جلست مع أصدقائي في رحلة برية هادئة، في
منتزه مترامي الأطراف كان في أكثر العام صحراء قاحلة، فغسلته السماء بمائها، حتى
غدا جنة خضراء تسرّ الناظرين، ولم يخلُ هذا الربيع الهادي من بعض ضجيج السياسة،
والسياسة أينما حلت عكرت الأجواء، وأججت النزاعات حتى بين الأصفياء والأخلاء.
قادنا حديث السياسة وصخبها إلى موقع
تويتر وضجيجه، حتى طرح أحد الناقمين عليه –وهو من الكُتُبية! نسبة إلى مذهب جديد
يطالب بحظر تويتر!-، طرح صديقي سؤالا عريضا، مفاده: لماذا تتأخر الحكومة السعودية
في حظر تويتر؟
وزعم أن هذا الموقع يهودي تديره أيدي
خفية، من أجل إحداث الاضطرابات والأزمات في عالمنا العربي، وأن الأعداء هم أكثر
المستفيدين منه، وأن المتربصين ببلادنا صوتهم أعلى بكثير من الموالين لنا،
والمحبين للخير لهذه البلاد.
ولم يكمل كلامه حتى قاطعه صديقي الآخر –وهو
تويتري متحمس-، ليردّ عليه بأن العالم قد تغيّر وأن أكثر الدول استبدادية الآن لا
تستطيع منع الكلمة مهما كان للكلمة من تأثير على أمنها واستقرارها، وأن دولتنا
أعقل من أن تستجيب لمثل هذه المطالب الغريبة عن العالم الذي نحيا فيه، بل هي مطالب
رجعية تردنا إلى قرون للوراء، وعجلة التاريخ -إن أزمعت المسير- فستسحق كل من يقف
في طريقها!
وبعد أن ألقى صديقي التويتري هذه
الكلمات العصماء، مكثت برهة أرمق الغضب في عيني صديقي الكتبي، فقلت لهما: ارفقا بي
أيها الصديقان، فإنكما حتى الآن لم تجيبا على السؤال المطروح: لماذا الحكومة لا
تغلق تويتر؟
عدّل جلسته صديقي الكتبي الغاضب، وقال: (الأمر
واضح ومعلوم، إن دولتنا واسعة البال، ودائما ما تأخذها الرحمة والرأفة بأبنائها،
وقد وجدتهم يتسلون بلعبة جديدة اخترعتها التقنية، فهي تاركتهم –ماشاء الله- يتسلون
بها حتى يأتي الوقت المناسب، ثم تبادر في الإغلاق، لأن تويتر شر كله، والشر لا
يأتي بالخير أبداً.
ثم إن دولتنا –رعاها الله- لا تريد أن
تخرج بمخرج المستبد المتسلط أمام العالم، فتغلق الموقع وتعطي لهؤلاء الشانئين
دليلا واضحا على تسلطها واستبدادها).
وقتها أصابتني رعشة، لا من كلام الصديق
الكتبي، بل من نسمة ربيعية باردة، غشتنا ببرودتها في ذلك المكان البري الجميل، حتى
سرت نسماتها بين الدماء والعروق، أتتني تلك النسمة الربيعية برائحة الأمطار،
واهتزت بسببها الأعشاب والزهرات البكر، التي لم يتجاوز عمرها أيام معدودات.
فقلت له: أجملت وأوجزت أيها الصديق
الكتبي، وإن ما قلته فيه بعض الحق، وفيه ما اختلف معك فيه، ولكن دعنا نستمع لتعليل
صديقنا التويتري، ولنعرف المسببات من وجهة نظره.
أخذ صديقي التويتر كأس الشاي الذي
أمامه، وارتشف منه رشفة، وعيناه ترمق صديقنا الكتبي، ثم أنزل الكأس، وطفقت نظراته
تتأمل المكان من حولنا... وبحق كان المكان فاتناً، وليس فيه شيء يدعو لحديث
السياسة، بل كل ما فيه يدعو للتأمل في بديع صنع الله، ولكأنك تقرأ في كل زهرة من
زهرات ذاك المكان، وتطالع في كل قطرة ماء تسيل هناك= قول الحق: (فانظر إلى آثار
رحمة الله، كيف يحيي الأرض بعد موتها؟).
لم يطل تأمل صاحبي التويتري حتى قال: (إن الزمن
لم يعد كالسابق، وإن العالم قد تغير، وإن موقع تويتر أصبح منبرا مؤثرا، لا تستطيع
دولة أن تمنعه إلا كانت مفسدة المنع أعظم من مفسدة بقائه. وإنه بدوره ينفس عن بعض
الاحتقانات، ولا يريد السياسي أن يزيد الكبت فيحدث الانفجار. وإن الدولة إن أرادت
المنع فلن تعدم المبررات، فباستطاعتها أن تصدر فتوى من هيئة كبار العلماء في وجوب
منع تويتر، وموقف رئيس الهيئة من تويتر معلوم، فهو كثير النقد لتويتر، ويرى أن له
مفاسد عظيمة، وأعتقد أن الدولة إن رأت أن الأمور في تويتر تجاوزت كل حدود فإنها
ستسارع في إغلاقه مستعينة بفتاوى وكتابات الناقمين على تويتر، وستفعل كما فعلت مصر
وتونس عندما أغلقتا مواقع التواصل أبان الاحتجاجات...).
ثم قالا كلاما كثيرا لم أستحسن نقله لكم،
فقلت لهما دعونا من ضجيج تويتر وصخب السياسة، واتركونا نستمتع بهذا الربيع البكر، ويكفينا
أن ننظر إلى آثار رحمة الله ... كيف يحيي الله الأرض بعد موتها.
وإلى اللقاء.
عبدالله الحسني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..