قال تعالى ( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير )
- يتهم الكافر العلماني عقله يوم القيامة مع أنه كان يعظمه في الدنيا -
ضوابط الإستدلال العقلي عند أهل السنة والجماعة /
لما
كان موقف أهل السنة والجماعة من العقل موقفاً مؤصلاً – ذلك لأنهم استمدوه
من نصوص الوحيين – كان الإستدلال بالعقل لهم مضبوط بضوابط , جعلتهم يطردون
في التعامل معه , خلافاً لغيرهم من أهل الكلام ومن وافقهم , حيث تجد
التناقض حليفهم فما يُقَعَّدُونه في مسألة ينقضونه في الأخرى , ويُضَلل
متأخرُهم متقدَمهم , لأسباب كثيرة ابرزها احتكامهم إلى عقولهم من دون قيد
أو شرط .
أما أهل السنة فقد أقاموا التعامل مع العقل في ضوابط عدة من أهمها :
1-أن
العقل لا يستقل بنفسه , بل هو محتاج إلى الشرع قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله ( ... العقل شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال وبه يكمل
العلم والعمل لكنه ليس مستقلاً بذلك بل هو غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة
قوة البصر التي في العين فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين
إذا اتصل به نور الشمس والنار , وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز
عن دركها , وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أموراً حيوانية ,
قد يكون فيها محبة ووجد وذوق كما قد يحصل للبهيمة .
فالأحوال
الحاصة مع عدم العقل ناقصة , والأقوال المخالفة للعقل باطلة , والرسل جاءت
بما يعجز العقل عن دركه , ولم تأت بما يُعلَمُ بالعقل امتناعه , لكنَّ
المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم
اعتقدوها حقاً , وهي باطل وعارضوا بها النبوات وما جاءت به , والمعرضون عنه
صدَّقوا بأشياء باطلة , ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة , وخرجوا عن التمييز
الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم )
2-تقدم
النقل على العقل عند توهم التعارض , فالعقل مصدَّقٌ للشرع في كل ما أخبر
به , دال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم دلالة عامة مطلقة , فالعقل مع
الشرع كالعامي مع المفتي , فإن العامي إذا علم عين المفتي , ودل غيره عليه ,
وبين له أنه عالم مفتٍ , ثم اختلف العامي الدال والمفتي , وجب على
المستفتي أن يقدم قول المفتي , فإذا قال له العامي : أنا الأصل في علمه
بأنه مفتٍ , فإن قدمت قوله على قولي عند التعارض , قدحت في الأصل الذي به
علمت بأنه مفتٍ , قال له المستفتي : أنت لمَّا شهدت بأنه مفتٍ , ودللت على
ذلك , شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك , وموافقتي لك في قولك بأنه مفتٍ , لا
تستلزم أن أوافقك في جميع أقوالك , وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو
أعلم منك , لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتٍ . هذا مع أن المفتي يجوز عليه
الخطأ , أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإن معصوم في خبره عن الله عز وجل
لا يجوز عليه الخطأ , فتقديم قول المعصوم على ما يخالفه من استدلال عقلي ,
أولى من تقديم العامي قول المفتي الذي يخالفه .
وإذا
كان الأمر كذلك , فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله صلى الله عليه
وسلم , وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينازعه في خبره , كان عقله
يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه .
إن
العقل لا يمكن أن يعارض الكتاب والسنة , فالعقل الصريح لا يخالف النقل
الصحيح ابداً , فلا يصح أن يقال إن العقل يخالف النقل , ومن ادعى ذلك فلا
يخلو من أمور :
اولها : أن ما ظنه معقولاً ليس معقولاً , بل هو شبهات توهم أنه عقل صريح وليس كذلك .
ثانيها : أن ما ظنه سمعاً ليس سمعاً صحيحاً مقبولاً , إما لعدم صحة نسبته , أو لعدم فهم المراد منه على الوجه الصحيح .
ثالثها
: أنه لم يفرق بين ما يحيله العقل وما لا يدركه , فإن الشرع يأتي بما يعجز
العقل عن إدراكه , لكنه لا يأتي بما يعلم العقل امتناعه .
أن
الدليل العقلي فرع عن الدليل الشرعي , ذلك أن الدليل الشرعي قد يكون
سمعياً وقد يكون عقلياً , فإن كون الدليل شرعياً يراد به , كون الشرع أثبته
ودل عليه أو اباحه وأذن فيه .
لذلك فإن الدليل الشرعي على أقسام ثلاثة /
أولها
: إما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق , فإنه إذا
اخبر بما لا يُعلم إلا بخبره كان ذلك شرعياً سمعياً , مثل إخباره صلى الله
عليه وسلم بأحوال يوم القيامة , وأوصاف الجنة والنار , وتفاصيل ما يجب لله
تعالى ... مما لا مجال للعقل في إدراكه إلا عن طريق النقل .
ثانيها
: وإما أن يكون الدليل الشرعي ما أثبته الشرع والعقل معاً . حيث يكون
العقل قد علمه لكن الشرع نبه إليه ودل عليه , فيكون شرعياً عقلياً , وهذا
مثل : الأدلة التي نبه الله تعالى إليها في كتابه العزيز من الأمثال
المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله , وإثبات صفاته وعلى المعاد ,
فتلك كلها أدلة عقلية تعلم صحتها بالعقل , وهي براهين ومقاييس عقلية , ومع
ذلك شرعية .
ثالثها
: ما أباحه الشرع وأذن فيه , فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق صلى الله
عليه وسلم , وما دل عليه ونبه إليه القرآن , وما دلت عليه وشهدت به
الموجودات , مثل الأمور التي يعرف صدقها عن طريق التجربة والملاحظة : كالطب
, والهندسة , والحساب , والكيمياء .. الخ
ولهذا يقول شيخ الإسلام منبهاً إلى أن حصول المعرفة بالشرع يحصل على هذه الوجوه المتقدمة , فيقول : (
أحدها : أن الشرع ينبه على الطريق العقلية التي بها يعرف الصانع , فتكون
عقلية شرعية , والثاني : أن المعرفة المنفصلة بأسماء الله وصفاته التي بها
يحصل الإيمان تحصل بالشرع , كقوله عالى : ( وما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ) ]سورة الشورى : 52 [ وقوله: ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يُوحي إلي ربي ) ] سبأ : 50 [ وقوله تعالى : ( الــر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد )
] إبراهيم : 1 [ , وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن الله هدى العباد بكتابه المنزل على نبيه ) .
المطلب الرابع : مجالات الاستدلال العقلي /
العقل
في الإنسان كغيره من الصفات الكمالية , فهي وإن كانت كمالاً في حق الإنسان
, إلا أن لها حدوداً لا تتجاوزها , واقداراُ لا تتخطاها , فالإنسان ذاته
مخلوق , وصفاته كذلك يعتريها ما يعتري المخلوق من القوة والضعف والخور
والوجود والعدم .
والعقل
جعل الله له حداً – في إدراكه للأشياء – ينتهي إليه , لا يتعداه , فلم
يجعل له سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب , ولو كان كذلك لتساوى مع العليم
الخبير في إدراك جميع ما كان وما يكون , وما لا يكون لو كان كيف يكون , ولو
كان العقل يدرك كل مطلوب لأستغنى الخلق به عن الوحي النبوات , والله تعالى
يقول : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا )
] الإسراء : 15 [
والعقل
وإن أدرك فإدراكه يكون لبعض المدرك , وهذا البعض فيه قصور وضعف , من غفلة
ونسيان , أو جهل , أو عدم إحاطة , إلى غير ذلك من أحوال الضعف والقصور .
يقول الإستاذ سيد قطب : (
والمنهج الذي سار عليه القرآن – وهو المنهج الأقوم – أن يجيب الناس عما هم
في حاجة إليه , وما يستطيع إدراكهم البشري بلوغه ومعرفته , فلا يبدد
الطاقة العقلية التي وهبها الله لهم فيما لا ينتج ولا يثمر , وفي غير
مجالها الذي تملك وسائله وتحيط به ..... وليس في هذا حجر على العقل البشري
أن يعمل , ولكن فيه توجيهاً لهذا العقل أن يعمل في حدوده , وفي مجاله الذي
يدركه .
فلا جدوى من الخبط في التيه , ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه , لأنه لا يملك وسائل إدراكه )
ولتحديد مجال الإستدلال العقلي يمكن تقسيم العلوم التي يدركها العقل إلى ثلاثة أقسام /
1-العلوم الضرورية : وهي التي لا يمكن التشكيك فيها ;
إذ انها تلزم جميع العقلاء ولا تنفك عنهم , كعلم الإنسان بوجوده , وأن
الاثنين أكثر من الواحد , واستحالة الجمع بين النقيضين , أو رفعهما , إلى
غير ذلك مما يسمى بقوانين العقل الضروري .
أ-العلوم
النظرية : هي التي تكتسب بالنظر والاستدلال , وهذا النظر لا بد من تحصيله
من علم ضروري يستند إليه , حتى يعرف وجه الصواب فيه , وهذا القسم تدخل فيه
كثير من العلوم , كالطبيعات والرياضيات والطب والصناعات وغيرها , وهو نوعان
:
1-نوع يتمحض العمل فيه للعقل , وهذه عادة يكون في العلوم المفضولة , كالصناعة والزراعة .
2-والآخر
يكون بالنظر في أدلة الشرع , وبذل الوسع لإقامة العبودية , قال الإمام
الشافعي في قوله تعالى ( وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) ] النحل : 16 [
قال ( فخلق لهم العلامات , ونصب لهم المسجد الحرام , وأمرهم أن يتوجهوا
إليه , وإنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم , والعقول التي ركبها
فيهم , التي استدلوا بها على معرفة العلامات , وكل هذا بيان ونعمة منه جل
ثناؤه ) .
ج- وهذا القسم لا يعلم بواسطة العقل : إلا
أنه يُعلٍمهُ , بأن يجعل له طريق للعلم به , وذلك كالغيبيات , سواء كانت
من قبيل ما يعتاده علم العبد : كعلمه بما تحت رجليه , وعلمه بالبلد القاصي
عنه , الذي لم يتقدم له به عهد , او لا : كعلمه بما في اليوم الآخر من بعث
وحساب وجزاء وتفاصيل ذلك , فهذا لا يعلم إلا عن طريق الخبر , ويدخل في ذلك
كثير من مسائل الإعتقاد ولا سيما التفصيلية منها .
المرجع : كتاب تجديد الدين لدى الإتجاه العقلاني المعاصر للدكتور أحمد بن محمد اللهيب
من مؤلفات مجلة البيان طبعة سنة 1432هـ ( من صـ 33 حتى صـ 47 )
هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
سامي بن خالد المبرك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..