الحمد لله وبعد،،
هناك شريحة من القراء يقولون لك: نعم، أنا أعرف أن هناك كتب ومقالات
ردّت وناقشت وجادلت
الليبراليين السعوديين، وأتت بحجج شرعية وفكرية، لكني لا أريد ذلك، أريد كتاب يصوّر لي بالضبط: من هم الليبراليون السعوديون؟ وما هي كتاباتهم؟ وما هي مؤسساتهم الصحفية؟ وما هي دور النشر التي يمكلونها؟ وما هي مطالبهم بالضبط؟ ومن الذي يدعمهم محلياً وخارجياً؟
هذا القارئ في الحقيقة يريد كتاباً وصفياً رصدياً، لا كتاب محاججة ونقاش، والحقيقة أنه في هذه السنة فقط تحقق هذا المطلب، وولد مثل هذا الكتاب في معرض الكتاب بالرياض 1434هـ، حيث قام فريق الباحثين في (مركز صناعة الفكر) وهم الفريق السباعي: (مصطفى الحباب، أحمد الليثي، أحمد التناوي، أحمد الشيمي، عاطق عبد الرشيد، عادل الأنصاري، ممدوح الشيخ) بإعداد مثل هذه الدراسة التي تستهدف التوصيف والعرض والرصد بحياد موضوعية وهدوء شديد، وتتجنب المناقشة والردود والجدل، تحت عنوان (الليبرالية في السعودية).
وفي تقديري الشخصي أنه ليس هذا هو أكثر ملامح الكتاب لفتاً للانتباه، بل إن القسمات الساطعة في هذا الكتاب هو (تقنيات المنهج البحثي) التي توسّلها ووظّفها، وهي مناهج البحث المستخدمة في العلوم الإنسانية الحديثة، حيث مزج هذا البحث بين أساليب البحث الكمي (Quantitative Approach)، وأساليب البحث الكيفي (Qualitative Approach)، واستعمل أدوات تحليل المحتوى (content analysis)، وتحديد العينات، والمسوح الإحصائية، وجدولة البيانات، والتوزيعات التكرارية (frequency distribution)، ونحوها.
فهذا الكتاب يمثل (نموذج بحثي) مختلف حقاً، يسير على آليات بحثية منظمة ومنهجية، ولا أعرف في الكتب الفكرية المحلية كتاباً التزم هذه الطرائق البحثية الحديثة، لذلك أتوقع أن هذا الكتاب سيكون (نموذج منهجي ملهم) للدراسات الفكرية المحلية، في تطوير وتحديث آلياتها البحثية، حيث نقلها من الأجواء الأكاديمية الهادئة إلى الحلبة الفكرية الساخنة عبر نموذج تطبيقي، وهذا الأسلوب من أكثر أساليب الرواج العلمي فعالية.
هناك مدخل تمهيدي للدراسة استعرض سريعاً تطور مفهوم الليبرالية في الفكر الغربي، وعلاقة الليبرالية بمفهوم الحرية في الإسلام، ثم أشارت الدراسة إلى الليبرالية العربية بصورة عامة، وتطوراتها التاريخية، والقضايا التي اهتم بها الخطاب الليبرالي العربي، وموقف الليبراليين العرب من بعض الملفات مثل: الاستقواء بالتدخل الخارجي لفرض الإصلاح السياسي، وقضية المرأة، وقضية التعليم، والمؤسسة الدينية الرسمية، وغزو العراق، ثم عددت الدراسة الأطروحات الأمريكية التي اقترحت صياغة ليبرالية إسلامية.
ثم قدم الكتاب خريطة تاريخية وجغرافية لقدم التكوين الديني للجزيرة العربية، وتاريخ الدولة السعودية، وثمة تحليل لبعض أضلاع المجتمع، بما فيها الجانب الاقتصادي والاجتماعي والرياضي وتأثير الأندية الرياضية، والثقافة ومعارض الكتاب ونحوها.
كان ماسبق أشبه بالمقدمات والمداخل العامة، وبدايةً من الفصل الثاني من الباب الثاني في الكتاب بدأ تقديم المعلومات عن الليبراليين السعوديين.
ويرى فريق البحث في هذه الدراسة أن البيئة الخليجية هي الحاضن الأول للتطورات الفكرية المحلية، ولذلك استعرضوا بدايات التيار الليبرالي في الخليج مستمدين المادة الأساسية من رسالة الماجستير للباحث وليد الرميزان (الليبرالية في السعودية والخيج).
وحول مسألة: كيف نشأت الليبرالية السعودية؟ يرى فريق البحث أن الحركة الليبرالية في السعودية ولدت في صيغة معارضة لحركة الصحوة الإسلامية، ويحاول البحث ربط هذه الحركة بالموروث السعودي القومي واليساري، وتيار الحداثة في الملاحق الأدبية، وبيئة أرامكو[ص128].
بل إن البحث يتبنى أطروحة لافتة، وغير مشهورة، وهي أن حركة (الليبراليين السعوديين) هي حصيلة تكتل من عدة توجهات سابقة في مواجهة مد الصحوة الإسلامية الذي بلغ أوجه في التسعينات مع مذكرة النصيحة ولجنة الحقوق الشرعية ونحوها من العرائض والمطالبات السياسية، حيث يقول الكتاب (وقد رأى الليبراليون في قوة الدفع التي حصلت عليها الصحوة تهديداً لمشروعهم الوليد، وبدأ النشطاء الليبراليون من جميع الخلفيات، يساريون، وشيوعيون، ودعاة حداثة، ومنادون بتحرير المرأة وغيرهم، في التكتل لتشكيل مجموعة أصبح اسمها غير الرسمي فيما بعد "الليبراليين")[ص130].
وأما سبب صعود ونفوذ الحركة الليبرالية في السعودية فيقدم الكتاب عاملين –ضمن عوامل أخرى- وهي: العامل الأول: أجواء الحرب على الإرهاب وأزمة وجود 15 شاب سعودي في هجمات سبتمبر، بما أدى لتمكين الليبراليين لمواجهة المد الديني في السعودية.
والعامل الثاني: هو ما يقول عنه البحث (وكان هناك عامل آخر في مصلحة الليبراليين، وهو ظهور مجموعة وصفت بـ"المتحولين"، وهم إسلاميون سابقون أصبحوا ينتقدون الصحوة، وبالنسبة لليبراليين كان لهؤلاء المتحولين فائدة مهمة، لأنهم يتحدثون من واقع تجارب شخصية، ولأنهم يتقنون الحديث بلغة الإسلام التي افتقر لها الليبراليون بشدة)[ص131].
ثم استعرض البحث تاريخ المنتديات الليبرالية الإلكترونية وهي بحسب رؤية وتصنيف الباحثين: منتدى طوى، ثم دار الندوة، ومحاور، وإيلاف، والشبكة الليبرالية السعودية الحرة، ومنتديات الشبكة الليبرالية.
ويرصد البحث حدوث انشقاق داخل الحركة الليبرالية في السعودية كان منبعه اختلافهم حول أولويات الإصلاح؟ فثمة فريق ليبرالي يرى الأولوية لإصلاح التطرف الديني في المجتمع والثقافة، ويطلق عليهم (الليبراليين الاجتماعيين)، ويرى فريق آخر أن هذا هروب للمنطقة الأقل خطراً، وأن الواجب إصلاح الاستبداد السياسي، ويطلق عليهم (الليبراليين السياسيين)، ثم إن مجموعة (الليبراليين السياسيين) أبدت استعداداً للتعاون مع القوى الإسلامية الإصلاحية، وحصل بينهم تحالف، فاشتعل الخلاف مجدداً بين جناحي الليبرالية، وأصبح الليبراليون الاجتماعيون يعيّرون الليبراليين السياسيين بأنهم أصبحوا أداة بأيدي الإسلاميين.[ص132].
ومن المواضع المثيرة في الكتاب استعراضه للمواقف التي ظهرت فيها الدولة صراحة في موقف ليبرالي، ومنها ما نقلته صحيفة نيويورك تايمز عن الأمير سعود الفيصل من قوله (المجتمع السعودي يتجه نحو الليبرالية، والممكلة بدأت تتحرر من أغلال الماضي، وتسير في اتجاه مجتمع ليبرالي) وعرضت الصحيفة –أيضاً- تثميناً وتقديراً للملك عبد الله بسبب افتتاحه أول جامعة مختلطة، وتعيينه أول امرأة في منصب نائب وزير، وأطلقت الصحيفة على الملك أنه "ثوري اجتماعي"، ونقل البحث عن الكاتب الليبرالي د.خالد الدخيل تعليقه على مثل هذه التغيرات حيث يصفها أنها(محاولات الرياض إقناع الأطراف الأميركية والأوروبية بانها في طريقها للإصلاح). [الليبرالية في السعودية، ص156].
كما أن من المباحث الطريفة في الكتاب أثناء دراسة عوامل نشأة الليبرالية المحلية وتطورها؛ عامل ترى الدراسة أهميته، وهو كما تقول الدراسة (وجود عدة اتجاهات داخل الأسرة الحاكمة في المملكة) وفكرة هذا العامل كما يرى الباحثون أن هناك جيلاً جديداً من أبناء الأسرة الحاكمة تشكّل ثقافياً بطريقة تختلف عن الآباء المؤسسين، ويشرح الباحثون رؤيتهم: (هناك اختلافات في صفوف الأسرة الحاكمة لا تظهر غالباً في العلن، حيث نشأت أجيال جديدة في حياة أكثر رفاهية من حياة البداوة التقليدية التي عاش في ظلها الأكبر سناً، وهذه الأجيال نشأت في ظل تأثيرات الانفتاح الإعلامي والقيم الوافدة، وبعضهم تربى في مدارس غربية، ووجد بعض الأمراء الأصغر سناً ممن يدعون إلى الأفكار نفسها التي يتبناها التيار الليبرالي)[ص175].
واكتشف الباحثون أثناء دراستهم لعوامل نشأة الليبرالية السعودية وتطورها عوامل أخرى قد تكون لها حساسيات سياسية، ولذلك حاول الباحثون تلطيف العناوين لكي يستطيعوا تسجيل نتائجهم البحثية، ومن هذه العناوين الملطّفة (العهد الجديد) وهم يقصدون به عهد الملك الحالي، وأنه تضمن تغييرات في وضع المرأة وحرية الإعلام والقضاء بشكل استثمره ووظفه التيار الليبرالي لقيم تتصادم مع المجتمع.[ص176]
وحاولت الدراسة تحليل أثر الأجواء الاجتماعية وتغيراتها على الأفكار الليبرالية، مثل الثقافة الاستهلاكية، والوجبات السريعة، وصيغ اللباس الجديدة كالجينز والبنطال الخ.[178]
ولم تفوّت الدراسة أي مظهر مفيد في فهم الليبرالية السعودية، حتى أنها استعرضت وجود عدد من الليبراليين السعوديين في دولة الإمارات! ومحاولة فهم وتفسير ذلك، حيث تقول الدراسة (أصبحت دولة الإمارات العربية مقصداً لعدد من الأصوات الليبرالية السعودية، حيث يعتبرها هؤلاء سوقاً لتصدير أفكارهم، باعتبار الإمارات تتيح حرية أكبر لليبراليين، بالإضافة لموقفها المعلن من التيارات الإسلامية، وتواجد الليبراليين السعوديين في الإمارات يحظى بترحيب رسمي)[ص179].
وينقل البحث عن المحلل السياسي مهنا الحبيل قوله (استخدمت المؤسسة الأمنية في الإمارات كتّاب سعوديين، منهم تركي الدخيل ومركزه مسبار، وآخرين؛ في شرعنة قمع أبنائها)[ص180].
ثم عرضت الدراسة بعضاً من الليبراليين السعوديين المستوطنين في الإمارات وأنشطتهم ومقالاتهم، وهم بحسب الدراسة: عبد الرحمن الراشد، د.سليمان الهتلان، مي الدباغ، منصور النقيدان، وتركي الدخيل، ومشاري الذايدي. ثم تقول الدراسة (وبعض المراقبين يشير أن وجودهم في الإمارات خارج بلادهم له دلالات منها: عدم ملاءمة البيئة السعودية المحافظة لهم)[ص182].
وفي الباب الثاني حاولت الدراسة تحليل كتابات ومواقف الليبراليين السعوديين، واقتراح أقرب تصنيف لهم لتسهيل فهم الظاهرة، والأصناف التي توصلت إليها الدراسة هي ثمانية أصناف، وهم بحسب الدراسة:
1-ليبراليون معادون للإسلام نفسه (ومثّلت الدراسة لذلك بتركي الحمد ومحمد المحمود ووجيهة الحويدر).
2-ليبراليون متحالفون مع بعض الإسلاميين (ومثلت الدراسة لذلك بمحمد سعيد طيب)
3-ليبراليون وطنيون (ومثلت الدراسة لذلك بالدكتور خالد الدخيل)
4-ليبراليون مثقفون (ومثّلت الدراسة لذلك بإبراهيم البليهي)
5-ليبراليون متحللون من الأخلاق (ومثلت الدراسة لذلك بالكاتب عبد الله بخيت).
وثمة أصناف أخرى، وهذه التصنيفات كلها طبعاً رأي خاص للباحثين أصحاب الدراسة.
وترى الدراسة أن هناك قوة خارجية تدعم الليبراليين السعوديين لكي يتحركوا في هذا الفضاء السعودي المحافظ، وتستدل الدراسة على هذا الرأي بعدة معطيات، ومن أهمها ما يشرحه الباحثون بقولهم (يتمتع بعض رموز التيار الليبرالي بمساعدة خارجية، يظهر ذلك من خلال حادثة إقالة عبد الرحمن الراشد رئيس محطة "العربية" -14سبتمبر2010م- جراء استياء مسؤولين سعوديين من عرض "العربية" برنامجاً وثائقيا بعنوان "الإسلام والغرب" ربطت فيه بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأحداث العنف العالمية، علاوةً على إيقاف عموده في صحيفة الشرق الأوسط، لكن الراشد بعد أيام قليلة عاود كتابة مقالاته في "الشرق الأوسط"، وهو ما أثار الكثير من التكهنات حول درجة النفوذ السياسي لليبرالين، ثم نشرت صحيفة "إيديعوت أحرونوت" في عدد 20/9/2010م كواليس عملية الإقالة والعودة ثانية، وقالت أن "الأمريكيين ضغطوا من خلف الكواليس، وتلقى الراشد بلاغاً بالتوقف عن حزم أمتعته" )[ص216].
كما تعرض الدراسة شواهد أخرى على الدعم الخارجي لليبراليين السعوديين ومن ذلك قولها (لم تخف وسائل الإعلام الأمريكية فرحتها بتعيين "عادل الجبير" سفيراً للمملكة لدى واشنطن في عام 2007م، ووصفته صحيفة واشنطن بوست بـ"الشخص المعروف جداً في واشنطن")[ص217].
وكرست الدراسة فصلاً كاملاً، وهو الفصل الأول من الباب الثالث؛ لتحليل تجربة (صحيفة الوطن) السعودية، باعتبارها ممثل نموذجي للمؤسسة الصحفية الليبرالية، وتضمن الفصل حديثاً عن نشأة الصحيفة، ومبناها، وملّاكها، ومجلس إدارتها، ورؤساء تحريرها التسعة وقصص إقالاتهم واستقالاتهم، وأبرز كتّابها، وأزماتها المالية وتأخر رواتب موظفيها، كما رصدت الدراسة تحولات خطاب صحيفة الوطن، وحدة لغتها الليبرالية أثناء رئاسة قينان الغامدي وجمال خاشقجي، ثم عودتها لخط الصحف السعودية العام بعد إقالة خاشقجي، وتولي سليمان العقيلي.[ص253].
ثم اختارت الدراسة (دار طوى للنشر) باعتبارها ممثل نموذجي لدار النشر الليبرالية التي تبث الفكر الليبرالي عبر النتاج الأدبي، وتضمن هذا المبحث الحديث عن نشأة الدار، وإصداراتها، وتحليل مضمون بعض إصداراتها، ومما جاء في تاريخ الدار (بدأت دار نشر "طوى" لمؤسسها الناشر والكاتب "عادل الحوشان"، كدار نشر إلكترونية عام 2001م، حتى تم إغلاقها بقرار من السلطات عام 2005م، ثم عادت للنشر مجدداً عام 2007م..، ولجأ للدار العديد من الكتّاب السعوديين والعرب أصحاب الفكر الليبرالي)[ص293].
وتوصلت الدراسة إلى أن هذه الدار تبث (التفسخ الأخلاقي تحت ستار الأدب)[ص303].
ومن وجهة نظري كقارئ أن الباب الرابع من هذه الدراسة تضمن سؤالاً بحثياً بديعاً، وهو البحث عن صورة الليبرالية السعودية في الإعلام الغربي، أي: كيف قرأت وتصورت الصحف الغربية "الليبرالية السعودية"؟ واختار الباحثون للإجابة على هذا السؤال خمس صحف أمريكية، وصحيفتان بريطانيتان، وقدموا تحليلاً لمقالات منتخبة منها.[ص423].
الحقيقة أنني استمتعت كثيراً بقراءة هذه الدراسة، وأكرر شكري للأستاذ مصطفى الحباب ورفاقه على هذا العمل العلمي الجاد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: أكثر وعيا
المختصر/ مراجعة لكتاب: الليبرالية في السعودية، إعداد مصطفى الحباب وزملائه، مركز صناعة الفكر، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى، 2013م
الليبراليين السعوديين، وأتت بحجج شرعية وفكرية، لكني لا أريد ذلك، أريد كتاب يصوّر لي بالضبط: من هم الليبراليون السعوديون؟ وما هي كتاباتهم؟ وما هي مؤسساتهم الصحفية؟ وما هي دور النشر التي يمكلونها؟ وما هي مطالبهم بالضبط؟ ومن الذي يدعمهم محلياً وخارجياً؟
هذا القارئ في الحقيقة يريد كتاباً وصفياً رصدياً، لا كتاب محاججة ونقاش، والحقيقة أنه في هذه السنة فقط تحقق هذا المطلب، وولد مثل هذا الكتاب في معرض الكتاب بالرياض 1434هـ، حيث قام فريق الباحثين في (مركز صناعة الفكر) وهم الفريق السباعي: (مصطفى الحباب، أحمد الليثي، أحمد التناوي، أحمد الشيمي، عاطق عبد الرشيد، عادل الأنصاري، ممدوح الشيخ) بإعداد مثل هذه الدراسة التي تستهدف التوصيف والعرض والرصد بحياد موضوعية وهدوء شديد، وتتجنب المناقشة والردود والجدل، تحت عنوان (الليبرالية في السعودية).
وفي تقديري الشخصي أنه ليس هذا هو أكثر ملامح الكتاب لفتاً للانتباه، بل إن القسمات الساطعة في هذا الكتاب هو (تقنيات المنهج البحثي) التي توسّلها ووظّفها، وهي مناهج البحث المستخدمة في العلوم الإنسانية الحديثة، حيث مزج هذا البحث بين أساليب البحث الكمي (Quantitative Approach)، وأساليب البحث الكيفي (Qualitative Approach)، واستعمل أدوات تحليل المحتوى (content analysis)، وتحديد العينات، والمسوح الإحصائية، وجدولة البيانات، والتوزيعات التكرارية (frequency distribution)، ونحوها.
فهذا الكتاب يمثل (نموذج بحثي) مختلف حقاً، يسير على آليات بحثية منظمة ومنهجية، ولا أعرف في الكتب الفكرية المحلية كتاباً التزم هذه الطرائق البحثية الحديثة، لذلك أتوقع أن هذا الكتاب سيكون (نموذج منهجي ملهم) للدراسات الفكرية المحلية، في تطوير وتحديث آلياتها البحثية، حيث نقلها من الأجواء الأكاديمية الهادئة إلى الحلبة الفكرية الساخنة عبر نموذج تطبيقي، وهذا الأسلوب من أكثر أساليب الرواج العلمي فعالية.
هناك مدخل تمهيدي للدراسة استعرض سريعاً تطور مفهوم الليبرالية في الفكر الغربي، وعلاقة الليبرالية بمفهوم الحرية في الإسلام، ثم أشارت الدراسة إلى الليبرالية العربية بصورة عامة، وتطوراتها التاريخية، والقضايا التي اهتم بها الخطاب الليبرالي العربي، وموقف الليبراليين العرب من بعض الملفات مثل: الاستقواء بالتدخل الخارجي لفرض الإصلاح السياسي، وقضية المرأة، وقضية التعليم، والمؤسسة الدينية الرسمية، وغزو العراق، ثم عددت الدراسة الأطروحات الأمريكية التي اقترحت صياغة ليبرالية إسلامية.
ثم قدم الكتاب خريطة تاريخية وجغرافية لقدم التكوين الديني للجزيرة العربية، وتاريخ الدولة السعودية، وثمة تحليل لبعض أضلاع المجتمع، بما فيها الجانب الاقتصادي والاجتماعي والرياضي وتأثير الأندية الرياضية، والثقافة ومعارض الكتاب ونحوها.
كان ماسبق أشبه بالمقدمات والمداخل العامة، وبدايةً من الفصل الثاني من الباب الثاني في الكتاب بدأ تقديم المعلومات عن الليبراليين السعوديين.
ويرى فريق البحث في هذه الدراسة أن البيئة الخليجية هي الحاضن الأول للتطورات الفكرية المحلية، ولذلك استعرضوا بدايات التيار الليبرالي في الخليج مستمدين المادة الأساسية من رسالة الماجستير للباحث وليد الرميزان (الليبرالية في السعودية والخيج).
وحول مسألة: كيف نشأت الليبرالية السعودية؟ يرى فريق البحث أن الحركة الليبرالية في السعودية ولدت في صيغة معارضة لحركة الصحوة الإسلامية، ويحاول البحث ربط هذه الحركة بالموروث السعودي القومي واليساري، وتيار الحداثة في الملاحق الأدبية، وبيئة أرامكو[ص128].
بل إن البحث يتبنى أطروحة لافتة، وغير مشهورة، وهي أن حركة (الليبراليين السعوديين) هي حصيلة تكتل من عدة توجهات سابقة في مواجهة مد الصحوة الإسلامية الذي بلغ أوجه في التسعينات مع مذكرة النصيحة ولجنة الحقوق الشرعية ونحوها من العرائض والمطالبات السياسية، حيث يقول الكتاب (وقد رأى الليبراليون في قوة الدفع التي حصلت عليها الصحوة تهديداً لمشروعهم الوليد، وبدأ النشطاء الليبراليون من جميع الخلفيات، يساريون، وشيوعيون، ودعاة حداثة، ومنادون بتحرير المرأة وغيرهم، في التكتل لتشكيل مجموعة أصبح اسمها غير الرسمي فيما بعد "الليبراليين")[ص130].
وأما سبب صعود ونفوذ الحركة الليبرالية في السعودية فيقدم الكتاب عاملين –ضمن عوامل أخرى- وهي: العامل الأول: أجواء الحرب على الإرهاب وأزمة وجود 15 شاب سعودي في هجمات سبتمبر، بما أدى لتمكين الليبراليين لمواجهة المد الديني في السعودية.
والعامل الثاني: هو ما يقول عنه البحث (وكان هناك عامل آخر في مصلحة الليبراليين، وهو ظهور مجموعة وصفت بـ"المتحولين"، وهم إسلاميون سابقون أصبحوا ينتقدون الصحوة، وبالنسبة لليبراليين كان لهؤلاء المتحولين فائدة مهمة، لأنهم يتحدثون من واقع تجارب شخصية، ولأنهم يتقنون الحديث بلغة الإسلام التي افتقر لها الليبراليون بشدة)[ص131].
ثم استعرض البحث تاريخ المنتديات الليبرالية الإلكترونية وهي بحسب رؤية وتصنيف الباحثين: منتدى طوى، ثم دار الندوة، ومحاور، وإيلاف، والشبكة الليبرالية السعودية الحرة، ومنتديات الشبكة الليبرالية.
ويرصد البحث حدوث انشقاق داخل الحركة الليبرالية في السعودية كان منبعه اختلافهم حول أولويات الإصلاح؟ فثمة فريق ليبرالي يرى الأولوية لإصلاح التطرف الديني في المجتمع والثقافة، ويطلق عليهم (الليبراليين الاجتماعيين)، ويرى فريق آخر أن هذا هروب للمنطقة الأقل خطراً، وأن الواجب إصلاح الاستبداد السياسي، ويطلق عليهم (الليبراليين السياسيين)، ثم إن مجموعة (الليبراليين السياسيين) أبدت استعداداً للتعاون مع القوى الإسلامية الإصلاحية، وحصل بينهم تحالف، فاشتعل الخلاف مجدداً بين جناحي الليبرالية، وأصبح الليبراليون الاجتماعيون يعيّرون الليبراليين السياسيين بأنهم أصبحوا أداة بأيدي الإسلاميين.[ص132].
ومن المواضع المثيرة في الكتاب استعراضه للمواقف التي ظهرت فيها الدولة صراحة في موقف ليبرالي، ومنها ما نقلته صحيفة نيويورك تايمز عن الأمير سعود الفيصل من قوله (المجتمع السعودي يتجه نحو الليبرالية، والممكلة بدأت تتحرر من أغلال الماضي، وتسير في اتجاه مجتمع ليبرالي) وعرضت الصحيفة –أيضاً- تثميناً وتقديراً للملك عبد الله بسبب افتتاحه أول جامعة مختلطة، وتعيينه أول امرأة في منصب نائب وزير، وأطلقت الصحيفة على الملك أنه "ثوري اجتماعي"، ونقل البحث عن الكاتب الليبرالي د.خالد الدخيل تعليقه على مثل هذه التغيرات حيث يصفها أنها(محاولات الرياض إقناع الأطراف الأميركية والأوروبية بانها في طريقها للإصلاح). [الليبرالية في السعودية، ص156].
كما أن من المباحث الطريفة في الكتاب أثناء دراسة عوامل نشأة الليبرالية المحلية وتطورها؛ عامل ترى الدراسة أهميته، وهو كما تقول الدراسة (وجود عدة اتجاهات داخل الأسرة الحاكمة في المملكة) وفكرة هذا العامل كما يرى الباحثون أن هناك جيلاً جديداً من أبناء الأسرة الحاكمة تشكّل ثقافياً بطريقة تختلف عن الآباء المؤسسين، ويشرح الباحثون رؤيتهم: (هناك اختلافات في صفوف الأسرة الحاكمة لا تظهر غالباً في العلن، حيث نشأت أجيال جديدة في حياة أكثر رفاهية من حياة البداوة التقليدية التي عاش في ظلها الأكبر سناً، وهذه الأجيال نشأت في ظل تأثيرات الانفتاح الإعلامي والقيم الوافدة، وبعضهم تربى في مدارس غربية، ووجد بعض الأمراء الأصغر سناً ممن يدعون إلى الأفكار نفسها التي يتبناها التيار الليبرالي)[ص175].
واكتشف الباحثون أثناء دراستهم لعوامل نشأة الليبرالية السعودية وتطورها عوامل أخرى قد تكون لها حساسيات سياسية، ولذلك حاول الباحثون تلطيف العناوين لكي يستطيعوا تسجيل نتائجهم البحثية، ومن هذه العناوين الملطّفة (العهد الجديد) وهم يقصدون به عهد الملك الحالي، وأنه تضمن تغييرات في وضع المرأة وحرية الإعلام والقضاء بشكل استثمره ووظفه التيار الليبرالي لقيم تتصادم مع المجتمع.[ص176]
وحاولت الدراسة تحليل أثر الأجواء الاجتماعية وتغيراتها على الأفكار الليبرالية، مثل الثقافة الاستهلاكية، والوجبات السريعة، وصيغ اللباس الجديدة كالجينز والبنطال الخ.[178]
ولم تفوّت الدراسة أي مظهر مفيد في فهم الليبرالية السعودية، حتى أنها استعرضت وجود عدد من الليبراليين السعوديين في دولة الإمارات! ومحاولة فهم وتفسير ذلك، حيث تقول الدراسة (أصبحت دولة الإمارات العربية مقصداً لعدد من الأصوات الليبرالية السعودية، حيث يعتبرها هؤلاء سوقاً لتصدير أفكارهم، باعتبار الإمارات تتيح حرية أكبر لليبراليين، بالإضافة لموقفها المعلن من التيارات الإسلامية، وتواجد الليبراليين السعوديين في الإمارات يحظى بترحيب رسمي)[ص179].
وينقل البحث عن المحلل السياسي مهنا الحبيل قوله (استخدمت المؤسسة الأمنية في الإمارات كتّاب سعوديين، منهم تركي الدخيل ومركزه مسبار، وآخرين؛ في شرعنة قمع أبنائها)[ص180].
ثم عرضت الدراسة بعضاً من الليبراليين السعوديين المستوطنين في الإمارات وأنشطتهم ومقالاتهم، وهم بحسب الدراسة: عبد الرحمن الراشد، د.سليمان الهتلان، مي الدباغ، منصور النقيدان، وتركي الدخيل، ومشاري الذايدي. ثم تقول الدراسة (وبعض المراقبين يشير أن وجودهم في الإمارات خارج بلادهم له دلالات منها: عدم ملاءمة البيئة السعودية المحافظة لهم)[ص182].
وفي الباب الثاني حاولت الدراسة تحليل كتابات ومواقف الليبراليين السعوديين، واقتراح أقرب تصنيف لهم لتسهيل فهم الظاهرة، والأصناف التي توصلت إليها الدراسة هي ثمانية أصناف، وهم بحسب الدراسة:
1-ليبراليون معادون للإسلام نفسه (ومثّلت الدراسة لذلك بتركي الحمد ومحمد المحمود ووجيهة الحويدر).
2-ليبراليون متحالفون مع بعض الإسلاميين (ومثلت الدراسة لذلك بمحمد سعيد طيب)
3-ليبراليون وطنيون (ومثلت الدراسة لذلك بالدكتور خالد الدخيل)
4-ليبراليون مثقفون (ومثّلت الدراسة لذلك بإبراهيم البليهي)
5-ليبراليون متحللون من الأخلاق (ومثلت الدراسة لذلك بالكاتب عبد الله بخيت).
وثمة أصناف أخرى، وهذه التصنيفات كلها طبعاً رأي خاص للباحثين أصحاب الدراسة.
وترى الدراسة أن هناك قوة خارجية تدعم الليبراليين السعوديين لكي يتحركوا في هذا الفضاء السعودي المحافظ، وتستدل الدراسة على هذا الرأي بعدة معطيات، ومن أهمها ما يشرحه الباحثون بقولهم (يتمتع بعض رموز التيار الليبرالي بمساعدة خارجية، يظهر ذلك من خلال حادثة إقالة عبد الرحمن الراشد رئيس محطة "العربية" -14سبتمبر2010م- جراء استياء مسؤولين سعوديين من عرض "العربية" برنامجاً وثائقيا بعنوان "الإسلام والغرب" ربطت فيه بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأحداث العنف العالمية، علاوةً على إيقاف عموده في صحيفة الشرق الأوسط، لكن الراشد بعد أيام قليلة عاود كتابة مقالاته في "الشرق الأوسط"، وهو ما أثار الكثير من التكهنات حول درجة النفوذ السياسي لليبرالين، ثم نشرت صحيفة "إيديعوت أحرونوت" في عدد 20/9/2010م كواليس عملية الإقالة والعودة ثانية، وقالت أن "الأمريكيين ضغطوا من خلف الكواليس، وتلقى الراشد بلاغاً بالتوقف عن حزم أمتعته" )[ص216].
كما تعرض الدراسة شواهد أخرى على الدعم الخارجي لليبراليين السعوديين ومن ذلك قولها (لم تخف وسائل الإعلام الأمريكية فرحتها بتعيين "عادل الجبير" سفيراً للمملكة لدى واشنطن في عام 2007م، ووصفته صحيفة واشنطن بوست بـ"الشخص المعروف جداً في واشنطن")[ص217].
وكرست الدراسة فصلاً كاملاً، وهو الفصل الأول من الباب الثالث؛ لتحليل تجربة (صحيفة الوطن) السعودية، باعتبارها ممثل نموذجي للمؤسسة الصحفية الليبرالية، وتضمن الفصل حديثاً عن نشأة الصحيفة، ومبناها، وملّاكها، ومجلس إدارتها، ورؤساء تحريرها التسعة وقصص إقالاتهم واستقالاتهم، وأبرز كتّابها، وأزماتها المالية وتأخر رواتب موظفيها، كما رصدت الدراسة تحولات خطاب صحيفة الوطن، وحدة لغتها الليبرالية أثناء رئاسة قينان الغامدي وجمال خاشقجي، ثم عودتها لخط الصحف السعودية العام بعد إقالة خاشقجي، وتولي سليمان العقيلي.[ص253].
ثم اختارت الدراسة (دار طوى للنشر) باعتبارها ممثل نموذجي لدار النشر الليبرالية التي تبث الفكر الليبرالي عبر النتاج الأدبي، وتضمن هذا المبحث الحديث عن نشأة الدار، وإصداراتها، وتحليل مضمون بعض إصداراتها، ومما جاء في تاريخ الدار (بدأت دار نشر "طوى" لمؤسسها الناشر والكاتب "عادل الحوشان"، كدار نشر إلكترونية عام 2001م، حتى تم إغلاقها بقرار من السلطات عام 2005م، ثم عادت للنشر مجدداً عام 2007م..، ولجأ للدار العديد من الكتّاب السعوديين والعرب أصحاب الفكر الليبرالي)[ص293].
وتوصلت الدراسة إلى أن هذه الدار تبث (التفسخ الأخلاقي تحت ستار الأدب)[ص303].
ومن وجهة نظري كقارئ أن الباب الرابع من هذه الدراسة تضمن سؤالاً بحثياً بديعاً، وهو البحث عن صورة الليبرالية السعودية في الإعلام الغربي، أي: كيف قرأت وتصورت الصحف الغربية "الليبرالية السعودية"؟ واختار الباحثون للإجابة على هذا السؤال خمس صحف أمريكية، وصحيفتان بريطانيتان، وقدموا تحليلاً لمقالات منتخبة منها.[ص423].
الحقيقة أنني استمتعت كثيراً بقراءة هذه الدراسة، وأكرر شكري للأستاذ مصطفى الحباب ورفاقه على هذا العمل العلمي الجاد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: أكثر وعيا
المختصر/ مراجعة لكتاب: الليبرالية في السعودية، إعداد مصطفى الحباب وزملائه، مركز صناعة الفكر، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى، 2013م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..