اقتضت
سُنَّة الله الكونية أنَّ أي مؤسسة أو منظمة أو حركة أو دولة: لها دَورة
حياة مِثلُها مثلُ الكائن الحي،
ويرى المنظِّرون لهذه السُّنة أنَّ لكل
مرحلة من مراحل المنظَّمات العُمُرية سمة بارزة تتأثر ببعدين:
الأول: القدرة على التنفيذ والإنجاز.
والآخر: القدرة على رؤية الجديد.
والآخر: القدرة على رؤية الجديد.
حيث تَمُرُّ المنظمة بأربع مراحل نموٍّ، هي:
اليفاع: حيث تكون قدرة الفريق على الإبداع ورؤية الجديد قوية، بينما قدرته على تنفيذ المهام والإنجاز ضعيفة بسبب حداثة العناصر البشرية وضعف خبرتها، وربما ضعف الموارد المالية.
اليفاع: حيث تكون قدرة الفريق على الإبداع ورؤية الجديد قوية، بينما قدرته على تنفيذ المهام والإنجاز ضعيفة بسبب حداثة العناصر البشرية وضعف خبرتها، وربما ضعف الموارد المالية.
التمكُّن: في هذه المرحلة تكون قدرة الفريق على الإبداع عالية وخبرته كبيرة، فيكون في أعلى حالاته وأفضلها.
النضج: في هذه المرحلة يعتمد الفريق على خبراته المتراكمة، التي تحجبه عن الجديد وتُضعِف قدرتَه على الإبداع، فيصبح أسيرَ نماذجِه الخاصة.
الزوال:
الخبرات التي كان يحملها الفريق لفترة طويلة صارت قديمة وغير مؤثرة،
والفريق لا يمتلك القدرة على التجديد، ومن ثَمَّ يتجاوزه الزمن.
ويمكن توضيح المراحل التي تمر بها أي منظمة في الشكل التالي:
شكل (1): نظرية (دورة حياة المنظمة).
ولكي
تتجنب المنظمة (أو تؤخِّر) وصولَها للمرحلتين الثالثة والرابعة، تلجأ إلى
تجديد الدماء في فريق العمل، ابتداءً من تغيير القائد؛ حيث تُشبِّه إحدى
النظريات النموذجَ (أي: الخبرة وقوانين العمل التي يعتمد عليها القائد
وفريقه للنجاح) بحصان في مضمارٍ للسباق. وعلى المنظَّمة إذا أحسَّت أنَّ
حصانها بدأ بالتراجع – وإن كان في مراتب متقدمة –
أن تقفز إلى حصان آخر أسرع من حصانها، وعلى المنظمة أن تستفيد من خبرتها
لتتجنب القفز في الظلام، كما أن عليها أن تحْذَر من تغيير الأحصنة من أجل
أنها جديدة فقط... وتؤكد هذه النظرية على أن تغيير المدير أو القائد بمثابة
تغيير القلب فهو عمل خطير، كما تؤكد على أهمية الدمج بين النموذج القديم
والجديد مع إجراء تعديلات على النموذج القديم؛ فواقع الحال يثبت أن القديم
سيبقى؛ فالسيارات لم تقضِ على الخيول، والتجارة الإلكترونية لم تُنهِ
التعاملات التقليدية، وساعات العقارب ما زالت تُستخدَم، كما أن العالم يشهد
الآن رجوعاً للطب الشعبي .
والإسلام
كممارسة حياتية محكوم بهذه السُّنَّة أيضاً، إلا أنَّ الله - تعالى - قضى
أنه «يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ
يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»
الصحوة بين التمكين والنضج:
بعيداً
عن الخلاف حول مفهوم الصحوة وتاريخها أودُّ أن أقف وقفة تأمُّل مع واقع
الصحوة الحديثة التي عايشتُها وقرأتُ عنها في محيطي الإقليمي. وعلى
المقيمين خارجَه مراعاة فارق التوقيت.
لا
شك عندي في أنَّ الصحوة الآن تعيش في مرحلة برزخية بين (التمكين) و
(النضج) وهي في كثير من حالاتها أقرب إلى النضج منها إلى التمكين؛
فقياداتها على اختلاف توجُّهاتها وأعمالها تحمل خبرة كبيرة في العمل الدعوي
والاجتماعي، وتتولى زمام أغلب المؤسسات الاجتماعية في بلدانها، وهي ترى
أنها اكتسحت الساحة ومَلَكت زمام الجماهير، دون منافسة تُذكَر من التيارات
التغريبية، وهذه بلا شك نتائج مرحلة سابقة (مرحلة التمكين) وكان المفترض
بهذه القيادات أن تتنبَّه إلى أهمية تغيير الأحصنة في نهاية هذه المرحلة؛
فالسبق في فترة من الفترات لا يعني استمرار التفوق في الفترات القادمة؛
فلكل زمن ملابساته، ولكل ميدان فرسانه.
ما الذي حَدَث؟
هل قفزت القيادات إلى الأحصنة المجاورة التي تعدو بسرعة وإن كانت تأتي في مرحلة متأخرة، أم نامت قريرة العين؟
والخبرات التي تحملها فِرَق العمل: ما تأثيرها في الواقع؟ وهل هي خبرات متراكمة، أم تجارب مكررة؟
وما هي قدرة فِرَق العمل على افتتاح ميادين جديدة، وابتكار وسائل حديثة؟ أم هم أسارى لنماذجهم القديمة؟
وأعداد المسـتفيدين من برامـج الصحوة – وإن كانت كثيرة –: هل هي في ازدياد، أم في تناقص؟
والمؤسسات
التي تديرها الصحوة منذ زمن: هل هي الأنسب للفترة القادمة؟ وإن كانت
مناسبة؛ فهل تمتلك مقومات البقاء في ظل المعطيات الحديثة؟
وهـل يدرك القـادة أنَّ أحصنتهـم - وإن كـانت في المقـدمة - تضعف وتتراجع؟
وإذا
كان قادة الأمس غير قادرين على مواكبة الحاضر وإدراك معطياته ومتابعة
مستجداته، فهل أتاحوا المجال لقادة اليوم؟ وهل ساهموا في صناعة قادة
المستقبل؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات سأتناولها من خلال ثلاثة مجالات: المجال العلمي، والمجال الطلابي، والمجال الدعوي والاجتماعي.
أولاً: المجال العلمي:
التمكين العلمي:
من
أعظم المكاسب التي حققتها الصحوة نَشْرُ العلم الشرعي، وبَثُّ الوعي بين
العامة والخاصة؛ حيث قادت الجامعات الإسلامية والمساجد نهضة علمية واسعة
الانتشار، وقد ساعد الدعاةَ والعلماء في أداء رسالتهم عددٌ من الوسائل
المتاحة في ذلك الحين، منها: الشريط والكتيبات والإذاعة... كما ساهمت
الجامعات الإسلامية بنشر التراث الإسلامي وإخراجه بأفضل صورة من خلال
الرسائل والبحوث الجامعية.
ومن
ملامح التمكين في هذه الفترة تأسيس عدد من مراكز البحوث والدراسات العلمية
التي ساهمت في تنقيح كثير من المسائل العصرية التي يحتاجها المجتمع.
النضج العلمي:
على الرغم من هذه النجاحات إلا أن ثمة معالمَ نضجٍ بدت سريعة في مسيرتنا العلمية، منها:
اعتماد الجامعات على أسلوب التلقين، وضعف دور المكتبة الجامعية خاصة لطلاب البكالوريوس[3].
يعاب
على جامعاتنا أنها تُدرِّس كتباً أُلِّفت قبل عقد أو عقدين من الزمن. أما
في التخصصات الشرعية فالأمر مختلف تماماً؛ لأن أغلب الكتب التي تدرَّسُ
للطـلاب كُتِبت قبل قرون طويلة، ولو قدَّر الله لابن تيمية وابن حجـر
والطحاوي والشوكاني أن يعـودوا لزمـاننا لأجمعـوا أنَّ كتبَهم لا تناسب
زماننا، ولشرعوا من فورهم بتأليـف كتب تناسـب العصر والطلاب. إنني أُدرك
تماماً أن كلام السلف أحكم من كلام المعاصرين، وأن طالب العلم لا بد أن
يطلع على كتب الأوائل، وأن فنوناً كأصول الفقه وأصول الحديث أشبعها الماضون
دراسة وتأليفاً، لكن ما الذي يمنعنا أن نزاوج بين القديم والجديد؟ ثم ما
الذي يمنعنا من إكمال مسيرة سلفنا الأوائل؟ ما الذي دفع الشوكاني لتأليف
(فتح القدير) وقد سُبِق بتفسير القرآن العظيم؟ ولِمَ لم يكتفِ ابن كثير
بتدريس (جامع البيان)؟ لو قُدِّر للشيخ عبد الرحمن الدوسري أن يعيش لأجابنا
بقوله: (إنَّ لكل زمان كتاب). هذا في التفسير، وقل مثل ذلك في سائر
الفنون.
لو
سألت أحد خريجي أقسام العقيدة في جامعاتنا عن المعتزلة لأخبرك أنهم ينفون
الصفات ويقولون بخلق القرآن. لكنَّ قليلاً منهم سيخبرك أن معتزلة هذا العصر
في الأغلب لا يتكلمون في الصفات؛ لكن يجمعهم مع أجدادهم بغضهم للنص
وتقديسهم للعقل. وخلال دراستي الشرعية في إحدى جامعاتنا الإسلامية العريقة
درست بتعمُّق الفرق والمذاهب التي كانت موجودة قبل سبعة قرون، لكني لم
أتعرف على آراء أهل الأهواء في هذا العصر والرد عليها إلا من خلال كتبٍ لا
تُدرَّس في الجامعات الإسلامية. نعم، ثمة محاولات وجهود فردية، لكني أتكلم
عن دور ينبغي أن تقوم به الجامعات ومراكز الدراسات التابعة لها.
إن
الدراسات العليا فرصة لتخريج المتخصصين في العلوم الشرعية ومجال رحب
لتقديم البحوث التي يحتاجها الواقع المعاصر، وكان المتوقع من جامعاتنا
الإسلامية أن تستثمر إقبال الدارسين وحرصهم على الدراسات العليا لتغطية هذا
المجال.
أحصنة رابحة:
إن
الحديث عن الأحصنة الرابحة يحدده أهل التخصص بدقة أكثر مني، لكنني سأشير
هنا إلى مبادرات موجودة في الساحة، وهي وإن كانت متواضعة وفي بداياتها إلا
أنَّ لها مستقبلاً واعداً:
مراكز الدراسات العلمية:
تسهم مراكز الدراسات في وصف الواقع بشكل علمي، وإيجاد حلول لمشاكله. ومن
المفترض أن يكون لها دور فاعل في توجيه النُّخَب الاجتماعية والسياسية في
كل بلد؛ ولا بد أن تعتمد هذه المراكز أسلوب البحث العلمي منهجاً لها لتحظى
بمصداقية عالية في المجتمع.
القنوات التعليمية: لقد
ساهمت القنوات الفضائية الإسلامية في نشر العلم في أوساط كثيرة، إلا أن
الحديث هنا عن جامعات تعليمية عالمية تعتمد وسائط تقنية مختلفة لنشر العلم
(بث فضائي، إنترنت، تعليم عن بُعْد...)؛ حيث يختار الطالب ما يناسبه منها،
مع التأكيد على أهمية اعتماد شهاداتها من جهات الاختصاص.
التأهيل التربوي للأستاذ الجامعي:
إ ن مشكلة أساتذة الجامعات أنهم يتولون مهام التدريس دون أن يكونوا
مؤهَّلين تربوياً للقيام بهذا الدور، إضافة إلى أنه لا يُسمَح بتقييمهم مِن
قِبَل طلابهم أو أي جهة أخرى، وأعتقد أنَّه من المهم إشراكهم في برامج
تربوية مكثفة للمساهمة في حل هذه المشكلة.
ثانياً: المجال الطلابي:
التمكين الطلابي:
قد
تصل نسبة الطلاب والطالبات في مجتمعاتنا إلى 50 %، والعناية بتربية هذه
الفئة هي صمَّام الأمان لمستقبلنا، ورجالات المجتمع اليوم كانوا طلاباً
بالأمس؛ نهلوا من مَعِين الصحوة عندما كانت يافعة، ووقفوا معها في مراحل
تمكينها؛ وما الأندية الصيفية والمخيمات الدعوية وحِلَق القرآن والدُّور
النسائية المنتشرة في كل مكان إلا مظهر من مظاهر التمكين الطلابي.
النضج الطلابي:
عندما
نشرتُ كتابي (نادي الهوايات الصيفي) قبل ست سنوات لم أجرؤ حينها أن أقول:
(إن الأندية الصيفية التقليدية خدمت مشكورة لأكثر من عشرين سنة، وحُقَّ لها
أن تُكرَّم وتُحال إلى التقاعد؛ لأن الزمان قد تجاوزها)، ومع أن كثيراً من
قيادات العمل الطلابي كانوا يشتكون من ضعف الإقبال على الأندية الصيفية
إلا أن قليلاً منهم قرَّر الانتقال للفكرة الجديدة. ولن أكرِّر غلطتي؛ فأنا
أعلن الآن أنَّ (نادي الهوايات الصيفي) أضحى فكرةً قديمة تجاوزها الزمن
بسرعة، وثمة تجربة جديدة جديرة بالاهتمام أُسمِّيها (النادي الصيفي
المفتوح)؛ فهل سيتمكن قيادات العمل الطلابي من التخلص من نماذجهم القديمة
والقفز إلى أحصنة جديدة.
إن
المحاضن التربوية المنتشرة هنا وهناك لا تخرج عن إطارٍ عام بَنَته الصحوة
خلال سنوات تمكينها، وأضحى المسُّ بهذا الإطار أو الدعوة لفتح آفاق جديدة
للعمل الطلابي أمراً مرفوضاً عملياً من قيادات تلك المحاضن.
كثيرون
يشكون ضعفاً في مستوى المربين والدعاة، وقِلَّةً في أعدادهم، ويُلقون
باللائمة على الزمن، والترف، والتطورات الاجتماعية... إلخ، ومع إيماني بأن
هذه المشكلة معقَّدة إلا أنني على يقين أيضاً بأن ما تعانيه المحاضن
التربوية خاصة ومؤسساتنا الدعوية والاجتماعية عامة من أزمة في العاملين،
إنما سببه الرئيس جمود العمل على ممارسات تعدَّاها الزمن، وأساليب أَمْسَت
لا تستهوي الطلاب ولا ترقى إلى مستوى تطلعاتهم، وهو ما أدى إلى ضعف
الإقبال، وتسرُّب المتميزين. (ودائرة العاملين تتغذى من دائرة المستفيدين)[4].
أحصنة رابحة:
مرة
أخرى أؤكد على أن أهل العمل أقدر على تحديد الأحصنة التي يجب عليهم القفز
إليها. وسأشير هنا إشارات تساعد على فتح آفاق جديدة للعمل الطلابي:
إن
الانفتاح الحضاري والتغريب الذي يمر به المجتمع يحتِّمان على المربِّين أن
ينظروا إلى العمل من خلال بُعدَين منفصلين، هما: الكم، والكيف.
فالكم
يوجِّهنا للبرامج الجماهيرية الواسعة ونجاحنا فيها مرهون بعدد الجماهير
الطلابية التي نخاطبها في مجتمعنا، والكيف يوجِّهنا للبرامج التربوية
المتخصصة ونجاحنا فيها يتوقف على المستوى التربوي الذي يصله المتربي. وفي
هذا الباب ينبغي على العاملين التفريق الواضح في هدف كلِّ منشط: هل هو الكم
أم الكيف؟ وعدم الخلط بين الاتجاهين.
إننا
إذا فكرنا خارج الصندوق فسنجد آفاقاً واسعة للعمل الطلابي غير تلك التي
اعتدنا عليها، وإذا نظرنا إلى محاضننا الحالية على أنها وسائل لا ثوابت،
فلن نجد غضاضة في استبدالها، أو تعديل فلسفة العمل فيها.
وإذا
كان المربون في فترة ماضية يبذلون أوقاتهم وجهودهم محتسبين الأجر عند
الله، دون أن ينتظروا مالاً أو ثناء، فإن واقع الحال قد تغيَّر، وجدير بنا
أن نفكِّر بتهيئـة الأجـواء لمسميات وظيفية جديدة: (مربٍّ)، (اختصاصي
اجتماعي)، (مدير أنشطة)... إلخ، ونطرح لها دبلومات تأهيلية معتمَدة،
ونتبنَّى مؤسسات تربوية واجتماعية تستقطب هذه الفئات، وتوظِّفها، وتشرف على
أدائها وتطورها.
ثالثاً: المجال الدعوي والاجتماعي:
التمكين الدعوي والاجتماعي:
إن
مكاتب الدعوة المنتشرة هنا وهناك، والجمعيات والهيئات الخيرية التي عمَّ
نفعها أرجاء المعمورة، شاهد حي على اكتساح الصحوة لمجال العمل الدعوي
والاجتماعي. وتفاعُلُ الجماهير مع توجهات الصحوة، وقناعةُ المجتمع برموزها
دليلٌ على نجاحٍ كتَبَهُ التاريخ.
النضج الدعوي والاجتماعي:
قبل
سنوات كتبت مقالاً في مجلة البيان بعنوان (وسائل الدعوة والتأثير على
الجماهير) ألمحتُ فيه إلى أن زمام الجماهير انفلت من أيدينا أو يكاد،
وأشرتُ إلى مجموعة من الوسائل التي أمَّلت أن يستفيد منها قادة العمل
الخيري لتدارك الخلل. وكتب غيري في الموضوع نفسه. ومع وجود مبادرات نوعية
إلا أنها لا تُشكِّل توجهاً يُنقِذ الصحوة من التراجع في هذا المجال.
لمرحلة النضج التي تعيشها الصحوة في هذا المجال عدة سمات، أذكر منها:
تقليدية الوسائل والبرامج:
مع أن عدد مستمعي أشرطة الكاسيت في تراجع حادٍّ، والقراءة الإلكترونية
تستحوذ على اهتمام شريحةٍ تزداد يوماً بعد يوم، ومع عزوف كثيرين عن حضـور
المحاضـرات في المسـاجد... على الرغـم من ذلك كله ما زالت مكاتب الدعوة إلى
الآن توزع أشرطة الكاسيت، والنشرات والكتيبات، وتقيم المحاضرات التي تعلن
عنها بملصقات ورقية في المساجد دون أن تتساءل عن فاعلية وأثر هذه الوسائل
على المستهدَفين. وليست الجهات الخيرية بأحسن حالاً من مكاتب الدعوة؛
فأساليبها وبرامجها توقفت عن النمو منذ فترة. لقد كان بإمكانها أن تقود
الشباب والفتيات وتستثمر طاقاتهم في العمل التطوعي من خلال المجتمعات
الافتراضية مثلاً. إلا أن أغلب مؤسساتنا الاجتماعية ليس لها وجود يذكر في
الشبكات والوسائط الاجتماعية (Social media)، مثل: الفيس بوك والتويتر واليوتيوب والنت لوق وغيرها. وبمعنى آخر: هي في وادٍ والمجتمع في وادٍ آخر.
الاهتمام بالكم على حساب الكيف:
تحرص مؤسساتنا في تقاريرها السنوية على التكاثر بالأرقام؛ فمكتب الدعوة
الفلاني أقام كذا محاضرة، وأسلم من خلاله كذا شخص، ووزع كذا كتاب. والجمعية
الفلانية تكفل مئات الأيتام، ومئات الأسر الفقيرة، وتفطِّر آلاف الصائمين؛
فالأرقام تمنحها شعوراً زائفاً بالقوة، وتساعدها على البقاء فترة أطول،
متناسين أنَّ مستوى وعي المتبرع قد ازداد وسقف طموحاته قد ارتفع. وإذا
حدَّثتَ الدعاة عن أثر المحاضرات على المجتمع، ونوعية الفئة المستهدفة
وقياس أثر تلك الوسائل عليها لم تجد إجابات شافية.. وإن طلبت منهم التركيز
على تربية الجاليات العربية والأجنبية لنصنع منهم مسلمين اسماً ومضموناً لم
تجد حماساً كافياً لتنفيذ هذه الفكرة، ولا لأي فكرة نوعية تركز على الكيف
أكثر من الكم.. والجمعيات الخيرية هي الأخرى تفتقر برامجها إلى البعد
التربوي والإصلاحي، وتركز فقط على الجانب الإغاثي. فإذا اقترحت - مثلاً -
(الرعاية الشاملة لليتيم) بدلاً من (كفالة اليتيم) بهدف تعويض اليتيم عن
فَقْد والده من جميع الجوانب (التربوية والاجتماعية والمالية) اعترضوا عليك
بأن هذا يضيف عبئاً مالياً على المشروع، ويستلزم كفاءات تربوية واجتماعية
تضاعف قيمة الكفالة أضعافاً مضاعفة. وإذا اقترحت استثمار مشاريع إفطار
الصائمين بالتوعية والتثقيف للمستهدَفين اعتذروا بصعوبة إدارة المشروع، أو
نقص العناصر لتحقيق هذا الهدف.
الضعف الإداري:
تعاني أغلب مؤسساتنا الدعوية والاجتماعية خللاً إدارياً يشمل: افتقارها
للهياكل والأنظمة والخطط الفاعلة، وضعف الثقافة الإدارية لدى قياداتها
فضلاً عن عامليها. والمشكلة الحقيقة تكمن في عدم قناعة تلك القيادات بأهمية
إحداث نقلة نوعية لمؤسساتهم تشمل الهياكل والنُّظُم كما تشمل الأفراد.
وكذلك إصرارهم أن يديروا مؤسساتهم بأساليبهم القديمة التي تركز على المنتَج
أكثر من تركيزها على القدرات. والثمنُ: أرقامٌ خادعة ومؤسساتٌ مترهلة تحيى
بوجود رجل وتموت بموته.
الضعف الإعلامي:
مشكلة أصحابنا مع الإعلام تَكْمُن في عدم قناعتهم بجدوى الأموال التي
تُصرَف من أجله بسبب (النقد والنسيئة)؛ فمهما حاولْتَ إطالة نَفَس أحدِهم
في حملةٍ إعلامية فإنَّ صبره سينفذ، فهو لا يحتمل أن يرى الأموال تصرف دون
أن يلمس لذلك أثراً قريباً واضحاً. وهم يحتجُّون غالباً بعدم وجود أموالٍ
كافية للجانب الإعلامي متناسين أن الإعلام هو الذي يجلب الأموال.
ضعف التأثير في الجماهير: إن علاقة الصحوة بالجماهير لا تخرج عن الأطر التالية:
الانتماء:
(أي: تبنِّي أفكار الصحوة والدفاع عن مؤسساتها ورموزها)، والاستفادة: (أي:
التأثر بآراء الصحوة واتجاهاتها الفكرية)، والمحبة: (أي: التعاطف مع قضايا
الصحوة دون تبنِّي أفكارها)، والانفصال: (وهو البعد عن الصحوة عاطفياً
وعملياً).. في مرحلة التمكين كانت جماهير كثيرة تشغل الدائرة الأولى
والثانية، أما في مرحلة النضج فجُلُّ الجماهير تتفاعل مع الصحوة عاطفياً لا
فكرياً، وترتدي ثوبها ظاهراً لا باطناً.
أحصنة رابحة:
أهل
مكة أدرى بشعابها، ولكل مؤسسة فرص متاحة أمامها، ولكل بلد ظروفه وأحواله.
والحديث عن الوسائل الجديدة واسع ومتجدد، لكنني سأشير هنا إلى مجالات أرى
أهمية العناية بها:
مراكز الدراسات الفكرية والسياسية والاجتماعية:
لمراكز الدراسات أثرها الواضح في توجيه النُّخَب، والطبقة المثقفة،
والاهتمام بهذه المراكز سيساعد الصحوة في الانتقال من الخطاب العاطفي
المجرَّد إلى الخطاب العلمي المنطقي.
مؤسسات الإنتاج الإعلامي:
الإعلام والدعوة صنوان لا يفترقان، وقد لاحظنا في الفترة الأخيرة توجُّهَ
كثيرين إلى تأسيس القنوات الفضائية، وهي تجربة جديدة في العمل الدعوي
والاجتماعي، والزمن وحدَه كافٍ لصقل هذه التجربة وتصفيتها. والأهم من وجهة
نظري هو تأسيس مؤسسات الإنتاج الإعلامي التي ستخدم القنوات الفضائية بشكل
عام والقنوات الإسلامية بشكل خاص؛ فتأسيس القناة الفضائية الإسلامية ليس
نهاية المشوار؛ بل هو الخطوة الأولى لاستقطاب الجماهير التي تقارن إنتاج
قنواتنا الفضائية بالقنوات الأخرى الموجودة في الساحة الإعلامية.
التطوير الإداري:
إن التدريب ليس الحل السحري لكل مشكلاتنا الإدارية، لكنه وسيلة فاعلة
لتغيير قناعات القيادات، وتنمية مهارات الأفراد. والأهم منه هو تكوين
الثقافة الإدارية على مستوى الأفراد والقيادات، وتهيئة بيئة العمل الصحية
من خلال اللوائح والنُّظُم الفاعلة في الميدان لا المرصوصة في الأدراج.
العالم الافتراضي:
لقد أوجدت الشبكة العنكبوتية تعريفاً آخر للحياة الاجتماعية؛ حيث جمعت
العالم في آلة صغيرة بحجم كف اليد يحملها الشخص في جيبه، وأوجدت داخل هذا
العالم الافتراضي الجامعات والمكتبات والأسواق والشبكات الاجتماعية
المتنوعة. وآليات التفاعل مع هذا العالم في تطوُّر مستمر، ونحن - شئنا أم
أبينا - لا بد أن نتعامل مع المجتمع على ضوء هذه التغييرات.
التقنية:
تتطور وسائل الاتصال والتقنية بشكل يصعب على العاملين متابعتها وإدراك
كيفية استثمارها، والحل من وجهة نظري يكمن في تغيير فلسفة العمل لدى
مؤسساتنا الخيرية؛ بحيث تُدخَل التقنية كجزء أساس في خطط وإستراتيجيات
وهياكل هذه المؤسسات. وحينها سنلاحظ إقامة المؤتمرات واللقاءات،
والمسابقات، والمنتديات، والمقالات، والدراسات التي تبحث مدى الاستفادة من
وسائل الاتصال والتقنية، وستُدرَج الأقسام التقنية في هياكل مؤسساتنا،
وستستقطب الكفاءات لاستثمارها في هذا المجال. إذا نجحنا في هذه النقلة،
فسيأتي اليوم الذي نستبدل به التسجيلات الإسلامية براديو الستالايت،
وتلفزيون الإنترنت. ونستبدل التوجيهات والإعلانات الورقية في المساجد
بشاشات LCD
محوسبة تديرها مكاتب الدعوة بشكل مركزي.. وسنُرجِع دورَ المسجد في التأثير
على أهل الحي.. وستكون للجهات الخيرية شبكة من المتطوعين في شتى المجالات
والتخصصات، تخدم المجتمع في أي مكان كانت.
الكفاءة الإستراتيجية:
إذا كَثُر الباعة وتنوعت البضاعة فسيلجأ الجمهور إلى الاختيار، وهنا
سـيبقى الأقوى، والقوة لا ترتبط بالحجم على كل حال، وإن أريد لها ذلك.
ونظراً لكبر التحدي وكثرة المعـوقات وقلة المـوارد فإنه لا بد للعاملين من
التركيز على فئات ومؤسسات وبرامج محددة تراهن عليها في الفترة القادمة. وفي
نظري فإن أهم فئة يمكن الاستثمار فيها هي: النساء، والشباب (ذكوراً
وإناثاً)، وأهم مجال يمكن العمل من خلاله في الفترة القادمة: الإعلام
والترويح والسياحة، وأهم محتوىً يجب تقديمه هو: الوعظ والرقائق – وهذا بطبيعة الحال لا يعني إهمال الفئات أو المجالات أو المواضيع الأخرى –
أما المؤسسات فيرتبط اختيارها بمدى قدرتها على تحقيـق أهـدافنـا. ثُمَّ إن
اهتمـامنا بهـذه الفئات والمجـالات لا يحقق لنا الكفاءة الإستراتيجية إلا
إذا تميَّزنا ببرامجنا وما نقدمه للجمهور، ونجحنـا في تقـديم مادة يحتاجها
الجمهور ويبحثون عنها ولا يجدونها عند غيرنا.
ويبقى السؤال المهم هو: هل ستغفو الصحوة؟
الذي
أرجوه - إن شاء الله - أنَّ الصحوة وإن غفت قليلاً فهي على أبواب صحوة
جديدة ستعيدها يافعة، وسيعاني فرسانها الجدد معوقات الانطلاق من ضعف
الموارد المالية والبشرية وكثرة التحديات: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..