كتب
الشيخ الفاضل هاني فقيه وفقه الله (قراءة
في أدلة قَتْل المُبتدِع) في مجموعة عبدالعزيز قاسم البريدية. وتحدث
فيها عن رأي شيخ الإسلام و أدلته، و خالف
الشيخ في رأيه في المسألة، وبداية فقد
قرَّر شيخ الإسلام أن المسألة مختلف فيها،
و فيها روايتين للإمام أحمد رحمه الله.
و
الذي دعاني أو حفزني لمراجعة كلام
شيخ
الإسلام ومن ثَم التعقيب؛ هو ما فهمته من
مقال الشيخ هاني فقيه أن شيخ الإسلام
استدل بفعل الحجاج وخالد القسري!
فاستغربت
ذلك واستعظمته؛ لأن ما ذاك بمنهج له رحمه
الله، فلم يكن يستدل بفعل الأمراء والملوك
أو كذلك يَتكلفُ الاستدلال لهم، وإنما
بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
وحين
رجعت لنص كلامه (٢٨
/
٤٩٩-٥٠٠)
كان
الأمر كما توقعت، فلم يَرِد ذكر الحجاج
أو خالد القسري مطلقا في المسألة!
فاتهمت
فهمي، إذ إن مراد الفاضل هاني فقيه هو:
أن
هذا مما يُستدل به عموماً في المسألة لا
أن هذا مما استدل به شيخ الإسلام بن تيمية
رحمه الله؛ وذلك لأن الاسمين لم يَرِدا
مطلقا في حديث الشيخ لا بمدح أو بقدح.
فمن
فَهِم فَهمي فعليه أن يصحح ما فهم.
**
لابن
القيم رحمه الله نقل لطيف عن شيخه شيخ
الإسلام بن تيمية في إعلام الموقعين حول
هذه المسألة أعني؛ أثر الحاكم أو اختياره
على التشريع والفقه فيقول:
"وكذلك
قول
بعضهم
في فتاويه
يرجع في
ذلك إلى
رأي
الحاكم
فيا
سبحان
الله
والله
لو كان
الحاكم
شريحا
وأشباهه
لما كان
مرد
أحكام
الله
ورسوله
إلى رأيه
فضلا عن
حكام
زماننا
فالله
المستعان!"
ولا
شكَّ أن مثل هذا النقل وغيره ينكد عيش
منتهكي الحرمات بحجة أن فيها خلافاً (ما!)
و
أن حكم الحاكم يرفع ذلك الخلاف المزعوم،
ولكن هذه قضية أخرى.
وإني
أسأل الشيخ الفاضل..
من
مِن العلماء استدل لهذه المسألة بفعل
(الناصبي)
خالد
القسري، أو الظالم الحجاج الذي سجد
الصالحون شكرا لله على موته، والذي اشتكى
ظلمه المُفتخر بخدمة سيد الوَرى أنس بن
مالك رضي الله عنه حين كَتب لعبدالملك بن
مروان "من
خادم رسول الله أنس بن مالك إلى عبدالملك
بن مروان"..
فمَن
مِن العلماء يستدل بصنيع هؤلاء؟ ومَن مِن
العلماء يعتبر فعلهم دليلا أو حجة يُستدل
بها؟
لقد
استدرك الشيخ هاني على نفسه فقال:
"فإن
قال قائل قد ذكرتْ بعض المصادر تأييد بعض
العلماء لهم.”
فإن
كان لا يوجد من استدل بهذا الدليل فلِمَ
افترضه الشيخ هاني وردَّ عليه؟
وأما
ثناء العلماء وتأييدهم، فإن العلماء
يبينون الحق، ويبينون ما يجب على الحاكم
فعله فإن فعله أثنوا على فعله، أما أن
يُعد صنيع الظالمين تشريعا فهذا لم يتحصل
لعدول الأمة و خيارها فكيف يحصل لهؤلاء؟
وأنزه أولئك الخيار العدول من أن يستدلوا
بصنيع الظالمين إلا إذا اعتبر البعض أن
ضربهم المثال بعمل أولئك هو استدلال به
فتلك مسألة أخرى.
**
مما
استدل به الشيخ هاني فقيه على عدم قتل
المبتدع الداعي لبدعته، مسألة المقابلة
و المماثلة أو المجازاة بالمثل، وهي أن
الآخرين قد يفعلون ذات الشيء معنا، لذا
فينبغي ألا نفعله أو نقرره، وهذه المسألة
بالذات كَثُر طرحها هذه الأيام..
لا
نمنع الناس حتى لا يمنعوننا، و لا نحتسب
حتى لا يُحتسب علينا، وأصبح يُبَرَرُ
للبدعة ويُؤمر بتمريرها و السكوت عنها
حتى لا نُسقى من ذات الكأس!
يقول
الشيخ هاني:
"فهذه
القيود لم تمنع من استغلال أصل هذه المقولة
لأغراض سيئة وسياساتٍ انتهازية ضد كثير
من العلماء الأبرياء عبر التاريخ !!
بل
إن الإمام ابن تيميّة نفسه كان بعض خصومه
المتهورين قد أفتى بقتله استناداً للحجّة
ذاتها، وبأنه داعية للبدع والضلالات حسب
زعمهم، فهل يُقبل هذا ؟ بالطبع لا.”
فهل
هذا المَسلك من مسالك الاستدلال؟
الحلال
يجب أن يبقى حلالا..
و
الحرام يجب أن يبقى حراماً، و الطريق إلى
الله مليء بالمحن و البلايا، و لا يصح بأي
حال من الأحوال أن نسكت عن منكر حتى لا
تتخذ ذات الأداة ضدنا، فإن أُبتلي الصالحون
المصلحون فأوذوا فهذا هو البلاء، و الظالم
لن يتنظر تبريرا ليبرر ظلمه.
ولو
قلنا بهذا المَسلك وفتحنا هذا الباب فيجب
أن نلغي شرائع كثيرة، يجب أن نلغي الجهاد
حتى لا نبرر للعدو غزونا.
ويجب
أن نلغي حدَّ الردة حتى لا تقتل الملل و
النحل من ارتد عن ضلالها ودخل في دين
الإسلام.
ومما
قيل قريبا:
يجب
أن نصمت عن المطالبة بالقصاص من منتقص
جناب المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى لا
يتخذ ذلك التحريض -هكذا!-
ضدنا
في يوم من الأيام!
لذا
يجب أن ننظر لعين المسألة بعيداً عن هذا
الاعتبار الفاسد.
**
قال
الشيخ الفاضل:
"أيضاً
من أدلتهم على قتل المبتدع قول النبيّ
صلى الله عليه و
سلم في الخوارج:
(( أينما
لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً
لمن قتلهم ))،
وقوله صلى الله عليه و سلم:
(( لإن
أدركتهم لأقتلنَّهم قتل عادٍ ))،
أخرجه البخاري ومسلم.”
قال
بعد ذلك:
"لكنه
-أي
الدليل الذي استدل به شيخ الإسلام-
حسب
قواعد العلم استدلال في غير محلّه، وإخراجٌ
للحديث عن سياقه ومضمونه"
لماذا؟
"لأن
النبيّ صلى الله عليه
وسلم إنما قال المقولة
هذه في حق الخوارج بسبب خروجهم على جماعة
المسلمين، ونصبهم الحرب لهم، وليس لمجرد
بدعهم الاعتقادية.”
وهنا
أظن من العدل أن ننظر لسياق الفتوى وحجمها
ثم إلى الفقرة التي استلَّ منها الشيخ
هاني هذا الجزء أو الدليل الذي قال عنه
بأن شيخ الإسلام استدل في غير محله و أخرجه
عن سياقه.
الفتوى
تبدأ من صفحة ٤٦٨ وتنتهي في صفحة ٥٠١ من
المجلد ٢٨.
أي
أنها في ٣٣ صفحة.
والفتوى
تتحدث بالأساس عن حكم الطائفة الممتنعة
عن شريعة من شرائع الإسلام.
ونقل
شيخ الإسلام الإجماع أنه يجب قتالهم.
بهذا
ابتدأ شيخ الإسلام الجواب.
وحين
فَهرس الشيخ القاسم الفتوى فهرسها في ٢٣
فقرة.
وتضمنت
هذه الفتوى النفيسة مسائل متعددة، منها
حكم الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع
الإسلام، و المقارنة بين الرافضة و
الخوارج، وعقوبة علي رضي الله عنه لأصناف
من الشيعة، وتحدثت عن النصيرية و
الإسماعيلية، وصحَّح مفهوماً مهماً يكثر
الخطأ فيه:
هل
حين خصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
الخوارج في الحديث، هل لأنهم شرُّ الفِرق
وأخطرها؟ ولِمَ خصَّهم بذلك؟ وبيَّن بأن
الخوارج ليسوا بشر الفرق بل إن الرافضة
و غيرهم شر منهم، وبَيَّن مسألة في غاية
الأهمية وتدل على فقه عميق ونادر إذ قال
شيخ الإسلام:
“ومعلوم
أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة
المخالفة أضعف، فلهذا كانت البدعة الأولى
أخف من الثانية، و المستأخرة تتضمن من
جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها، كما
أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم كانت أفضل، فالسنن ضد
البدع، فكل ما قَرُب منه صلى الله عليه
وسلم مثل سيرة أبي بكر وعمر كان أفضل مما
تأخر كسيرة عثمان وعلي، و البدع بالضد،
كل ما بَعُد عنه كان شراً مما قَرُب منه،
وأقربها من زمنه الخوارج"
٤٨٩-٤٩٠
/٢٨
.
ذكرت
هذا النص بالرغم من طوله لأهمية هذه
المسألة، و لكثرة ما تُطرح على غيره وجهها،
وكأن طرحها بهذا الشكل المراد منه الرد
على أمر وليس التأسيس لمسألة شرعية يجب
أن تُطرح على وجهها الصحيح، و حين بدأ شيخ
الإسلام المقارنة بين الخوارج وبين غيرهم
من الفِرَق الشيعية تبيَّن جلياً هذا
الأمر، إذ كيف تصح المقارنة بين من له
أصلٌ شرعي نقص منه أو فهمه على غير وجهه
وبين من لا أصل له أصلاً!
أعود
لأقول هذا هو السياق فتوى التي ورد فيها
هذا النص، فلم يكن شيخ الإسلام يتحدث عن
أفراد أظهروا بدعتهم أو دعوا إليها بل عن
طائفة.
ثم
ذَيَّل الفتوى بمسألتنا هذه و التي افتتحها
بقوله:
“ فأما
قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج
كالحرورية و الرافضة ونحوهم:
فهذا
فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام
أحمد، و الصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم؛
كالداعية إلى مذهبة...”
ص
٤٩٩.
وسأبين
الأدلة و الضوابط و الموانع في الفقرة
التالية.
**
حين
أراد الشيخ هاني طرح الأدلة التي استدل
بها شيخ الإسلام لم يَطرح إلا دليلا واحداً
ذكره شيخ الإسلام بالأساس تَبعٌ لما قرره
قبل ذلك، و لم يذكره الشيخ -بحسب
السياق-
أصلٌ
في المسألة، وحين أراد الشيخ هاني نَقض
دليل شيخ الإسلام نَقضه بكلام للقرطبي
وابن بطَّال -رحم
الله الجميع-
على
ما لم يُقرره شيخ الإسلام أصلاً!
ولو
قلتُ إن عَسف الفتوى بهذا الشكل هو حَرفٌ
لها عما أُسست عليه لما كنتُ مبالغاً،
فكيف يُرَد على الشيخ فيما لم يتحدث عنه
أصلاً؟ ولكي تتضح المسألة:
شيخ
الإسلام لم يتحدث مطلقاً عن سبب قتال
الخوارج!
ليس
هذا ما يتحدث عنه في هذا الموضع.
أبرز
ما تحدث عنه (قتال
الطائفة الممتنعة عن شعيرة من شعائر
الإسلام)
ثم
(قارن
بين عقائد متعددة و أفاض عنها)
فأصل
المسألة لا تتعلق بالسلوك الذي هو (القتال)
بل
بالاعتقاد!
فمن
أين أتى الشيخ هاني بكل هذا؟
أما
الحديثان الذان أوردهما شيخ الإسلام ورفض
دلالتهما الشيخ هاني، فإن أردنا أن نستدل
بهما في هذا الموضع فيجب أن يحملا على ما
قرره شيخ الإسلام ابتداءً ألا وهو:
أن
البدع التي حصلت بعد الخوارج هي من جنس
بدعة الخوارج وزيادة عليها وبناء على ذلك
فإن البدع و الفرق تكون داخلة في الحديث،
لذا تحدث شيخ الإسلام عن أن العلماء أدخلوا
في نصوص الخوارج كل من كان في معناهم من
أهل الأهواء.
فلم
يذكر كما قلتُ القتال إطلاقا.
أما
الأدلة التي أغفلها الشيخ هاني، وهي التي
استدل بها شيخ الإسلام فهي "وقال
عمر لصبيغ بن عسل:
لو
وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك.
ولأن
علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبدالله بن
سبأ أول الرافضة حتى هرب منه.
و
لأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الارض.
فإذا
لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا"
٥٠٠
/
٢٨
.
لماذا
أهمل الشيخ هاني هذه الأدلة وردَّ على ما
ليس أصلاً في المسألة؟
ولنأتي
للضوابط التي كذلك مرَّ عليها الشيخ هاني
مرورا سريعاً خاطفاً.
يقول
شيخ الإسلام في ذات الموضع:
“يجوز
قتل الواحد منهم:
كالداعية
إلى مذهبه، ونحو ذلك مما فيه فساد"،
“ولا يجب قتل كل واحد
منهم إذا لم يظهر هذا القول، أو كان في
قتله مفسدة راجحة"
وكذلك
يترك الذي ليس في قتله فائدة لضعف تأثيره
"ولهذا
ترك النبي صلى الله عليه و سلم قتل ذلك
الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمد
يقتل أصحابه، و لم يكن إذ ذاك فيه فساد
عام؛ ولهذا ترك علي قتلهم أول ما ظهروا
لأنهم كانوا خلقا كثيرا.
وكانوا
داخلين في الطاعة و الجماعة ظاهراً لم
يحاربوا أهل الجماعة، و لم يكن يتبين له
أنهم هم"
٥٠٠
/٢٨.
**
تطرق
الشيخ هاني لعصمة الدم، و إراقة دمه،
فيقال:
إن
حفظ الدين هو من الضروريات الخمس، كما
حفظ النفس كذلك، و إطلاق القول بهذا الشكل
يُوحي بأن كل من قال بقولٍ يقتل، وليس هذا
بقول الشيخ، فقول الشيخ -بتقييداته-
هو
ما أرودته قبل قليل، فليست (الأنفس
المعصومة)
كلأ
مباحاً وحِمَى مستباحاً لكل من رأى أن
فلانٌ مبتدع!
هذا
لم يقل به الشيخ، بل الذي قاله نقيض ذلك
تماماً.
فالشيخ
ينص على أن من لا يُظهر بدعته لا يقتل،
ومن كان في قتله ضرر على الإسلام لا يقتل،
وأن من ليس له ضرر لا يقتل كذلك..
كما
أنه بلا شك ينبغي التفريق بين من قال أو
دَعى لبدعة وبين من ارتكب جناية سب النبي
صلى الله عليه وسلم مثلا.
فهذا
موضوع مختلف عما نحن بصدده.
**
ختاماً
:
لست
معنياً بتحرير أصل المسألة، وإنما هدفت
من هذا التعقيب أن أضع كلام شيخ الإسلام
رحمه الله في موضعه الذي وضعه هو، و في
سياقه الصحيح، وللشيخ هاني فقيه كل
الإحترام و التقدير و المودة، كما أنبه
أن ليس كل ما في هذا التعقيب هو تعقيب على
الشيخ هاني وفقه الله، بل فيه استطرادات
خارجه عن الموضوع كما لا يخفى؛ إما بتعليقات
عابرة من هنا وهناك أو ما كان من استعراضي
لبعض ما جاء في فتوى الشيخ رحمه الله،
وإيرادي لبعض مسائلها.
فإن
أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي و
الشيطان، و الله الموفق و الهادي إلى سواء
السبيل.
عبدالرحمن
بن عبدالله الصبيح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..