الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

الفوارق بين مدرستي السلفية والوهابية

(1)لو نظرنا إلى مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب من زاوية الطرح العقائدي والطرح الفقهي غير السياسي، بل حتى من زاوية الطرح السياسي الذي يشيع خلال مراحل الاستقرار والهدوء، فقد لا نجد سوى إحدى صور الطرح السلفي. أما إذا تم النظر من زاوية السياسة فقط، خصوصاً خلال مراحل التأسيس والتحول والأزمات، فقد نجد صورة شديدة الاختلاف.

غير أن إيضاح تلك الصورة والتعرف عليها بموضوعية وتجرد لن يكون سهلاً، فالمصالح والمخاوف السياسية تمنع ذلك والمضامين السلفية الإيجابية في ميادين العقيدة والعبادة والفقه غير السياسي تقدم غطاء كثيفاً يحول دون إبصار المضامين السياسية المختلفة في مدرسة الشيخ.
ولو سألنا أي مسلم عن منهج الخوارج ومذهب الإرجاء فقد لا يتجاوزان في وعيه حدود صورهما التاريخية. وإن ظهر الإفرازان في إطار مضمون جديد فقد لا يتنبه إليهما وقد لا يسلم بوجودهما، لأنه يبني الرؤية على الأمثلة التاريخية والسياق التاريخي لا على جوهر الانحرافات وطبيعتها التي قد تظهر في سياق آخر وتقدم أمثلة أخرى.
لننظر إلى هذا النص حول ما دار في لقاء تاريخي بين شيخ وأمير: ".... فأخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دعا إليه، وما كان عليه صحابته رضي الله عنهم من بعده..... وما أعزهم الله به من الجهـاد في سبيل الله..... فلما تحقق للأمير..... معرفة التوحيد، وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنيوية، قال له: يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه، فأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به، والجهـاد لمن خالف التوحيد، ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين: نحن إذا قمنا في نصرتك، والجهاد في سبيل الله، وفتـح الله لنا ولك البلدان، أخاف أن ترتحل عنا وتستبدل بنا غيرنا. والثانية : أن لي على ( أهل البلد ) قانوناً ( إتاوة ) آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئاً. فقال الشيخ : أما الأولى فابسط يدك : الدم بالدم والهدم بالهدم، وأما الثانية : فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منهم. فبسط الأمير محمد يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيله.....".
وإذن، فمنذ اللقاء الأول هناك حديث صريح وواضح عن " الجهاد " الذي أعز الله به الرسول والصحابة، والوعد بـ"الجهاد لمن خالف التوحيد" و"فتح" البلدان، و"الفتوحات" و"الغنائم" ومبايعة الشيخ على دين الله ورسوله "والجهاد في سبيله".
هذه الرؤية، وهذه المنطلقات التأسيسية، هل تنتمي إلى الطرح السلفي، أم أنها صورة صارخة من صور التكفير والإعداد للخروج؟!
الواقع أنه لولا المصالح والمحاذير السياسية، ولولا أن المضامين السلفية الإيجابية في ميادين العقيدة والعبادة والفقه غير السياسي تقدم غطاء كثيفاً يحول دون إبصار المضامين السياسية المختلفة في مدرسة الشيخ والنظر إليها بمعزل عما عداها، لما رأى المرء في تفاصيل ذلك اللقاء التاريخي سوى تجسيداً نموذجياً لثقافة التكفير.
هناك مرحلتان يتعين استيعابهما والتمييز بينهما في التجربة السياسية ذات العلاقة بمدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أولاهما مرحلة التكفير و"الجهاد"، وقد بدأت منذ الشروع في تأسيس الدولة السعودية الأولى إلى أواخر مراحل تأسيس الدولة السعودية الحديثة.
أما المرحلة التالية، فهي مرحلة الانفصـال بين ثقافة التكفير ودعوى المُلك. وفي هذه المرحلة انتهت حالة الاقتران بين التكفير والمُلك باستبعاد التوجهات الجهادية ضد المسلمين من الميدان السياسي والقضاء على أبرز رموزها وتقليص وتهذيب منابعها الثقافية وإشاعة الطرح السلفي القديم، ولكن دون النيل من مشروعية مرحلة الاقتران ومرجعيتها وقيمة ومكانة رموزها وتبعاتها السياسية والثقافية في غير الجانب الجهادي ضد المسلمين، الأمر الذي أدى إلى إفراز مسارين متمايزين ينتميان إلى ذات التجربة وذات الثقافة، وهما المسار الرسمي الذي تتبناه الدولة ومن يدور في فلكها.
وهذا المسار يعبر عن جوهر ثقافة الإرجاء حتى وإن اختلفت المقولات أو الأمثلة التفصيلية. وبموجبه يتم توظيف كل شيء لمصلحة أهل المُلك، بما في ذلك مفاهيم الطاعة والمصلحة والفتنة والبدعة، ويجري تغييب الكثير من حقائق مرحلة الاقتران بين التكفير والمُلك أو تصويرها بغير صورتها مع الحفاظ على أهم سمات الثقافة الطائفية والبنيان الطائفي الذي تشكل عبر التجربة التاريخية الطويلة.
أما المسار الآخر الذي نشأ بعد انفصال التكفير عن المُلك فهو المسار المستقل الذي لا يخضع للسلطة ولكنه يصدر عن ذات الثقافة وذات التجربة، فيكون استقلاله بمثابة عودة إلى الجذور والمنطلقات التأسيسية حيث ثقافة التكفير و"الجهاد".
هذان المساران اللذان انفصلا منذ أواخر مراحل إقامة الدولة السعودية الحديثة أتيحت لكل منهما فرصة الظهور والامتداد الواسع بعد انفصالهما، وذلك لعدة أسباب من أهمها زوال المركز الإسلامي الجامع بسقوط الدولة العثمانية، وعدم نشوء مركز إسلامي بديل في الحواضر العربية التقليدية لوقوعها تحت الاستعمار ودخولها في مرحلة التبعية الثقافية وتحولها إلى مراكز وسيطة باتجاه الثقافة الغربية، ثم تدفق الثروة النفطية التي حولت معظم مناطق الجزيرة العربية إلى مراكز جذب ووفرت فرصاً واسعة للتأثير الاقتصادي والامتداد الثقافي وتجاوز الكثير من عوائق التنمية المادية، إلى جانب انتقال أهل التغلب إلى آفاق جديدة مليئة بإمكانات وفرص التفرد والنفوذ والتأثير والاستتباع الداخلي والتبعية الخارجية لبعض القوى الدولية الفاعلة.
هذه العوامل مجتمعة وفرت للإفرازات الثقافية المنطلقة من قلب الجزيرة العربية فرصة واسعة للرسوخ والامتداد والتأثير، سواء على صعيد ثقافة الإرجاء التي تخففت من أقوى القيود دون أن تفقد فرص استثماره أو استثمار تبعاته ضد خصومها السياسيين وضد موجات الثقافة السياسية الخارجية، أو على صعيد الثقافة التكفيرية التي ظلت كامنة ومهيأة للظهور بين وقت وآخر، سواء لأسباب محلية مرتبطة بالمستجدات أو الموجات الثقافية الخارجية أو التنوع الطائفي، أو لأسباب خارجية نابعة من الاختلافات السياسية أو الثقافية أو الطائفية مع البلدان العربية والإسلامية أو نابعة من الاحتلال الأجنبي لبعض تلك البلدان.
وكلما كانت أفكار التكفير أو الجهاد منسجمة مع مصالح أهل التغلب أو خادمة لهم كلما استدعيت ورفعت عنها القيود أو حظيت بالدعم، وكلما كانت مناقضة لمصالحهم أو مهددة لها حوصرت وتمت مجابهتها وتصنيفها ضمن الضلال أو الإرهاب.
منذ بدء تأسيس الدولة السعودية الأولى إلى أواخر مراحل تأسيس الدولة السعودية الحديثة كانت الثقافة التأسيسية الشائعة والمهيمنة هي ثقافة "الجهاد" ضد "المشركين"، وكان أهل المُلك أئمة للجهاد وممكنين للدين.
وخلال المرحلة التي تلتها تم استبعاد ثقافة الجهـاد ضد الآخرين وتحولت مجمل التجربة التاريخية إلى ثقافة طائفية وبنيان طائفي خادم لأهل المُلك ومرتهن لهم ودافع باتجاه ثقافة الإرجاء على الصعيد السياسي. غير أن المضامين التكفيرية والجهادية ظلت قابلة للاستلهام والإحيـاء خارج الإطار الرسمي بين وقت وآخر.
أما أهل المُلك، فأصبحوا من أبرز قادة "الحرب على الإرهاب" حتى في مواجهة المحتلين الذين لا شك في مشروعية مقاومتهم، ومن أبرز حلفـاء القوى الغربية في المنطقة، ودون التفريط بالمشروعية الدينية والسياسية التي تشكلت خـلال مرحلة اجتماع التكفير والتغلب.
لا شك في أن الكثير من حقائق المراحل التي سبقت اكتمال قيام الدولة السعودية الحديثة مغيبة، حيث يتم مد الشعار السلفي إليها، في حين أنها كانت مراحل لفكر التكفير والجهاد ضد المسلمين.
صحيح أن الطرح السائد في ميدان العقيدة كان الطرح السلفي، ولكن ذلك حدث حتى قبـل ظهور دعوة الشيخ، وبعد اكتمال قيام الدولة السعودية الحديثة، ويحدث حالياً. أما ما اختصت به المراحل التي بدأت منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى إلى أواخر مراحل تأسيس الدولة السعودية الحديثة، فكان فكر التكفير والجهاد ضد المسلمين بالتحالف مع أهل المُلك.
وحين يقصر الناظر رؤيته على المراحل التي تلت قيام الدولة السعودية الحديثة، فإنه قد لا يرى سوى الطرح السلفي الذي يشدد على طاعة ولي الأمر وتحريم الخروج، وقد لا يرى سوى مجابهة أهل المُلك لأفكار التكفير وريادتهم في "الحرب على الإرهاب" وعلى الجهاد المشروع وعلاقاتهم المتميزة مع أبرز القوى الدولية وتمتعهم بقدر كبير من التأييد الديني والاجتماعي داخلياً.
غير أن هذه الصورة اللاحقة هي على النقيض من الصورة التاريخية التي تم الانقلاب عليها واستبعادها من الميدان السياسي والقضاء على أبرز رموزها، وذلك بعد أن أسست لرابطة وثقافة وبنيان طائفي مهيأ لأهل المُلك.
وكل التعديلات التي طرأت بعد ذلك باستبعاد ثقافة التكفير والجهاد ضد المسلمين من الميدان السياسي وإشاعة الفقه السياسي السلفي هي من قبيل تعديل المنجزات التاريخية لتتواءم مع المُلك بصورة أكبر وأوسع، ودون أن يظهر حجم الأثمان التي تم دفعها في مقابل إنجاز الرابطة والثقافة والبنيان الطائفي القائم، ثم ساعد ظهور الثروة النفطية في تحقيق الكثير من المنجزات المادية والمعيشية، وذلك على نحو أسهم في زيادة تغييب الصورة التاريخية وتجنب الكثير من الإخفاقات والمصاعب التي كان يمكن أن تقود إليها الصورة المعدلة.
بل تم توظيف الثروة لصالح الجمع بين الصورتين بكل تناقضاتهما، الأمر الذي أس

لاكمال الورقة برجاء فتح الرابط:


إبراهيم الخليفة - مجلة العصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..