منها أن تتغابى وتتساذج أمام إنسان تريد دفع شره,
وهو يريد ما لا يستحقه من المحبة والإكرام؛ فتظهر له مودة كاذبة بشرط ألا تضمر له
سوءاً, وتظهر له التغابي حتى لا يعلم ما عندك من اشمئزاز من أخلاقه وأنت لا تقدر
على مناصحته مصارحة؛ فلا مندوحة لك من الاستعلاء على ذكائه وخساسة طبعه بالتغابي؛
وذلك هو منتهى الذكاء, ولا يضيرك أن تكون عنده (في وجدانه, وفي حديثه للناس)
ساذجاً.. وهذا التغابي مما أفخر به.
ومنها أن تجد متودداً إليك لحاجة يريدها, وهو
محتاج, وأنت قادر على قضائها, وأنت تعلم بالفراسة أو بالتجربة معه أو بالنقل عن
الناس: أن هذا الوداد والصلة سينقطعان بعد قضاء حاجته, وسيعطيك عرض أكتافه, ولن
يعود إلا لحاجة أخرى: فهذا لا يحل لك أن تتغابى عن حاجته, ولا أن ترده بالتظاهر عن
عجزك؛ لأنك لا تريد منه جزاءً ولا شكوراً؛ فإن تردد عليك كثيراً إذا عنت له حاجة
وأنت قادر وهو محتاج فالأفضل أن تصبر وتقضيها؛ فإن ضاق صدرك عن التحمل فلا بأس أن
تظهر له ذكاءك وفراستك وأن تعنفه؛ لتردعه عن طبعه اللئيم.
ومنها أن تبلى بمتودد دائم الاتصال بك, وتعلم
بالفراسة والتجربة أنه ميسور الحال؛ وإنما يريد التكثر لنفسه لما يراه من مظاهر
النعم عليك؛ فيظنك ذا مال, أو كان مستكثراً نعمة الله عليك, أو كان يريدك سلّماً
للجاه والشفاعة؛ فهذا استعمل معه قليلاً من التغابي حفاظاً على مواصلته لك, وإذا
أراد منك شفاعة له أو لغيره فتعامل معه على حذر, وتأكد من صحة وأحقية الشفاعة, ولا
تجبن عن المصارحة والاعتذار والتأنيب إذا كان المطلوب شفاعةً فيما لا ينبغي ولا
يحل, وقد أثر عن بعض الوجهاء الفضلاء في القصيم قوله: (أشفع في كل شيء إلا في
الخساسة والسياسة).. وإن كان متكثراً أو مستكثراً فتعامل معه تصريحاً وتلميحاً بأنك
تعرف أنه ميسور الحال, وأنه لا فضل عندك لرزق, وأن عندك أعباءً, أو قل له المثل
العامي (كل أعلم بظلماء داره).. فإن جاءك بمسترفد وتيقنت أنه محتاج فساعده بما تقدر
عليه, وارم على الشافع كلمة تشعره بواجبه كأن تقول: (كلانا عليه مسؤولية تجاه مثل
هذا).. ولقد كنت حصيفاً في مثل هذا, ولكن الحذر لا يرد القدر؛ فقد تردد علي عدة
أعوام في رمضان كفيف حسن الهيئة, وكل جيئة يقوده رجل سعودي مرة وغير سعودي مرة, وهو
يشفع للقائد بخطاب منه عليه اسم الشيخ فلان بن فلان, والتوقيع بخاتمه, وهو قريب
لشيخ فاضل أعرفه؛ فظننت أنه من أسرة علم, وكنت أرى عينيه طائرتين؛ فظننت أن هذا هو
ما تسميه العامة (السويرق), وهو تحول الماء الأبيض إلى الأزرق؛ إذ تكون العين فاتحة
طائرة لا تركز النظر على شيء, وفي آخرة اجتهدت له بالشفاعة بخطاب مني إلى صاحب
السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن فهد آل سعود حفظه الله؛ فاتصل مكتب سموه بمجلة
الدرعية, وأبلغوهم أن علي أن أخبرهم إذا حضر عندي؛ فظننت أن ذلك من أجل تسليمه
المساعدة؛ فلما جاء أخبرته؛ فقام على عجل وهو يقول: (جزاك الله خيراً.. جزاك الله
خيراً.. إلخ)؛ فظننت أن ذلك من شدة الفرح, ولم أره بعدها, ولا عنوان له عندي؛ فلما
جاء النذير من مجلة الدرعية أخبرني أن المطلوب: (إخبار مكتب سموه لا إخباره هو)؛
ليقبضوا عليه؛ لأنه محتال, وليس أعمى, وليس شيخاً, ويقتسم المساعدة مع قائده!!.. ثم
جاء الأمن إلى مجلة الدرعية للبحث عنه, وأفاد أن المسجد الذي يصلي فيه مهجور في
إحدى الهجر.
ومن الصور أن ترمي بك المصادفة إلى قوم توشجت
بينك وبينهم مودة الأريحية والأدب وربما الفن, ثم استلمحت عندهم بدعةً يخفون حقيقة
ممارستها, وأنت تريد معرفة ما عندهم ولا قصد لك إلا معرفة الحقيقة, وأن تقر لهم بما
هو صحيح, وتناصحهم برفق فيما ليس بصحيح, وتصغي لهم في النقاش, وتطلب منهم أن يصغوا
إليك؛ فما أعظم قدر التغابي والتساذج ههنا؛ من أجل ألا يتحفظوا منك, ومن أجل أن
يروك الواقع؛ فكن ههنا واحداً منهم, وتودد إليهم, وعاشرهم بأريحية حتى تعلم حقيقة
البدعة, ثم صارحهم -وأنت تحب لهم الخير, وتشفق عليهم-, ولا تكن جافياً ولا متزمتاً؛
فأظهر لهم ما عندك من اجتهاد وعلم عن المحرم والمباح في ذلك, وتحمل جفوتهم, وأصغ
إلى ما عندهم من محاورة إن لم يستكبروا على المطارحة, وتوقف حين ترى العناد, ولا
تقطع حبل الوداد ما دمت تطمع بأن يكون ابتغاء الحق هو المقصد؛ فإن قطعوا حبل الوداد
فلا تأس عليهم؛ وبذلك تعرف حقيقة البدعة؛ فلا تغبن في محاورة من يتعبد لله بالكذب
والتظاهر بما هو خلاف واقع البدعة.
ومنها أن تكون ذا صلة بمسؤول كثير الخير ممدح,
وأنت تريد له الخير والتوفيق دنيا وآخرة, وتشفق عليه فيهما؛ فهذا يجب التغابي
والتساذج معه حتى يحملك على سذاجة الحال, ولا يصدمك بالزجر وأنت تريد دبيب التوصيل
الكريم إليه كدبيب النعاس إلى العين؛ ومن ثم لا يحوجك إلى التحفظ منه؛ فتوصل ما
عندك من النصح وإبداء الرأي مطمئناً, ويرتاح ضميرك على أنك صدقته -بفتح الصاد
والدال المهملتين-, وأديت بعض حقه فيما أسدى إليك من الخير والإحسان.. ولا ينبغي أن
تنصح فيما أنت مقترفه من المكروه أو السيئ؛ فما أعظم من ينهى عن شيء وهو يأتيه, أو
يأمر بشيء وهو تارك له.. ولست أستحمد منهج الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى
(وهو من العلماء العباد الأفذاذ مع كثرة مزاحه إلى حد استنكره بعض أحبابه, ومثله في
المزاح الإمام أبو إسحاق الحربي رحمهما الله تعالى)؛ فقد كان سفيان يصك المسؤول صك
الجندل, ولا يقبل هديته, ويتهرب منه, وربما دعا عليه, وربما نال منه في المجلس؛
فالأمران الأخيران لا يحلان تجاه المسلمين من ذوي السلطة، والأمور التي قبلها من
باب الورع.. وأما المسؤول من رجال العلم الشرعي فناصحه إذا قصر في مسؤوليته مشافهة
أو مكاتبة فإذا لم يمتثل فنل منه وحذر؛ لأن عنده مسؤولية البلاغ عن شرع الله,
ومنصبه مشروط بالعلم والعمل.
• • •
ومن صور التغابي التغافل في العتاب رحمةً
بالمعاتب (بصيغة اسم المفعول), واستبقاءً لاستقامته، وهذا تغافل محمود من خلق رسول
الله صلى الله عليه وسلم كما قص الله عنه في قوله سبحانه وتعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ
وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا
نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ
الْخَبِيرُ. إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن
تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ). (التحريم:٣,٤)؛ فإعراضه
صلى الله عليه وسلم عن بعض ليس غفلة, ولكنه تغافل من كريم خلقه وهو على خلق عظيم,
وهو عليه الصلاة والسلام عالم بكل التفاصيل.. كيف لا وقد نبأه العليم الخبير جل
جلاله؟!.
قال أبو عبدالرحمن: يفرح من في قلبه مرض بمثل هذا
القصص في سورة التحريم, وهذا المرض هو الذي دفع خليل عبدالكريم إلى تأليف كتابه ذي
العنوان القبيح (شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة)؛ فانتحل مذهب الرافضة في الإحنة
على أفضل المجتمعات في الإسلام, وهم واسطتنا في إبلاغ الدين الذي تولى الله حفظه؛
فضمانة الله تلك قاضية قطعاً بأن يكونوا خير أمة على العدالة في الديانة وفي الفتوى
وفي إبلاغ نصوص الشرع؛ فيا ويله من يوم تشخص فيه الأبصار إن لم يتب كما فعل الدكتور
الطلعة عبدالرحمن بدوي لما تراجع آخر حياته عن ضلالات الوجودية الغثائية التي صرف
فيها عمره بعد إلمامه العجيب بالفلسفة قديمها وحديثها؛ فبحمد الله وفضله أناب إلى
ربه.. والذي يعنيني ههنا من سيرة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن في إذاعة بعضهن سر
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الأخبار الصحيحة وملابساتها قضت بأن الله عاصم
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفواحش والنفاق جملةً وتفصيلاً, وعاصم
السابقين الأولين من كل نقيصة تجرح الديانة, وأن الله سبحانه يستكثر عليهم القليل
من المخالفة, ويعظم عتابه لهم؛ ليجردهم للعبودية الخالصة كما فعل مع أفضل الخلق
عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالعتاب العنيف في أكثر من آية بالتخويف من
شيء لم يقع منه ولن يقع؛ ليكون كما هو عليه أعبد العابدين, ولتأديب أمته ذات
الخيرية, ومن تلك الآيات الكثيرة قوله تعالى: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا
لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ
الظَّالِمِينَ) (يونس: ١٠٦), وقوله: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا
إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ
الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَلاَ تَكُونَنَّ
مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (يونس:
94, 95), وهكذا ما جاء في سورة الإسراء وسورة القلم وغيرهما.. وأما أمهات المؤمنين
رضي الله عنهن فهن قدوة النساء والصالحين في امتثال الشرع والخوف من الله, ولكن لهن
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علاقة خاصة هي دالة الزوجية, وما رتب الله عليها
بقضائه الكوني من عنف الغيرة؛ فإذا كانت المرأة تغار غيرةً شديدة على زوجها متوسط
الدين فكيف لا تكون الغيرة أعنف على المحمود المحمد أفضل عباد الله ذي الخلق
العظيم؛ فهذه الغيرة العنيفة عن حب أعنف لا من جهة الزوجية وحسب, بل عن حب المصطفى
صفوة الخلق, وأعبد العابدين, وأكرم الناس خلقاً.. ثم أظهر الله استعلاءهن على عنف
الغيرة التي هي جبلة بشرية لـما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاخترن طاعة
الله ثم العصمة في ذمة رسوله وسياق الحديث يدر الدموع عن حال أمهات المؤمنين رضي
الله عنهن أورده بتحرير الإمام ابن كثير.. قال رحمه الله تعالى: (ومما يدل على أن
عائشة وحفصة رضي الله عنهما هما المتظاهرتان (أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم)
الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده.. قال: حدثنا عبدالرزاق: أخبرنا معمر:عن
الزهري: عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور: عن ابن عباس (رضي الله عنهم).. قال:
لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
اللتين قال الله تعالى فيهما: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) حتى حج عمر (رضي
الله عنه) وحججت معه؛ فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة؛ فتبرز ثم
أتاني, فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين: من المرأتان من أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى فيهما: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت
قلوبكما)؟.. فقال عم: واعجباً لك يا ابن عباس -قال الزهري: كره والله ما سأله عنه,
ولم يكتمه-.. قال : هما حفصة وعائشة.. قال: ثم أخذ يسوق الحديث.. قال: كنا معشر
قريش قوماً نغلب النساء؛ فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق
نساؤنا يتعلمن من نسائهم.. قال: وكان منزلي في دار بني أمية بن زيد بالعوالي.. قال:
فغضبت يوماً على امرأتي فإذا هي تراجعني؛ فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن
أراجعك؛ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم
إلى الليل؟!..قال: فانطلقت فدخلت على حفصة؛ فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟.. قالت: نعم.. قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟.. قالت: نعم.. قلت: قد
خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله؛ فإذا هي
قد هلكت؟.. لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا تسأليه شيئاً, وسليني من
مالي ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم منك -يريد عائشة رضي الله عنهم-.. قال: وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب
النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينزل يوماً, وأنزل يوماً؛ فيأتيني بخبر
الوحي وغيره, وآتيه بمثل ذلك.. قال: وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل (أي تلبسها حذاء
الحديد) لتغزونا؛ فنزل صاحبي يوماً ثم أتى عشاءً، فضرب بابي ثم ناداني، فخرجت إليه
فقال: حدث أمر عظيم.. فقلت: وما ذاك: أجاءت غسان؟.. قال: لا بل أعظم من ذلك وأطول:
طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه.. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت.. قد كنت أظن
هذا كائناً.. حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي, ثم نزلت، فدخلت على حفصة وهي
تبكي, فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.. فقالت: لا أدري.. هو هذا معتزل
في هذه المشربة.. فأتيت غلاماً له أسود، فقلت: استأذن لعمر.. فدخل الغلام ثم خرج
إلي؛ فقال: ذكرتك له فصمت.. فانطلقت حتى أتيت المنبر؛ فإذا عنده رهط جلوس يبكي
بعضهم؛ فجلست عندهم قليلاً, ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر..
فدخل ثم خرج فقال: ذكرتك له فصمت.. فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد, فأتيت
الغلام فقلت: استأذن لعمر.. فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت.. فوليت
مدبراً؛ فإذا الغلام يدعوني, فقال: ادخل قد أذن لك.. فدخلت فسلمت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ فإذا هو متكئ على رمال حصير.. قال الإمام أحمد: وحدثناه يعقوب في
حديث صالح: رمال حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟.. فرفع رأسه
إلي وقال: لا.. فقلت: الله أكبر، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوماً
نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من
نسائهم، فغضبت على امرأتي يوماً؛ فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما
تنكر أن أراجعك؛ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن
اليوم إلى الليل؟!.. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر؛ أفتأمن إحداكن أن يغضب
الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟.. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فقلت: يا رسول الله: فدخلت على حفصة فقلت: (لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك).. فتبسم أخرى.. فقلت: أستأنس يا رسول
الله؟.. قال: نعم.. فجلست فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت في البيت شيئاً يرد
البصر إلا أهبة ثلاثة؛ فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك؛ فقد وسع على
فارس والروم وهم لا يعبدون الله.. فاستوى جالساً, وقال: أفي شك أنت يا بن الخطاب؟..
أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا.. فقلت: استغفر لي يا رسول الله..
وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً؛ من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل..
وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري به, وأخرجه الشيخان من
حديث يحيى بن سعيد الأنصاري: عن عبيد بن حنين: عن ابن عباس (رضي الله عنهم) قال:
مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبةً له حتى خرج
حاجاً؛ فخرجت معه, فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له.. قال:
فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه؛ فقلت: يا أمير المؤمنين: من اللتان تظاهرتا على النبي
صلى الله عليه وسلم؟.. هذا لفظ البخاري، ولمسلم: من المرأتان اللتان قال الله تعالى
فيهما: (تظاهرا عليه)؟. قال: عائشة وحفصة.. ثم ساق الحديث بطوله، ومنهم من اختصره..
وقال مسلم أيضاً: حدثني زهير بن حرب: حدثنا عمر بن يونس الحنفي: حدثنا عكرمة بن
عمار: عن سماك بن الوليد أبي زميل : حدثني عبد الله بن عباس، حدثني عمر بن الخطاب
(رضي الله عنهم) قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد،
فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه.. وذلك
قبل أن يؤمر بالحجاب؛ فقلت: لأعلمن ذلك اليوم، فذكر الحديث في دخوله على عائشة
وحفصة ووعظه إياهما إلى أن قال: فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه
وسلم على أسكفة المشربة، فناديت فقلت: يا رباح: استأذن لي على رسول الله صلى الله
عليه وسلم.. فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال: فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من أمر
النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل, وأنا وأبو بكر,
والمؤمنون معك، وقلما تكلمت -وأحمد الله- بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي،
ونزلت هذه الآية، آية التخيير: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزوجاً خيراً منكن),
و(وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصلح المؤمنين والملائكة بعد ذلك
ظهير).. فقلت : أطلقتهن؟.. قال: لا.. فقمت على باب المسجد, فناديت بأعلى صوتي: لم
يطلق نساءه, ونزلت هذه الآية: (وإذا جاءهم أمر من الأمن والخوف أذاعوا به ولو ردوه
إلى الرسول وأولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)؛ فكنت أنا استنبطت ذلك
الأمر.. وكذا قال سعيد بن جبير، وعكرمة، ومقاتل بن حيان، والضحاك، وغيرهم رحمهم
الله تعالى: (وصالح المؤمنين) أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما).. زاد الحسن البصري:
وعثمان (رضي الله عنه).. وقال ليث بن أبي سليم : عن مجاهد: (وصالح المؤمنين) قال:
علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين: حدثنا
محمد بن أبي عمر: حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: أخبرني رجل ثقة
يرفعه إلى علي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله: (وصالح
المؤمنين).. قال: هو علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).. إسناده ضعيف. وهو منكر
جداً.
وقال البخاري: حدثنا عمرو بن عون: حدثنا هشيم: عن
حميد: عن أنس قال: قال
عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم (ورضي
عنهم جميعاً) في الغيرة عليه، فقلت لهن: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزوجا خيراً
منكن) فنزلت هذه الآية، وقد وافق القرآن في أماكن منها في نزول الحجاب، ومنها في
أسارى بدر، ومنها قوله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟.. فأنزل الله: (واتخذوا من
مقام إبراهيم مصلى).. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا الأنصاري: حدثنا حـميد:
عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنهم): بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين
وبين النبي صلى الله عليه وسلم, فاستقريتهن أقول: لتكفن عن رسول الله أو ليبدلنه
الله أزواجاً خيراً منكن حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين، فقالت: يا عمر: أما لي
برسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن!.. فأمسكت، فأنزل الله عز وجل: (عسى ربه إن
طلقكن أن يبدله أزوجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات
وأبكارا). وهذه المرأة التي ردته عما كان فيه من وعظ النساء هي أم سلمة، كما ثبت
ذلك في صحيح البخاري..
أبوعبدالرحمن بن عقيل الظاهري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..