الحرية
هي أعظم قيمة إنسانية اهتمت بها الليبرالية وجعلتها محور النشاط الإنساني
المؤدي إلى الفعل الحضاري الإيجابي ، فمنها اشُتقت على مستوى المبنى اللغوي
، وعنها عبرّت بالمعنى الاصطلاحي خلال مسيرة التجربة
الحضارية الغربية ،
وتحديداً منذ أواخر العصور الوسطى ، ومروراً بعصور النهضة الأوروبية حتى
العصر الحديث وواقعنا المعاصر ، حيث ظهرت الليبرالية كنظرية فلسفية في حرية
الاقتصاد والسياسة ابتكرتها الطبقة البرجوازية في مقابل الاستبداد الكنسي
وسيطرة النظام الإقطاعي على الحياة العامة ، ثم أصبحت فكرة واقعية مع
التحولات الجذرية في المجتمع الغربي بتأثير الحركات الثلاث الكبرى
(الثقافية الإنسانية ، والإصلاح الديني ، والتنوير العقلي) ، وارتباطها
بالثورتين العلمية والصناعية من جهة ، ومن جهة أخرى دورها في اندلاع ثورات
شعبية شهدتها تلك العصور ، ظهرت كعلامات فارقة في التاريخ الغربي كالثورة
الانجليزية عام 1688م ، التي شكلت الفكر الليبرالي ، والثورة الأميركية عام 1776م التي دونت القيم الليبرالية في إعلان الاستقلال ، والثورة الفرنسية عام 1789م
، التي جسدت الليبرالية في قواعد سياسية وقوانين وضعية وحقوق إنسان
عالمية، وعليه تحدد الوعي العام للإنسان الغربي (الأوروبي والأميركي
واللاتيني والاسكندينافي) في العصر الحديث ، بأربعة محاور رئيسة ، هي
النظرة المادية للحياة ، ومرجعية العلم في المعرفة ، ومكانة العقل العليا
في البناء الحضاري ، ودور الدين المحدود في الأخلاق ودور العبادة . هذه
المحاور شكلت ولازالت إطار الحضارة الغربية السائدة والمتفوقة في عالمنا
اليوم .
وسط
تفاعلات التجربة الحضارية الغربية وتحولاتها التاريخية ومن ثم تداعياتها
ونتائجها في الحياة المدنية ، يكمن السؤال : أين موقع الفطرة السوية في كل
هذا ؟ وهل الفطرة هي تحقيق الفردية ؟ ، وكيف استطاعت الليبرالية في
أدبياتها ومعاملاتها صياغة علاقة الحرية الإنسانية بالفطرة السوية ؟ ،
خصوصاً أن تلك التجربة جعلت قيمة (الحرية) مرتكزاً لحركتها اليومية وأساساً
لكل القيم الإنسانية الأخرى ، التي تنادي بها كالعدالة والمساواة وغيرها.
فما بالك بـ(الفطرة السوية) التي تتداخل في طبيعتها مع تلك القيم وربما
تتصادم معها في ظروف وأحوال معينة ، فإذا كانت الحرية تعني حق (الاختيار
والاستقلال والتصرف) في المعتقد والفكر والسلوك ! فإن ممارسة هذه الحرية
مرتبطة بالفطرة بشكل جذري ، من حيث تحقيق الحد الأدنى من الإنسانية السوية،
وليس مجرد تحقيق مسألة (عدم إيذاء الآخرين أو التعدي على حريتهم) ، وكذلك
المساواة التي تعني التساوي في الحقوق والفرص والواجبات على مستوى الأفراد
والأجناس والأعراق ، مع تطبيق العدالة بعدم الانحياز لطرف على حساب آخر ،
بحيث لا يؤدي هذا التساوي إلى خلخلة النظام الفطري في الحياة الإنسانية ،
فتكون هذه المساواة نقيض الفطرة أو في صراع معها على أرض الواقع .
وعليه
فإذا كان النظام الليبرالي السائد في الحياة الغربية ، والقائم على فلسفة
الحرية قد مكّن الإنسان الغربي من ممارسة كل أنشطته اليومية بحرية تامة في
إطار علاقاته الاجتماعية المتعددة ، فإن الليبرالية بهذا الموقف قد تحولت
إلى خصم حقيقي وعامل تدمير فعلي للفطرة السوية ، ما يؤدي إلى تفريغها من
بعدها الإنساني ، وبالتالي إلغاء مؤسسة الأسرة التي هي نواة المجتمع
الإنساني الطبيعي ، ولعل أقرب الشواهد على ذلك هو انتشار (الزواج المثلي)
في الحياة الغربية ، أي زواج الرجل بالرجل أو المرأة بالمرأة ، بل وتعزيز
المطالبة الدولية بإقراره عالمياً كأحد أنواع الزيجات المدنية ، حيث لم تقف
هذه المطالبة عند منصات جمعيات ودعاة هذا الزواج البهيمي ، إنما انتقلت
إلى خطب النظم الحاكمة وتصاريح قادة الأحزاب السياسة ، فبالأمس القريب أقرت
مجموعة دول أوروبية واسكندنافية وأفريقية السماح بـ(زواج المثليين) بحجة
أنه تعبير عن حرية اختيار العلاقات بين الناس باعتبارها من أساسيات حقوق
الإنسان ، فكانت هولندا أول دولة تسمح به عام 2001م ، ثم تبعتها بلجيكا عام
2003م ، وفي عام 2005م سمحت به كل من أسبانيا وكندا وبريطانيا ، التي أقرت
له كامل الحقوق الزوجية كالميراث والضمان الاجتماعي وغيرها ، كما شهدت
بريطانيا تحديداً عقد قران كريس براينت وزير الدولة البريطانية لشؤون
أوروبا على شريك حياته جاريد كراني في
مبنى البرلمان ، حسب ما جاء في عدد صحيفة (إندبندنت) البريطانية الصادر في
الثاني من نوفمبر 2009م ، وهو ذات العام الذي شهد الموافقة على هذا النوع
من الزواج في كل من السويد والنرويج والمكسيك ، إضافة إلى البرتغال
وأيسلندا والأرجنتين التي سمحت به عام 2010م ، أما جنوب
أفريقيا فقد أقرته عام 2006م ، ولعلنا نذكر خبر زواج مثلي تم لجنوب أفريقي
(قيام الدين) وفرنسي من أصل جزائري (لودفيك زاهد) ، بعد أن التقيا وتعرف
على بعضهما في مؤتمر عن الايدز عُقد في جنوب أفريقيا عام 2011م . وخلال
الشهور الأولى من العام الجاري 2012م سنت أميركا قانوناً يجيز الزواج
المثلي ، حتى أن الرئيس الأميركي باراك أوباما أعلن صراحة تأييده لهذا
النوع من الزواج في إحدى مقابلاته التلفزيونية .
محمد بن عيسى الكنعان *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..