السبت، 4 أغسطس 2012

موقف الليبرالية من الفطرة السوية!

الحرية هي أعظم قيمة إنسانية اهتمت بها الليبرالية وجعلتها محور النشاط الإنساني المؤدي إلى الفعل الحضاري الإيجابي ، فمنها اشُتقت على مستوى المبنى اللغوي ، وعنها عبرّت بالمعنى الاصطلاحي خلال مسيرة التجربة
الحضارية الغربية ، وتحديداً منذ أواخر العصور الوسطى ، ومروراً بعصور النهضة الأوروبية حتى العصر الحديث وواقعنا المعاصر ، حيث ظهرت الليبرالية كنظرية فلسفية في حرية الاقتصاد والسياسة ابتكرتها الطبقة البرجوازية في مقابل الاستبداد الكنسي وسيطرة النظام الإقطاعي على الحياة العامة ، ثم أصبحت فكرة واقعية مع التحولات الجذرية في المجتمع الغربي بتأثير الحركات الثلاث الكبرى (الثقافية الإنسانية ، والإصلاح الديني ، والتنوير العقلي) ، وارتباطها بالثورتين العلمية والصناعية من جهة ، ومن جهة أخرى دورها في اندلاع ثورات شعبية شهدتها تلك العصور ، ظهرت كعلامات فارقة في التاريخ الغربي كالثورة الانجليزية عام 1688م ، التي شكلت الفكر الليبرالي ، والثورة الأميركية عام 1776م التي دونت القيم الليبرالية في إعلان الاستقلال ، والثورة الفرنسية عام 1789م ، التي جسدت الليبرالية في قواعد سياسية وقوانين وضعية وحقوق إنسان عالمية، وعليه تحدد الوعي العام للإنسان الغربي (الأوروبي والأميركي واللاتيني والاسكندينافي) في العصر الحديث ، بأربعة محاور رئيسة ، هي النظرة المادية للحياة ، ومرجعية العلم في المعرفة ، ومكانة العقل العليا في البناء الحضاري ، ودور الدين المحدود في الأخلاق ودور العبادة . هذه المحاور شكلت ولازالت إطار الحضارة الغربية السائدة والمتفوقة في عالمنا اليوم .

وسط تفاعلات التجربة الحضارية الغربية وتحولاتها التاريخية ومن ثم تداعياتها ونتائجها في الحياة المدنية ، يكمن السؤال : أين موقع الفطرة السوية في كل هذا ؟ وهل الفطرة هي تحقيق الفردية ؟ ، وكيف استطاعت الليبرالية في أدبياتها ومعاملاتها صياغة علاقة الحرية الإنسانية بالفطرة السوية ؟ ، خصوصاً أن تلك التجربة جعلت قيمة (الحرية) مرتكزاً لحركتها اليومية وأساساً لكل القيم الإنسانية الأخرى ، التي تنادي بها كالعدالة والمساواة وغيرها. فما بالك بـ(الفطرة السوية) التي تتداخل في طبيعتها مع تلك القيم وربما تتصادم معها في ظروف وأحوال معينة ، فإذا كانت الحرية تعني حق (الاختيار والاستقلال والتصرف) في المعتقد والفكر والسلوك ! فإن ممارسة هذه الحرية مرتبطة بالفطرة بشكل جذري ، من حيث تحقيق الحد الأدنى من الإنسانية السوية، وليس مجرد تحقيق مسألة (عدم إيذاء الآخرين أو التعدي على حريتهم) ، وكذلك المساواة التي تعني التساوي في الحقوق والفرص والواجبات على مستوى الأفراد والأجناس والأعراق ، مع تطبيق العدالة بعدم الانحياز لطرف على حساب آخر ، بحيث لا يؤدي هذا التساوي إلى خلخلة النظام الفطري في الحياة الإنسانية ، فتكون هذه المساواة نقيض الفطرة أو في صراع معها على أرض الواقع .

وعليه فإذا كان النظام الليبرالي السائد في الحياة الغربية ، والقائم على فلسفة الحرية قد مكّن الإنسان الغربي من ممارسة كل أنشطته اليومية بحرية تامة في إطار علاقاته الاجتماعية المتعددة ، فإن الليبرالية بهذا الموقف قد تحولت إلى خصم حقيقي وعامل تدمير فعلي للفطرة السوية ، ما يؤدي إلى تفريغها من بعدها الإنساني ، وبالتالي إلغاء مؤسسة الأسرة التي هي نواة المجتمع الإنساني الطبيعي ، ولعل أقرب الشواهد على ذلك هو انتشار (الزواج المثلي) في الحياة الغربية ، أي زواج الرجل بالرجل أو المرأة بالمرأة ، بل وتعزيز المطالبة الدولية بإقراره عالمياً كأحد أنواع الزيجات المدنية ، حيث لم تقف هذه المطالبة عند منصات جمعيات ودعاة هذا الزواج البهيمي ، إنما انتقلت إلى خطب النظم الحاكمة وتصاريح قادة الأحزاب السياسة ، فبالأمس القريب أقرت مجموعة دول أوروبية واسكندنافية وأفريقية السماح بـ(زواج المثليين) بحجة أنه تعبير عن حرية اختيار العلاقات بين الناس باعتبارها من أساسيات حقوق الإنسان ، فكانت هولندا أول دولة تسمح به عام 2001م ، ثم تبعتها بلجيكا عام 2003م ، وفي عام 2005م سمحت به كل من أسبانيا وكندا وبريطانيا ، التي أقرت له كامل الحقوق الزوجية كالميراث والضمان الاجتماعي وغيرها ، كما شهدت بريطانيا تحديداً عقد قران كريس براينت وزير الدولة البريطانية لشؤون أوروبا على شريك حياته جاريد كراني في مبنى البرلمان ، حسب ما جاء في عدد صحيفة (إندبندنت) البريطانية الصادر في الثاني من نوفمبر 2009م ، وهو ذات العام الذي شهد الموافقة على هذا النوع من الزواج في كل من السويد والنرويج والمكسيك ، إضافة إلى البرتغال وأيسلندا والأرجنتين التي سمحت به عام  2010م ، أما جنوب أفريقيا فقد أقرته عام 2006م ، ولعلنا نذكر خبر زواج مثلي تم لجنوب أفريقي (قيام الدين) وفرنسي من أصل جزائري (لودفيك زاهد) ، بعد أن التقيا وتعرف على بعضهما في مؤتمر عن الايدز عُقد في جنوب أفريقيا عام 2011م . وخلال الشهور الأولى من العام الجاري 2012م سنت أميركا قانوناً يجيز الزواج المثلي ، حتى أن الرئيس الأميركي باراك أوباما أعلن صراحة تأييده لهذا النوع من الزواج  في إحدى مقابلاته التلفزيونية .

هذه الدول التي سمحت بهذا الزواج المخالف للفطرة السوية ، والهاتك للكرامة الإنسانية ، كونه يُسقط صفة الآدمية بين الإنسان والمخلوقات الأخرى ، هي دول تشترك في تبني القيم والمفاهيم الليبرالية ، التي تنظر للحياة بنظره مادية محضة ، وتحقق الحرية دون الاعتبار للمسألة الفطرية ، وتدعوا للمساواة وفق قوانين وضعية تلغي الخصائص الخلقية والطبائع الإنسانية بين الجنسين ، وبالتالي يكون المجال مفتوحاً لكل الانحرافات البشرية التي تهدم مؤسسة الأسرة ، وتلغي الفوارق الطبيعية بين المرأة والرجل . إذا ً موقف الفكر الليبرالي من الفطرة السوية يبدو مخـزياً وليس حضارياً أو أخلاقياً ، ولك أن تستغرب من فلسفة الليبرالية في الحرية ، التي تزعم إعلاء القيمة الفردية للإنسان في الوقت الذي تحيله إلى مخلوق بهيمي بتلك العلاقات الشاذة والممارسة غير الآدمية .

محمد بن عيسى الكنعان *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..