الخميس، 7 يونيو 2012

ظلمها فعدلت معه

مبارك في السجن، صدق أو لا تصدق.
من كان يتصور أن تكون هذه نهاية آخر الفراعين المصريين.
هو ذاته لم يصدق، حين نقلوه بالطائرة إلى محبسه في سجن طرة،
صدم الرجل وثار وسب الذين حملوه بألفاظ نابية

(جريدة «التحرير» ذكرت في 4/6 أنه سب الدين ثلاث مرات لطاقم الأمن المرافق له).
استسلم في النهاية، بعدما رفضت طلباته التي أراد بها أن يستثنى من اللوائح، سواء في الإقامة أو الرعاية الطبية أو التمريض، أو حتى الهاتف النقال،

وحسبما ذكرت صحف الاثنين فإنه عومل كسجين محترم. أعطى الثياب الزرقاء المخصصة للمحكوم عليهم، كما تم تصويره وأعطى رقما. بعدما نزعت عنه هالة التقديس التي أحاطت به طوال ثلاثين عاما،

بعد ذلك سمح له بزيارة استثنائية شأن غيره من المساجين في إطار الاحتفال بعيد العمال.
ما عاد الزعيم الملهم الذي ولدت مصر يوم ولد، ولم يشفع له ادعاؤه أنه بطل الضربة الجوية التي بدأت بها حرب أكتوبر، ولم يأس عليه سوى الإسرائيليين الذين افتقدوا «كنزهم الاستراتيجي». لكنه حوكم أمام القضاء المدني، الذي وفر له كل ضمانات الدفاع. وحكم عليه بالسجن المؤبد، إشفاقا على عمره الثمانيني، وهو الذي لم يرحم أحدا من خصومه ومعارضيه طيلة سنوات حكمه، ولم يتردد في إحالتهم إلى المحاكم العسكرية لتصدر بحقهم أقسى الأحكام.

ظل أسدا علينا طوال سنوات حكمه الثلاثين. فاعتقل نحو 200 ألف شخص (100 ألف من الإخوان و50 ألفا من الجماعة الإسلامية)،
وهؤلاء غير الذين تم إعدامهم والذين قتلوا تحت التعذيب، والذين اختفوا ولم يظهر لهم أثر.

لكنه في مواجهة الأمريكيين والإسرائيليين ظل لينا وطيعا في طيبة الحملان ووداعتهم، الأمر الذي كان محل حفاوة بالغة من جانبهم.
لم لا وقد قبل بتعذيب الذين أرادت المخابرات الأمريكية ألا تتحمل وزرهم،
وأهدى الإسرائيليين غاز مصر بسعر التراب لمدة خمسة عشر عاما.
وتلك صفحة واحدة في سجل الرجل، الذي يملأ فساد نظامه على الصعيدين السياسي والاقتصادي العديد من صفحاته الأخرى.

لقد أذل مبارك شعب مصر وأهان البلد ودمر سمعته، ومع ذلك لم ينتقم المجتمع منه، رغم ما خلفه من مرارات وجراح، وقدم إلى العدالة لكي تقتص منه، رغم أنه أسقط رغما عنه بعد الثورة التي انفجرت ضده، وحاول قمعها بكل السبل، وكان القنص والقتل العمد أحد أكثر تلك السبل شيوعا وأكثرها قسوة وفظاظة.

أجرم مبارك في حق مصر وأهدر كرامة الشعب والوطن، لكن مصر عاملته بأخلاقها وليس بأساليبه.
ظلمها فعدلت معه، وأهانها فاحترمته.
وساق الجميع إلى المحاكم العسكرية، فقدمته إلى محكمة مدنية.
وليس ذلك جديدا على شعب مصر، الذي ظلم كثيرا وصبر طويلا واختزن تلالا من المرارات والأحزان، لكنه حين فاض به الكيل فإنه لم يعدم أحدا ولم يقتل ولم يسحل.
وفي حالات القتل النادرة التي حدثت فإنها نسبت إلى جماعات بذاتها ولم تحسب على المجتمع ككل
(حادث قتل النقراشي باشا رئيس الوزراء في سنة 1948 وقتل السادات في سنة 1981).

حين قامت الثورة ضد الملك فاروق في عام 1952، فإنها طلبت منه التنحي والرحيل عن البلد، وقام رئيس مجلس الثورة آنذاك اللواء محمد نجيب بتوديعه قبل سفره، وكان معه السفير الأمريكي.
وحين أدى له التحية العسكرية لاحظ الملك أن اللواء نجيب يحمل معه «عصا المارشالية»، فطلب منه إنزالها التزاما بالتقاليد، فما كان من اللواء نجيب إلا أن استجاب له. ورحل يخت الملك (المحروسة) بعد إطلاق المدفعية 21 طلقة تحية له.

وحتى حين دب الخلاف بين جمال عبدالناصر واللواء نجيب، وتقرر إقصاء الأخير، فإن غاية ما فعله ضباط الثورة أنهم حددوا إقامته في فيللا بإحدى ضواحي القاهرة.
أدرى أن الرجل أسيئت معاملته، لكن حقه في الحياة لم يمس. وقد كان من اليسير للغاية أن يصفى اللواء نجيب وتطوى صفحته بمضي الزمن، كما هي التقاليد المتبعة في دول أخرى.

أدرى أن جمال عبدالناصر وأجهزته تعاملوا مع المعارضين بقسوة نالني وأسرتي جانبا منها، إلا أن النقطة التي أقف عندها هي كيفية تعامل المجتمع مع حكامه، حتى الذين ظلموه منهم.

ذلك كان واضحا للغاية مع الرئيس السابق حسنى مبارك. ولست مع الذين يقولون إن المجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد الثورة جامله كثيرا إلى حد تدليله، سواء حين حدد إقامته في شرم الشيخ أو حين تم نقله إلى المركز الطبي العالمي في أطراف القاهرة.

ذلك أن المجلس العسكري بمسلكه ذاك كان ملتزما بقيم المجتمع المتحضر التي ترفض التشفي أو الانتقام، وتؤثر الالتزام بما تقتضيه المروءة ويفرضه الاحترام والعدل.

ما فعله مبارك بمصر أسوأ كثيرا مما فعله الملك فاروق بالبلد وشعبه، ومع ذلك فإن مصر كانت أكرم وأكثر مروءة وشهامة، واحتكمت إلى العقل والعدل، ولم تستسلم للانفعال والغضب.

إن الطغاة لا يعتبرون لأنهم لا يرون إلا أهواءهم وبطانتهم أنفسهم، ولابد أن نحمد الله ونشكره على أن شعبنا لم يتعلم شيئا من طغاته.
 فهمي هويدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..