الأربعاء، 1 أغسطس 2012

كف عن الموت وابدأ الحياة


تراه مهموما حزينا اتشحت حياته بالسواد وانقطعت أسبابه من الأمل لا يفكر إلا في الموت وله يمضي وقته فهو يكابد سكرات الموت في كل دقيقة .
يقيد نفسه بأغلال القنوط ويؤذي من حوله بإغلاق كل نوافذ الأمل ، فليس لديه آمال ممكنة التحقيق ولا عنده رجاء فيما تحمله الأيام حتى صار ميتا قبل موته...
يخيل إليك مظهره أنه مريض بمرض عضال على فراش الموت ينتظر في كل لحظة أجله ؛ ولعله أسوأ حالاً لأن المريض ينتظر الأجل ولديه أمل في الشفاء أما هذا فهو سلبي حتى في انتظاره للموت!.
كأنه لا يعلم بأن الموت خلق ليكون بعد الحياة فهو مرحلة تالية فلماذا جعلها الأولى؟
ما خلق الله موتا ولا حياة إلا  لتمييز الناس في عملهم ( خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها) فلماذا جعلها نقمة وعذابا؟.
الله عز وجل خلقنا ليرى أعمالنا وكتب علينا أننا سنموت في أجل محدد لن نتقدم عليه ولن نتأخر عنه فعلام نوقف حياتنا عند تلك اللحظة المتأخرة ونتجاهل ما أُمرنا به من لحظات متتابعات للاستعداد لها.
وأوامر الإسلام كلها قائمة على الحياة والعمل عل استمرارها حتى ما بعد موتك لتكون حياة أخرى لك وامتدادا لعملك وذكرك في الأحياء مما يزيد في رصيدك في الحياة الأخرى الكاملة ...

إنما المرء حديث بعده .... فكن حديثا حسنا لمن وعى
في الحديث إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم نافع أو ولد صالح يدعو له ، أليست هذه كلها أسباب للحياة فالصدقة لا تكون إلا مع عمل وغنى والغنى لا يأتي هكذا فجأة كما نرى في واقع الناس ، وكذلك العلم النافع لا يمكن لإنسان أن يؤخر بعد موته علما نافعا بدون بذل جهد في طلبه ثم بذل جهد آخر في نشره أولا يتطلب ذلك حياة وإقبالا على العلم بنفس ترجو الحياة وتؤمل فيها؟
 والولد الصالح لا يكون إلا بعد زواج ونفقة وسعي على الأسرة وبذل في سبيل إصلاحها وتربيتها فهل يؤمر الإنسان بهذه التكاليف من نفقة وسعي ورحمة بالأهل والأبناء لتكون عليه عذابا يصلاه الموت قبل حينه ؟
إن المسلمين الأوائل كانوا خيرا منا في فهم الحياة وأهميتها والعلاقة بينها وبين الآخرة يظهر ذلك جليا في تلك القاعدة العظمى في التربية "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " ألا ترى في ذلك مزجاً لطيفاً لأسباب الحياة الدنيا وعلاقتها بأسباب النجاة في الآخرة ؟
قال عز وجل(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا).
ومنهج الصالحين دائما ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) جاء في تفسير ابن كثير( فَجَمَعَتْ هَذِهِ الدَّعْوَة كُلّ خَيْر فِي الدُّنْيَا وَصَرَفَتْ كُلّ شَرّ فَإِنَّ كُلّ الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا تَشْمَل كُلّ مَطْلُوب دُنْيَوِيّ مِنْ عَافِيَة وَدَار رَحْبَة وَزَوْجَة حَسَنَة وَرِزْق وَاسِع وَعِلْم نَافِع وَعَمَل صَالِح وَمَرْكَب هَيِّن وَثَنَاء جَمِيل إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ عِبَارَات الْمُفَسِّرِينَ وَلَا مُنَافَاة بَيْنهَا فَإِنَّهَا كُلّهَا مُنْدَرِجَة فِي الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا . وَأَمَّا الْحَسَنَة فِي الْآخِرَة فَأَعْلَى ذَلِكَ دُخُول الْجَنَّة وَتَوَابِعه...).
والعمل في شؤون الدنيا وإصلاحها مطلوب وقد ورد الأمر به ومن أعجب ذلك حديث الفسيلة حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها) فهذا أمر من النبي عليه الصلاة والسلام بمسابقة القيامة في غرس فسيلة ستقوم عليها قيامة تجعل الأرض  كلها قاعا صفصفا ! فلماذا أمر بإتمام زراعتها؟.
يحدثني أحدهم يقول كان لنا جار كبير في السن تجاوز الثمانين وهو بصحة جيدة ويسكن بيتا جيدا بجوارنا من أفضل بيوت الجيران ثم علمنا أنه يبني بيتا جديدا في حارة أخرى وأنه يعزم على الانتقال إليه يقول فقلت له يا أبا فلان : بيتك طيب أين تنتقل وتتركنا؟ فقال : وأنت تظن أني بنيت البيت لنفسي؟ الذين قبلنا بنوا وسكنا وزرعوا وأكلنا ، ونحن نبني ويسكنون ونزرع ويأكلون من بعدنا.
يقول صاحبي وكانت نظرتي إلى الحياة فيها نوع من التشاؤم وعدم التكلف في تحصيلها فنقلها هذا العجوز الكبير إلى ضفة أخرى من الأمل والعناية بشأن الأبناء والسعي بجدّ لهم ومازالت كلمته تسوقني حتى أعانني الله على بناء منزل والانتقال له بعد سنوات من كلمته تلك.
فيا أخي المبتلى بتلك النظرة التشاؤمية حول الحياة والوجود والكون عليك أن تتعرف على ربك من هو؟ ولماذا أوجدك؟ وإلى أين مصيرك؟
 فإن ذلك سيدلك على الحق بأقصر الطرق فأنت لم تخلق عبثا والكون لم يخلق عبثا ، وإنما خلقت لغاية عظمى ولأنك عظيم فقد سخر الله لك هذا الكون كله (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ)
وهذه بعض الخطوات العملية التي أرجو أن تفيدك في تغيير نظرتك إلى الحياة:
1-اجعل لكتاب الله من وقتك نصيبا تقرأ فيه وتعرف معاني كلامه وتتأمل فيها فإن ذلك سيفتح لك أفاقا كبرى أنت غافل عنها.وكلما حزنت أو ضاقت بك الدنيا فألجأ لكتاب الله واقرأه بشوق كشوق المريض إلى الدواء.
2-تعرف على سير الأنبياء والصالحين والمبدعين واقرأ فيها ... ثم أسأل نفسك : لو كان هؤلاء العظماء قد نظروا للدنيا كنظرتك فما الذي كان يمكن أن  ينجزوه ؟.
3-يجب أن تعرف أمرا مهما جدا في علاقة الشيطان ببني آدم فإنه جعل همه أن يفسد عليهم آخرتهم فإن لم يستطع أن يجعلهم مشركين ؛ فلن يدعهم بل سيفسد عليهم أعمالهم الدينية ؛ ولا أقل من أن يفسد عليهم حياتهم ليقصروا في العمل النافع لهم في آخرتهم.
4-معرفتك لمراحل الحياة التي تمر بها منذ كنت جنينا في بطن أمك وحتى الآخرة فإن لكل مرحلة أدوات مهمة تعينك على عبورها وكل مشقة تقابلها في حياتك فإنما تهون عليك ما بعدها من مراحل فلو لم تتعب في صغرك في حفظ الحروف وتعلم القراءة لما كنت الآن قارئا.
5-استحضار قضية الإيمان بالبعث بعد الموت والحساب والجزاء يخفف على الإنسان ما يلقاه من ظلم واعتداء من الآخرين فلا تشغل نفسك الآن باجترار مآسي الظلم التي تعرضت له في حياتك فإن الحساب أمامك في الآخرة يوم تستوفي حقوقك ممن ظلمك.
6-قد تحتاج في بعض الأحيان أن تعيد النظر في طريقة حياتك وترتيبك لأولوياتك وتنظيم وقتك فقد تكون مشكلتك من طريقتك في الحياة.
7-الأشياء تعالج بأضدادها فإن شعرت بالحزن فإياك أن تجتر أحزانك من خلال سماع أو رؤية ما يجدد أحزانك .
8-قد يحتاج الإنسان أن يشكو بعض همومه لصديق فاحرص على أن يكون صديقك الذي تبثه همك متفائلا ليساعدك على تجاوز همومك.
9-في الحالات المتقدمة من التشاؤم والسوداوية وحينما يكون الاكتئاب قد وصل إلى حدّ المرض فإن الحاجة إلى المعالج النفسي تكون ملحة وهنا يأتي دور الأسرة والمحيطين بالمريض لمساعدته على تجاوز أزمته.
10- للسعادة أسباب يمكن الحصول عليها ومن أهم تلك الأسباب أن تخدم الآخرين وهذه طريقة مناسبة للتخلص من كثير من الهموم كما تجعلك تشعر بأنك شخص ذا قيمة في الحياة حينما تساعد آخرين هم بأمس الحاجة لطاقاتك التي عطلتها بسبب مشاعر الحزن المبالغ فيه ... وقد كنت كتبت عن أسباب السعادة في مكان آخر.
أخيرا بقي أن أذكرك بأن أهم شخص يساعدك في علاج مشكلتك هو أنت !... نعم أنت الذي استسلمت لتلك الأفكار السلبية السوداوية ... وأنت الوحيد الذي بيده أسرع حل لما تعانيه ، فقط(استعن بالله ولا تعجز ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل).
هيا ابدأ الحياة وكف عن الموت الذي لم يحن حينه بعد واعمل لما بعده ما ينفعك في الآخرة ويبقي لك ذكرا حسنا في الصالحين.


دقـــات قلــب المــرء قائــلة لـه .. إن الحيــــاة دقائـــق وثـــواني
فارفع لنفـسك بعد موتك ذكرهــا .. فالذكــر للإنسـان عمــر ثاني


كتبه أبو بكر بن محمد
1433/9/12

أبو بكر بن محمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..