1 - القذف لغةً: الرّمي مطلقاً، والتّقاذف
التّرامي، ومنه الحديث: «كان عند عائشة رضي الله عنها قينتان
تغنّيان بما
تقاذفت فيه الأنصار من الأشعار يوم بعاث» أي: تشاتمت، وفيه معنى
الرّمي; لأنّ الشّتم رمي بما يعيبه ويشينه.
واصطلاحاً: عرّفه الحنفيّة والحنابلة بأنّه:
الرّمي بالزّنا، وزاد الشّافعيّة: "في معرض التّعيير"، وعرّفه
المالكيّة بأنّه: رمي مكلّف حرّاً مسلماً بنفي نسب عن أب أو جدّ أو
بزناً.
أ - اللّعان:
2 - اللّعان لغةً: مصدر لاعن كقاتل من اللّعن، وهو الطّرد والإبعاد.
واصطلاحاً: عبارة عن كلمات معلومة جعلت حجّةً
للمضطرّ إلى قذف من لطّخ فراشه وألحق به العار، أو شهادات مؤكّدات
بالأيمان، مقرونة باللّعن من جهة، وبالغضب من الأخرى، قائمة مقام حدّ القذف
في حقّه، ومقام حدّ الزّنا في حقّها.
والصّلة بين القذف واللّعان أنّ اللّعان سبب لدرء حدّ القذف عن الزّوج.
ب - السّبّ:
3 - السّبّ لغةً واصطلاحاً: هو الشّتم، وهو: كلّ كلام قبيح.
والصّلة: أنّ السّبّ أعمّ من القذف.
ج - الرّمي:
4 - من معاني الرّمي: القذف والإلقاء، قال تعالى: {وَالذينَ يَرْمُونَ}، أي: يقذفون، ويقال: رميت الحجر: ألقيته.
والرّمي أعمّ من القذف.
د - الزّنا:
5 - الزّنا بالقصر لغة أهل الحجاز، وبالمدّ لغة أهل نجد، ومعناه الفجور، يقال: زنى يزني زناً: فجر.
واصطلاحاً: عرّفه الحنفيّة بأنّه وطء الرّجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهته.
والصّلة بينهما: أنّ القذف اتّهام بالزّنا.
6 - قذف المحصن والمحصنة حرام، وهو من الكبائر،
والأصل في تحريمه الكتاب والسّنّة. أمّا الكتاب فقوله تعالى:
{وَالذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وقوله سبحانه:
{إِنَّ الذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وأمّا السّنّة: فقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
«اجتنبوا السّبع الموبقات، قالوا: يا رسول اللّه، وما هنّ؟ قال:
الشّرك باللّه، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ، وأكل
الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات المؤمنات
الغافلات».
وقد يكون واجباً وهو: أن يرى امرأته تزني في طهر لم
يطأها فيه ثمّ يعتزلها حتّى تنقضي عدّتها، فإن أتت بولد لستّة أشهر من حين
الزّنى وأمكنه نفيه عنه، وجب عليه قذفها ونفي ولدها.
ومباح: وهو أن يرى زوجته تزني، أو يثبت عنده زناها، وليس ثم ولد يلحقه نسبه.
7 - القذف على ثلاثة أضرب: صريح، وكناية، وتعريض.
فاللّفظ الذي يقصد به القذف: إن لم يحتمل غيره فصريح، وإلاّ فإن فهم منه القذف بوضعه فكناية، وإلاّ فتعريض.
واتّفق الفقهاء على أنّ القذف بصريح الزّنا يوجب الحدّ بشروطه.
وأمّا الكناية: فعند الشّافعيّة والمالكيّة: إذا
أنكر القذف صدّق بيمينه، وعليه التّعزير عند جمهور فقهاء الشّافعيّة،
للإيذاء، وقيّده الماورديّ بما إذا خرج اللّفظ مخرج السّبّ والذّمّ، فإن
أبى أن يحلف، حبس عند المالكيّة، فإن طال حبسه ولم يحلف عزّر.
ولكنّهم اختلفوا في بعض الألفاظ:
فعند الشّافعيّة إذا قال لرجل: يا فاجر، يا فاسق،
يا خبيث، أو لامرأة: يا فاجرة، يا فاسقة، يا خبيثة، أو أنت تحبّين
الخلوة، أو لا تردّين يد لامس، فإن أنكر إرادة القذف صدّق بيمينه; لأنّه
أعرف بمراده، فيحلف أنّه ما أراد القذف، ثمّ عليه التّعزير.
وعند المالكيّة: إذا قال لآخر: يا فاجر، يا فاسق،
أو يا ابن الفاجرة، أو يا ابن الفاسقة، يؤدّب، فإذا قال: يا خبيث، أو يا
ابن الخبيثة، فإنّه يحلف أنّه ما أراد قذفاً، فإن أبى أن يحلف يحبس، فإن
طال حبسه ولم يحلف عزّر.
وإذا قال: يا فاجر بفلانة، ففيه قولان: الأوّل: حكمه حكم ما إذا قال: يا خبيث، أو يا ابن الخبيثة.
الثّاني: أن يضرب حدّ القذف، إلاّ أن تكون له بيّنة
على أمر صنعه من وجوه الفجور، أو من أمر يدّعيه، فيكون فيه مخرج لقوله،
فإن لم يكن له بيّنة، فعليه الحدّ، وإذا قال لآخر: يا مخنّث، فعند
المالكيّة عليه الحدّ، إلاّ أن يحلف باللّه، إنّه لم يرد بذلك قذفاً، فإن
حلف عفي عنه بعد الأدب، ولا يضرب حدّ الفرية، وإنّما تقبل يمينه، إذا كان
المقذوف فيه تأنيث ولين واسترخاء، فحينئذ يصدّق، ويحلف إنّه لم يرد قذفاً،
وإنّما أراد تأنيثه ذلك، وأمّا إذا كان المقذوف ليس فيه شيء من ذلك، ضرب
الحدّ، ولم تقبل يمينه، إذا زعم أنّه لم يرد بذلك قذفاً، ولو قال لامرأة:
يا قحبة، فعليه الحدّ عند المالكيّة، وهو الظّاهر عند الشّافعيّة.
وعند الحنفيّة والحنابلة: لا حدّ إلاّ على من صرّح
بالقذف، فلو قال رجل لآخر: يا فاسق يا خبيث، أو يا فاجر، أو يا فاجر ابن
الفاجر، أو يا ابن القحبة، فلا حدّ عليه; لأنّه ما نسبه ولا أمّه إلى
صريح الزّنا، فالفجور قد يكون بالزّنا وغير الزّنا، والقحبة من يكون منها
هذا الفعل، فلا يكون هذا قذفاً بصريح الزّنا، فلو أوجبنا الحدّ، فقد
أوجبناه بالقياس، ولا مدخل للقياس في الحدّ، لكنّه عليه التّعزير; لأنّه
ارتكب حراماً، وليس فيه حدّ مقدّر; ولأنّه ألحق به نوع شين بما نسبه
إليه، فيجب التّعزير، لدفع ذلك الشّين عنه.
8 - ولو قال رجل لآخر: زنأت مهموزاً، كان قذفاً
صريحاً عند أبي حنيفة وصاحبيه، والحنابلة في المذهب، وهو أحد قولين في
مقابل الأصحّ للشّافعيّة; لأنّ عامّة النّاس لا يفهمون من ذلك إلاّ
القذف، فكان قذفاً، كما لو قال: زنيت.
والقول الثّاني في مقابل الأصحّ للشّافعيّة: أنّه
إن كان من أهل اللّغة فكناية، وإن كان من العامّة فهو قذف; لأنّ العامّة
لا يفرّقون بين زنيت وزنأت.
والأصحّ عند الشّافعيّة: أنّه كناية.
وقال ابن حامد من الحنابلة: إن كان عامّيّاً فهو قذف، وإن كان من أهل العربيّة لم يكن قذفاً.
9 - ولو قال لرجل: يا زانية، لا يحدّ استحساناً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو أحد قولين للحنابلة; لأنّه رماه بما يستحيل منه.
وعند الشّافعيّة ومحمّد يحدّ; لأنّه قذفه على
المبالغة، فإنّ التّاء تزاد له كما في علّامة ونسّابة، وهو القول الثّاني
للحنابلة، ورجّحه في المغني; لأنّ ما كان قذفاً لأحد الجنسين، كان قذفاً
للآخر، كقوله: زنيت بفتح التّاء وكسرها لهما جميعاً; ولأنّ هذا خطاب
له، وإشارة إليه بلفظ الزّنا، وذلك يغني عن التّمييز بتاء التّأنيث وحذفها،
ولو قال لامرأة: "يا زاني " حدّ عندهم جميعاً; لأنّ التّرخيم
شائع، كقولهم في " مالك ": "يا مال " وفي " حارث ": "يا
حارّ ".
10 - وإن قال زنى فرجك، أو ذكرك، فهو قذف; لأنّ
الزّنا يقع بذلك، وإن قال: زنت عينك، أو يدك، أو رجلك، فليس بقذف عند
الحنفيّة.
وللشّافعيّة فيه قولان: المذهب أنّه كناية، إن قصد
القذف كان قذفاً، وإلاّ فلا; لأنّ الزّنا لا يوجد من هذه الأعضاء حقيقةً،
ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّه كتب على ابن آدم حظّه
من الزّنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النّظر، وزنا اللّسان النّطق،
والنّفس تتمنّى وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك كلّه ويكذّبه»، ومقابل المذهب:
أنّه قذف، لأنّه أضاف الزّنا إلى عضو منه، فأشبه ما إذا أضافه إلى الفرج،
فإن قال: زنى بدنك، ففيه وجهان: أحدهما: أنّه ليس بقذف من غير
نيّة; لأنّ الزّنا بجميع البدن يكون بالمباشرة، فلم يكن صريحاً في
القذف.
والثّاني: أنّه قذف; لأنّه أضافه إلى جميع البدن، والفرج داخل فيه.
وإن قال لرجل: أنت أزنى من فلان، فلا حدّ عليه عند
الحنفيّة مطلقاً; لأنّ أفعل يذكر بمعنى المبالغة في العلم، فكان معنى
كلامه: أنت أعلم بالزّنا من فلان، أو أنت أقدر على الزّنا من فلان.
وعند الشّافعيّة: لا يكون قذفاً من غير نيّة.
وعند الحنابلة وأبي يوسف من الحنفيّة: يكون قذفاً فيحدّ، وهل يكون قاذفاً للثّاني؟
فيه وجهان: أحدهما: يكون قاذفًا له، لأنّه أضاف
الزّنا إليهما، وجعل أحدهما فيه أبلغ من الآخر، فإنّ لفظة: "أفعل "
للتّفضيل، فيقتضي اشتراك المذكورين في أصل الفعل، وتفضيل أحدهما على الآخر
فيه، كقوله: "أجود من حاتم ".
والثّاني: يكون قاذفاً للمخاطب خاصّةً; لأنّ
لفظة: "أفعل " قد تستعمل للمنفرد بالفعل، كقول اللّه تعالى:
{أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ
يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى}.
وذهب الحنفيّة إلى أنّه إن قال لرجل: يا زاني، فقال
آخر: صدقت، لم يحدّ المصدّق; لأنّه ما صرّح بنسبته إلى الزّنا،
وتصديقه إيّاه لفظ محتمل، يجوز أن يكون المراد به في الزّنا وفي غيره، وإن
كان باعتبار الظّاهر إنّما يفهم منه التّصديق في الزّنا، ولكنّ هذا الظّاهر
لا يكفي لإيجاب الحدّ، إلاّ أن يكون قال: صدقت هو كما قلت، فحينئذ قد
صرّح بكلامه أنّ مراده التّصديق في نسبته إلى الزّنا، فيكون قاذفاً له.
وقال زفر: في كلتا المسألتين يحدّان جميعاً، وإن
قال لرجل: أشهد أنّك زان، وقال آخر: وأنا أشهد أيضاً، لا حدّ على
الآخر; لأنّ قوله أشهد كلام محتمل، فلا يتحقّق به القذف إلاّ أن يقول:
أنا أشهد عليه بمثل ما شهدت به، فحينئذ يكون قاذفاً له.
11 - ومن قذف رجلاً بعمل قوم لوط إمّا فاعلاً أو
مفعولاً، فعليه حدّ القذف; لأنّه قذفه بوطء يوجب الحدّ، فأشبه القذف
بالزّنا، وهذا قول الحسن والنّخعيّ، والزّهريّ ومالك والشّافعيّ، وأحمد
وأبي يوسف، ومحمّد بن الحسن وأبي ثور.
وقال عطاء وقتادة وأبو حنيفة: لا حدّ عليه; لأنّه
قذفه بما لا يوجب الحدّ عندهم، وكذلك لو قذف امرأةً أنّها وطئت في دبرها،
أو قذف رجلاً بوطء امرأة في دبرها.
وإن قال لرجل: "يا لوطيّ "، وقال: أردت أنّك
على دين قوم لوط، فعليه الحدّ عند الزّهريّ ومالك، وما صحّ عند الحنابلة،
ولا يسمع تفسيره بما يحيل القذف، لأنّ هذه الكلمة لا يفهم منها إلاّ القذف
بعمل قوم لوط، فكانت صريحةً فيه، كقوله: "يا زاني "، ولأنّ قوم لوط
لم يبق منهم أحد، فلا يحتمل أن ينسب إليهم.
وقال الحسن والنّخعيّ والشّافعيّ: إذا قال: نويت
أنّ دينه دين قوم لوط، فلا حدّ عليه، وإن قال: أردت أنّك تعمل عمل قوم
لوط، فعليه الحدّ، ووجه ذلك أنّه فسّر كلامه بما لا يوجب الحدّ، وهو يحتمل،
فلم يجب عليه الحدّ، كما لو فسّره به متّصلاً بكلامه.
12 - وأمّا التّعريض بالقذف: فقد اختلف الفقهاء في وجوب الحدّ به:
فذهب الحنفيّة: إلى أنّ التّعريض بالقذف، قذف،
كقوله: ما أنا بزان، وأمّي ليست بزانية، ولكنّه لا يحدّ; لأنّ الحدّ
يسقط للشّبهة، ويعاقب بالتّعزير; لأنّ المعنى: بل أنت زان.
وذهب مالك: إلى أنّه إذا عرَّض بالقذف غيرُ أب، يجب
عليه الحدّ إن فهم القذف بتعريضه بالقرائن، كخصام بينهم، ولا فرق في ذلك
بين النّظم والنّثر، أمّا الأب إذا عرّض لولده، فإنّه لا يحدّ، لبعده عن
التّهمة.
وهو أحد قولين للإمام أحمد; لأنّ عمر رضي الله عنه
استشار بعض الصّحابة في رجل قال لآخر: ما أنا بزان ولا أمّي بزانية.
فقالوا: إنّه قد مدح أباه وأمّه، فقال عمر: قد عرّض لصاحبه، فجلده
الحدّ.
والتّعريض بالقذف عند الشّافعيّة، كقوله: يا ابن
الحلال، وأمّا أنا فلست بزان، وأمّي ليست بزانية، فهذا كلّه ليس بقذف وإن
نواه; لأنّ النّيّة إنّما تؤثّر إذا احتمل اللّفظ المنويّ، ولا دلالة هنا
في اللّفظ، ولا احتمال، وما يفهم منه مستنده قرائن الأحوال، هذا هو
الأصحّ. وقيل: هو كناية، أي عن القذف، لحصول الفهم والإيذاء، فإن أراد
النّسبة إلى الزّنا فقذف، وإلاّ فلا. وسواء في ذلك حالة الغضب وغيرها،
وهو أحد قولي الإمام أحمد.
لحدّ القذف شروط في القاذف، وشروط في المقذوف:
أ - شروط القاذف:
13 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في القاذف:
البلوغ والعقل والاختيار، وسواء أكان ذكراً أم أنثى، حراً أو عبداً، مسلماً
أو غير مسلم.
واختلف الفقهاء في شروط، منها:
أولاً - الإقامة في دار العدل: وهو شرط عند الحنفيّة، احترازاً عن المقيم في دار الحرب.
ثانياً - النّطق: وهو شرط عند الحنفيّة، فلا حدّ على الأخرس.
ثالثاً - التزام أحكام الإسلام: وهو شرط عند الشّافعيّة، فلا حدّ على حربيّ، لعدم التزامه أحكام الإسلام.
رابعاً - العلم بالتّحريم: وهو شرط عند الشّافعيّة،
وهو احتمال عند الحنفيّة، فلا حدّ على جاهل بالتّحريم; لقرب عهده
بالإسلام، أو بعده عن العلماء.
خامساً - عدم إذن المقذوف: وهو شرط عند الشّافعيّة، فلا حدّ على من قذف غيره بإذنه، كما نقله الرّافعيّ عن الأكثرين.
سادساً - أن يكون القاذف غير أصل للمقذوف: وهو شرط
عند الحنفيّة، والمذهب عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وفي قول عند
المالكيّة يحدّ الأب بقذف ابنه.
ب - شروط المقذوف:
كون المقذوف محصناً:
14 - يشترط في المقذوف - الذي يجب الحدّ بقذفه من
الرّجال والنّساء - أن يكون محصناً، وشروط الإحصان في القذف: البلوغ،
والعقل، والإسلام، والحرّيّة، والعفّة عن الزّنا، فإن قذف صغيراً أو
مجنوناً لم يجب عليه الحدّ; لأنّ ما رمى به الصّغير والمجنون لو تحقّق لم
يجب به الحدّ، فلم يجب الحدّ على القاذف، كما لو قذف عاقلاً بما دون
الوطء، وإن قذف كافراً لم يجب عليه الحدّ، لما روى ابن عمر رضي الله
عنهما: «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: من أشرك باللّه فليس
بمحصن»، وإن قذف مملوكًا لم يجب عليه الحدّ; لأنّ نقص الرّقّ يمنع كمال
الحدّ، فيمنع وجوب الحدّ على قاذفه، وإن قذف زانياً لم يجب عليه الحدّ،
لقوله عزّ وجلّ: {وَالذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}،
فأسقط الحدّ عنه إذا ثبت أنّه زنى، فدلّ على أنّه إذا قذفه وهو زان لم يجب
عليه الحدّ، وقال مالك في الصّبيّة الّتي يجامع مثلها: يحدّ قاذفها،
خصوصاً إذا كانت مراهقةً، فإنّ الحدّ بعلّة إلحاق العار، ومثلها يلحقها.
والتّفصيل في مصطلح (إحصان ف / 15 - 19).
15 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة: إلى
أنّه يجب الحدّ على القاذف في غير دار الإسلام، مع مراعاة الشّروط السّابقة
في القاذف، كما يجب في دار الإسلام، لأنّه لا فرق بين دار الحرب ودار
الإسلام فيما أوجب اللّه على خلقه من الحدود; لأنّ اللّه تعالى يقول:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئةَ
جَلْدَةٍ}، وقال تعالى: {وَالذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ
لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً}، وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ
أَيْدِيَهُمَا}، ولم يستثن من كان في دار الإسلام، ولا في دار الكفر،
والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر، فمن أصاب حراماً فقد حدّه اللّه
على ما كان منه، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئاً، ويقام الحدّ في كلّ
موضع; لأنّ أمر اللّه تعالى بإقامته مطلق في كلّ مكان وزمان، وقال
الحنابلة: لا يقام الحدّ إلاّ إذا رجع إلى بلاد الإسلام.
وقال الحنفيّة: لا حدّ على القاذف في غير دار
الإسلام; لأنّه في دار لا حدّ على أهلها; ولأنّه ارتكب السّبب وهو ليس
تحت ولاية الإمام، وإنّما تثبت للإمام ولاية الاستيفاء إذا ارتكب السّبب
وهو تحت ولايته، وبدون المستوفى لا يجب الحدّ.
ولو دخل الحربيّ دارنا بأمان فقذف مسلماً، لم يحدّ في
قول أبي حنيفة الأوّل; لأنّ المغلّب في هذا الحدّ حقّ اللّه تعالى;
ولأنّه ليس للإمام عليه ولاية الاستيفاء، حين لم يلتزم شيئاً من أحكام
المسلمين بدخوله دارنا بأمان.
ويحدّ في قول أبي حنيفة الآخر، وهو قول أبي يوسف
ومحمّد رحمهم الله، فإنّ في هذا الحدّ معنى حقّ العبد، وهو ملتزم حقوق
العباد; ولأنّه بقذف المسلم يستخفّ به، وما أعطي الأمان على أن يستخفّ
بالمسلمين، ولهذا يحدّ بقذف المسلم.
انظر مصطلح (دار الحرب ف / 5).
16 - يثبت القذف بشهادة شاهدين عدلين، ولا تقبل فيه
شهادة النّساء مع الرّجال في قول عامّة الفقهاء، فعن الزّهريّ أنّه قال:
جرت السُّنة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده، أن
لا تقبل شهادة النّساء في الحدود، ولا تقبل فيه الشّهادة على الشّهادة،
ولا كتاب القاضي إلى القاضي; لأنّ موجبه حدّ يندرئ بالشّبهات، وهو قول
النّخعيّ والشّعبيّ، وأبي حنيفة وأحمد.
وقال مالك وأبو ثور، والشّافعيّ في المذهب: تقبل
فيه الشّهادة على الشّهادة، وفي كلّ حقّ; لأنّ ذلك يثبت بشهادة الأصل،
فيثبت بالشّهادة على الشّهادة، كما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي.
17 - ويثبت بالإقرار كسائر الحقوق، ويجب الحدّ
بإقراره، ومن أقرّ بالقذف ثمّ رجع لم يقبل رجوعه; لأنّ للمقذوف فيه
حقّاً، فيكذّبه في الرّجوع، بخلاف ما هو خالص حقّ اللّه تعالى; لأنّه لا
مكذّب له فيه، فيقبل رجوعه.
انظر مصطلح (إقرار ف / 59 - 60، ومصطلح (رجوع ف / 38).
18 - حدّ القذف للحرّ ثمانون جلدةً، لقوله تعالى:
{وَالذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، وينصّفُ في حقّ العبد عند
الجمهور.
وأمّا كيفيّة الجلد في الحدّ، ففيه تفصيل ينظر في مصطلح (حدود ف / 46، 47 و 48).
ويشترط لإقامة الحدّ بعد تمام القذف بشروطه شرطان.
الأوّل: أن لا يأتي القاذف ببيّنة لقول اللّه
تعالى: {وَالذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ}، فيشترط في جلدهم عدم البيّنة،
وكذلك يشترط عدم الإقرار من المقذوف; لأنّه في معنى البيّنة، فإن كان
القاذف زوجاً اشترط امتناعه من اللّعان، ولا نعلم في ذلك خلافًا.
الثّاني: مطالبة المقذوف واستدامة مطالبته إلى
إقامة الحدّ; لأنّه حقّه، فلا يستوفى قبل طلبه كسائر حقوقه، ومن قال:
إنّ الحدّ من حقوق اللّه لم يشترط المطالبة، بل على الإمام أن يقيمه بمجرّد
وصوله إليه.
19 - اختلف الفقهاء في عفو المقذوف عن القاذف، فذهب
الشّافعيّة والحنابلة، وهو رواية عن أبي يوسف إلى أنّ للمقذوف أن يعفو عن
القاذف، سواء قبل الرّفع إلى الإمام أو بعد الرّفع إليه; لأنّه حقّ لا
يستوفى إلاّ بعد مطالبة المقذوف باستيفائه، فيسقط بعفوه، كالقصاص، وفارق
سائر الحدود، فإنّه لا يعتبر في إقامتها طلب استيفائها.
وذهب الحنفيّة إلى: أنّه لا يجوز العفو عن الحدّ في
القذف، سواء رفع إلى الإمام أو لم يرفع. وذهب المالكيّة إلى: أنّه لا
يجوز العفو بعد أن يرفع إلى الإمام، إلاّ الابن في أبيه، أو الذي يريد
ستراً، على أنّه لا يقبل العفو من أصحاب الفضل المعروفين بالعفاف; لأنّهم
ليسوا ممّن يدارون بعفوهم ستراً عن أنفسهم.
قال ابن رشد: والسّبب في اختلافهم هل هو حقّ للّه
أو حقّ للآدميّين أو حقّ لكليهما؟ فمن قال حقّ للّه: لم يجز العفو
كالزّنا، ومن قال حقّ للآدميّين: أجاز العفو، ومن قال حقّ لكليهما وغلب
حقّ الإمام إذا وصل إليه، قال بالفرق بين أن يصل الإمام أو لا يصل، وقياساً
على الأثر الوارد في السّرقة في حديث صفوان بن أميّة في قصّة الذي سرق
رداءه ثمّ أراد ألاّ يقطع، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فهلاّ
كان هذا قبل أن تأتيني به»، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصّة الذي
سرق: «فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقطعه، فرأوا منه أسفًا عليه،
فقالوا: يا رسول اللّه، كأنّك كرهت قطعه، قال وما يمنعني؟ لا تكونوا
عوناً للشّيطان على أخيكم، إنّه ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حدّ أن يقيمه،
إنّ اللّه عفوّ يحبّ العفو».
وعمدة من قال إنّه حقّ للآدميّين - وهو الأظهر -: أنّ المقذوف إذا صدّقه فيما قذفه به سقط عنه الحدّ.
20 - وذلك إذا رمى الرّجل زوجته بالزّنا، أو نفى
حملها أو ولدها منه، ولم يقم بيّنةً على ما رماها به، فإنّ الحدّ يسقط عنه
إذا لاعن زوجته.
والتّفصيل في مصطلح: (لعان).
21 - إذا ثبت زنا المقذوف بشهادة، أو إقرار، حدّ
المقذوف، وسقط الحدّ عن القاذف، لقوله تعالى: {وَالذينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وفي بيان إثبات الزّنا بالشّهادة أو
الإقرار انظر المصطلحات (إقرار ف /34 - 37، وشهادة ف /29، وزنىً ف /30 -
41).
22 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه: لو قذف
محصناً، ثمّ زال أحد أوصاف الإحصان عنه، كأن زنى المقذوف، أو ارتدّ، أو
جنّ، سقط الحدّ عن القاذف; لأنّ الإحصان يشترط في ثبوت الحدّ، وكذلك
استمراره.
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ: حدّ القذف يسقط بزنا
المقذوف قبل إقامة الحدّ; لأنّ الإحصان لا يستيقن بل يظنّ، ولكنّ حدّ
القذف لا يسقط بردّة المقذوف، والفرق بين الرّدّة والزّنا أنّ الزّنا يكتم
ما أمكن، فإذا ظهر أشعر بسبق مثله; لأنّ اللّه تعالى كريم لا يهتك السّتر
أوّل مرّة كما قاله عمر - رضي الله عنه - والرّدّة عقيدة، والعقائد لا
تخفى غالباً، فإظهارها لا يدلّ على سبق الخفاء، ولا يسقط كذلك بجنون
المقذوف.
وذهب الحنابلة إلى أنّ القذف إذا ثبت لا يسقط بزوال
شرط من شروط الإحصان بعد ذلك، كما لو زنى المقذوف قبل إقامة الحدّ، أو جنّ
فإنّه لا يسقط الحدّ عن القاذف بذلك.
23 - إذا ثبت الحدّ بشهادة الشّهود، ثمّ رجعوا عن
شهادتهم قبل إقامة الحدّ، سقط الحدّ باتّفاق الفقهاء، وكذلك إذا رجع بعضهم
ولم يبق منهم ما يثبت الحدّ بشهادته منهم; لأنّ رجوعهم شبهة، والحدود
تدرأ بالشّبهات.
والتّفصيل في مصطلح (رجوع ف / 37).
24 - لا يقام حدّ القذف على القاذف إلاّ بشروطه، فإذا
انعدم واحد منها أو اختلّ، فإنّ الجاني لا يحدّ، ويعزّر عند طلب
المقذوف; لأنّه ارتكب معصيةً لا حدّ فيها.
والتّفصيل في مصطلح: (تعزير ف / 37).
25 - إذا قذف الرّجل زوجته، فحقّق قذفه ببيّنة، أو
لعان، أو قذف أجنبيّةً أو أجنبيّاً، فحقّق قذفه بالبيّنة، أو بإقرار
المقذوف، لم يتعلّق بقذفة فسق، ولا حدّ، ولا ردّ شهادة، وإن لم يحقّق قذفه
بشيء من ذلك، تعلّق به وجوب الحدّ عليه، والحكم بفسقه، وردّ شهادته، لقوله
تعالى: {وَالذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ}.
فإن تاب القاذف لم يسقط عنه الحدّ، وزال الفسق بلا
خلاف، وتقبل شهادته عند الجمهور. وذهب الحنفيّة إلى أنّه: لا تقبل
شهادته إذا جلد وإن تاب.
والتّفصيل في مصطلح (توبة ف /21).
26 - إن قذف رجلاً مرّات فلم يحدّ، وجب عليه حدّ
واحد، سواء قذفه بزناً واحد أو بزنيات; لأنّهما حدّان من جنس واحد
لمستحقّ واحد، فتداخلا، كما لو زنى ثمّ زنى، وفي قول عند الشّافعيّة:
أنّه يجب عليه حدّان; لأنّه من حقوق الآدميّين، فلم تتداخل، كالدّيون.
وإن قذفه فحدّ ثمّ أعاد قذفه، نظر: فإن قذفه بذلك
الزّنا الذي حدّ من أجله لم يعد عليه الحدّ، وعزّر للإيذاء، فإنّ أبا بكرة
لمّا حدّ بقذف المغيرة، أعاد قذفه، فلم يروا عليه حدّاً ثانياً، فقد ورد عن
ظبيان بن عمارة قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنّه زان فبلغ
ذلك عمر فكبّر عليه وقال: شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة، وجاء زياد
فقال: أمّا عندك؟ فلم يثبت، فأمر بهم فجلدوا، وقال: شهود زور، فقال
أبو بكرة: أليس ترضى إن أتاك رجل عدل يشهد برجمه؟ قال: نعم والذي
نفسي بيده، فقال أبو بكرة: وأنا أشهد أنّه زان، فأراد أن يعيد عليه
الجلد، فقال عليّ: يا أمير المؤمنين إنّك إن أعدت عليه الجلد أوجبت عليه
الرّجم، وفي حديث آخر: «فلا يعاد في فرية جلد مرّتين».
فأمّا إن حدّ له، ثمّ قذفه بزناً ثان، نظر: فإن
قذفه بعد طول الفصل فحدّ ثان; لأنّه لا يسقط حرمة المقذوف بالنّسبة
للقاذف أبداً، بحيث يمكّن من قذفه بكلّ حال.
وإن قذفه عقيب حدّه ففيه رأيان:
الأوّل: يحدّ أيضاً; لأنّه قذف لم يظهر كذبه فيه
بحدّ، فيلزم فيه حدّ، كما لو طال الفصل; ولأنّ سائر أسباب الحدّ إذا
تكرّرت بعد أن حدّ للأوّل، ثبت للثّاني حكمه، كالزّنا، والسّرقة، وغيرهما
من الأسباب.
الثّاني: لا يحدّ; لأنّه قد حدّ له مرّةً، فلم يحدّ له بالقذف عقبه، كما لو قذفه بالزّنا الأوّل.
27 - من قذف من وطئ بشبهة، فعليه الحدّ إذا لم يسقط
بهذا الوطء إحصانه، فإن سقط بهذا الوطء إحصانه، لم يحدّ قاذفه; لأنّه قذف
غير محصن، ويعزّر للإيذاء.
وعند أبي حنيفة أنّ من قذف رجلاً استكره امرأةً على
الزّنا، أو قذفها، فلا حدّ على القاذف; لأنّ قذفه للزّاني كان حقّاً،
ولأنّ المرأة وإن كانت مكرهةً، لكنّ الزّنا بها يسقط إحصانها مع رفع الإثم
عنها.
انظر تفصيل ذلك في مصطلح (إحصان ف /7، ومصطلح زناً ف / 16 - 21).
28 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على المذهب، على أنّ
من وطئ امرأته الّتي ظاهر منها لم يسقط إحصانه، ويحدّ قاذفه; لأنّ الوطء
في الملك، والحرمة بعارض على احتمال الزّوال، وهذا لأنّ مع قيام الملك
بالمحلّ لا يكون الفعل زناً ولا في معناه.
29 - نصّ الحنفيّة والحنابلة على أنّ: من قذف ولد
الزّنا في نفسه فعليه الحدّ; لأنّه محصن عفيف، وإنّما الذّنب لأبويه،
وفعلهما لا يسقط إحصانه.
30 - ومن قذف ولد الملاعنة فقال: هو ولد زناً،
فعليه الحدّ، لما روى ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في
الملاعنة أن لا ترمى، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه
الحدّ»; ولأنه محصن عفيف.
وإذا قال القاذف: هو من الذي رميت به أمّه فعليه
الحدّ، أما إن قال: ليس هو ابن فلان يعني الملاعن، وأراد أنه منفيّ عنه
شرعاً فلا حد عليه لأنه صادق، وقال المالكية: من قال لابن الملاعنة:
لست لأبيك الذي لاعن أمك، فعليه الحدّ.
31 - لا حد على قاذف من وطئ بنكاح فاسد عند
الحنفية; لأن العقد الفاسد غير موجب للملك، والوطء في غير الملك في معنى
الزّنا فيسقط إحصانه، فلا يحدّ قاذفه.
وهو أحد وجهين عند الشافعية.
والوجه الثاني للشافعية وهو قول الحنابلة: أنه يجب عليه الحدّ; لأنه وطء لا يجب به الحدّ فلم يسقط الإحصان، فيحدّ قاذفه.
32 - ومن قذف اللقيط بعد بلوغه محصناً فعليه الحدّ; لأن قذف المحصن موجب للحدّ.
ومن قال له: يا ابن الزّنا، ففيه قولان عند
المالكية: الأول: يحدّ لاحتمال أن يكون نبذ مع كونه من نكاح صحيح، وهو
قول ابن رشد وهو الراجح. الثاني: لا يحدّ لأن الغالب في المنبوذ أن
يكون ابن زناً، وهو قول اللخميّ.
وأما لو قال له: يا ابن الزاني، أو يا ابن الزانية،
فهذا قذف بزنا أبويه، لا بنفي نسب، فلا حد على القاذف اتّفاقاً، وعلله ابن
رشد بجهل أبويه.
33 - ومن ثبت زناه ببيّنة أو إقرار فلا حد على
قاذفه; لأنه صادق سواء قذفه بذلك الزّنا بعينه، أو بزناً آخر أو
مبهماً; لأنه رمى غير محصن; لأن المحصن لا يكون زانياً، ومن لا يجب
عليه الحدّ لعدم إحصان المقذوف يعزر; لأنه آذى من لا يجوز أذاه.
قال الشافعية: والحكم كذلك ولو تاب بعد زناه وصلح
حاله، فلم يعد محصناً أبداً، ولو لازم العدالة وصار من أورع خلق الله
وأزهدهم، فلا يحدّ قاذفه، سواء أقذفه بذلك الزّنا أم بزناً بعده، أم
أطلق; لأن العرض إذا انخرم بالزّنا لم يزل خلله بما يطرأ من العفة، ولا
يرد حديث: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» لأن هذا بالنّسبة إلى
الآخرة.
ونص الحنابلة على أن: من شروط المقذوف أن يكون
عفيفاً عن الزّنا في ظاهر حاله، ولو كان تائبًا منه; لأن التائب من الذنب
كمن لا ذنب له، ثم نصّوا على أن المقذوف إذا أقر بالزّنا، ولو دون أربع
مرات أو حد للزّنا، فلا حد على قاذفه ويعزر.
وحكي عن إبراهيم وابن أبي ليلى: أنه إن قذفه بغير
ذلك الزّنا، أو بالزّنا مبهماً فعليه الحدّ; لأن الرمي موجب للحدّ، إلا
أن يكون الرامي صادقاً، وإنما يكون صادقاً إذا نسبه إلى ذلك الزّنا بعينه،
ففيما سوى ذلك فهو كاذب ملحق للشين به.
34 - ومن قذف الملاعنة فعليه الحدّ، وهو قول جمهور
الفقهاء، وهو قول ابن عمر وابن عباس والحسن، والشعبيّ وطاوس ومجاهد; لأن
إحصانها لم يسقط باللّعان، ولا يثبت الزّنا به، ولذلك لم يلزمها به حدّ،
وروي عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الملاعنة أن لا
ترمى ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحدّ».
واتفق الحنفية مع الجمهور إذا كانت الملاعنة بغير
ولد، فأما إن كانت بولد فلا حد على القاذف عند الحنفية لقيام أمارة الزّنا
منها، وهي ولادة ولد لا أب له، ففاتت العفة نظراً إليها، والعفة شرط
الإحصان.
ونص المالكية والشافعية في المذهب على أن قاذف
الملاعنة إذا كان أجنبيّاً، أو كان زوجاً وقذفها في غير ما لاعنها فيه، حد
مطلقاً فإذا كان الملاعن نفسه وقذفها فيما لاعنها فيه لم يحد، وأضاف
الشافعية أنه لا يحدّ ولكن يعزر وكذلك لو أطلق القذف.
35 - أوجب الجمهور حد القذف على من قذف ميّتاً
محصناً، ذكراً كان أو أنثى إذا طالب بالحدّ من له الحقّ من الورثة، وذلك
لأن وجوب الحدّ باعتبار إحصان المقذوف، والموت يقرّر الإحصان ولا ينفيه.
وقال الحنابلة: لا حد على من قذف ميّتاً إلا إذا
كان الميّت أنثى، وكان لها ابن محصن فإن له الحق في المطالبة بالحدّ; لأن
قذف أمّه قذف له لنفي نسبه، ولهذا لم يعتبر إحصان المقذوف واعتبر إحصان
الولد، ومتى كان المقذوف من غير أمهاته لم يتضمن نفي نسبه فلا يحدّ.
36 - من قذف امرأته بالزّنا برجل بعينه فقد قذفهما
جميعاً، فإن لاعنها سقط الحدّ عنه لهما، وإن لم يلاعن فلكلّ واحد منهما
المطالبة بإقامة الحدّ، وأيّهما طالب حد له ومن لم يطالب فلا يحد له.
وذهب الشافعية وهو قول للحنابلة إلى أن القذف للزوجة وحدها، ولا يتعلق بغيرها حقّ في المطالبة ولا الحدّ.
37 - من قذف أجنبيةً ثم تزوجها فعليه الحدّ ولا
يلاعن، لأنه قذفها في حال كونها أجنبيةً فوجب الحدّ، ولا يملك اللّعان لأنه
قاذف غير زوجة، فحكمه حكم من لم يتزوج.
38 - من قذف امرأةً لها أولاد لا يعرف لهم أب، فلا حد
عليه لقيام أمارة الزّنا، وهي ولادة ولد لا أب له ففاتت العفة نظراً
إليها، وهي شرط الإحصان ويعزر للإيذاء.
39 - من قذف جماعةً بكلمة واحدة أو بكلمات فعليه حدّ
واحد، سواء طالبوه دفعةً واحدةً أو طالبوه واحداً بعد واحد. فإن حد للأول
لم يحد لمن جاء بعده; لأن حضور بعضهم للخصومة كحضور كلّهم، فلا يحدّ
ثانياً إلا إذا كان بقذف آخر مستأنف، وهو قول الثوريّ والشعبيّ، والنخعيّ
وإبراهيم والزّهريّ وقتادة، وطاوس وأبي حنيفة ومالك.
وعند عطاء والشعبيّ، وابن أبي ليلى والشافعيّ
وأحمد: إذا قذف جماعةً بكلمات فلكلّ واحد حدّ; لأنها حقوق لآدميّين،
فلم تتداخل كالدّيون.
وأما إذا قذفهم بكلمة واحدة فقال الشافعيّ في
القديم: عليه حدّ واحد، وهو رواية عن الإمام أحمد، ورجحها في المغني
لقوله تعالى: {وَالذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، ولم يفرّق
بين قذف واحد أو جماعة; ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأةً، فلم
يحدهم عمر رضي الله عنه إلا حداً واحداً; ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حدّ
واحد كما لو قذف واحداً; ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف
بقذفه، وبحدّ واحد يظهر كذب هذا القاذف وتزول المعرة فوجب أن يكتفى به،
بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفاً مفرداً فإن كذبه في قذف لا يلزم منه كذبه
في آخر، ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحدّه للآخر.
وقال الحسن وأبو ثور والشافعيّ في الجديد، وابن
المنذر والرّواية الثانية عن أحمد: يجب لكلّ واحد منهم حدّ، لأنه ألحق
العار بقذف كلّ واحد منهم، فلزمه لكلّ واحد منهم حدّ، كما لو انفرد كلّ
واحد منهم بالقذف.
واختلف أبو حنيفة ومالك فيما إذا قذف إنساناً فحد له
وفي أثناء إقامة الحدّ قذف إنساناً آخر، فعند أبي حنيفة لا يقام إلا حدّ
واحد ولو لم يبق من الضرب إلا سوط واحد، فلا يضرب إلا ذلك السوط،
للتداخل; لأنه اجتمع حدان; ولأن كمال الحدّ الأول بالسوط الذي بقي.
وعند مالك: إن كرر أثناء الجلد فإن كان ما مضى من
الجلد أقله ألغي ما مضى، وابتدئ العدد وبذلك يستوفى الثاني. وإن كان ما
بقي قليلاً فيكمل الأول، ثم يبتدئ للثاني.
وعند الشافعية والحنابلة إذا قذف جماعةً لا يجوز أن
يكونوا كلّهم زناةً عادةً لم يجب الحدّ; لأن الحد إنما يجب لنفي العار،
ولا عار على المقذوف لأنا نقطع بكذبه ويعزر للكذب.
40 - من قذف نفسه بأن قال: أنا ولد زناً، حد لأنه قذف لأمّه.
41 - قذف النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وقذف أمّه
ردة عن الإسلام، وخروج عن الملة، ومن قذف النبي صلى الله عليه وسلم كفر
وقتل ولو تاب أو كان كافراً فأسلم، لا إن سبه بغير القذف ثم أسلم.
42 - اتفق الفقهاء على أن من قذف عائشة رضي الله عنها
فقد كذب صريح القرآن الذي نزل بحقّها، وهو بذلك كافر بعد أن برأها الله
منه في قوله تعالى: {إِنَّ الذينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ
مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ
امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالذي تَوَلَّى كِبْرَهُ
مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إلى قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ
أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. أما سائر
زوجات النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد ذهب الحنفية والحنابلة في الصحيح،
واختاره ابن تيمية أنهن مثل عائشة في الحكم، واستدلّوا بقوله تعالى: {…
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}، وقذفهن طعن بالرسول صلى الله عليه
وسلم وعار عليه.
وذهب الشافعية وهو الرّواية الأخرى للحنابلة: أن
زوجات النبيّ صلى الله عليه وسلم سوى عائشة كسائر الصحابة، وسابّهن يجلد;
لأنه قاذف.
وللتفصيل ر: (ردة ف / 18، وسبّ ف / 18).
43 - يرى الفقهاء أن من قذف نبيّاً من الأنبياء يقتل، ولا تقبل توبته.
انظر مصطلح: (رسول ف / 3)، ومصطلح: (سبّ ف / 11 - 13).
44 - ذهب الحنفية إلى أنه: لا يطالب بحدّ القذف
للميّت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه، وهو الوالد وإن علا والولد وإن
سفل، لأن العار يلتحق بهما للجزئية، فيكون القذف متناولاً معنىً لهما،
فلذلك يثبت لهما حقّ المطالبة، لكن لحوقه لهما بواسطة لحوق المقذوف بالذات
فهو الأصل في الخصومة; لأن العار يلحقه مقصوداً، فلا يطالب غيره بموجبه
إلا عند اليأس عن مطالبته، وذلك بأن يكون ميّتاً، فلذا لو كان غائباً لم
يكن لولده ولا لوالده المطالبة لأنه يجوز أن يصدّقه الغائب.
ويثبت للأبعد مع وجوب الأقرب، وكذا يثبت لولد الولد مع وجود الولد، ولو عفا بعضهم كان لغيره أن يطالب به; لأنه للدفع عن نفسه.
وإذا كان المقذوف محصناً جاز لابنه الكافر أن يطالب
بالحدّ خلافاً لزفر، إذ يقول: القذف يتناوله معنىً لرجوع العار إليه وليس
طريقه الإرث عندنا، كما إذا كان متناولاً له صورةً ومعنىً، بأن يكون هو
المقصود بالقذف ولو كان كذلك لم يكن له حقّ المطالبة لعدم إحصانه، فكذا إذا
كان مقذوفاً معنىً فقط.
ولكنا نقول: إنه عيره بقذف محصن، فيأخذه بالحدّ،
وهذا لأن الإحصان في الذي ينسب إلى الزّنا شرط ليقع تعييراً على الكمال، ثم
يرجع هذا التعيير الكامل إلى ولده، والكفر لا ينافي أهلية الاستحقاق،
بخلاف ما إذا تناول القذف نفسه لأنه لم يوجد تعيير على الكمال، لفقد
الإحصان في المنسوب إلى الزّنا.
والحاصل أن السبب التعيير الكامل، وهو بإحصان
المقذوف، فإن كان حيّاً كانت المطالبة له، أو ميّتاً طالب به أصله أو فرعه،
وإن لم يكن محصناً لم يتحقق التعيير الكامل في حقّه.
وذهب المالكية إلى أن: للوارث حق القيام بحقّ
مورّثه المقذوف قبل موته وبعد موته، وهو ولد وولده وإن سفل، وأب وأبوه وإن
علا، ثم الأخ فابنه. فعمّ فابنه، وهكذا ولكلّ من الورثة القيام بحقّ
المورّث وإن وجد من هو أقرب منه. كابن الابن مع وجود الابن; لأن المعرة
تلحق الجميع ولا سيما إذا كان المقذوف أنثى خلافاً لأشهب القائل: يقدم
الأقرب فالأقرب في القيام بحقّ المورّث المقذوف كالقيام بالدم.
وذهب الشافعية إلى أنه: إذا مات من له الحدّ أو التعزير وهو ممن يورث انتقل ذلك إلى الوارث، وفيمن يرثه ثلاثة أوجه:
الأول: أنه يرثه جميع الورثة، لأنه موروث فكان لجميع الورثة، كالمال، وهو الأصحّ عندهم.
الثاني: أنه لجميع الورثة إلا لمن يرث بالزوجية; لأن الحد يجب لدفع العار، ولا يلحق الزوج عار بعد الموت لأنه لا تبقى زوجية.
الثالث: أنه يرثه العصبات دون غيرهم لأنه حقّ ثبت
لدفع العار، فاختص به العصبات كولاية النّكاح، وإن كان له وارثان فعفا
أحدهما ثبت للآخر الحدّ لأنه جعل للردع، ولا يحصل الردع إلا بما جعله الله
عز وجل للردع، وإن لم يكن له وارث فهو للمسلمين ويستوفيه السّلطان.
وذهب الحنابلة إلى أن من قذفت أمّه وهي ميّتة مسلمةً كانت أو كافرةً، حرةً أو أمةً حد القاذف إذا طالب الابن وكان حرّاً مسلماً.
أما إذا قذفت وهي في الحياة فليس لولدها المطالبة لأن
الحق لها فلا يطالب به غيرها، ولا يقوم غيرها مقامها سواء كانت محجوراً
عليها أو غير محجور عليها; لأنه حقّ يثبت للتشفّي فلا يقوم غير المستحقّ
مقامه كالقصاص، وتعتبر حصانتها لأن الحق لها، فتعتبر حصانتها كأن لم يكن
لها ولد، وأما إذا قذفت وهي ميّتة، فإن لولدها المطالبة لأنه قدح في
نسبه; ولأنه بقذف أمّه يَنْسِبُهُ إلى أنه من زناً، ولا يستحقّ ذلك بطريق
الإرث، ولذلك لا تعتبر الحصانة في أمّه لأن القذف له. فأما إن قذفت أمّه
بعد موتها وهو مشرك أو عبد فلا حد على القاذف، سواء كانت الأمّ حرةً
مسلمةً أو لم تكن، وإن قذفت جدته فهو كقذف أمّه.
فأما إن قذف أحد أباه أو جده أو أحداً من أقاربه غير
أمهاته بعد موته، لم يجب الحدّ بقذفه; لأنه إنما يجب بقذف أمّه حقّاً له
لنفي نسبه لاحقاً للميّت، ولهذا لم يعتبر إحصان المقذوفة واعتبر إحصان
الولد، ومتى كان المقذوف من غير أمهاته لم يتضمن نفي نسبه فلم يجب الحدّ.
45 - من قذف مجهولاً لا حد عليه لعدم تعيين المعرة،
إذ لا يعرف من أراد والحدّ إنما هو للمعرة، فإن اختلف رجلان في شيء فقال
أحدهما: الكاذب هو ابن زانية، فلا حد عليه لأنه لم يعيّن أحداً بالقذف،
وإذا سمع السّلطان رجلاً يقول: زنى رجل، لم يقم عليه الحد; لأن المستحق
مجهول، ولا يطالبه بتعيينه لقول الله عز وجل: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ
أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، ولأن الحد يدرأ بالشّبهة، ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «يا هزال، لو سترته بثوبك كان خيراً لك»، وإن
قال سمعت رجلاً يقول: إن فلاناً زنى، لم يحد لأنه ليس بقاذف وإنما هو
حاك، ولا يسأله عن القاذف; لأن الحد يدرأ بالشّبهة، وإن قال لجماعة:
أحدكم زان أو ابن زانية فلا حد عليه، ولو قاموا كلّهم لعدم تعيينه المعرة
لواحد منهم إذ لا يعرف من أراد، وهذا إذا كثرت الجماعة بأن زادوا على
ثلاثة، فإن كانوا ثلاثةً أو اثنين حد إن قاموا أو قام بعضهم وعفا البعض
الباقي، إلا أن يحلف أنه لم يرد القائم وإن لم يحلف حد، وهذا عند المالكية،
وقال الحنفية: لو قام بعضهم فقال: لم أرد القائم لم يحد سواء عفا
البعض أو لم يعف، وسواء حلف أنه لم يرد القائم أو لم يحلف; لأن القذف وقع
غير موجب للحدّ، حيث لم يعيّن أحداً بالقذف.
46 - من قذف مرتدّاً لا حد عليه; لأن المرتد غير
محصن بأن خرج عن دين الإسلام، وإن ارتد المقذوف بعد قذفه فلا حد على قاذفه
ولو تاب بأن رجع للإسلام، وقال المزنيّ وأبو ثور: إن ارتد المقذوف بعد
قذفه فإن ردته لا تسقط الحد; لأنها أمر طرأ بعد وجوب الحدّ فلا يسقط ما
وجب من الحدّ.
ومن قذف كافراً ولو ذمّيّاً لا حد عليه عند الجمهور،
ويعزر للإيذاء، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «من أشرك بألله فليس بمحصن»، وقال الزّهريّ وسعيد بن المسيّب
وابن أبي ليلى: عليه الحدّ إذا كان لها ولد مسلم، قال ابن المنذر: وجلّ
العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول، ولم أدرك أحداً ولا لقيته يخالف
ذلك.
ويحدّ قاذف الفاسق إذا كان فسقه بغير الزّنا; لكونه
عفيفًا عن الزّنا فهو محصن وقذف المحصن موجب للحدّ، قال تعالى:
{وَالذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ} الآية.
47 - ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنه لا حد
على قاذف المجبوب، وكذلك الرتقاء عند أبي حنيفة لفقدان آلة الزّنا ولأنه لا
يلحقهما الشين، فإن الزّنا منهما لا يتحقق ويلحق الشين القاذف في هذا
القذف.
وقال الحنابلة: يجب الحدّ على من قذف خصيّاً أو
مجبوباً أو مريضاً مدنفاً أو رتقاء، لقوله تعالى: {وَالذينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ}، فهم داخلون في عموم الآية، ولأنه قاذف لمحصن فيلزمه الحدّ
كقذف القادر على الوطء; ولأن إمكان الوطء أمر خفيّ لا يعلمه كثير من
الناس، فلا ينتفي العار عند من لم يعلمه بدون الحدّ فيجب كقذف المريض.
وقال الحسن: لا حد على قاذف الخصيّ; لأن العار منتف عن المقذوف بدون الحدّ للعلم بكذب القاذف، والحدّ إنما يجب لنفي العار.
48 - إذا قذف ولده وإن نزل لم يجب عليه الحدّ سواء
كان القاذف ذكراً أو أنثى، وبهذا قال عطاء والحسن والشافعيّ وأحمد وأبو
حنيفة وهو المذهب عند المالكية. وفي قول عندهم: يجب عليه الحدّ بقذف
الابن، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وأبي ثور وابن المنذر لإطلاق آية
{فَاجْلِدُوهُمْ}، ولأنه حدّ هو حقّ لله فلا يمنع من إقامته قرابة
الولادة كالزّنا.
والجواب على من قال بوجوب الحدّ: أن الإطلاق أو
العموم مخرج منه الولد على سبيل المعارضة بقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل
لَّهُمَا أُفٍّ} والمانع مقدم، ولهذا لا يقاد والد بولده، وإهدار جنايته
على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق أولى، والفرق بين القذف والزّنا
أن حد الزّنا خالص لحقّ الله تعالى لا حق للآدميّ فيه، وحدّ القذف حقّ
لآدميّ، فلا يثبت للابن على أبيه كالقصاصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السؤال
ذهبت إلى منزل والدي بإذن زوجي بسبب مرضي وأنا
حامل في الشهر الرابع وزوجي مسافر وبينما أنا هناك
حدثت مشاكل كثيرة بسبب
كثرة أقاويل أهله وانسياق زوجي وراءها ولقد طعنني في شرفي بدون دليل وبعد
ذلك طلب مني الذهاب لمنزل الزوجية فأبيت خشية علي نفسي من الأقاويل إذ
طعنني في شرفي وأنا عند والدي فماذا يفعل إن مكثت في المنزل بمفردي وهو
مسافر ولقد قال لي إني زوجة ناشز وامتنع من النفقة علي وعلى ابني الذي صار
عمره عاماً الآن وأريد أن أعلم ما حكم الرجل الذي يطعن زوجته في شرفها بدون
دليل؟ وهل أنا هكذا أصبح ناشزا بعدم رجوعي لمنزله؟ مع العلم بأنه غائب عني
منذ عام وسبعة أشهر ولقد طلبت منه النزول وحل ما بيننا من مشاكل فلم يكن
رده إلا أنه حلف علي بالطلاق أنه لن يأتي إلي وأرسل لي في خطاب يقول علي
الطلاق ما أنا جاي وآخذك من بيت أبوك وهو بوضعه هذا تاركني كالمعلقة لا أنا
بالمتزوجة ولا بالمطلقة وأريد أن أعلم هل إن أتى إلي ليصالحني اعتبر
ساعتها طالقا أم أن هناك كفارة لهذا اليمين؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
وعليه؛ فالواجب عليك الرجوع إلى بيت زوجك ما دام أنه طلب منك ذلك وإلا كنت في حكم الناشز، وقد مضى حكمها في الفتوى رقم: 11797.
لكن إن كان
يلحقك ضرر على نفسك أو عرضك بسكناك لوحدك أثناء غياب زوجك فلا يجب عليك
امتثال أمره في الذهاب إلى البيت، وبالتالي لا تعدين ناشزاً بهذا العصيان،
وبخصوص ما ذكرت من حلف زوجك بالطلاق فالواضح فيه أنه طلاق معلق وحكمه أنه
متى حصل المعلق عليه وقع الطلاق عند جمهور أهل العلم، وهو هنا أخذه لك من
بيت أبيك، ولا فرق بين أن يكون قصده بذلك الطلاق أو التهديد به، وذهب بعض
العلماء إلى أنه إن قصد به مجرد التهديد فلا يلزمه إلا كفارة يمين، وانظري
الفتوى رقم: 1956، والفتوى رقم: 3795.
وننبه في الأخير إلى أن قذف الرجل زوجته المحصنة العفيفة بالزنا هو معصية كبيرة وأمارة على فسقه إذا لم تكن له بينة، قال ابن قدامة في المغني:
إذا قذف الرجل زوجته المحصنة وجب عليه الحد وحكم بفسقه ورد شهادته إلا أن
يأتي ببينة أو يلاعن، فإن لم يأت بأربعة شهداء أو امتنع عن اللعان لزمه ذلك
كله. انتهى.
والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بَابُ حَدِّ القَذْفِ
إِذَا قَذَفَ الْمُكَلَّفُ مُحْصَناً جُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إِنْ كَانَ حُرّاً، وَإِنْ كَانَ عَبْداً أَرْبَعِينَ.
قوله: «حد القذف» «حد» مضاف و «القذف» مضاف إليه، والإضافة هنا من باب إضافة الشيء إلى سببه، يعني باب الحد الذي سببه القذف.
والقذف
في الأصل: هو الرمي، والمراد به هنا رمي شخص بالزنا، أو اللواط، فيقول: يا
زانٍ، يا لوطي، أو أنت زانٍ، أو أنت لوطي، وما أشبه ذلك.
وحكم
القذف محرم، بل من كبائر الذنوب إذا كان المقذوف محصناً، والحكمة من
تحريمه صيانة أعراض الناس عن الانتهاك، وحماية سمعتهم عن التدنيس، وهذا من
أحكم الحكم؛ لأن الناس لو سُلط بعضهم على بعض في التدنيس، والسب، والشتم
حصلت عداوات، وبغضاء، وربما حروب طواحن من أجل هذه الأمور، لكن حفظاً
لأعراض الناس، وحماية لها، ولسمعة المسلمين جاء الشرع محرماً للقذف،
وموجباً للعقوبة الدنيوية فيه، يقول الله ـ عزّ وجل ـ: {{إِنَّ الَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *}} [النور:23] ، فرتب
على ذلك أمرين عظيمين:
الأول: اللعنة في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله.
الثاني: العذاب العظيم.
ثم
قال: {{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ
اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ}} [النور: 24، 25] ، وثبت عن النبي صلّى الله
عليه وسلّم أن من الكبائر الموبقة قذفَ المحصنات المؤمنات الغافلات[(142)].
إذاً فهو من كبائر الذنوب بدلالة الكتاب والسنة، والحكمة فيه ما أشرنا إليه من قبل.
والقذف تختلف عقوبته باختلاف القاذف، وباختلاف المقذوف، ويعلم ذلك من الشروط.
قوله:
«إِذَا قَذَفَ المُكَلَّفُ مُحْصَناً جُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إِنْ
كَانَ حُرّاً وَإِنْ كَانَ عَبْداً أَرْبَعِينَ» «المكلف» البالغ العاقل،
سواء كان هذا البالغ العاقل ذكراً أو أنثى، حتى المرأة لو أنها قذفت رجلاً
يقام عليها حد القذف.
وكلمة:
«المكلف» جاء بها ـ رحمه الله ـ من باب التبيين، وإلا فإنه قد سبق لنا في
الشروط العامة في الحدود أنه يشترط أن يكون المحدود بالغاً عاقلاً.
وقوله:
«محصناً» المحصن هنا غير المحصن في باب الزنا، فالمحصن هنا سيذكره المؤلف
بقوله: «الحر المسلم العاقل العفيف الملتزم الذي يجامع مثله» بخلاف ما في
باب الزنا.
وقوله:
«محصناً» نكرة في سياق الشرط، فتعم ما إذا كان المحصن امرأة أو رجلاً،
فتكون كلمة محصن بمعنى شخصاً محصناً، وقدَّرنا ذلك من أجل الشمول والعموم.
وقوله:
«محصناً» ظاهره أن ذلك شامل لقذف الولد والده، فيجلد ثمانين جلدة، فإذا
قذف والده فقال: يا زانٍ ـ والعياذ بالله ـ فإنه يجلد حد القذف؛ لأن قذف
الولد الوالد شنيع جداً.
ويشمل
كلام المؤلف: قذف الوالد ولده، فالوالد إذا قذف ولده، قال له: أنت لوطي،
أنت زانٍ، أنت فاعل لشيء من هذه الخبائث، وما أشبه ذلك، فعلى كلام المؤلف
يجلد الوالد؛ لأنه أطلق فقال: «محصناً» وهذا خلاف المذهب، فالمذهب أن
الوالد إذا قذف ولده فإنه لا يجلد به، كما أنه لو قتله لا يقتص به، وقد سبق
لنا أن هذه المسألة فيها خلاف.
والصواب
أن قذف الوالد لولده يجب فيه الحد، سواء قلنا: إنه حق لله، أو للآدمي؛
لأننا إذا قلنا: إنه حق لله، فالأمر فيه ظاهر؛ لأنه لا سُلْطَة للوالد على
ولده فيه، وإذا قلنا: إنه حق للآدمي، فإننا نقول: إن الولد إذا لم يرضَ
بإسقاط حقه فإن له المطالبة به، فكما أن له أن يطالب والده بالنفقة، فهذا
مثله، فلمَّا أهدر كرامة ولده، وأهانه أمام الناس، فليقم عليه الحد، والآية
عامة.
ويدخل
في كلام المؤلف من قذف نبياً، وقد قيل: إن من قذف نبياً فليس عليه إلا
الحد، ولكن هذا القول ضعيف، والصحيح أن من قذف نبياً فإنه يكفر ويقتل
كفراً، فإن تاب فإنه يقتل حداً، وليس كفراً؟ والفرق بين القِتْلتين:
أننا إذا قتلناه كفراً فإنه لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، وإذا قتلناه حداً صار الأمر بالعكس.
وظاهره أيضاً ولو قذف أم نبي ـ نسأل الله العافية ـ مثل أن يقول: إن مريم ـ والعياذ بالله ـ بغي، فهل يقتل أو لا؟
الجواب:
لا بد أن يقتل؛ لأنه حتى لو فرضنا أنه ليس من باب القذف، فهو من باب تكذيب
القرآن؛ لأن الله تعالى قال في مريم: {{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا
فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً
لِلْعَالَمِينَ }} [الأنبياء: 91] وأما أم نبي غير مريم، فالصحيح أنه يقتل
كفراً، لما في ذلك من الشناعة العظيمة؛ حيث يوهم أن الأنبياء ـ وحاشاهم من
ذلك ـ أولاد بغايا.
وظاهر
كلامه أيضاً حتى لو قذف زوجة نبي فإنه يحد ثمانين؛ لأنه داخل في عموم
«محصناً» ، ولكن هذا فيه خلاف إلا في عائشة ـ رضي الله عنها ـ فإن من رماها
بما برأها الله منه فهو كافر؛ لأنه مكذب للقرآن، لكن لو رماها بغيره، أو
رمى إحدى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أي نبي كان، فالصحيح أنه
يكفر ـ أيضاً ـ ويقتل، قال شيخ الإسلام: لأن في هذا من الغضاضة، وإذلال
النبي شيئاً لا يتهاون به، وهو أعظم من تحريم نكاح زوجاته بعده، فإذا كان
الله قد نهانا أن نتزوج نساء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعده؛ إكراماً
له، وحماية لفراشه، فكيف يدنس بهذا؟! وهل قذف زوجات الأنبياء إلا استهزاءٌ
بالأنبياء، وسخرية بهم، ولهذا فالصحيح أنه لا يدخل في كلام المؤلف، والظاهر
أن هذه العمومات غير مرادة للمؤلف.
وقوله:
«جلد ثمانين جلدة إن كان حراً» «جُلد» فعل ماضٍ مبني للمجهول، فمن الجالد؟
سبق لنا أنه لا يقيم الحدود إلا الإمام أو نائبه، وهذا هو المشهور من
المذهب، وهو الحق.
وقال
بعض أهل العلم: إن حد القذف يقيمه المقذوف على القاذف، إذا جعلناه حقاً
للمقذوف، وإذا جعلناه حقّاً لله فالذي يقيمه هو الإمام وسيأتي الخلاف فيه.
وقوله:
«جلد ثمانين جلدة إن كان حراً» أي: إن كان القاذف حراً فإنه يجلد ثمانين،
وهذا هو القسم الأول من عقوبة القاذف، والدليل قوله تعالى: {{وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً
أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *}} [النور:4] ، فقوله تعالى:
{{الْمُحْصَنَاتِ}} جمع مؤنث سالم، فهل هي خاصة بالنساء أو عامة؟ وهل
العموم باللفظ أو بالمعنى؟ ظاهر الآية الكريمة أنها خاصة بالنساء، ولكن بعض
أهل العلم يقول: إن المحصنات صفة لموصوف محذوف، واختلفوا في تقديره، فقال
بعضهم: الأنفس المحصنات، وقال آخرون: الفروج المحصنات، فيكون عاماً يشمل
الرجال والنساء، واستدلوا بقول الله تعالى: {{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَهَا}} فالفرج إذاً محصن، لكن لا شك أن هذا تأويل مخالف لظاهر الآية،
وأن الظاهر أن المراد بها النساء، ولكن الرجال في هذا مثل النساء بالإجماع،
فيكون عمومها عموماً معنوياً؛ وذلك لعدم الفارق بين الرجال والنساء في
هذا.
في هذه الآية رتب الله على القذف ثلاثة أمور:
الأول: الجلد.
الثاني: عدم قبول الشهادة.
الثالث: الفسق.
ثم
قال: {{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}} [النور: 5] ، فهل هذا الاستثناء يرفع
الأحكام الثلاثة، أو يرفع الحكم الأخير، أو يرفع الحكم الأخير والذي قبله؟
أما الأخير فهو بلا شك، فإذا تابوا من القذف زال عنهم وصف الفسق إلى
العدالة، وهذا لا شك فيه؛ لأن الاستثناء من أقرب مذكور وقد حصل.
وقال
بعض العلماء: إنه عائد إلى الأخير، وما قبله، وأنه إذا تاب ورجع قبلت
شهادته، أما الحكم الأول فإنه لا يعود إليه بالاتفاق، إلا أن بعضهم قال:
إذا جعلناه حقاً لله وتاب قبل القدرة عليه فإنه يسقط، فجعله عائداً
للثلاثة.
وقوله:
«وإن كان عبداً أربعين» يعني وإن كان عبداً جلد أربعين، وهذا هو القسم
الثاني من عقوبة القاذف، قالوا: لأن العبد يتنصف الحد عليه، وقد سبق دليل
ذلك، وهو قوله تعالى: {{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}} [النساء: 25] ، والقذف حَدٌّ،
فيتنصف كما يتنصف حد الزنا، إذاً كون العبد يجلد أربعين، هذا من باب
القياس.
وقال
بعض العلماء: إنه إذا كان حراً أو عبداً فإنه يجلد ثمانين جلدة؛ لأن الآية
عامة، والحق للمقذوف، والمقذوف بالزنا سيتدنس عِرضُه، سواء كان القاذف
حراً أو عبداً فالأمر فيه ظاهر، وحد الزنا لله، وبشاعة الزنا وشناعته
بالنسبة للحر والعبد تختلف، فاختلف جزاؤه، أما هنا فالمضرة على المقذوف،
والمقذوف يقول: إن عرضي تدنس، سواء كان القاذف حراً أو عبداً.
فالصحيح
عندي القول الثاني أنه يجلد ثمانين جلدة، سواء كان حراً أو عبداً، والدليل
عموم قوله تعالى: {{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}}
[النور: 4] .
ولأنه لا معنى لتنصيف العقوبة على العبد، والحكم يتعلق بغيره، بخلاف الزنا، فالقياس إذاً لا يصح.
وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهُ بِحِسَابِهِ، وَقَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ، وَهُوَ حَقٌّ لِلْمَقْذُوفِ،.....
قوله:
«وَالمُعْتَقُ بَعْضُهُ بِحِسَابِهِ» أي: إذا وُجد إنسان بعضه حر وبعضه
رقيق، فإنه يجلد بحسابه من الأربعين، فإذا كان نصفه حراً جُلِدَ ـ على رأي
المؤلف ـ أربعين على أنه حر، وعشرين على أنه رقيق، يعني ستين، فيزيد ما بين
الحدَّين بنسبة حرِّيَّتِهِ.
لكن
كيف يتصور أن يكون الإنسان نصفه حراً ونصفه رقيقاً؟ يتصور إذا كان عبدٌ
بين شركاء، فَأعَتَقَ أحدُهم نصيبه، وكان الشركاء الآخرون فقراء، وكذلك
المعتِق فقيراً، ففي هذه الحال يعتق منه ما عتق.
قوله:
«وَقَذْفُ غَيْرِ المُحْصَنِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ» هذا هو القسم الثالث
من عقوبة القاذف، فإذا قذف غير محصن فإن يعزر، والتعزير بمعنى التأديب،
وليس له قدر معين، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ الخلاف هل يزاد على عشر جلدات،
أو لا يزاد؟ وما هو الصحيح من ذلك؟
قوله: «وَهُوَ حَقٌّ لِلْمَقْذُوفِ» «وهو» ـ أي حد القذف ـ «حق للمقذوف» وليس حقاً لله، وقال أبو حنيفة: إنه حق لله عزّ وجل.
وبناءً
على أنه حق للمقذوف يسقط بعفوه، فلو عفا بعد أن قذفه بالزنا فإن حد القذف
يسقط؛ لأنه حق له، كما لو كان عليه دراهم فعفا عنها فإنها تسقط عنه، ولا
يُستوفى بدون طلبه، فما دام المقذوف ساكتاً فلا نقول للقاذف شيئاً، حتى لو
بلغت الإمام فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه حق للمقذوف، وإذا كان حقّاً
للمقذوف فإننا لا نتعرض له، حتى يأتي صاحبُ الحق ويطالب.
ويترتب
على ذلك أنه إذا كان المقذوف ولداً للقاذف فإنه لا يُحد، بناءً على أن
الولد لا يثبت له حقٌّ على أبيه، إلا ما أوجبه الله له من النفقة، فالوالد
لو قذف ولده فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه حق للولد، والولد لا يثبت له حق
على والده.
وهل
يترتب على هذا الخلاف أنه يتنصف على العبد، أو يبقى كاملاً؟ بعضهم بناه
على هذا، وقال: ينبني على هذا الخلاف أنه إذا كان حقاً للمقذوف فإن العبد
يُحَدُّ حداً كاملاً، وإن كان حقاً لله فإن العبد يُحَدُّ على النصف
كالزنا.
إذاً يترتب على كون حد القذف حقاً للمقذوف أربعة أمور:
أولاً: أنه يسقط بعفوه.
الثاني: أنه لا يقام حتى يُطَالَب به.
الثالث: أنه لا يقام للولد على والده.
الرابع: أن العبد يُحَدُّ كاملاً.
فإن
قلنا: إنه حق لله انعكست الأحكام، فيقام عليه الحد بدون طلب، ولا يسقط
بالعفو إذا بلغ الإمام، كحد السرقة، ويجب للولد على والده، ويتنصف كالزنا؛
لأنه حق لله.
لكن الغريب أن الفرع الرابع ثابت حتى على القول بأنه حق للمقذوف، كما هو المذهب.
وعلى هذا فيكون فيه شيء من التناقض؛ لأنك إذا جعلته حقاً للمقذوف، فإنه لا فرق بين أن يكون القاذف له حراً أو عبداً.
والراجح أنه حق للمقذوف، لكن مسألة التنصف هي المشكلة، وإن كان عليها جمهور أهل العلم، لكن ظاهر الآية العموم.
وَالْمُحْصَنُ
هُنَا: الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ الْعَفِيفُ الْمُلْتَزِمُ الَّذِي
يُجَامِعُ مِثْلُهُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ،..........
قوله:
«والمُحْصَنُ هُنَا» أي: في باب القذف، وقيده بقوله: «هنا» احترازاً من
المحصن في باب الزنا، وسبق، وهو مَنْ وطئ امرأته في نكاح صحيح، وهما
بالغان، عاقلان، حُرَّان.
قوله: «الحر» هل هو موافق لهناك؟
الجواب: نعم؛ لأنه يقول: وهما بالغان، عاقلان، حرَّان، فالحرية شرط هنا وهناك.
قوله: «المسلم» هذا شرط هنا، وهناك ليس بشرط، ولهذا رجم النبي صلّى الله عليه وسلّم اليهوديين[(143)].
قوله: «العاقل» هذا شرط هنا وهناك.
قوله: «العفيف» هذا هنا شرط، وهناك ليس بشرط، فهناك لو كان من أفجر الناس، بل هو في الواقع غير عفيف؛ لأنه زنا فإنه يكون محصناً.
قوله:
«الملتزم» هذه في الحقيقة لا داعي لها، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنها سهو
من المؤلف؛ لأن قيد الإسلام يُغني عن قيد الالتزام؛ لأن الملتزم أعم من
المسلم، فالملتزم يدخل فيه المسلم والذمي كما سبق، وهنا خرج الذمي بقوله:
«المسلم» ، ولهذا ما ذكره في الإقناع، ولا في المنتهى، ولا في المقنع الذي
هو أصل الكتاب.
قوله:
«الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ» قال في الروض[(144)]: وهو ابن عشر سنين،
وبنت تسع سنين، فلو قذف صغيراً لم يبلغ عشراً فإنه لا يُحَدُّ، ولو قذف
صغيرة لم يتم لها تسع فلا حد؛ لأنه لا يجامع مثله، فلا يلحقه العار بذلك،
وهذا يختلف عن هناك.
قوله: «وَلاَ يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ» وهناك «وهما بالغان» فيشترط هناك البلوغ، وهنا لا يشترط.
وهناك
يشترط أن يكون قد جامع زوجته في نكاح صحيح، وهنا لا يشترط، إذاً هناك شروط
تعتبر، لا تعتبر هنا، وهنا شروط تعتبر، لا تعتبر هناك.
فالذي يتفقان فيه: الحرية، والعقل.
وينفرد المحصن هنا باشتراط الإسلام، والعفة، وينفرد هناك بأنه لا بد أن يكون بالغاً، وأن يكون قد جامع في نكاح صحيح.
إذاً هذا يمتاز باثنين، وهذا يمتاز باثنين.
قالوا: وقذف غير المحصن يوجب التعزير، فلو كان القاذف حراً والمقذوف عبداً يعزر.
ولو قذف كافراً ـ ولو ذمياً ـ يعزر، ولو قذف شخصاً متهماً بالزنا يعزر، فلا يقام عليه الحد؛ لأنه ليس بعفيف.
ولو
قذف صغيراً لا يجامع مثلُهُ يعزر، فلو قال قائل: الآية عامة {{الَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}} قلنا: لكن العبد لا يسمى محصناً في عُرف الشرع،
وعلى هذا فيكون خارجاً من القيد ليس داخلاً، فلا يحتاج إلى دليل على
إخراجه.
وما الدليل على اشتراط أن يكون مسلماً؟
الجواب:
قوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ
الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ }} [النور:23] ، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قذف
المحصنات الغافلات المؤمنات» [(145)].
واشتراط
أن يجامع مثلُه؛ لأن من لا يجامع مثله لا يلحقه العار أبداً، ولا يتصور
الناس منه غالباً الزنا، ولأن من كان بهذه السن فإنه لا يدنسه القذف، حتى
لو ثبت أنه زنا.
وَصَرِيحُ
الْقَذْفِ: يَا زَانٍ، يَا لُوطِيُّ ونَحْوُهُ، وَكِنَايَتُهُ: يَا
قَحْبَةُ، يَا فَاجِرَةُ، يَا خَبِيثَةُ، فَضَحْتِ زَوْجَكِ، أَوْ
نَكَّسْتِ رَأْسَهُ، أَوْ جَعَلْتِ لَهُ قُرُوناً وَنَحْوُهُ، وَإِنْ
فَسَّرَهُ بِغَيْرِ الْقَذْفِ قُبِلَ، وَإِنْ قَذَفَ أَهْلَ بَلَدٍ، أَوْ
جَمَاعَةً لاَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الزِّنَا عَادَةً عُزِّرَ، وَيَسْقُطُ
حَدُّ الْقَذْفِ بِالْعَفْوِ، وَلاَ يُسْتَوْفَى بِدُونِ الطَّلَبِ.
قوله:
«وَصَرِيحُ القَذْفِ» القذف له صريح وكناية، والطلاق له صريح وكناية،
والوقف له صريح وكناية، فما هو الصريح من كل لفظ؟ يقولون: إن الصريح من كل
لفظ ما لا يحتمل غير معناه الذي وضع له، وإذا كان يحتمل المعنى هذا وهذا
فإنه كناية.
قوله: «يا زَانٍ، يَا لُوطِيُّ» فصريحه أن يناديه بهذا الوصف، أو يقول: أنت زانٍ، أنت لوطي.
فإن قال قائل: أليست كلمة «لوطي» يحتمل أن المعنى أنك من قوم لوط؟
الجواب: لا يحتمل؛ لأن قوم لوط أهلكهم الله.
قوله: «ونحوه» مثل: يا مَنْ جامعتَ جماعاً محرَّماً، يا من تطأ النساء بدون عقد، وما أشبه ذلك مما يدل على الزنا صريحاً.
قوله:
«وكنايته: يا قَحْبَة» هذه كناية؛ لأن القحبة تطلق على المرأة العجوز،
وتطلق على الكُحَّة ـ السعال ـ يقال: فيك قحبة، أي: كُحَّة، ومنه سميت
الزانية قحبة؛ لأنها تكحكح تشير إلى نفسها ـ والعياذ بالله ـ فهذا سبب
تسميتها قحبة، وهي عند الفقهاء كناية، لكن في عرفنا صريحة جداً.
قوله:
«يَا فَاجِرَةُ» أو يقول للرجل: يا فاجر، أو: أنت فاجر، أو ما أشبه ذلك،
فهذا كناية؛ لأن الفُجْرَ والفجور أصله الانبعاث، ومنه الفَجْر، ومنه
تَفَجَّر الماء إذا انبعث، والفجور يطلق ـ أيضاً ـ على الكفر {{كَلاَّ
إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ }} [المطففين:7] .
قوله: «يَا خَبِيثَةُ» كناية أيضاً؛ لأن الخُبْثَ قد يراد به الرديء، أو خبيث الأفعال.
قوله:
«فَضَحتِ زَوْجكِ» هذا كناية؛ لأن المتبادر من «فضحت زوجك» أي: أبديت
أسراره عند الناس، إلا إذا أراد كنتِ بغياً، ودنست عِرْضَه.
قوله:
«أو نَكَّسْتِ رَأْسَهُ» لأن الزوج ـ والعياذ بالله ـ إذا زنت زوجته يخجل،
ويخفي نفسه عن الناس، ولا يحب أن يروه، والاحتمال الثاني حملته ونكست رأسه
إلى الأرض.
قوله:
«أو جَعَلْتِ لَهُ قُرُوناً» هذا ـ أيضاً ـ كناية؛ لأنه يحتمل أن المعنى
ظفَّرتِ رأسه، وجعلت له قروناً وجدايل، لكنهم لا يريدون ذلك، فالقرون
يقولون: إنها مأخوذة من القِرْن، يعني الأقران، فالمشارِك للإنسان يسمى
قرناً، أو قروناً أي: شُعَباً، كأنه ـ والعياذ بالله ـ اشترك فيها غير
الزوج.
قوله: «وَإِنْ فَسَّرَه» الضمير يعود للكناية.
قوله:
«بغير القذف قُبِلَ» ظاهر كلام المؤلف أنه يقبل بدون يمين؛ لأنه لو نكل لم
يقضَ عليه بالنكول، فإذا قال: أنا ما أردت الزنا، وإنما أردت بالقحبة
العجوز أو كثيرة الكحة، أو قال: أردت بالخبيثة، أي: خبيثة العمل، أو
الرديئة، أو ما أشبه ذلك، أو أردت: بـ «فضحت زوجَك» أي: أبحتِ سرَّه، أو
بُحت بسِرِّه، وبـ «نكست رأسه» أي: نكساً حسياً، فجعلته لأسفل، أو «جعلت له
قروناً» أي: جعلت له قروناً من الشَّعر، أو نحو ذلك ففي هذه الحال يقبل،
وإذا قبل فإنه لا يقام عليه حد القذف، لكن يعزر لإساءته إلى المخاطب.
قوله:
«وَإِنْ قَذَفَ أَهْلَ بَلَدٍ أَوْ جَمَاعةً لا يُتَصَوَّرُ منهُمُ
الزِّنَا عَادةً عُزِّرَ» كرجل وقف على باب القرية، وقال: كلكم يا أهل هذا
البلد زناة فلا يحد للقذف؛ لأن هذا عار عليه هو؛ لأن الناس لا يتصور أن
يتهموا أهل القرية بما رماهم به، فهو لم يدنس أعراضهم، ولا يهتمون بذلك، بل
إنه لو فعل هذا لعدوه مجنوناً، ولكن يعزر، وكذلك لو قذف جماعة لا يتصور
الزنا منهم عادة، مثل ما لو قذف مائة رجل فلا يحد؛ لأنهم لا يلحقهم العار،
ولكن يعزر، أما إذا كان يتصور منهم الزنا أو اللواط عادة فإنه يحد حد
القذف؛ لأن الغضاضة تلحق بهم.
فلو
كان أهل البلد قليلين، كثلاثة رجال وزوجاتهم فقط؛ لأنهم رحلوا عنه فقذفهم،
فهل يحد؟ نعم، يحد، فمراد الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في ذلك أهل البلد الذين
هم كثرة لا يلحقهم العار بقذفهم.
قوله:
«وَيَسْقُطُ حَدُّ القَذْفِ بِالْعَفْوِ، ولاَ يُسْتَوْفَى بِدُونِ
الطَّلَبِ» لأنه حق للمقذوف، وإذا كان حقاً للمقذوف فلم يطالب به لم يحد
القاذف، وهل يعزر؟ ظاهر كلامهم لا يعزر؛ لأنه حق للمقذوف، والمقذوف ما
طالب، لكن إن رأى ولي الأمر أن يعزره فَعَلَ باعتبار إصلاح المجتمع على
سبيل العموم، وعدم إلقاء مثل هذه العبارات عندهم.
وقوله:
«ويسقط حد القذف بالعفو» ظاهر كلامه ولو كان بعد رفعه إلى الإمام أو
الحاكم؛ لأنه حق محض للمقذوف، بخلاف السرقة فإن الرجل لو سُرق ماله فإن له
أن لا يطالب السارق، والإمام لا يتعرض للسارق ما دام المسروق منه لم
يطالبه، ولكن إذا رفع الأمر إلى وليّ الأمر فإنه لا يملك إسقاطه، والفرق
بينهما ظاهر؛ لأن السرقة فيها شائبتان: شائبة حق الآدمي وهو ضمان المال،
وشائبة قطع اليد وهو حق الله عزّ وجل، فلهذا صار بَيْنَ بَيْنَ، فإن رُفع
إلى القاضي لم يملك المسروق منه إسقاطه، وإن لم يُرفع فله أن لا يطالب.
-----------------------
[142] أخرجه
البخاري في الوصايا باب قوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} ...} (2766)، ومسلم في الإيمان باب بيان
الكبائر وأكبرها (89) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
[143] سبق تخريجه ص(212).
[144] الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/333).
[145] سبق تخريجه ص(279).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السؤال:
تفسير قوله تعالى {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات}
الإجابة:
في قوله تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]، في طرده الكلام على ما يتعلق بهذه الآية وغيرها فقال: وأما الجواب المفصل فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة في قول كثير من أهل العلم، فروي هشيم عن العوام بن حوشب، ثنا شيخ من بني كاهل، قال: فسر ابن عباس : (سورة النور) فلما أتي على هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى آخر الآية [النور: 32]، قال: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي مبهمة ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 4- 5]، فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة، قال: فهمَّ رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسره.
وقال أبو سعيد الأشج: حدثنا عبد الله بن خِرَاش، عن العوام، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} نزلت في عائشة خاصة، واللعنة في المنافقين عامة، فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين؛ لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه، فإن قذف المرأة أذى لزوجها، كما هو أذى لابنها؛ لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه، فإن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيمًا؛ ولهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت، ودرأ الحد عنه باللعان، ولم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال، ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف.
ولهذا ذهب الإمام أحمد في إحدي الروايتين المنصوصتين عنه: إلى أن من قذف امرأة محصنة كالأمة والذمية، ولها زوج أو ولد محصن حدَّ لقذفها، لما ألحقه من العار بولدها وزوجها المحصنين، والرواية الأخري عنه وهي قول الأكثرين أنه لا حد عليه؛ لأنه أذى لهما لا قذف لهما، والحد التام إنما يجب بالقذف، وفي جانب النبي صلى الله عليه وسلم أذي، كقذفه، ومن يقصد عيب النبي صلى الله عليه وسلم بعيب أزواجه فهو منافق، وهذا معني قول ابن عباس: اللعنة في المنافقين عامة.
وقد وافق ابن عباس جماعة، فروي الإمام أحمد والأَشَج عن خَصِيف قال: سألت سعيد بن جبير، فقلت: الزنا أشد أو قذف المحصنة؟ قال: لا، بل الزنا، قال: قلت: فإن الله تعالي يقول:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23]، فقال: إنما كان هذا في عائشة خاصة، وروي أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}،، فقال: هذه الآية لأمهات المؤمنين خاصة، وروي الأشج بإسناده عن الضحاك في هذه الآية، قال: هن نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقال معمر عن الكلبي: إنما عُنِي بهذه الآية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فأما من رمي امرأة من المسلمين فهو فاسق، كما قال الله تعالي أو يتوب.
ووجه هذا، أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد القذف، فتكون اللام في قوله: {الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} لتعريف المعهود، والمعهود هنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكلام في قصة الإفك، ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة، أو يقصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك.
ويؤيد هذا القول:أن الله سبحانه رتب هذا الوعيد على قذف محصنات غافلات مؤمنات، وقال في أول السورة:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الآية [النور:4] ، فرتب الحد ورد الشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات،فلابد أن يكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات؛ وذلك والله أعلم لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مشهود لهن بالإيمان؛ لأنهن أمهات المؤمنين ، وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة،وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان.
ولأن الله سبحانه قال في قصة عائشة:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]، فتخصيصه متولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم، وقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14]، فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف، وإنما يمس متولي كبره فقط، وقال هنا: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]، فعلم أن الذي رمي أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وتولي كبر الإفك، وهذه صفة المنافق ابن أبي والله أعلم أنه على هذا القول تكون هذه الآية حجة أيضًا موافقة لتلك الآية، لأنه لما كان رَمْي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم لُعِنَ صاحبه في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال ابن عباس: ليس فيها توبة؛ لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته، أو يريد إذا تاب من القذف حتي يسلم إسلامًا جديدًا، وعلي هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة، فإنه ما بغت امرأة نبي قط.
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلى الله عليه وسلم، ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتلنه ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتي هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتي سكتوا وسكت.
وفي رواية أخري صحيحة أن هذه الآية في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
ويقول آخرون: يعني أزواج المؤمنين عامة، وقال أبو سلمة: قذف المحصنات من الموجبات، ثم قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية [النور: 23]،وعن عمر بن قيس قال: قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة، رواهما الأشج، وهذا قول كثير من الناس.
ووجهه ظاهر الخطاب، فإنه عام فيجب إجراؤه على عمومه؛ إذ لا موجب لخصوصه، وليس هو مختصًا بنفس السبب بالاتفاق؛ لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم داخل في العموم، وليس هو من السبب؛ ولأنه لفظ جمع والسبب في واحدة هنا؛ ولأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل، فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك، وقد علم أن شيئًا منها لم يقصر على سببه، والفرق بين الآيتين: أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد ورد الشهادة والتفسيق، وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه وعن أصحابه "إن قذف المحصنات من الكبائر"، وفي لفظ في الصحيح "قذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
ثم اختلف هؤلاء فقال أبو حمزة الثُّمَالي: بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنما خرجت تفجر، فعلي هذا يكون فيمن قذف المؤمنات قذفًا يصدهن به عن الإيمان، ويقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام، كما فعل كعب بن الأشرف، وعلي هذا فمن فعل ذلك فهو كافر، وهو بمنزلة من سب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: إنها نزلت زمن العهد، يعني والله أعلم: أنه عني بها مثل أولئك المشركين المعاهدين، وإلا فهذه الآية نزلت ليالي الإفك ، وكان الإفك في غزوة بني المصطلق قبل الخندق، والهدنة كانت بعد ذلك بسنين، ومنهم من أجراها على ظاهرها وعمومها؛ لأن سبب نزولها قذف عائشة، وكان فيمن قذفها مؤمن ومنافق، وسبب النزول لابد أن يندرج في العموم؛ ولأنه لا موجب لتخصيصها.
والجواب على هذا التقدير: أنه سبحانه قال هنا: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23]، على بناء الفعل للمفعول ولم يسَمَّ اللاعن، وقال في الآية الأخري: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]، وإذا لم يسم الفاعل جاز أن يلعنهم غير الله من الملائكة والناس، وجاز أن يلعنهم الله في وقت ويلعنهم بعض خلقه في وقت، وجاز أن الله يتولي لعنة بعضهم وهو من كان قذفه طعنًا في الدين، ويتولي خلقه لعنة الآخرين، وإذا كان اللاعن مخلوقًا فلعنه قد يكون بمعني الدعاء عليهم، وقد يكون بمعني أنهم يبعدونهم عن رحمة الله.
ويؤيد هذا، أن الرجل إذا قذف امرأته تلاعنا وقال الزوج في الخامسة:لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبًا في القذف أن يلعنه الله، كما أمر الله رسوله أن يباهل مَنْ حاجه في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فهذا مما يلعن به القاذف، ومما يلعن به أن يجلد، وأن ترد شهادته، ويفسق، فإنه عقوبة له وإقصاء له عن مواطن الأمن والقبول، وهي من رحمة الله، وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا والآخرة، فإن لعنة الله له توجب زوال النصر عنه من كل وجه، وبعده عن أسباب الرحمة في الدارين.
ومما يؤيد الفرق أنه قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57]، ولم يجئ إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار، كقوله:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 37]، وقوله: {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 102]، وقوله:{فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 90]،{ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين} [آل عمران: 178]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج: 57]، {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية: 9]، {وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [المجادلة: 5]، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [المجادلة: 16].
وأما قوله تعالي: {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14]، فهي والله أعلم فيمن جحد الفرائض واستخف بها، على أنه لم يذكر أن العذاب أعد له.
وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيدًا للمؤمنين في قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، وقوله:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]، وفي المحارب: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]، وفي القاتل: {وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وقوله:{وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94]، وقد قال سبحانه:{وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج: 18]، وذلك لأن الإهانة إذلال وتحقير وخزي، وذلك قدر زائد على ألم العذاب، فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان، فلما قال في هذه الآية:{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 75]، علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار والمنافقين، ولما قال هناك: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]، جاز أن يكون من جنس العذاب في قوله: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14].
ومما يبين الفرق أيضًا أنه سبحانه قال هناك:{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57]، والعذاب إنما أعد للكافرين؛ فإن جهنم لهم خلقت؛ لأنهم لابد أن يدخلوها، وما هم منها بمخرجين، وأهل الكبائر من المؤمنين يجوز أن يدخلوها إذا غفر الله لهم، وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين، قال سبحانه: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، فأمر سبحانه المؤمنين ألا يأكلوا الربا وأن يتقوا الله، وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين، فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي، مع أنها معدة للكافرين لا لهم.
ولذلك جاء في الحديث"أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما أقوام لهم ذنوب فيصيبهم سفع من النار ثم يخرجهم الله منها" [والسفع: علامة تغير ألوانهم. يقال: سفعت الشيء إذا جعلت عليه علامة، يريد أثرًا من النار] وهذا كما أن الجنة أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء، وإن كان يدخلها الأبناء بعمل آبائهم، ويدخلها قوم بالشفاعة، وقوم بالرحمة، وينشئ الله لما فضل منها خلقًا آخر في الدار الآخرة فيدخلهم إياها؛ وذلك لأن الشيء إنما يعد لمن يستوجبه ويستحقه، ولمن هو أولي الناس به، ثم قد يدخل معه غيره بطريق التبع أو لسبب آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.
في قوله تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]، في طرده الكلام على ما يتعلق بهذه الآية وغيرها فقال: وأما الجواب المفصل فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة في قول كثير من أهل العلم، فروي هشيم عن العوام بن حوشب، ثنا شيخ من بني كاهل، قال: فسر ابن عباس : (سورة النور) فلما أتي على هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى آخر الآية [النور: 32]، قال: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي مبهمة ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 4- 5]، فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة، قال: فهمَّ رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسره.
وقال أبو سعيد الأشج: حدثنا عبد الله بن خِرَاش، عن العوام، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} نزلت في عائشة خاصة، واللعنة في المنافقين عامة، فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين؛ لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه، فإن قذف المرأة أذى لزوجها، كما هو أذى لابنها؛ لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه، فإن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيمًا؛ ولهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت، ودرأ الحد عنه باللعان، ولم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال، ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف.
ولهذا ذهب الإمام أحمد في إحدي الروايتين المنصوصتين عنه: إلى أن من قذف امرأة محصنة كالأمة والذمية، ولها زوج أو ولد محصن حدَّ لقذفها، لما ألحقه من العار بولدها وزوجها المحصنين، والرواية الأخري عنه وهي قول الأكثرين أنه لا حد عليه؛ لأنه أذى لهما لا قذف لهما، والحد التام إنما يجب بالقذف، وفي جانب النبي صلى الله عليه وسلم أذي، كقذفه، ومن يقصد عيب النبي صلى الله عليه وسلم بعيب أزواجه فهو منافق، وهذا معني قول ابن عباس: اللعنة في المنافقين عامة.
وقد وافق ابن عباس جماعة، فروي الإمام أحمد والأَشَج عن خَصِيف قال: سألت سعيد بن جبير، فقلت: الزنا أشد أو قذف المحصنة؟ قال: لا، بل الزنا، قال: قلت: فإن الله تعالي يقول:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23]، فقال: إنما كان هذا في عائشة خاصة، وروي أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}،، فقال: هذه الآية لأمهات المؤمنين خاصة، وروي الأشج بإسناده عن الضحاك في هذه الآية، قال: هن نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقال معمر عن الكلبي: إنما عُنِي بهذه الآية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فأما من رمي امرأة من المسلمين فهو فاسق، كما قال الله تعالي أو يتوب.
ووجه هذا، أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد القذف، فتكون اللام في قوله: {الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} لتعريف المعهود، والمعهود هنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكلام في قصة الإفك، ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة، أو يقصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك.
ويؤيد هذا القول:أن الله سبحانه رتب هذا الوعيد على قذف محصنات غافلات مؤمنات، وقال في أول السورة:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الآية [النور:4] ، فرتب الحد ورد الشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات،فلابد أن يكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات؛ وذلك والله أعلم لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مشهود لهن بالإيمان؛ لأنهن أمهات المؤمنين ، وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة،وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان.
ولأن الله سبحانه قال في قصة عائشة:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]، فتخصيصه متولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم، وقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14]، فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف، وإنما يمس متولي كبره فقط، وقال هنا: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]، فعلم أن الذي رمي أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وتولي كبر الإفك، وهذه صفة المنافق ابن أبي والله أعلم أنه على هذا القول تكون هذه الآية حجة أيضًا موافقة لتلك الآية، لأنه لما كان رَمْي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم لُعِنَ صاحبه في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال ابن عباس: ليس فيها توبة؛ لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته، أو يريد إذا تاب من القذف حتي يسلم إسلامًا جديدًا، وعلي هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة، فإنه ما بغت امرأة نبي قط.
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلى الله عليه وسلم، ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتلنه ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتي هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتي سكتوا وسكت.
وفي رواية أخري صحيحة أن هذه الآية في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
ويقول آخرون: يعني أزواج المؤمنين عامة، وقال أبو سلمة: قذف المحصنات من الموجبات، ثم قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية [النور: 23]،وعن عمر بن قيس قال: قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة، رواهما الأشج، وهذا قول كثير من الناس.
ووجهه ظاهر الخطاب، فإنه عام فيجب إجراؤه على عمومه؛ إذ لا موجب لخصوصه، وليس هو مختصًا بنفس السبب بالاتفاق؛ لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم داخل في العموم، وليس هو من السبب؛ ولأنه لفظ جمع والسبب في واحدة هنا؛ ولأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل، فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك، وقد علم أن شيئًا منها لم يقصر على سببه، والفرق بين الآيتين: أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد ورد الشهادة والتفسيق، وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه وعن أصحابه "إن قذف المحصنات من الكبائر"، وفي لفظ في الصحيح "قذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
ثم اختلف هؤلاء فقال أبو حمزة الثُّمَالي: بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنما خرجت تفجر، فعلي هذا يكون فيمن قذف المؤمنات قذفًا يصدهن به عن الإيمان، ويقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام، كما فعل كعب بن الأشرف، وعلي هذا فمن فعل ذلك فهو كافر، وهو بمنزلة من سب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: إنها نزلت زمن العهد، يعني والله أعلم: أنه عني بها مثل أولئك المشركين المعاهدين، وإلا فهذه الآية نزلت ليالي الإفك ، وكان الإفك في غزوة بني المصطلق قبل الخندق، والهدنة كانت بعد ذلك بسنين، ومنهم من أجراها على ظاهرها وعمومها؛ لأن سبب نزولها قذف عائشة، وكان فيمن قذفها مؤمن ومنافق، وسبب النزول لابد أن يندرج في العموم؛ ولأنه لا موجب لتخصيصها.
والجواب على هذا التقدير: أنه سبحانه قال هنا: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23]، على بناء الفعل للمفعول ولم يسَمَّ اللاعن، وقال في الآية الأخري: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]، وإذا لم يسم الفاعل جاز أن يلعنهم غير الله من الملائكة والناس، وجاز أن يلعنهم الله في وقت ويلعنهم بعض خلقه في وقت، وجاز أن الله يتولي لعنة بعضهم وهو من كان قذفه طعنًا في الدين، ويتولي خلقه لعنة الآخرين، وإذا كان اللاعن مخلوقًا فلعنه قد يكون بمعني الدعاء عليهم، وقد يكون بمعني أنهم يبعدونهم عن رحمة الله.
ويؤيد هذا، أن الرجل إذا قذف امرأته تلاعنا وقال الزوج في الخامسة:لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبًا في القذف أن يلعنه الله، كما أمر الله رسوله أن يباهل مَنْ حاجه في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فهذا مما يلعن به القاذف، ومما يلعن به أن يجلد، وأن ترد شهادته، ويفسق، فإنه عقوبة له وإقصاء له عن مواطن الأمن والقبول، وهي من رحمة الله، وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا والآخرة، فإن لعنة الله له توجب زوال النصر عنه من كل وجه، وبعده عن أسباب الرحمة في الدارين.
ومما يؤيد الفرق أنه قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57]، ولم يجئ إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار، كقوله:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 37]، وقوله: {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 102]، وقوله:{فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 90]،{ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين} [آل عمران: 178]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج: 57]، {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية: 9]، {وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [المجادلة: 5]، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [المجادلة: 16].
وأما قوله تعالي: {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14]، فهي والله أعلم فيمن جحد الفرائض واستخف بها، على أنه لم يذكر أن العذاب أعد له.
وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيدًا للمؤمنين في قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، وقوله:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]، وفي المحارب: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]، وفي القاتل: {وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وقوله:{وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94]، وقد قال سبحانه:{وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج: 18]، وذلك لأن الإهانة إذلال وتحقير وخزي، وذلك قدر زائد على ألم العذاب، فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان، فلما قال في هذه الآية:{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 75]، علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار والمنافقين، ولما قال هناك: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]، جاز أن يكون من جنس العذاب في قوله: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14].
ومما يبين الفرق أيضًا أنه سبحانه قال هناك:{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57]، والعذاب إنما أعد للكافرين؛ فإن جهنم لهم خلقت؛ لأنهم لابد أن يدخلوها، وما هم منها بمخرجين، وأهل الكبائر من المؤمنين يجوز أن يدخلوها إذا غفر الله لهم، وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين، قال سبحانه: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، فأمر سبحانه المؤمنين ألا يأكلوا الربا وأن يتقوا الله، وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين، فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي، مع أنها معدة للكافرين لا لهم.
ولذلك جاء في الحديث"أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما أقوام لهم ذنوب فيصيبهم سفع من النار ثم يخرجهم الله منها" [والسفع: علامة تغير ألوانهم. يقال: سفعت الشيء إذا جعلت عليه علامة، يريد أثرًا من النار] وهذا كما أن الجنة أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء، وإن كان يدخلها الأبناء بعمل آبائهم، ويدخلها قوم بالشفاعة، وقوم بالرحمة، وينشئ الله لما فضل منها خلقًا آخر في الدار الآخرة فيدخلهم إياها؛ وذلك لأن الشيء إنما يعد لمن يستوجبه ويستحقه، ولمن هو أولي الناس به، ثم قد يدخل معه غيره بطريق التبع أو لسبب آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عقوبة قذف المحصنات
(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا . وأولئك هم الفاسقون).
إن
ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات - وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو
أبكارا - بدون دليل قاطع , يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو
بريئا بتلك التهمة النكراء ; ثم يمضي آمنا ! فتصبح الجماعة وتمسي , وإذا
أعراضها مجرحة , وسمعتها ملوثة ; وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام ;
وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه , وكل رجل فيها شاك في أصله , وكل بيت فيها
مهدد بالانهيار . . وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق .
ذلك
إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو
الجماعة كله ملوث ; وأن الفعلة فيها شائعة ; فيقدم عليها من كان يتحرج
منها , وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها , وشعوره بأن كثيرين غيره
يأتونها !
ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه ; والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء .
لهذا , وصيانة للأعراض من التهجم , وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم . .
شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف , فجعلها قريبة من عقوبة الزنا . . ثمانين جلدة . . مع إسقاط الشهادة , والوصم بالفسق
والعقوبة الأولى جسدية .
والثانية أدبية في وسط الجماعة ; ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة , وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام !
والثالثة دينية
فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم . . ذلك إلا أن يأتي القاذف
بأربعة يشهدون برؤية الفعل , أو بثلاثة معه إن كان قد رآه . فيكون قوله إذن
صحيحا . ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة .
والجماعة
المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام
والترخص فيه , وعدم التحرج من الإذاعة به , وتحريض الكثيرين من المتحرجين
على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها , ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو
نادرة . وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار
الشرفاء ; وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت .
وتظل العقوبات التي توقع على القاذف , بعد الحد , مصلتة فوق رأسه , إلا أن يتوب:
(إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم). .
وقد
اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء:هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها ,
فيرفع عنه وصف الفسق , ويظل مردود الشهادة ? أم إن شهادته تقبل كذلك
بالتوبة . . فذهب الأئمة مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته ,
وارتفع عنه حكم الفسق . وقال الإمام أبو حنيفة:إنما يعود الاستثناء إلى
الجملة الأخيرة , فيرتفع الفسق بالتوبة , ويبقى مردود الشهادة . وقال
الشعبي والضحاك:لا تقبل شهادته , وإن تاب , إلا أن يعترف على نفسه أنه قال
البهتان فيما قذف ; فحينئذ تقبل شهادته .
وأنا
أختار هذا الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر
من القاذف . وبذلك يمحي آخر أثر للقذف . ولا يقال:إنه إنما وقع الحد على
القاذف لعدم كفاية الأدلة ! ولا يحيك في أي نفس ممن سمعوا الاتهام أنه ربما
كان صحيحا ; ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود . . بذلك يبرأ العرض المقذوف
تماما , ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية ;
فلا يبقى هنالك داع لإهدار اعتبار القاذف المحدود التائب المعترف بما كان
من بهتان .
ذلك حكم القذف العام . ولكن
استثني منه أن يقذف الرجل امرأته . فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه
إرهاق له وإعنات . والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من
التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه . لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم
خاص: (والذين يرمون أزواجهم , ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم . فشهادة أحدهم
أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين , والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان
من الكاذبين . ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن
الكاذبين , والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ولولا فضل
الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم). .
لكل من يتساهل بالخوض فى اعراض النساء
اتقو ا الله في اعراض النساء, غدا لديكم زوجات وبنات ترجون من الله لهن الستر , الا تخافون ان يبتليكم الله بما اتهمتم به عبادة , اين انتم من الوعيد الشديد في كتاب رب العرش المجيد العزيزالجبار المنتقم القهار
المصدر:
تفسير سورة النور في ظلال القرآن سيد قطب
اسم السلسلة: تفسير اية قرأنية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قذف المحصنات
لا يدري كثير من الشباب ما معنى قذف المحصنات ولا يدري حجم هذه الكبيرة
ولا يدري العواقب المترتبة عليها وأصبح من السهل تماما أن نخوض في أعراض الناس وبالباطل وبالمزاح.
قد تجد شابا يصف صاحبه بأنه رجل يفعل فعل قوم لوط ويقول هذا مازحا أو تجد شابا يصف فتاة ترتدي لبسا ضيقا بأنها
فتاة زانية ويقول أنا لا أقصد أنها زانية بمعنى زانية ولكن أقصد أن أخلاقها ليست جيدة.
وهكذا أصبح الأمر سهلا عند الناس وهم لا يعرفون ماذا يفعلون فياترى ما معنى محصن؟ وكيف يكون القذف؟ وهذا
الأمر مقتصر على معنى المحصن أم أنه أشمل وأعم وبماذا وصف القرآن من يفعل هذا؟ وما هو الحل لمن وقع في
هذا؟.
معنى المحصن:
المحصن :هو من سبق له الزواج والرجل المحصن ليس مجرد من تزوج فقط وإنما الزواج والمعاشرة أيضا فلا يسمى
المتزوج أو من سبق له الزواج محصنا إلا لو عاشر زوجته أي دخل بها إذن المحصن هو من تزوج ودخل على زوجته وإن
كان قد طلقها فهو لا يزال محصنا وليس من تزوج فقط أو عاشر وهو غير متزوج
والمُحْصَنةُ:
التي أَحصنها زوجها، وهن المُحْصَنات، فالمعنى: أَنهن أُحْصِنَّ بأَزْواجِهنَّ.
والقذف
يكون بأن يقول أحد الناس على رجل محصن أو عفيف أي لم يسبق له الزنا أو امرأة عفيفة وإن لم تكن قد
تزوجت من قبل بأنه زاني أو يا من تفعل فعل قوم لوط أو على امرأة أجنبية عنه أنها زانية أو فاجرة وهكذا.
ويقول الله عز وجل في من يقذفون الناس بالباطل..
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) سورة النور.
فلا تقبل منهم شهادة أبدا وقد قال الله فيهم أنهم فاسقون إلا إذا تابوا توبة نصوحا.
ويقول الله عزو جل أيضا {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (23) سورة النور.
فهم ملعونين في الدنيا والآخرة إلا إذا تابوا إلى الله.
ويقول {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ الَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (13) سورة النور.
فأيضا هم عند الله كاذبون لا يقبل ولا يسمع منهم خبر إلا إن تابوا توبة نصوحا.
فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- (لا تنسى الصلاة عليه)
قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ".قِيلَ: يَا
رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ بِالَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهِ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا،
وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ". متفق عليه
فقذف المحصنات من الموبقات أي المهلكات فعلى من يقع في مثل هذا التوبة إلى الله توبة نصوحا ولا يعود لمثل هذا
أبدا ولا يفعل ذلك حتى وإن كان يمزح فلا مزاح في أعراض الناس أبدا ويقول الإمام الحافظ الذهبي شمس الدين
الذهبي صاحب كتاب سير أعلام النبلاء و صاحب كتاب الكبائر والذي يقول فيه:
( والقذف هو أن يقول لامرأة أجنبية حرة عفيفة مسلمة يا رانية أو يقول لولدها يا ولد الزانية أو لبنتها يا بنت الزانية، فإذا
قال ذلك أحد من رجل أو امرأة لرجل أو لامرأة كمن قال لرجل يا زاني أو قال لصبي حر يا (....) يقصد من فعل فعل قوم
لوط وجب عليه الحد ثمانون جلدة إلا أن يقيم البينة والبينة كما أخبرنا الله , أربعة شهود يشهدون على صدقه فيما قذف
به تلك أو ذاك الرجل فإن لم يقم بينة جلد إذا طالبته التي قذفها).
والقذف لا يقتصر على المتزوجات فقط كما بينا معنى المحصنات ولكن يقصد به أي حر يرمى بالزنا وعليه فإنه من
القذف أن يقول أحد لصاحبه يا ابن الزاني حتى ولو كان مازحا أو يقول لصاحبه يا من فعلت فعل قوم لوط وهكذا حتى وإن
كنت مازحا.
وأذكركم بما ثبت في الصحيحان
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا تنسى الصلاة عليه) قَالَ: "إِنَّ
الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ".
انظروا لكلمة ما يتبين ما فيها فأنت ربما تقول كلاما لا تهتم به ويكون هذا عند الله أمرا عظيما وإذا سألت كيف النجاة
نقول لك ما سأله هذا الصحابي فعن عقبة بن عامر رَضِيَ الَّهُ عَنْهُ قال قلت: يا رَسُول الَّهِ (لا تنسى الصلاة عليه) ما
النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيْثٌ حَسَنٌ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حكم قذف المحصنات المؤمنات
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة
والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله
وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد جاء الإسلام بما فيه سعادة البشرية في الدنيا والآخرة إن هي تمسكت به، وقامت به
حق القيام، فقد جاء الإسلام بالحفاظ على خمس كليات: الدين، النفس، العقل، العرض،
المال.
أما الدين فهو أولى وأهم ما جاء الإسلام بحفظه وصيانته، فشرع الحدود، وأوجب الجهاد
في سبيل الله من أجل الحفاظ على الدين وصيانته.
ثم
جاء بحفظ النفس في المرتبة الثانية، فأوجب القصاص درءاً للمفسدة عن الأنفس؛ وحرم
قتل النفس المعصومة، وجعل ذلك كبيرة من كبائر الذنوب؛ فقال ربنا تبارك وتعالى:
{وَمَن
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} سورة
النساء(93). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- الكبائر أو سئل عن الكبائر، فقال: (الشرك بالله،
وقتل النفس، وعقوق الوالدين). فقال: (ألا أنبئكم
بأكبر الكبائر؟) قال: (قول الزور -أو قال
- شهادة الزور)1.
أما العقل فقد صانه وحفظه من كل ما يفقده أو يزيله فحرم الخمر، وكل مسكر، بل جعل ما
أسكر كثيره فقليله حرام؛ وقد جاء في الحديث عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: (لعن الله الخمر، وشاربها وساقيها وبايعها
ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه)2.
وجعل صلى الله عليه وسلم حد الشارب درءاً للمفسدة عن العقل، وحفاظاً عليه.
أما النسب فقد حرم الزنى، وأوجب فيه الحد الرادع، وأوجب العدة على النساء عند
المفارقة بطلاق أو موت؛ لئلا يختلط ماء الرجل بماء آخر في رحم امرأة محافظة على
الأنساب، وسمى الزنا: {فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً}.
أما العِرْض فقد حافظ عليه وصانه من كل ما يشوه صورته، ويخدش كرامته وعفته وعدالته،
فنهى المسلم عن أن يتكلم في أخيه بما يؤذيه، وأوجب عليه إن رماه بفرية حد القذف
ثمانين جلدة، وقبح جلًّ وعلا غيبة المسلم غاية التقبيح فقال: {وَلاَ
تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ
الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون} الحجرات : 11. وقال في
إيجاب حد القاذف: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}
سورة النــور (4) (5).
أما المال فقد حافظ عليه فمنع أخذه بغير حق شرعي، وأجب على السارق حد السرقة، وهو
قطع اليد؛ فقال : {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ
اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
سورة المائدة (38).
وكل ذلك محافظة على المال ودرء للمفسدة عنه.
حديثنا- عباد الله- في هذه الدقائق المعدودة سيكون عن كلية واحدة من هذا الكليات
التي جاء الإسلام بحفظها وصيانتها، وهي: العرض، بل عن جزئية من الجزئيات التي إذا
وقع الناس فيها فقد انتهكوا هذه الكلية، وهي قذف المحصنات المؤمنات الغافلات
العفيفات، ورميهن بالفاحشة إما صراحة أو كناية، وليس معنى هذا أن القذف لا يكون إلا
للنساء، بل القذف يعم الرجال والنساء، ولكنه في حق النساء أظهر وأشهر.
أيها المؤمنون: إن من المقاصد العظيمة، والكليات الجامعة التي جاء الإسلام بحفظها
وصيانتها: صيانة الأعراض من كل يشوه سمعتها، ويخدش عفتها، ويلوث طهرها ونقاءها؛
لذلك فقد عد النبي-صلى الله عليه وسلم- قذف المحصنات المؤمنات الغافلات من أعظم
الكبائر؛ كما في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اجتنبوا
السبع الموبقات) فذكر منها: (قذف المحصنات
الغافلات المؤمنات).
بل
إن الله -جل وعلا- أوجب على من قذف مؤمنة أو مؤمناً بالزنا، سواء كان قذفاً صريحاً
أو تعريضاً العقوبة الدنيوية والأخروية، أما في الدنيا فقد عوقب من قذفاً مسلماً أو
مسلمة عفيفا أو عفيفة محصناً أو محصنة بالزنا بثلاث عقوبات:
أولاً: الجلد ثمانين جلدة، ثانياً: عدم قبول شهادته، بل ردها مطلقاً، فيصير مخروم
العدالة. ثالثاً: الحكم عليه بالفسق؛ فقال تعالى:
{وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} سورة النــور(4).
وذلك إذا لم يأتِ بأربعة شهداء عدول على ما قال.
وليس قذف المؤمنات المحصنات الغافلات بالزنا خاصاً بالمرأة الأجنبية، أو الرجل
الأجنبي، بل يدخل في ذلك قذف الرجل لزوجته، والزوجة لزجها، فإن حصل ذلك فإنه يجب
على من قذف الآخر أن يأتي بأربعة شهداء، فإن لم يأت بالشهود، ولم يقر المقذوف
فإنهما يتلاعنان، وإذا تلاعنا فإنه يفرق بينهما تفريقاً مؤبداً، وإذا جاء ولد فإنه
ينسب لأمه، وليس للأب لأنه نفاه.
وأما في الآخرة فقد أوجب اللعنة والطرد من رحمة الله على القاذف بغير بينة ولا
شهود، فقال تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
سورة النــور(23)(24).
فقد ذكر الله في الآية الكريمة فظاعة أمر هذه الجريمة، وشنع على من وقع فيها، وشرح
عظيم خطرها، وشديد وعيدها، وأي وعيد أشد من اللعنة في الدنيا والآخرة، وهو الطرد من
رحمة الله، واستحقاق العذاب العظيم، وتقرير ذنبه بشهادة جوارحه عليه بما يخزيه،
ويقطع حجته، ويسد عليه باب التنصل من ذنبه أمام الأشهاد يوم القيامة".3
كل
هذه الزواجر وغيرها من الحفاظ على الأعراض، وصون المجتمع المسلم من الشائعات التي
تلوث سمعته، وتشوه صورته، من قبل الحاقدين والفاسدين، والذين يحبون أن تشيع الفاحشة
في المجتمع المسلم.
اللهم حكم فينا شريعتك، إنك أنت القوي العزيز.
الخطبة الثانية:
الحمد الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه
أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: إن أول من يدخل في هذا الذنب الكبير، والجرم الخطير من وقع أو يقع في
نساء النبي-صلى الله عليه وسلم- يقول ابن كثير -رحمه الله- : "أمهات المؤمنين أولى
بالدخول في هذا من كل محصنة، ولاسيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق،
-رضي الله عنهما-. وقد أجمع العلماء -رحمهم الله- قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد
هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند
للقرآن، وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي، -والله أعلم-4.
ثم يأتي بعد ذلك بقية المؤمنات الطاهرات العفيفات المحصنات.
والقذف -عباد الله- هو أن يقول لامرأة أجنبية حرة عفيفة مسلمة: يا زانية، أو يا
باغية، أو يا قحبة، أو يقول لزوجها: يا زوج القحبة، أو يقول لولدها: يا ولد
الزانية، أو يا ابن القحبة، أو يقول لبنتها يا بنت الزانية، أو يا بنت القحبة، فإن
القحبة عبارة عن الزانية، فإذا قال ذلك أحد من رجل أو امرأة كمن قال لرجل: يا زاني
أو لصبي حر يا علق أو يا منكوح وجب عليه الحد ثمانين جلدة إلا أن يقيم بينة بذلك،
والبينة كما قال الله: {أربعة شهداء} يشهدون على
صدقه فيما قذف به تلك المرأة أو ذاك الرجل فإن لم يقم بينة جلد إذا طالبته بذلك
التي قذفها أو إذا طالبه بذلك الذي قذفه..
أيها الناس: إن مما ينبغي معرفته وفهمه أنه لا فرق -عباد الله- بين أن يقذف جماعة
بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة، أو قذف واحداً مرات متعددة؛ لأن الله –تعالى- يقول:
{والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون} سورة النور (4). ولم يفرق بين قذف
واحد أو جماعة، ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة، فلم يحدهم عمر إلا حداً
واحداً، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحداً، ولأن الحد إنما وجب
بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف، وتزول المعرة،
فوجب أن يكتفي به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفاً منفرداً، فإن كذبه في قذف لا يلزم
منه كذبه في آخر، ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر فإذا ثبت هذا، فإنهم
إن طلبوه جملة حد لهم، وإن طلبه واحد أقيم الحد؛ لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل،
فأيهم طالب به استوفى، وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على أوليائها في
تزويجها، إذا قام به واحد سقط عن الباقين، وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به،
واستيفاؤه لأن المعرة لم تزل عنه بعفو صاحبه، وليس للعافي الطلب به، لأنه قد أسقط
حقه.
قال في أضواء البيان: "وهذه المسائل لم نعلم فيها نصاً من كتاب ولا سنة، والذي يظهر
لنا فيها -والله تعالى أعلم- أن من قذف جماعة بكلمة واحدة فعليه حد واحد؛ لأنه يظهر
به كذبه على الجميع وتزول به المعرة عن الجميع، ويحصل شفاء الغيظ بحده للجميع"5.
أيها الناس: ليحفظ المسلم لسانه من الوقع في عرض أخيه، فإن كثيراً من الجهال
-اليوم- واقعون في هذا الكلام الفاحش المترتبة عليه العقوبة في الدنيا والآخرة؛
ولهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن
الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب).
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: (ثكلتك أمك يا
معاذ وهل يَكب الناس في النار على وجوههم إلا
حصائدُ ألسنتهم؟)6.
وفي الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل
خيرا أو ليصمت)7.
وقال الله -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز: {مَا
يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
سورة ق(18).
وقال عقبة بن عامر-رضي الله عنه-: يا رسول الله ما النجاة؟ قال : (أمسك
عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)8.
وقانا الله وإياكم شر ألسنتنا بمنه وكرمه إنه جواد كريم9.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال:
{إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} سورة الأحزاب(56). اللهم
صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آله محمد كما باركت على إبراهيم
وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن صحابته الكرام الأئمة
الأعلام، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
1
رواه البخاري.
2
رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وصححه
الألباني في صحيح الترغيب والترهيب،، رقم(2356).
3
راجع: الفقه على المذاهب الأربعة(5/209) لعبد الرحمن الجزيري.
4
تفسير ابن كثير(3/369).
5
راجع: أضواء البيان(5/444).
6
رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وهو حديث صحيح.
7
رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
8
رواه الترمذي من حديث عقبة بن عامر، وصححه الألباني في
صحيح الترغيب والترهيب، رقم (2854).
9
راجع: الكبائر(1/92) للذهبي..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معاملات إسلامية
القــذف
القــذفالقذف في اللغة والشرع:
القذف في اللغة معناه الرمى بالحجارة، فيقال: قذف الرجل الحجر. أى: رماه.
ثم استعمل في الرمي بالمكاره، لعلاقة المشابهة بين الحجارة والمكاره في تأثير الرمي بكل منهما، لأن في كل منهما أذى، وفي القذف أذى بالقول، ويسمى القذف فرية، لأنه من الكذب والافتراء.
وفي الشرع يقصد به رمى الإنسان غيره بالزنى، كأن يقول له: يا زانٍ أو يا زانية أو فلان زنى أو فلانة زنت.. إلى غير ذلك دون أن يأتى بأربعة شهداء يشهدون بارتكاب المقذوف بالزنى.
والقذف كبيرة من الكبائر دعا الإسلام إلى الابتعاد عنها حتى تصان أعراض الناس؛ قال (: (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف (الفرار أثناء محاربة الأعداء) وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) [متفق عليه].
حد القذف:
يعاقب القاذف بالجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة في أى أمر من الأمور -ما لم يتب- وهو فاسق بنص القرآن الكريم.قال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}[النور:4-5].
ويقام هذا الحد على كل قاذف، رجلا كان أم امرأة، مسلمًا كان أم غير مسلم، يرمى غيره بالزنى دون أن يأتى بأربعة شهداء صادقين يشهدون بما قال، سواء كان المقذوف رجلا أم امرأة، مسلمًا أم غير مسلم، حرَّا أم عبدًا، كبيرًا أم صغيرًا، صحيحًا سليمًا أو غير سليم.
حد القذف حق من حقوق الله:
حد القذف حق من حقوق الله لا يسقط عن القاذف أبدًا حتى وإن عفا عنه المقذوف، إلى هذا ذهب الأحناف. وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن القذف حق للمقذوف، فيجوز له أن يعفو عن القاذف ولو وصل الأمر إلي الحاكم، كما أنه يُكرِّر بتكرار القذف؛ فإن رمى إنسان غيره بالزنى وأقيم عليه الحد، ثم عاد إلى القذف بالزنى لغيره مرة ثانية، أقيم عليه الحد للمرة الثانية، وكما عاد إلى القذف عاد الحاكم إلى إقامة الحد عليه، إلا أن يكون قذفه ولم يحد، ثم قذفه مرة أخرى، فيحد مرة واحدة، وإذا قذف الرجل جماعة، فيحد مرة واحدة، ولو لم يطالب بإقامة الحد إلا واحد منهم، وقيل: يتعدد الحد إذا قذفهم بكلام كثير، فيصبح لكل واحد منهم حق في حده، فيتعدد الحد، أما إذا قذفهم بكلمة واحدة كأن قال لهم: يا زناة. فيحد مرة واحدة.
ما يثبت به حد القذف:
يثبت حد القذف باعتراف القاذف على نفسه بأنه رمى إنسانًا بالزنى زورًا وبهتانًا، أو بأنه رماه بالزنى دون أن يكون لديه شهود أربعة يشهدون بذلك، كما يثبت بشهادة رجلين يُعرفان بالتقوى والصلاح وعدم الكذب على القاذف بأنه رمى إنسانًا بالزنى ولم يكن له شهود بذلك.
شروط ثبوت حد القذف:
لكى يصبح القذف جريمة تستحق هذا الحد لابد من توافر شروط معينة فيه، هى:
1- أن يكون القاذف عاقلا بالغًا مختارًا: فإن كان القاذف مجنونًا أو مكرهًا على اتهام غيره بالزنى؛ فلا حد عليه، وإن كان صغيرًا أُدِّبَ بالضرب، ولا يقام عليه الحد.
2- أن يكون لفظ القذف صريحًا كأن يقول الرجل لغيره: أيها الزانى، أو أنت زانٍ سواء أكان ذلك بالكلام أم بالكتابة. فإن كان اللفظ غير صريح كأن يقول لغيره أنا لست بزانٍ وإنما الزانى غيرى. فلا يقام عليه الحد؛ لأن مثل هذا القول يحتمل أكثر من معنى فقد يقصد القائل بذلك أن يقول له: أنا لست زانيًا وإنما الزانى أنت. فيكون بذلك قد قذفه بالزنى، وقد يقصد أنه ليس زانيًا وإنما الزانى غيره ولا يقصد بذلك قذف أحد، فتعدد الاحتمالات في اللفظ يعتبر شبهة، والشبهة تدفع الحد.
من رمى غيره بغير الزنى:
لا يقام الحد على من يتهم غيره بغير الزنى كأن يقول الرجل لغيره يا كافر أو يا سكير، وإنما يُعزَّر بالضرب أو غيره حتى لا يعود لمثل ذلك. كما لا يقام الحد على القاذف إذا اعترف المقذوف على نفسه بالزنى.
متى يسقط حد القذف:
يسقط هذا الحد عن الرجل إذا اتهم زوجته بالزنى دون أن يأتى بشهود أربعة. سواء اعترفت الزوجة بالزنى أم لم تعترف.فإن اعترفت أقيم عليها الحد. وإن لم تعترف أقيم بينها وبين زوجها التلاعن أو اللعان. وهو أن يشهد الرجل ويقسم بالله أربع مرات إنه لصادق.
ثم يشهد الخامسة بأن لعنة الله عليه إن كان كاذبًا، وتشهد المرأة وتقسم بالله إن زوجها كاذب، ثم تشهد الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقًا.
ثم يفرق بينهما بالطلاق ولا يحل لهما أن يتزوجا بعد ذلك أبدًا. قال تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه من الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} [النور: 6-9].
آداب يجب على المسلم الالتزام بها:
لا يجوز لمسلم أن يعيِّر رجلا زنى وأقيم عليه الحد، كأن يقول له: يا زاني، فقد قال (: "إذا زنت الأمة، فتبين زناها، فليجلدها ولا يثرب" [متفق عليه]. (أى: لا يعير).
فإن عيَّر الرجل الزانى الذى أقيم عليه الحد، يعزر بما يراه الحاكم، ولكن لا يقام عليه حد القذف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..