عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى، فمَن كانت هجرتُه
إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها
أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
رواه
إمامَا المحدِّثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة
بن بردزبه البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري
النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصحُّ الكتب المصنَّفة.
1ــ
أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرُهم، وقد تفرَّد بروايته عن عمر:
علقمة بنُ وقاص الليثي، وتفرَّد به عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرَّد
عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم كثر الآخذون عنه، فهو من غرائب صحيح
البخاري، وهو فاتحته، ومثله في ذلك خاتمته، وهو حديث أبي هريرة "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ... " الحديث، وهو أيضاً من غرائب الصحيح.
2ــ
افتتح النووي أحاديث الأربعين بهذا الحديث، وقد افتتح جماعة من أهل العلم
كتبَهم به، منهم الإمام البخاري افتتح صحيحه به، وعبد الغني المقدسي
افتتح كتابه عمدة الأحكام به، والبغوي افتتح كتابيه مصابيح السنة وشرح
السنة به، وافتتح السيوطي كتابه الجامع الصغير به، وعقد النووي في أول
كتابه المجموع شرح المهذب فصلاً قال فيه (1/35) : "فصل في الإخلاص والصدق
وإحضار النية في جميع الأعمال البارزة والخفية"، أورد فيه ثلاث آيات من
القرآن، ثم حديث "إنَّما الأعمال بالنيَّات"،
وقال: "حديث صحيح متفق على صحته، ومجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو إحدى
قواعد الإيمان وأول دعائمه وآكد الأركان، قال الشافعي رحمه الله: يدخل هذا
الحديث في سبعين باباً من الفقه، وقال أيضاً: هو ثلث العلم، وكذا قاله
أيضاً غيرُه، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف في
عدِّها، فقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة، وقيل: اثنان، وقيل: حديث، وقد جمعتها
كلَّها في جزء الأربعين، فبلغت أربعين حديثاً، لا يستغني متديِّن عن
معرفتها؛ لأنَّها كلَّها صحيحة، جامعة قواعد الإسلام، في الأصول والفروع
والزهد والآداب ومكارم الأخلاق وغير ذلك، وإنَّما بدأت بهذا الحديث تأسيًّا
بأئمَّتنا ومتقدِّمي أسلافنا من العلماء رضي الله عنهم، وقد ابتدأ به
إمام أهل الحديث بلا مدافعة أبو عبد الله البخاري صحيحه، ونقل جماعة أنَّ
السلف كانوا يستحبُّون افتتاح الكتب بهذا الحديث؛ تنبيهاً للطالب على
تصحيح النيَّة وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة والخفيَّة،
ورُوينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال: لو صنَّفت
كتاباً بدأت في أوَّل كلِّ باب منه بهذا الحديث، ورُوينا عنه أيضاً قال:
مَن أراد أن يصنِّف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث، وقال الإمام أبو سليمان
حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في كتابه
المعالم رحمه الله تعالى: كان المتقدِّمون من شيوخنا يستحبُّون تقديم حديث
"الأعمال بالنيات" أمام كلِّ شيء يُنشأ ويُبتدأ من أمور الدِّين؛ لعموم
الحاجة إليه في جميع أنواعها".
وقال
ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/61) : "واتَّفق العلماء على صحَّته
وتلقيه بالقبول، وبه صدَّر البخاري كتابَه الصحيح، وأقامه مقام الخُطبة له؛
إشارة منه إلى أنَّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له
في الدنيا ولا في الآخرة".
3 ــ قال
ابن رجب: "وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدِّين عليها، فروي عن
الشافعي أنَّه قال: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين باباً من الفقه،
وعن الإمام أحمد قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: "الأعمال بالنيات"، وحديث عائشة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وحديث النعمان بن بشير: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن".
وقال
أيضاً (1/71) في توجيه كلام الإمام أحمد: "فإنَّ الدِّين كلَّه يرجع إلى
فعل المأمورات وترك المحظورات، والتوقف عن الشبهات، وهذا كلُّه تضمَّنه
حديث النعمان بن بشير، وإنَّما يتمُّ ذلك بأمرين:
أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنَّة، وهذا هو الذي تضمَّنه حديث عائشة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد".
والثاني: أن يكون العمل في باطنه يُقصد به وجه الله عزَّ وجلَّ، كما تضمَّنه حديث عمر: "الأعمال بالنيات".
وأورد
بن رجب نقولاً (1/61 63) عن بعض العلماء في الأحاديث التي يدور عليها
الإسلام، وأنَّ منهم من قال: إنَّها اثنان، ومنهم مَن قال: أربعة، ومنهم من
قال: خمسة، والأحاديث التي ذكرها عنهم بالإضافة إلى الثلاثة الأولى حديث:
"إنَّ أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمِّه"، وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وحديث: "إنَّ الله طيِّب لا يقبل إلاَّ طيِّباً"، وحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه"، وحديث: "لا ضرر ولا ضرار"، وحديث: "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم"، وحديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس"، وحديث: "الدِّين النصيحة".
4 ــ قوله: "إنَّما الأعمال بالنيَّات"، (إنَّما) : أداة حصر، و (ال) في (الأعمال)
قيل: إنَّها خاصة في القُرَب، وقيل: إنَّها للعموم في كلِّ عمل، فما كان
منها قُربة أثيب عليه فاعله، وما كان منها من أمور العادات كالأكل والشرب
والنوم فإنَّ صَاحبَه يُثاب عليه إذا نوى به التقوِّي على الطاعة، والألف
واللاَّم ب (النيات)
بدلاً من الضمير (ها) ، أي: الأعمال بنيَّاتها، ومتعلق الجار والمجرور
محذوف تقديره معتبرة، أي: أنَّ الأعمال معتبرة بنيَّاتها، والنيَّة في
اللغة: القصد، وتأتي للتمييز بين العبادات، كتمييز فرض عن فرض، أو فرض عن
نفل، وتمييز العبادات عن العادات، كالغسل من الجنابة والغسل للتبرُّد
والتنظُّف.
5 ــ قوله: "وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى"،
قال ابن رجب (1/65) : "إخبارٌ أنَّه لا يحصل له من عمله إلاَّ ما نواه،
فإن نوى خيراً حصل له خير ٌ، وإن نوى شرًّا حصل له شرٌّ، وليس هذا تكريراً
مَحضاً للجملة الأولى، فإنَّ الجملة الأولى دلَّت على أنَّ صلاحَ العمل
وفسادَه بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلَّت على أنَّ
ثوابَ العامل على عمله بحسب نيَّتِه الصالحة، وأنَّ عقابه عليه بحسب نيَّته
الفاسدة، وقد تكون نيَّتُه مباحةً فيكون العملُ مباحاً، فلا يحصل له به
ثوابٌ ولا عقاب، فالعملُ في نفسه: صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة
عليه المقتضية لوجوده، وثوابُ العامل وعقابُه وسلامته بحسب نيته التي بها
صار العملُ صالحاً أو فاسداً أو مباحاً".
6 ــ قوله: "فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدُنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه".
الهجرة
من الهَجر وهو الترك، وتكون بترك بلد الخوف إلى بلد الأمن، كالهجرة من
مكة إلى الحبشة، وتكون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، كالهجرة من مكة
إلى المدينة، وقد انتهت الهجرة إليها بفتح مكة، والهجرة من بلاد الشرك إلى
بلاد الإسلام باقية إلى قيام الساعة.
وقوله: "فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"
اتَّحد فيه الشرط والجزاء، والأصل اختلافهما، والمعنى: من كانت هجرته إلى
الله ورسوله نيَّة وقصداً، فهجرته إلى الله ورسوله ثواباً وأجراً،
فافترقا، قال ابن رجب (1/72) : "لَمَّا ذكر صلى الله عليه وسلم أنَّ
الأعمالَ بحسب النيَّات، وأنَّ حظَّ العامل من عمله نيته من خير أو شرٍّ،
وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليَّتان، لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك
مثالاً من أمثال الأعمال التي صورتُها واحدة، ويختلف صلاحُها وفسادُها
باختلاف النيَّات، وكأنَّه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال".
وقال
أيضاً (1/73) : "فأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ هذه الهجرة
تختلف باختلاف النيَّات والمقاصد بها، فمَن هاجر إلى دار الإسلام حبًّا لله
ورسوله، ورغبةً في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه
في
دار الشرك، فهذا هو المهاجرُ إلى الله ورسوله حقًّا، وكفاه شرَفاً وفخراً
أنَّه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في
جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأنَّ حصولَ ما نواه بهجرته نهايةُ
المطلوب في الدنيا والآخرة.
ومَن
كانت هجرتُه من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يُصيبها أو امرأة
ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأوَّل تاجرٌ،
والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر.
وفي قوله: "إلى ما هاجر إليه"
تحقيرٌ لِمَا طلبه من أمر الدنيا واستهانة به، حيث لم يذكره بلفظه،
وأيضاً فالهجرةُ إلى الله ورسوله واحدةٌ، فلا تعدُّدَ فيها، فلذلك أعاد
الجوابَ فيها بلفظ الشرط، والهجرةُ لأمور الدنيا لا تَنحصر، فقد يهاجرُ
الإنسانُ لطلب دنيا مباحة تارة ومحرَّمة أخرى، وأفراد ما يُقصد بالهجرة من
أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: "فهجرته إلى ما هاجر إليه" يعني كائناً ما كان".
7 ــ قال ابن رجب (1/74 75) : "وقد اشتهر أنَّ قصةَ مهاجر أمِّ قيس هي كانت سببَ قولِ النبَّيِّ صلى الله عليه وسلم: "من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها" وذكر ذلك كثيرٌ من المتأخرين في كُتُبهم، ولَم نرَ لذلك أصلاً بإسناد يَصحُّ، والله أعلم".
8 ــ النيَّة
محلُّها القلب، والتلفُّظ بها بدعة، فلا يجوز التلفُّظ بالنيَّة في أيِّ
قُربة من القُرَب، إلاَّ في الحجِّ والعمرة، فله أن يُسمِّي في تلبيته ما
نواه من قران أو إفراد أو تمتُّع، فيقول: لبَّيك عمرة وحجًّا، أو لبَّيك
حجًّا، أو لبَّيك عمرة؛ لثبوت السنَّة في ذلك دون غيره.
مِمَّا يُستفاد من الحديث:
1 ــ أنَّه لا عمل إلاَّ بنيَّة.
2 ــ أنَّ الأعمال معتبرة بنيَّاتها.
3 ــ أنَّ ثواب العامل على عمله على حسب نيَّته.
4 ــ ضرب العالم الأمثال للتوضيح والبيان.
5 ــ فضل
الهجرة لتمثيل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بها، وقد جاء في صحيح مسلم
(192) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
قال: "أمَا علمتَ أنَّ الإسلامَ يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحجَّ يهدم ما كان قبله؟ ".
6 ــ أنَّ الإنسانَ يُؤجرُ أو يؤزر أو يُحرم بحسب نيَّته.
7
ــ أنَّ الأعمال بحسب ما تكون وسيلة له، فقد يكون الشيء المباح في الأصل
يكون طاعةً إذا نوى به الإنسان خيراً، كالأكل والشرب إذا نوى به التقوِّي
على العبادة.
8 ــ أنَّ العمل الواحد يكون لإنسان أجراً، ويكون لإنسان حرماناً.
1434/3/4
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..