السبت، 11 أغسطس 2012

معركة المفاهيم الثالثة..

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
(1)
فإن جوهر الصراع بين أي منظومة فكرية وأخرى سواء كانت تلك المنظوات المتصارعة أدياناً أو فلسفات أو حتى مذاهب ونظريات = جوهر هذا الصراع دائماً هو المفاهيم.

والله أرسل نبيه بالدين الخاتم مصدقاً لما بين يديه من الكتب والرسالات السابقة ولكنه في الوقت نفسه مهيمناً عليها لا سلطة لشيء غير هذا الوحي المقدس في صياغة المفاهيم والقيم والأفكار ، وإذا كان الإسلام مهيمناً بوحيه على ما بين يديه من الأديان والرسالات فمن باب أولى أن يكون مهيمناً على جميع الفلسفات والأفكار التي لا تخرج عن كونها خليطاً من أديان صحيحة ومحرفة وأفكار بشرية هي حاصل نظر الحس في الواقع وتلك الأديان الصحيحة والمحرفة.

وكل ما يصك سمعك عن الإنتاج البشري المجرد في أبواب القيم = هو كذب، وليس بين يدي بني آدم من النظريات والأفكار شيء إلا وأصله دين صحيح أو محرف وليس للعقل مادة أخرى يمكن أن يستمد منها القيم ومفاهيمها إلا والدين لبها، فجاء الإسلام مهيمناً على كل ما بين يدي بني آدم في هذا العالم بحيث أصبح نطقه في كل باب مستوجباً خرس الفلسفات وخضوع الأديان الأخرى، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعه .

والله سبحانه أرسل الحق في هذا الكتاب الهادي وجعل معه الأمر بالسيف الناصر فإن حقاً لا تعضده القوة لا يبلغ مأمنه.

واستمرت حالة الصراع بين الحق الذي جاء به الوحي وبين ما في الفلسفات وبقايا الأديان من باطل وحق مشوب بباطل واستمرت الكفة راجحة لللإسلام وأهله زهاء اثني عشر قرناً من الزمان، و مهما بلغ ضعف الإسلام في بعض فتراتها إلا أنه لم يبلغ قط أن يضعف ضعف الفلسفات والأديان التي كان يصارعها.

(2)

حتى دخلنا في هذه العصور الحديثة منذ مائتي عام ونيف فإذا بميزان القوة في العالم يتغير وإذا ببلاد الإسلام التي تحمل على عاتقها منظومة القيم والمفاهيم يعمها وللمرة الأولى في التاريخ أن تصير جميعها كلها مغلوبة خاضعة، وإذا بالسيف الناصر ينكسر ولا يبقى بين أيدي الناس سوى الكتاب الهادي وهم يختلفون فيه.

وبدأت منذ هذا التاريخ معركة المفاهيم الأولى في العصر الحديث بين منظومة القيم والأفكار التي تحملها الحضارة الغربية الغازية الغالبة وبين منظومة القيم والأفكار التي جاء بها الوحي ويحملها المسلمون.

وأنتجت معركة المفاهيم الأولى قسمة جديدة في المسلمين إلى تيارات ثلاثة رئيسة بحسب موقفهم من تلك المنظومة الغربية

1- : تيار الحداثة والتغريب والعلمنة

2- تيار التنوير الإسلامي .

3- تيار التأصيل والمحافظة.

ومعيار القسمة فيهم هو الموقف من منظومة المفاهيم والأفكار الغازية فالتيار الأول قبل منها ما أضاع به من الدين ما يبلغ أن يكون كفراً ، والثاني رد منها هذا الكفر وقبل منها أشياء تُضيع قطعيات من الدين لا تبلغ إضاعتها أن تكون كفراً والثالث أقام حزاماً صلباً من الممانعة فلم يقبل من تلك المنظومة الغربية ما يكون كفراً ولا ما يضيع قطعياً من الدين وجهد أن يقبل ما لا يتعارض أو يتناقض مع منظومة المفاهيم التي أتى بها الوحي وإن كان تشدده في الممانعة أعاقه أحياناً عن قبول أشياء من الحق الذي لا يعارض ديننا ، وأورثه هذا التشدد في الوقت نفسه ألواناً من البغي على مخالفيه من التيار الثاني.

فرأينا في تلك المرحلة جهود علماء المسلمين ومفكريهم سواء من تيار التنوير أو من تيار الأصالة فكانت مساهمات الأفغاني ومحمد عبده ومصطفى عبد الرازق ورشيد رضا وحسن البنا وعلي الطنطاوي ومصطفى صبري وأحمد شاكر ومحمود شاكر ومحب الدين الخطيب ومحمد الخضر حسين .

وبعد خروج الاستعمار من بلاد المسلمين وتركه في سدة الحكم في أكثر البلاد حكومات مسلمة الهوية علمانية الأيديولوجيات جاءت معركة المفاهيم الثانية التي رأينا فيها مساهمات الجيل الثاني من تياري التنوير والأصالة فكانت كتابات سيد قطب وأنور الجندي ومحمد محمد حسين ومحمد قطب وعبد الرحمن السعدي ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ وعبد العزيز بن باز وعبد الرحمن الدوسري وسفر الحوالي ومحمد الغزالي والبهي الخولي ويوسف القرضاوي وعبد القادر عودة ومصطفى السباعي ومحمد عمارة وصلاح سلطان.

(3)


والفكرة التي يحملها هذا المقال هي أننا ومنذ سقوط الاتحاد السوفيتي مروراً بأحداث سبتمبر وغزو العراق وأفغانستان نمر بمرحلة مخاض لمعركة المفاهيم الثالثة والتي حملت الثورات العربية نذير ولادتها.

وهذه المعركة فيما أرى ستكون أعنف المعارك الثلاث لأسباب عدة منها :


(1) أن تيار التنوير الإسلامي والذي لم يتخل قط عن ممانعته للمفاهيم الغربية رغم سقوطه في حمئتها أحياناً = يشهد الآن أضعف جيل له ممانعةً وأكثر أجياله قبولاً للعلمانية وتشرباً لمضامينها وهو في الوقت نفسه أكثر أجيال هذا التيار ضعفاً في أدواته الشرعية.

(2) أن التيار اِلإسلامي المرشح بصورة أساسية(وليس الوحيد) لحمل راية الممانعة والأصالة هو التيار السلفي وقد أتت عليه الثورات العربية فزادته تشظياً وقذفت بأعداد كبيرة منه في دوامة السياسة وبعدد آخر في دوامة الصراعات الداخلية مع التيارات السلفية وغير السلفية الأخرى فلم يبق قادراً على القيام بمهمة فكرية كهذه إلا بقايا السلفية العلمية (العلمية تعبير اصطلاحي يراد به غير الحركية السياسية وغير الجهادية).

(3) وهذه السلفية العلمية رغم أن أدواتها الشرعية ليست كما نطمح إلا أنها قياساً إلى باقي التيارات الإسلامية تعد أدوات جيدة جداً بل هي قياساً إلى أدوات تيار الممانعة والأصالة في المعركتين السابقتين تعد أفضل من بعض النواحي ، لكن تبقى المشكلة الأكبر في ضعف أدوات هذا التيار فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية والمناهج الحديثة وهو ضعف يصل إلى درجة الاضمحلال والعدم أحياناً كثيرة ، ويزيد من خطره أن كثيراً من أولئك السلفيين لا يشعرون بأهمية تلك العلوم أصلاً بل ربما زهدوا فيها ونفروا منها، وخطر الجهل يضَّاعف إن صاحبه خطر الاستهانة.

(4) من أعظم ما يعين في معارك المفاهيم إقبال العامة على الدعاة والعلماء وإصغاؤهم لهم ورجوعهم إليهم وقلة ما يطرق أسماعهم مما يخالف كلام أولئك العلماء ، والحال الآن غير هذا فلا العامة تأذن لعلمائها أذنهم لهم فيما سبق، ولا فراغ الدعاة للعامة واقترابهم منهم هو كما كان آنفاً ، ووسائل الإعلام المشرعة المتكاثرة كالسيل يحمل حمماً تجعل الواردات على قلوب العامة وأسماعها مما يجب أثر كل داعية وواعظ ، كل هذا يزيد صعوبة معركة المفاهيم الحالية جداً.

(5) وأخيراً الصراع الإسلامي الإسلامي والذي تزيده السياسة عنفاً وتزيده قلة الفقه في نخب الإسلاميين ضراوة.

تلك خمسة أسباب منتقاة، جميعها مما يزيد معركة المفاهيم الحالية شدة وعسراً ويجعلها أعنف وأخطر معركة مفاهيم مرت بها الأمة الإسلامية في تاريخها وتاريخها الحديث بالذات.


في مقال قادم نتنتاول شيئاً من المقترحات المعينة على خوض هذه المعركة بإذن الله.

أبو فهر السلفي

المصدر: http://www.tafsir.net/vb/tafsir32846/#ixzz23Cl2F4nd

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..