وقيم متواصلة‏,‏ والثانية موت ودعاء بالرحمة مع ذر ف نهر من الدموع علي أطلالها‏,‏ الأولي جينات وصفات وراثية تنتقل من جيل إلي جيل والثانية رفات وتراب وعظام وديدان تعيش عليها‏..‏ فأين نحن؟‏!‏

أشعر دوما بأننا حالة وسطي بين العراقة والتقادم‏,‏ بين الأصالة والمقابر‏,‏ نقتفي أثر المثل الشائع‏:‏ أننا نرقص علي السلم بلاجمهور‏..‏ لا أحد فوقنا يرانا ولا أحد تحتنا يصفق لنا‏,‏ أو مثل قطعة أرض معلقة في الفراغ بين نجوم لامعة وشموس متوهجة‏,‏ نود أن نمتلك نورها أو دفئها لكن الفراغ لا يسمح لنا بالحركة‏,‏ والفراغ هو العدم‏..‏ ولم يبق لنا إلا بعض وقت ونختفي في حفرة سوداء كما اختفي أهل أطلانتس في البحر‏!‏لكن أهل أطلانتس اختفوا عقابا من السماء علي ما قترفوه من مهازل وخطايا‏,‏ بعد أن اغتروا واغترفوا وأحسوا بأنهم امتلكوا مصادر الحياة‏,‏ وجنوا كل مناحي التقدم والقوة المادية والازدهار‏,‏ بينما نحن علي العكس تماما تمضي بنا الأيام علي باب الله لانبحث في سر الحياة ولانريد‏,‏ فلم نرد وكتب الموت وعذاب القبر وشرائط الشيوخ والدعاة تغنينا عن إعمال عقولنا في التفكير العلمي المنظم؟‏!‏ وعقولنا أصلا من فرط الجري وراء لقمة العيش المراوغة لم تعد تتحمل هذا النوع من التفكير‏,‏ والأهم أننا لانعرف كيف نتقدم إلي الأمام‏,‏ أو علي الأصح نتفنن في كيفية تثبيت أنفسنا بمسامير غليظة من النظم البالية حتي نستقر في أماكننا إلي نهاية العالم مثل الصخور وعلامات الطريق‏..‏ نمارس الشيء الوحيد الذي نتقنه وهو صناعة الفراعين‏!‏

ويبدو أن هذه الصناعة هي السبب الرئيسي فيما نحن فيه‏,‏ أي الجري وقوفا أو السباحة في رمال ناعمة‏,‏ فالجماعة الإنسانية تتقدم بالمشاركة والعمل الجماعي المنظم والعدل والمشورة‏,‏ لكننا لانعرف إلا الفرد الفذ والتفكير الأحادي والقرارات القاطعة‏,‏ لافرق بين إدارة مرفق المجاري وشركة النظافة‏,‏ بين شركة اقتصادية عملاقة وناد رياضي‏,‏ بين رئيس قسم ورئيس جامعة‏,‏ بين سائق الوزير وأمير الجماعات المتطرفة‏..‏ الخ‏.‏

وقد شاء حظي أن أتابع صناعة فراعين في مواقع كثيرة‏!‏
والفرعون سواء كان صغيرا أو كبيرا لايولد فرعونا‏,‏ ولا يحتل منصبه وهو يمارس دور الفرعون‏,‏ وإنما تصنعه شلة المقربين منه‏,‏ البطانة التي تلتف حوله وتعبث بـ حلم السلطة المطلقة النائم داخله‏,‏ فتوقظه وتغذيه حتي يتوحش‏!‏

وقد رأيت ذلك في مكاتب محافظين ووزراء ومديرين ورؤساء مجالس إدارات واصحاب عمل خاص ورؤساء أقسام وفنانين وزوجات ناس مهمين‏,‏ باختصار هي حالة منتشرة كالوباء مع كل صاحب سلطة‏!‏

وذات مرة تابعت مسئولا منذ لحظة تعيينه في منصبه إلي أن صار فرعونا يأمر فيطاع‏,‏ يشخط فترتج الأرض تحت أقدام مرءوسيه‏,‏ تنفرج أساريره فتتهلل وجوههم من البشر ويغرق الجميع في الضحك وهم لايدرون علي ماذا يضحكون‏!‏

وشاء حظي أن اعرف هذا المسئول‏,‏ وهو موظف صغير مثقف ومجتهد يتألم من سطوة الرجل الأول‏,‏ يصب نيران غضبه علي الشلة المحيطة به ونفاقها الرهيب وامتيازاتها التي بلا حدود‏,‏ وينتقد العلاقات المبنية علي الخوف والفزع والابتزاز واستسلام الجميع للأمر الواقع المائل كما لو أنه قدر لامفر منه‏!‏

ومرت السنون ودارت عجلة الحظ ووقفت تحت قدميه‏,‏ فتبوأ المنصب المرموق‏,‏ فإذا به في أقل من عامين يتحول إلي نفس الرجل الأول الذي كان يكرهه‏..‏ فسألته في لحظة صفاء وصداقة ماذا حدث؟‏!‏

قال‏:‏ هذا نظام أقوي من أي رغبات شخصية أو غير شخصية‏..‏ نظام غير مكتوب لكنه مسيطر وفعال‏,‏ من أول لحظة دخلت مكتبي وكل الأشياء مجابة‏,‏ حتي لو كانت مخالفة للوائح والقوانين‏,‏ فكل المديرين تقريبا يجندون أنفسهم لتبرير أي طلبات أو تقنين أي أفكار تطرأ علي بالي قبل أن يقوموا بمهام أعمالهم‏..‏ بمجرد أن أقف يقفون جميعا‏,‏ أمشي يمشون‏,‏ أجلس يجلسون‏..‏ أحببت هذه السلطة‏..‏ ثم عشقتها‏..‏ وأخيرا أدمنتها‏..‏ شيء لا أستطيع أن أصفه‏..‏ وأنت تمارس السطوة‏,‏ يخيل لك أن صفة من صفات الله قد انتقلت إليك‏!‏

صعقت من إجابة الصديق الذي مكث في منصبه الرفيع سبع سنوات‏,‏ ثم غادره إلي عمل خاص‏!‏

وصناعة الفراعين هي أكبر عائق امام مصر‏,‏ لأنها تختزل ثروة مصر الأساسية وهي الثروة البشرية المكونة من عشرات الملايين إلي بضعة آلاف من الأشخاص‏,‏ هم أصحاب التكليف‏!‏
وهذا مايحتاج منا إلي إصلاح حقيقي‏!‏
بقلم‏ : ‏نبيــل عمــر‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..